الفصل الأول¹
الذكرى مفتاح الألم!
الذكرى مجرد باب نحو حزن لا ينتهي!
والنسيان ادعاء كاذب ادعاه متألم لا أحد ينسى..
ليلة الجمعة.. ليلة الذكريات
ليلة العطلة، وليلة العائلة
ولا توجد عائلة!
عتمة بنفسجية ناتجة عن ضوء يشع من مصباح صغير موضوع بجانب فراشها حيث مضجعها
اختض جسدها إثر هواءٍ دلف لها من نافذة
فتحت على مصرعيها من شدته..
كانت تتدثر بغطاء ثقيل، وتقرا كتابًا على ضوء خافت!
عادة سيئة للعين ارتدت إثرها نظارة طبية..
بجانبها على مكتب صغير يجاور فراشها مشروب غريب تعشقه حيث يمتزج الشاي بالفاكهة..
هي ليلة شتاء قارص البرودة، بيوم الخميس حيث نهاية أسبوع من العمل، وهذا تقبع بالفراش.. ورغم ذلك فالبقاء بالمنزل مؤلم
خاصة أن ذاك المنزل لم يكن لها سوى مكان
تتدفق منه رائحة الذكرى..
مرت الذكرى مع كتاب أخذته من مكتبة والدها، كان بيدها وليتها كانت تقرأه، بل شاردة كعادة كل ليلة.. شردت في ذكريات مضت
اليوم اختفت رائحة القهوة الصباحية التي احتلت كل أمسٍ واحتلت الماضي، اختفى صوت المذياع بصوت كوكب الشرق بأغنية
كانت تحفظها، وتردد معها، وإن كانت آن
ذاك صغيرة، ولا تعي معناها كل ما كانت
تدركه حُب والدها للتراث..
ويوم الجمعة بالأمس كان لقلبها الأحب
حيث كان ينتهي فطورها بسلام.. فيذهب هو ليؤدي صلاة الجمعة، ويعود ليأخذها في نزهة. .
والآن فَلا هو هنا، ولا الأمس يعود.
كانت صغيرة، تسعدها الحلوى، ويبكيها كسر في لعبتها، وبينما تمر السنوات لم تكن يومًا تشعر أنها ينقصها شيء..
كيف وهو كان كل شيء؟
وليت الأمس يوم واحد، بل هو أعوام مرت، وكبرت الصغيرة
تقدمت في العمر خطوات وفهمت أن تلك الأغنيات الحزينة كانت بمثابة الإهداء "لأمها" إهداء لاذع، وقد هجرته بعد ولادتها بثلاثة أعوام وبعد عام واحد
تزوجت، كل هذا قصه عليها والدها قديمًا..
الأمس مرت عليه أعوام، مر على رحيل حبها الأول أثقل السنوات، وأدركت أنه لا يمكن لرجل أن يحتل مكانته، ولا يمكن لرجل أن يشبهه بالكون أجمع..
أحيانًا تسأله لماذا رحلت؟ رحل وباتت تدرك
معنى الفقد..
الأمس مر، ولكنه باقٍ بالذاكرة مهما حييت.. عادت من شرودها الطويل، وغادرت الفراش بعد أن تركت الكتاب جانبًا، تتجول بالمنزل حتى شكلت دموعها طبقة لامعه تضبب رؤيتها
فَكلما مرت بركن من أركانه تذكرته، بل ورأت صورته كشبح يبتسم لها
ومع كل جولة تتأكد أن لذلك المنزل سحر خاص لطالما كانت ممتنة له، هناك أعد القهوة.. وبذاك المطبخ اعد لها الفطور، هناك حضر ملابسه، وملابسها حتى تخرجت من الجامعة كانت تلك عادة لم ينقطع عنها يهتم بها دومًا إلى أن رحل منذ ستة أعوام، حين كانت هي بالكاد تجيد أخذ دوره
بالعمل، وتعمل عنه في مرضه..
وصلت لعامها الثاني، والثلاثين لكن بروحها
تلك الصغيرة ذات الجدائل حبيبة والدها..
مرت بالرواق، ومررت يدها على الأبواب هنالك بـالركن البعيد غرفته، بنهاية الرواق
مكتبته، وكتبه.. رائحته ما زالت بكل أرجاء المنزل، ولم يبددها شيء..
لم تكمل جولتها، حين سمعت صوت هاتفها
عادت للغرفة مجددًا، حملت هاتفها تنظر
للاسم فوق الرقم وقد كان "تَيِّم" ، ارتعشت وكادت تسقط الهاتف من يدها من برودة الجو فتوقف الاتصال قبل أن تجيب، لكنه إعادة، وأجابت هي على اتصاله التالي، انتظرت أن يتحدث من بعد استجابتها، ولكن تلك المرة لم يتحدث كعادته أبدًا بل
أراد أن تبادر هي.. وكان له ما أراد:
- خيرًا ماذا تريد تيم ؟
أتاها صوته الوجِل بنبرة خالطتها أنفاسه:
- أحبك
صُدمت، و أشفقت يا له من مسكين ليقع بحبها من بين الجميع، ولكن الحب بعيد تمامًا عن شعورها به فرددت باختناق:
-أنا لا أصلح للحب، وأنت خصيصًا تعلم السبب
فأتاها الرد على غير توقعها إذ كان لم يحد عما قاله، ولم يعتذر أبدًا:
_ دعينا نتفق
ردت تجيبه بتوجس، وقد عادت للفراش
وانكمشت من البرودة:
_ على ماذا قد نتفق ؟
صمت هو على الجهة الأخرى، كأنه يفكر لحظة وقبل أن يوضح بما سبب لها الدهشة:
-أعطِني فرصة
هكذا بكل بساطة! إنه يجعل الأمور أسخف مما تبدو عليه..
ومحاولاته يجب أن لا تجد صداها لديها كي لا تتسبب في حرب إن اندلعت لن تبقيه أو تبقيها.. فاعترضت أشد الاعتراض، وأعادت على مسامعه الرفض:
-لا يمكن ذلك، لا يمكن للحب أن يتسلل، و أعيدها لك أنت تعرف لماذا؟
قالتها وقاطعها قبل أن تكمل، قاطعها بسرعة غاضبة، ولم يتحكم حتى في تأثير الرفض عليه عندما غادرت كلمته دون عند :
_ من أجل
وأغلقت الهاتف دون أن تسمع الاسم..
وهو لم ييأس أبدًا بل أرسل لها
"الحب لايعرف المثاليات إن لم أخطئ ربما أندم "
ولم تجبه، للمرة الأولى تخاف منه.
هي تثق به، هو لم يكن يومًا شخصًا سيئًا
لكنها لن تثق أبدًا في حب جعله يكسر وصية
الثقة في الحب أشبه بأن تضع يدك في النيران وتقول لن أحترق
هو كان ذراع والدها الأيمن
لطالما كان داعمًا لها، لكن موازين حبه ذاك قد تقلب الآية، من صديق قديم، ودائم للعائلة لحبيب تلك كانت مسافة أميال قبل أن يحارب ليقطعها الآن بخطوة، خطوة هي خطيئة لن يحتمل عواقبها، خطوة إن وافقته فيها ستخون هي الأخرى، وهل يرضى ها بالخيانة..
غفل أو قد تغافل عن أن الحُب أصبح في نظرها كلمة مستهلكة، وبلا قيمة.
الحُب بضاعة انتهت صلاحيتها والعودة
للحُب بعد تجربة فاشلة سذاجة..
هى لا تعيد تجارها، ولا تثق مرتين!
ولا تغفر دون أسباب واضحة
فالغفران رحلة تطول، بالنسبة ها هي لا
تغفر أبدًا قبل الانتقام..
هي "راما الشيشيني"
منذ أعوام علقت لائحة بقوانين الوقوع في
حُب امرأة مثلها.. ختمتها في نهايتها بجملة
خطها قلمها بـ عنفوان امرأة ما عاد يهمها من تفقد وأين ومتى تفقده..
(هنا انتهت أسطورة "الحب" هنا انتهى "هو")
حتى إشعار آخر
***
بعض الأخطاء يعقبها الندم، سببها الكبرياء، تأتي بالألم، وتحيطك بالوحدة..
"الطلاق"
قد يكون آخر قرارات امرأة تبحث عن الحُب، ولم تجده فَقررت الرحيل..
امرأة تقدس الحُب، تكره أن تكون حياتها هادئة حد الملل.. خالية من الصخب
وتطلقت
في مشهد هزلي في مسرحية كوميدية للغاية!
وها هي مشهورة بأنها طليقة "زيد وجدي" الأولى..
زيد لم يكن بالرجل السيء بل هو زوج كأي زوج على وجه الأرض لكن لامرأة تبحث عن الطبيعي، والمألوف..
وهذه ليست هى
هي أخرى تريد الارتجال، والخروج عن النص.. الجنون ربما، وحياة مليئة بالحب..
أرادت أن تفتخر بحب كحب قيس لـِ "ليلى"
وتنعم بجنون كـ جنون قيس بـِ "ليلى"
أرادت حكاية من الخيال تسردها فتظهر على الجميع ملامح الدهشة..
أرادت، وما حصلت على مُرادها..
وشهرزاد لم تجد تلك المرة حكاية لتقصها
بعد ميلاد طفلها بأربعة أعوام، بعد ستة أعوام من الزواج قررت الرحيل.. وهو حينها لم يحاول حتى لإبقائها، ومنحها ما تريد شفهيًا، دون أوراق..
دون تهديدات، أو أي أحداث صاخبة..
لم يكن بالحدث الجلل، هو أكمل طريقه، وتروج.. أما هي فلا..
ومرت ست السنوات برتابة لم تختلف عن
ست سنوات زواجها في شيء
صباح يوم الجمعة، كانت تنام بفراشها، قبل أن يعلن رنين هاتفها مبكرًا عن إشراقة شمس يوم جديد.. قد يبدو مجرد يوم عطلة أو مجرد تاريخ معلق بـ ورقة على الحائط..
لكنه ليس كذلك أبدًا هو يوم كعملة بوجهين، الوجه الأول عيد ميلاد طفلها العاشر، والثاني ذكرى طلاقها السادسة..
غادرت الفراش، و الغرفة تبحث عنه..
فليس من عاداته أن يستيقظ دون أن يوقظها، وليس من العادة أن تسبقه هي في الاستيقاظ..
اقتربت من باب غرفته تدقه قبل أن تدلف، سمعت صوته يأذن ها ففتحت الباب وجدته يجلس على
طرف فراشه شارد الذهن
جلست جواره تتفحص ملامح وجهه..
وتساءلت بعد أن خاب مسعاها في معرفة السبب:
_ ماذا بِك؟
زم شفتيه بلا مبالاة وردد:
-أي سيأتي عصرًا
هو لم يكن غير مبالٍ أبدًا كهيئته، بل إنه أكثر طفل يبالي على وجه البسيطة، لكنه مع مرور السنوات اعتاد، خاصةً أنه يحظى
بوالد عظيم، وأم متفهمة.. نشأ في ترابط رغم الانفصال، ولكنه كان يأمل لو كان الأمر أفضل..
لحظات من الصمت دون أن يضيف قبل أن يتخذ خطواته مغادرًا، وتوقف مع صوتها وهي تنادي باسمه:
_ يوسف
فور أن التفت نحوها وقفت متوجهة نحوه، فرقت ذراعيها المعقودين.. في إشارة واضحة
أنها تريد معانقته، هي ليست عادة، خاصة وهو لطالما كره العناق، امتعض بخجل، فهتفت بمرح:
_ تعال إلى هنا هيا
- إمي
نطقها يشدد على الياء بنفاذ صبر فرفعت حاجبها، وأدارت وجهها تصطنع الحزن.. فاقترب يحتضنها على مضض، وتملص سريعًا، لكنها لم تفلته إذ كانت تعبث خصلاته بيد وبالأخرى تعانقه وقالت
بمشاكسة:
-تعتقد بأنك تكبر وما زلت صغيري!
تنفس الصعداء براحة لأنها بحالة جيدة، ومزاجها جيد لليوم، رفع عينه ها يستجدي موافقتها قبل أن يعرض:
_ ستأتين ؟
أومأت له بابتسامة، وقبل أن تتحدث جذبت يده خلفها نحو خزانة ملابسه، وأشارت له تحثه على فتحها:
_ هيا افتحها
تقدمت يده بتردد نحو المقبض، وفتحها فلم
يجد شيئًا فالتفت ها يزفر بملل:
-أ تلك مزحة؟
اقتربت منه تفرق ملابسه المرتبة في خزانة
حسب ألوانها فَهو كوالده لا فرق.. ورث
الكثير عنه، والقليل منها.. ظهر من أسفل الملابس أربع دعوات لفيلم انتظره طويلًا، وكان يأمل أن يحضر عرضه الأول؛ فَتهللت أساريره واقترب تلك المرة يعانقها دون خجل مرددًا:
- أشكركِ
قرصت وجنته بلطف فَعاد يتأفف، لكنها قهقهت قائلة بتهكم:
_ يمكنك دعوة والدك يا ابن أبيك
وغادرت الغرفة، وقتما هتف بحماس غير عادي:
-سأرسله، سأدعو نوار أيضًا
ونوار هي أخته الصُغرى تصغره بخمسة أعوام من زوجة أبيه الثانية، يحُب صاحبتها، كصديقته الوحيدة، هي من ترسم ابتسامته في أغلب الأحيان، وإن كان يغار من وجودها بجانب والدها، وبقاءه هو وحده مع والدته..
لكن هو اختار لن يترك والدته وحدها مهما
حدث..
أحيانًا يشعر أنه أكبر من أعوامه القليلة تلك، بفهمه لما حدث مبكرًا، وكذلك كلما رأى والدته تكبر أمامه..
هي "وصال العقيد"
بشتائها الرابع والثلاثين ويخط الشيب طريقه نحو خصلاتها مبكرًا عن وقته، فتخفيه بصبغة بلون شعرها البني، لكن صغيرها كوالده يلحظ كل التفاصيل..
يلاحظ بكائها ليلًا ويسمعه، وعندما تنام يدلف لغرفتها يزيل أثار دموعها ويضع الغطاء فوق جسدها الذي لطالما اتخذ وضع الجنين في النوم.
لا يعلم سبب البكاء، ولم يحاول أن يسألها..
هي تواري حزنها عنه كي لا يحزن، ولا تعلم
أنها بهذا تحزنه أكثر..
خلق رجلًا قويًا كوالده، قد لا تهتز مشاعره في حضورها، ونادرًا ما يقول أحبك، قليلًا
ما يقبل العناق.. ومع ذلك فَهي حبيبته ليست أمه فحسب، ومهما تقدم به العمر ستظل أمه ساكنه قلبه..
بينه وبين نفسه يعترف بتلك المشاعر، ويخفيها أمامها.. طبيعة الرجال، فهو بالصباح ذي صوتٍ غليظ يتظاهر به كطفل في العاشرة، معه عدول غريب عنها، وبالليل يريد أن ينام جوارها أو حتى بأحضانها، أن يقول ها لا داعي للقلق فأنا هنا.. يطمئنها، ويطمئن ذاته..
هي لها كل الفضل، حتى وإن كان لوالده فضل!
هي كانت بمثابة والده ووالدته.. بمثابة الجميع، وليحترق العالم إن حزنت أمه.
مرت ساعات قضاها في الفطور، والجلوس معها، ثم اقترب موعد قدوم والده فَغادر لغرفته يبدل ملابسه لـ معطف ثقيل من الجلد بلون أزرق، أسفله قميص أبيض، وسروال أسود، أمسك بزجاجة عطره، وضع القليل
عند مواضع نبضه.. وصف خصلاته الكثيفة، ثم انتهى بارتداء حذاءه الأبيض..
توجه نحو والدته التي ارتدت ثوبًا طويلًا بلون أزرق هادئ كالسماء، بأكمام طويلة وينصفه عند خصرها سلسال بـ لؤلؤ أبيض..
تركت خصلاتها كما هي مموجة، وأحاطت ذراعيها بشال من الفرو ثقيل لبرودة الجو
لمسة بسيطة جعلت شفتيها بلون وردي هادئ، وخط أسود فوق عينيها يرسمها ببساطة ولم تضف المزيد..
اقترب يقف أمامها فابتسمت له، و مازحته قائلة:
_ تشبه من سيذهب في موعد غرامي؟
تأفف في حرج قبل أن تزيد هي من الإشارة
الخفية لحبيبة الصغير، الذي كبر مبكرًا ويعشق ! :
_ كيف حال ابنة عمك؟
زم شفتيه يهرب من الإجابة، ورفع كفيه كمن لا يعلم شيئًا، وببراءة حضرت في عينيه ردد:
_ لين؟ لا أعلم
ضحكت بينما عبثت بخصلاته تبعثرها، وألقت نظرة لساعتها وقتما أمسكت بيده وهمت بالمغادرة، حتى رن جرس الباب
فنظرت له، وتركت يده مشيرةً أن يفتح
الباب ويرى من أتى.
أكل الخطوات نحو الباب يفتحه فوجده والدة رحب به، و بـ أخته الصغرى، وهتف لأمه أن تأتي...
تقدمت على استحياء؛ فَتلك المقابلة أثقلهم على قلبها من كل عام، وزيد تعلقت عينه بها، بكل التفاصيل، بعينها التي لطالما أظهرت تحديها للعالم أجمع.. بهيئتها التي لم تتغير كثيرًا، وقبل أن يجول بخياله، ويهيم بما
ليس له أكثر أوقف نفسه عن متابعتها بعينه
بأن تحدث حرج:
-كيف حالكِ وِصال؟
لترد التحية دون تكلف:
-بخير.. ماذا عنك؟
وابتعدت عن ذكر اسمه في الحديث..
ارتبكت بصدق!
وهو ارتبك باحثًا عن إجابة وأصابته حيرة
أ يخبرها الحقيقة أم يختلق كذبة؟
أ يقول لها أنه مهما مرت أعوام سيزيد يقينه أنه كان يحبها وينكر حبه؟ أم يقول أنه كمن أراد ذاك الفراق ليعاقبه على صمته طوال أعوام؟
أ يقول خير؟ أم يقول ألا خير في أعوام ليست بها؟أو يقول أنه كمن فقد خريطته فأصبح تائهًا..
وبتعثر للكلام، بزفرة لم تبدُ ظاهرة لها، كانت لمنع نفسه من أن تنجرف نحو حب رحل أوان الاعتراف به.. كانت تمهيدا لكذبة:
- بخير
ابتسمت بتكلف وداخلها يسأله
"أ هان عليه فراقهما؟"
وتعلم ما ها من حق لسؤاله
فإن هان عليها لمَ قد يعز عليه؟
وأين الحُب الذي تنشده كي تلقب مابينهما بفراق!
الذكرى مجرد باب نحو حزن لا ينتهي!
والنسيان ادعاء كاذب ادعاه متألم لا أحد ينسى..
ليلة الجمعة.. ليلة الذكريات
ليلة العطلة، وليلة العائلة
ولا توجد عائلة!
عتمة بنفسجية ناتجة عن ضوء يشع من مصباح صغير موضوع بجانب فراشها حيث مضجعها
اختض جسدها إثر هواءٍ دلف لها من نافذة
فتحت على مصرعيها من شدته..
كانت تتدثر بغطاء ثقيل، وتقرا كتابًا على ضوء خافت!
عادة سيئة للعين ارتدت إثرها نظارة طبية..
بجانبها على مكتب صغير يجاور فراشها مشروب غريب تعشقه حيث يمتزج الشاي بالفاكهة..
هي ليلة شتاء قارص البرودة، بيوم الخميس حيث نهاية أسبوع من العمل، وهذا تقبع بالفراش.. ورغم ذلك فالبقاء بالمنزل مؤلم
خاصة أن ذاك المنزل لم يكن لها سوى مكان
تتدفق منه رائحة الذكرى..
مرت الذكرى مع كتاب أخذته من مكتبة والدها، كان بيدها وليتها كانت تقرأه، بل شاردة كعادة كل ليلة.. شردت في ذكريات مضت
اليوم اختفت رائحة القهوة الصباحية التي احتلت كل أمسٍ واحتلت الماضي، اختفى صوت المذياع بصوت كوكب الشرق بأغنية
كانت تحفظها، وتردد معها، وإن كانت آن
ذاك صغيرة، ولا تعي معناها كل ما كانت
تدركه حُب والدها للتراث..
ويوم الجمعة بالأمس كان لقلبها الأحب
حيث كان ينتهي فطورها بسلام.. فيذهب هو ليؤدي صلاة الجمعة، ويعود ليأخذها في نزهة. .
والآن فَلا هو هنا، ولا الأمس يعود.
كانت صغيرة، تسعدها الحلوى، ويبكيها كسر في لعبتها، وبينما تمر السنوات لم تكن يومًا تشعر أنها ينقصها شيء..
كيف وهو كان كل شيء؟
وليت الأمس يوم واحد، بل هو أعوام مرت، وكبرت الصغيرة
تقدمت في العمر خطوات وفهمت أن تلك الأغنيات الحزينة كانت بمثابة الإهداء "لأمها" إهداء لاذع، وقد هجرته بعد ولادتها بثلاثة أعوام وبعد عام واحد
تزوجت، كل هذا قصه عليها والدها قديمًا..
الأمس مرت عليه أعوام، مر على رحيل حبها الأول أثقل السنوات، وأدركت أنه لا يمكن لرجل أن يحتل مكانته، ولا يمكن لرجل أن يشبهه بالكون أجمع..
أحيانًا تسأله لماذا رحلت؟ رحل وباتت تدرك
معنى الفقد..
الأمس مر، ولكنه باقٍ بالذاكرة مهما حييت.. عادت من شرودها الطويل، وغادرت الفراش بعد أن تركت الكتاب جانبًا، تتجول بالمنزل حتى شكلت دموعها طبقة لامعه تضبب رؤيتها
فَكلما مرت بركن من أركانه تذكرته، بل ورأت صورته كشبح يبتسم لها
ومع كل جولة تتأكد أن لذلك المنزل سحر خاص لطالما كانت ممتنة له، هناك أعد القهوة.. وبذاك المطبخ اعد لها الفطور، هناك حضر ملابسه، وملابسها حتى تخرجت من الجامعة كانت تلك عادة لم ينقطع عنها يهتم بها دومًا إلى أن رحل منذ ستة أعوام، حين كانت هي بالكاد تجيد أخذ دوره
بالعمل، وتعمل عنه في مرضه..
وصلت لعامها الثاني، والثلاثين لكن بروحها
تلك الصغيرة ذات الجدائل حبيبة والدها..
مرت بالرواق، ومررت يدها على الأبواب هنالك بـالركن البعيد غرفته، بنهاية الرواق
مكتبته، وكتبه.. رائحته ما زالت بكل أرجاء المنزل، ولم يبددها شيء..
لم تكمل جولتها، حين سمعت صوت هاتفها
عادت للغرفة مجددًا، حملت هاتفها تنظر
للاسم فوق الرقم وقد كان "تَيِّم" ، ارتعشت وكادت تسقط الهاتف من يدها من برودة الجو فتوقف الاتصال قبل أن تجيب، لكنه إعادة، وأجابت هي على اتصاله التالي، انتظرت أن يتحدث من بعد استجابتها، ولكن تلك المرة لم يتحدث كعادته أبدًا بل
أراد أن تبادر هي.. وكان له ما أراد:
- خيرًا ماذا تريد تيم ؟
أتاها صوته الوجِل بنبرة خالطتها أنفاسه:
- أحبك
صُدمت، و أشفقت يا له من مسكين ليقع بحبها من بين الجميع، ولكن الحب بعيد تمامًا عن شعورها به فرددت باختناق:
-أنا لا أصلح للحب، وأنت خصيصًا تعلم السبب
فأتاها الرد على غير توقعها إذ كان لم يحد عما قاله، ولم يعتذر أبدًا:
_ دعينا نتفق
ردت تجيبه بتوجس، وقد عادت للفراش
وانكمشت من البرودة:
_ على ماذا قد نتفق ؟
صمت هو على الجهة الأخرى، كأنه يفكر لحظة وقبل أن يوضح بما سبب لها الدهشة:
-أعطِني فرصة
هكذا بكل بساطة! إنه يجعل الأمور أسخف مما تبدو عليه..
ومحاولاته يجب أن لا تجد صداها لديها كي لا تتسبب في حرب إن اندلعت لن تبقيه أو تبقيها.. فاعترضت أشد الاعتراض، وأعادت على مسامعه الرفض:
-لا يمكن ذلك، لا يمكن للحب أن يتسلل، و أعيدها لك أنت تعرف لماذا؟
قالتها وقاطعها قبل أن تكمل، قاطعها بسرعة غاضبة، ولم يتحكم حتى في تأثير الرفض عليه عندما غادرت كلمته دون عند :
_ من أجل
وأغلقت الهاتف دون أن تسمع الاسم..
وهو لم ييأس أبدًا بل أرسل لها
"الحب لايعرف المثاليات إن لم أخطئ ربما أندم "
ولم تجبه، للمرة الأولى تخاف منه.
هي تثق به، هو لم يكن يومًا شخصًا سيئًا
لكنها لن تثق أبدًا في حب جعله يكسر وصية
الثقة في الحب أشبه بأن تضع يدك في النيران وتقول لن أحترق
هو كان ذراع والدها الأيمن
لطالما كان داعمًا لها، لكن موازين حبه ذاك قد تقلب الآية، من صديق قديم، ودائم للعائلة لحبيب تلك كانت مسافة أميال قبل أن يحارب ليقطعها الآن بخطوة، خطوة هي خطيئة لن يحتمل عواقبها، خطوة إن وافقته فيها ستخون هي الأخرى، وهل يرضى ها بالخيانة..
غفل أو قد تغافل عن أن الحُب أصبح في نظرها كلمة مستهلكة، وبلا قيمة.
الحُب بضاعة انتهت صلاحيتها والعودة
للحُب بعد تجربة فاشلة سذاجة..
هى لا تعيد تجارها، ولا تثق مرتين!
ولا تغفر دون أسباب واضحة
فالغفران رحلة تطول، بالنسبة ها هي لا
تغفر أبدًا قبل الانتقام..
هي "راما الشيشيني"
منذ أعوام علقت لائحة بقوانين الوقوع في
حُب امرأة مثلها.. ختمتها في نهايتها بجملة
خطها قلمها بـ عنفوان امرأة ما عاد يهمها من تفقد وأين ومتى تفقده..
(هنا انتهت أسطورة "الحب" هنا انتهى "هو")
حتى إشعار آخر
***
بعض الأخطاء يعقبها الندم، سببها الكبرياء، تأتي بالألم، وتحيطك بالوحدة..
"الطلاق"
قد يكون آخر قرارات امرأة تبحث عن الحُب، ولم تجده فَقررت الرحيل..
امرأة تقدس الحُب، تكره أن تكون حياتها هادئة حد الملل.. خالية من الصخب
وتطلقت
في مشهد هزلي في مسرحية كوميدية للغاية!
وها هي مشهورة بأنها طليقة "زيد وجدي" الأولى..
زيد لم يكن بالرجل السيء بل هو زوج كأي زوج على وجه الأرض لكن لامرأة تبحث عن الطبيعي، والمألوف..
وهذه ليست هى
هي أخرى تريد الارتجال، والخروج عن النص.. الجنون ربما، وحياة مليئة بالحب..
أرادت أن تفتخر بحب كحب قيس لـِ "ليلى"
وتنعم بجنون كـ جنون قيس بـِ "ليلى"
أرادت حكاية من الخيال تسردها فتظهر على الجميع ملامح الدهشة..
أرادت، وما حصلت على مُرادها..
وشهرزاد لم تجد تلك المرة حكاية لتقصها
بعد ميلاد طفلها بأربعة أعوام، بعد ستة أعوام من الزواج قررت الرحيل.. وهو حينها لم يحاول حتى لإبقائها، ومنحها ما تريد شفهيًا، دون أوراق..
دون تهديدات، أو أي أحداث صاخبة..
لم يكن بالحدث الجلل، هو أكمل طريقه، وتروج.. أما هي فلا..
ومرت ست السنوات برتابة لم تختلف عن
ست سنوات زواجها في شيء
صباح يوم الجمعة، كانت تنام بفراشها، قبل أن يعلن رنين هاتفها مبكرًا عن إشراقة شمس يوم جديد.. قد يبدو مجرد يوم عطلة أو مجرد تاريخ معلق بـ ورقة على الحائط..
لكنه ليس كذلك أبدًا هو يوم كعملة بوجهين، الوجه الأول عيد ميلاد طفلها العاشر، والثاني ذكرى طلاقها السادسة..
غادرت الفراش، و الغرفة تبحث عنه..
فليس من عاداته أن يستيقظ دون أن يوقظها، وليس من العادة أن تسبقه هي في الاستيقاظ..
اقتربت من باب غرفته تدقه قبل أن تدلف، سمعت صوته يأذن ها ففتحت الباب وجدته يجلس على
طرف فراشه شارد الذهن
جلست جواره تتفحص ملامح وجهه..
وتساءلت بعد أن خاب مسعاها في معرفة السبب:
_ ماذا بِك؟
زم شفتيه بلا مبالاة وردد:
-أي سيأتي عصرًا
هو لم يكن غير مبالٍ أبدًا كهيئته، بل إنه أكثر طفل يبالي على وجه البسيطة، لكنه مع مرور السنوات اعتاد، خاصةً أنه يحظى
بوالد عظيم، وأم متفهمة.. نشأ في ترابط رغم الانفصال، ولكنه كان يأمل لو كان الأمر أفضل..
لحظات من الصمت دون أن يضيف قبل أن يتخذ خطواته مغادرًا، وتوقف مع صوتها وهي تنادي باسمه:
_ يوسف
فور أن التفت نحوها وقفت متوجهة نحوه، فرقت ذراعيها المعقودين.. في إشارة واضحة
أنها تريد معانقته، هي ليست عادة، خاصة وهو لطالما كره العناق، امتعض بخجل، فهتفت بمرح:
_ تعال إلى هنا هيا
- إمي
نطقها يشدد على الياء بنفاذ صبر فرفعت حاجبها، وأدارت وجهها تصطنع الحزن.. فاقترب يحتضنها على مضض، وتملص سريعًا، لكنها لم تفلته إذ كانت تعبث خصلاته بيد وبالأخرى تعانقه وقالت
بمشاكسة:
-تعتقد بأنك تكبر وما زلت صغيري!
تنفس الصعداء براحة لأنها بحالة جيدة، ومزاجها جيد لليوم، رفع عينه ها يستجدي موافقتها قبل أن يعرض:
_ ستأتين ؟
أومأت له بابتسامة، وقبل أن تتحدث جذبت يده خلفها نحو خزانة ملابسه، وأشارت له تحثه على فتحها:
_ هيا افتحها
تقدمت يده بتردد نحو المقبض، وفتحها فلم
يجد شيئًا فالتفت ها يزفر بملل:
-أ تلك مزحة؟
اقتربت منه تفرق ملابسه المرتبة في خزانة
حسب ألوانها فَهو كوالده لا فرق.. ورث
الكثير عنه، والقليل منها.. ظهر من أسفل الملابس أربع دعوات لفيلم انتظره طويلًا، وكان يأمل أن يحضر عرضه الأول؛ فَتهللت أساريره واقترب تلك المرة يعانقها دون خجل مرددًا:
- أشكركِ
قرصت وجنته بلطف فَعاد يتأفف، لكنها قهقهت قائلة بتهكم:
_ يمكنك دعوة والدك يا ابن أبيك
وغادرت الغرفة، وقتما هتف بحماس غير عادي:
-سأرسله، سأدعو نوار أيضًا
ونوار هي أخته الصُغرى تصغره بخمسة أعوام من زوجة أبيه الثانية، يحُب صاحبتها، كصديقته الوحيدة، هي من ترسم ابتسامته في أغلب الأحيان، وإن كان يغار من وجودها بجانب والدها، وبقاءه هو وحده مع والدته..
لكن هو اختار لن يترك والدته وحدها مهما
حدث..
أحيانًا يشعر أنه أكبر من أعوامه القليلة تلك، بفهمه لما حدث مبكرًا، وكذلك كلما رأى والدته تكبر أمامه..
هي "وصال العقيد"
بشتائها الرابع والثلاثين ويخط الشيب طريقه نحو خصلاتها مبكرًا عن وقته، فتخفيه بصبغة بلون شعرها البني، لكن صغيرها كوالده يلحظ كل التفاصيل..
يلاحظ بكائها ليلًا ويسمعه، وعندما تنام يدلف لغرفتها يزيل أثار دموعها ويضع الغطاء فوق جسدها الذي لطالما اتخذ وضع الجنين في النوم.
لا يعلم سبب البكاء، ولم يحاول أن يسألها..
هي تواري حزنها عنه كي لا يحزن، ولا تعلم
أنها بهذا تحزنه أكثر..
خلق رجلًا قويًا كوالده، قد لا تهتز مشاعره في حضورها، ونادرًا ما يقول أحبك، قليلًا
ما يقبل العناق.. ومع ذلك فَهي حبيبته ليست أمه فحسب، ومهما تقدم به العمر ستظل أمه ساكنه قلبه..
بينه وبين نفسه يعترف بتلك المشاعر، ويخفيها أمامها.. طبيعة الرجال، فهو بالصباح ذي صوتٍ غليظ يتظاهر به كطفل في العاشرة، معه عدول غريب عنها، وبالليل يريد أن ينام جوارها أو حتى بأحضانها، أن يقول ها لا داعي للقلق فأنا هنا.. يطمئنها، ويطمئن ذاته..
هي لها كل الفضل، حتى وإن كان لوالده فضل!
هي كانت بمثابة والده ووالدته.. بمثابة الجميع، وليحترق العالم إن حزنت أمه.
مرت ساعات قضاها في الفطور، والجلوس معها، ثم اقترب موعد قدوم والده فَغادر لغرفته يبدل ملابسه لـ معطف ثقيل من الجلد بلون أزرق، أسفله قميص أبيض، وسروال أسود، أمسك بزجاجة عطره، وضع القليل
عند مواضع نبضه.. وصف خصلاته الكثيفة، ثم انتهى بارتداء حذاءه الأبيض..
توجه نحو والدته التي ارتدت ثوبًا طويلًا بلون أزرق هادئ كالسماء، بأكمام طويلة وينصفه عند خصرها سلسال بـ لؤلؤ أبيض..
تركت خصلاتها كما هي مموجة، وأحاطت ذراعيها بشال من الفرو ثقيل لبرودة الجو
لمسة بسيطة جعلت شفتيها بلون وردي هادئ، وخط أسود فوق عينيها يرسمها ببساطة ولم تضف المزيد..
اقترب يقف أمامها فابتسمت له، و مازحته قائلة:
_ تشبه من سيذهب في موعد غرامي؟
تأفف في حرج قبل أن تزيد هي من الإشارة
الخفية لحبيبة الصغير، الذي كبر مبكرًا ويعشق ! :
_ كيف حال ابنة عمك؟
زم شفتيه يهرب من الإجابة، ورفع كفيه كمن لا يعلم شيئًا، وببراءة حضرت في عينيه ردد:
_ لين؟ لا أعلم
ضحكت بينما عبثت بخصلاته تبعثرها، وألقت نظرة لساعتها وقتما أمسكت بيده وهمت بالمغادرة، حتى رن جرس الباب
فنظرت له، وتركت يده مشيرةً أن يفتح
الباب ويرى من أتى.
أكل الخطوات نحو الباب يفتحه فوجده والدة رحب به، و بـ أخته الصغرى، وهتف لأمه أن تأتي...
تقدمت على استحياء؛ فَتلك المقابلة أثقلهم على قلبها من كل عام، وزيد تعلقت عينه بها، بكل التفاصيل، بعينها التي لطالما أظهرت تحديها للعالم أجمع.. بهيئتها التي لم تتغير كثيرًا، وقبل أن يجول بخياله، ويهيم بما
ليس له أكثر أوقف نفسه عن متابعتها بعينه
بأن تحدث حرج:
-كيف حالكِ وِصال؟
لترد التحية دون تكلف:
-بخير.. ماذا عنك؟
وابتعدت عن ذكر اسمه في الحديث..
ارتبكت بصدق!
وهو ارتبك باحثًا عن إجابة وأصابته حيرة
أ يخبرها الحقيقة أم يختلق كذبة؟
أ يقول لها أنه مهما مرت أعوام سيزيد يقينه أنه كان يحبها وينكر حبه؟ أم يقول أنه كمن أراد ذاك الفراق ليعاقبه على صمته طوال أعوام؟
أ يقول خير؟ أم يقول ألا خير في أعوام ليست بها؟أو يقول أنه كمن فقد خريطته فأصبح تائهًا..
وبتعثر للكلام، بزفرة لم تبدُ ظاهرة لها، كانت لمنع نفسه من أن تنجرف نحو حب رحل أوان الاعتراف به.. كانت تمهيدا لكذبة:
- بخير
ابتسمت بتكلف وداخلها يسأله
"أ هان عليه فراقهما؟"
وتعلم ما ها من حق لسؤاله
فإن هان عليها لمَ قد يعز عليه؟
وأين الحُب الذي تنشده كي تلقب مابينهما بفراق!