العبور

رفيقة الليل`بقلم

  • أعمال مشتقة

    النوع
  • 2022-11-11ضع على الرف
  • 3.9K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الثاني

حدث شرخ في أدميته، وبين العويل
والدخان الأسود، ومن ضمن تلك الفاجعة انبعث هو كائن سامي نصفه بشري ونصف الآخر مقدس،
كان ذلك الانفجار هو لحظة إلهامه كرسول الموت الصامت.
قبل ثلاث سنوات،. دبي
الممرات الخضراء والصفراء خالية، الاضاءة خافتة، الساعة تقارب الحادية عشر بتوقيت دبي، ليلة مغبرة و سماء قانية.
دبي لا تقدم لك حلول وسط اما سماء قانية محمرة لكنها تنعم ببعض النسمات الباردة، أو الليلة
تختنق فيها بثقل انفاسك المكبلة برطوبة تجثم على الصدر كالصخر الصلد، ولكن بالمقابل تعطيك سماء
صافية تستطيع من خلالها رسم كافة نجوم الكون لو أردت.
في الغرفة 42 في الطابق السابع من مشفى دكتور سلام توفيق ترقد مريضة يافعة، حالة متأخرة من
سرطان الدم (اللوكيميا)، تدخل الممرضة، تنظر الى الاجهزة المتصلة بمعصم تلك الشابة، الضغط،
نبضات القلب، قياس الحرارة، رفعت نظرها قليلًا نحو الكنبة
الصغيرة حيث يجلس الدكتور سلام توفيق الذي كان مستغرقًا بقراءة ملف المريضة، لم ترغب بتعطيله
عن عمله خرجت بخطى خفيفة تاركة المريضة والدكتور.
كان الدكتور غارق بتفاصيل آخر تحليل دم خاص بسارة، لم تكن النتائج مبشرة كريات الدم البيضاء
بـ أعلى معدلتها، السرطان يكاد يستوطن بكل خلايا جسدها ولكن لا شيء جديد بهذا.
عندما جاءت سارة إليه كانت بـ المرحلة الثالثة من السرطان قضية يمكن الريح بها إذا ما خضعت الى
عملية نقل نخاع العظام، رغم الجهود والمتابعة الكثيفة فشلت عملية زراعة نقل نخاع العظام
وعاد السرطان يجتاح جسدها، رغم التحسن الطفيف الذي شعرت به بعد العملية.
كانت قادمة لتشارك بالتجربة السريرية التي يقوم عليها حاليا هو وفريق الأطباء بمركزه، لم تكن المرشحة المثالية لتجربته وجميع الاطباء في فريقه عارضوا انضمامها الى قائمة المرشحين للتجربة السريرية.
ولكن الدكتور، وبناء على اعتبارات عاطفية، قام بضمها الى قائمة المشاركين بالتجربة، انها بنت بلده
وكان واضحًا أنها من طبقة اجتماعية متوسطة وهذا يعني أن عائلتها غالبًا اضطررت لبيع جميع ما تملك لتسافر للعلاج.
كما أنها شابة مفعمة بالأمل رغم المحن التي مرت على ذلك الجسد النحيل إلا إنها ما يزال لديها أمل بالنجاة.
لقد مضى على وجودها ما يقارب الثلاث أشهر وهي تقريبا تحتضر، لكن سارة لم تكن مجرد مريضة، بل كانت مميزة جدًا بالنسبة للدكتور كأنها لوحته الفنية الأعظم.
لم تصبح سارة بتلك الاهمية سوى من شهر ونصف، لقد عاين الدكتور نتائج الدواء التجريبي على جسدها.
لم يكن هناك أي تحسن، لكنه في لحظة إلهام قام بأخذ عينة من خلاياها الشبه ميتة إلى مختبره
الخاص.
هنا في هذا المختبر يعمل على تحقيق حلمه السري، يحاول جاهدا إحياء خلايا ميتة، معطوبة يجلس
بالساعات يحقن تلك الخلايا بالبروتينات يحاول هندسة الخلية جينيا، النتائج كانت متواضعة حتى الآن.
ومثل كل ليلة تلك جلس الدكتور كالعادة وهو يحقن تلك الخلايا ويحاول ان يلاحظ اي تغير.
بعد مرور اسبوعين من تلك الليلة نظر الدكتور إلى تلك الخلية السرطانية فوجدها قد ماتت تمامًا التعديل الجيني مع البروتينات والدواء الجديد قضى على الخلية السرطانية، كان هذا تقدم رائع بالنسبة لسارة، لكن ليس هذا ما يريده.
لقد تأكد تمامًا من موت الخلية عندما قام بمحاولة لإعادة إحيائها لحالتها الأولى حقنها بكريات دم بيضاء بروتينات، كلوكوز.
وعندما عادت الخلية الى النشاط الخليوي كاد قلب الدكتور أن يتوقف من شدة الفرحة لقد قام بأحياء خلية ميتة تمامًا، لكنها خلية سرطانية، لم يكن هذا ما يريده هو لا يريد الخلود لـ مجموعة من المسوخ السرطانية ولكنها كانت البداية ،.
وهنا أصبحت سارة شغله الشاغل لقد قام بهذه التجربة على مئات المرضى لم تستجب أي خلية له كخلية سارة.
هل الخلود يمنح بناء على الحمض النووي؟ لماذا هي بالتحديد؟ من بين آلاف الخلايا التي
اخضاعها للتجربة لم يحقق أي نجاح يذكر، ولكن الآن وبعد كل تلك السنين يملك الدليل علمي لا يمكن المجادلة به خلية عادت للحياة، شيء ما في تلك الخلية جعلها مميزة عن بقية خلايا مرضاه السابقين
لقد كانت سارة طريقه نحو حل المجهول لم يكن ينظر إليها على إنها كيان بشري، بل اصبحت تمثل له مجموعة من خلايا التي لا تقدر بثمن.
لم يفعل شيء ليستعجل موتها وحصد خلاياها سيترك الطبيعة تأخذ مجراها، وعند حضور الموت لن يستطيع أحد إيقافه لحصد خلاياها واكتشاف السر الكامن بهذا الجسد المحتضر.



نجاة تصدح بصوتها الدافئ "يامن تفكر في صمت وتتركني "تنثر أنغامها في أنحاء غرفة الجلوس، كان أحمد ساهم وعلى وجهه ابتسامة، هذه طريقة زوجته في ندب حظها كلما انشغل عنها، وغاص بعمق القضايا التي أمامه.
تقوم المدام بشن حرب من الصمت، تتحدث مغ الأولاد عن حظها سيء، واخيرا السلاح الفتاك نجاة، نجاته هي تعلم مكانة تلك الصغيرة في قلبه. ولكنه ثابت على صمته ليس عنادا بل حذرا.
انه يشعر بالثقل، قضية الدكتور سلام توفيق أثقلت عليه، مديره ورغبته بالسرية تدفعه الى الجنون،
كيف يحقق في مقتل شخصية عامة امتدت حياته بين مئات المدن ومر في حياته أهم الشخصيات بمنتهى السرية؟ حياة القتيل كانت عبارة عن كتاب مفتوح، كيف يبدأ هو المحقق البسيط بحل لغز جريمة قتل هذا النجم الساطع في سماء الطب؟
بدأت التعقيدات تظهر في أول خطوة من التحقيق، عليهم أخذ الأذن من أرملة القتيل لفتح القبر واستخراج الجثة ولكن مديره كالعادة أصابته نوبة فزع
- احمد بالله عليك هل تريد قتلي
وجعل اطفالي يتامى؟
- سيدي لا سامح الله، لكن علينا ان نتأكد
-لا تكمل، لا أحد يعلم بهذا الأمر، ولا حتى أسرة القتيل
-إذن لن نتأكد من جثة المدفونة؟
- أنا لم أقل هذا
وفهم احمد ان هذا التحقيق عليه ان يسير بالدروب الخليفة للعدالة، هذه الليلة سيتوجه هو وصلاح لاستخراج تلك الجثة بدون أذن من العائلة أو السلطات العليا.
فقط رشوة بسيطة لحارس المقبرة وتهديد بالغ الخشونة بأنه لم يرى شيئا مما حدث، إلا سيختفي هو وكل أحبته.
لم يكن يومًا أحمد بالرجل المثالي الحالم، كان رجل الواقع بامتياز كان يستخدم سلطته كشرطي للتخويف
كلما لزم لأمر لكنه لم يستخدمها يومًا لأغراض شخصية، ربما لأنه لم يحتاج يومًا للتخويف، فهالة السلطة تحيط به تجعل كل من يتعامل معه حذوا للغاية.
هو رجل متسامح مع نفسه ومع المجتمع الذي حوله مهما بلغت بشاعته، فهو يسمع عن الفساد والرشوة التي تنخر الدولة ويراه بكل وضوح في سلك الشرطة لكن لا يرى به سوء هي ظاهرة موجودة ومستمرة من يكون هو ليحتج.
كان احمد يأخذ ويعطي الرشوة بكل يسر ودون أدنى تفكير بالعواقب لم يكن يراه بالذنب، هو رجل يصلي ويصوم، وإذا فاض القليل من المال لديه يتصدق به، إيمانه موجود في قلبه لكنه لا يعتبر الرشوة والفساد والتخويف كذنب.
الرشوة والفساد في هذه البلد هو جزء من ثقافة المجتمع، الرشوة هنا هي اسلوب حياة للمواطن البسيط، مجرد تكافل اجتماعي بين المواطنين، إنها الطريقة الوحيدة للمضي قدمًا لأغلب الموظفين، بالإضافة أن ما يأخذه هو لا يقارن بما يأخذه من
باعوا البلاد والعباد.
التخويف واستخدام سلطته هي الطريقة الوحيدة لإنجاز الأمور بسرعة في بلد الوقت فيها يمشي بمقدار ما تدفع وتثير الرعب بنفوس ممن حولك. والعراق كان به كل صنوف الفساد المالي والإداري
والسياسي وحتى البسطاء ومدعي التظلم لهم نظام خاص بهم في الفساد.
لقد مر على أحمد رجال لهم ماضي من دماء وجثث والان يجلسون تحت قبة البرلمان، والادهى
ان كل هؤلاء محاربي الإرهاب والفساد يملكون مجموعة من المرتزقة لممارسة كل أنواع الفساد
والإرهاب الداخلي، لذلك احمد يعيش بحالة من السلام مع عمله في سلك الشرطة بل ويعتبر نفسه مقارنة مع غيره في موضع أخلاقي اسمى من كثير حوله.
وإن كان السبيل الوحيد للكشف القاتل هو اللعب بطريقة قذرة، فإن احمد كان أكثر من مستعد للنزول
الى الوحل وحل هذه القضية، لم تكن الطرق الملتوية للتحقيق والقنوات الخلفية للعدالة أو حتى نزاهة التحقيق ما يثقل عليه.
إنما ما يثقل عليه هو تصرف القاتل، سلطته الخفية، ذكائه، احمد ببساطة يلعب لعبة لا يعرف قواعدها على أرض الخصم وفق تصوراته الخاصة.
لأول مرة يشعر بأن السلطة ليست بيده، يشعر أنه الاخر، الملاحق، لا يملك هالة السلطة، لماذا واختصه القاتل هو بالتحديد بما يقض مضجعه هوية القتيل تجعله يميل الى أن القاتل رجل ذو نفوذ، وذكاء حاد واهم شيء رجل صبور جدا.
وفي الطرف الآخر من بغداد كان صلاح يهم بالخروج من بيته ليقابل احمد بالمقبرة، موعد مع أحمد بين القبور، حياته تكاد تكون التعريف الحرفي لكلمة الملل، لكن على الاقل سيبدأ تحقيق بالسير الى الامام وهذا كل ما يهم.
يحاول أن ينتظر خمس دقائق إضافية ليودع والدته فهي لم تنته من صلاتها بعد، كان يجلس على الكنبة وهي تصلي صلاة العشاء يتأمل تلك المرأة المتشحة بالسواد.
منذ بداية وعيه وأمه متلحفه بأسمالها السوداء، كانت والدته مجرد شابة صغيرة تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا عندما تزوجت والدة، العسكري الشاب المندفع، في إحدى إجازاته من الجبهة المشتعلة أثناء الحرب العراقية الايرانية، خطبها، وتزوجها، قضى معها اسبوع، وذهب الى جبهة مرة اخرى، وليعود بعد شهرين محمول بنعش، مخلفا أرملة بطنها منتفخ بشهوة جندي أحمق.
هكذا كان صلاح يرى والده مجرد شاب هائج أحمق كغيره ممن يحملون سلاح من مختلف الأعراق والحروب على اختلاف الأزمنة، يتشابهون بالغباء والتصديق بالنهايات السعيدة.
منذ صغره والجميع يردد على مسامعه أبوك شهيد، وصلاح لا يرى فيه بطولة بل مجرد أحمق اخر ترك وراءه أرملة شابة دفنت نفسها بذكرى زوجة تدفع ثمن اسبوع في فراش الشهيد، لم تستطع والدته
الزواج خوفًا من أن يأخذ أعمامه ابنها الوحيد، يتمنى صلاح احيانًا لو لم يكون موجودا ربما لتمكنت والدته من الحصول على حياة أقل قتامة من وجوده.
هل تمحي الخيبة الحب، خصوصًا حب غير مشروط كحب الأم، لأنه يعتقد أنه خيبة كبيرة بالنسبة لوالدته، بشخصيته الغريبة حبه للوحدة والحاجة لها، السخرية العميقة من كل الأفكار الكبيرة، لديه شك في أعماق روحه بكل الكلمات المقدسة والأفكار العظيمة، كانت لديه قناعة ثابتة كلما كانت الكلمات عظيمة كلما كانت الكذبة أعظم.
يحاول جاهدًا تقديم واجهة الطف أمامها من هذا القابع بداخله، لأجلها فقط يحاول أن يندمج بهذا العالم الماثل أمامه، ربما ما يقوم به نوع من الحب الغير مشروط أيضا
-فهل سنخرج الآن؟
-نعم لدي موعد مع صديق، ربما أتأخر على الأغلب سأتأخر، لا تقلقي وحاولي النوم
-لا انام الا وانت في فراشك
-امي
-لا تحاول الأمر ليس بيدي، اذهب سأحاول الاستراحة اعدك.
القيادة في طرقات بغداد في الليل رفاهية ونوع من أنواع الانتحار، بغداد المزدحمة بدخان عوادم السيارات في الصباح وصراخ المارة والأعصاب المحترقة، الرجال هنا تخرج إلى عملها ولديها اعتقاد انها تقدم للعالم خدمة جليلة حتى سائق سيارة الأجرة يظن أن الدولة ستنهار لو لم يخرج الى عمله، ولكن القيادة في الليل بطرقات شبه فارغة تعطي لصلاح نوع من أنواع الحرية النادرة القيادة خارج حدود السرعة دون زحام خانق وبنفس الوقت انتحار أو دعوة غزل للموت القيادة في طرقات بغداد التي عاشرت العنف منذ الاحتلال أمر غير مضمون لا تعلم من تصادف ومن سيحمل سلاح ما في وجهك وهذا الشعور وصلاح يعتبر وجه من وجوه السلطة، تُرى ماذا يشعر من لا ظهر له في هذه البلد الساعة قد قاربت منتصف الليل واحمد وصلاح يقفان عند قبر الدكتور سلام توفيق او ما يفترض ان يكون قبره، لقد صرف احمد حارس المقبرة وقاموا بتجهيز الموقع لاستخراج الجثة
-كان من الأفضل لو لم تصرف الرجل أحمد، من سيقوم بحفر
القبر بالله عليك؟
-لا تخف هذه مهمتي فانا احتاج بعض التمارين الرياضية، بالإضافة لو أنت قمت بالحفر سننتهي
الخميس القادم
-لا تخدعك بنيتي الضعيفة فانا لدي قوة كامنة
-نعم اعرف هذا، انها قوة الكيد والغل تمنح الانسان طاقة جبارة
- قم بالحفر ولنرى قدراتك أنت وهذ الكرش
بعد نصف ساعة من العرق واللهاث المستمر تمكن أحمد من الوصول الى جثة، وطوال هذا الوقت كان
صلاح يجلس على كرسي بلاستيكي ويتصفح شاشة تليفونه الذي بدون ان يفكر حتى بتقديم كلمة تشجيع
او مواساة لذلك الغارق بعرقه
-لم اعد اسمع اصوات انفاسك المقطوعة، هل هذا يعني أنك انتهيت
قال صلاح ذلك من دون أن يرفع عينيه عن هاتفه الذكي، وعندما لم يتلق إجابة رفع رأسه ليرى أحمد ينظر الى القبر
-من الأفضل أن تأتي وترى بنفسك
عندها نهض صلاح من مكانه وتقدم نحو القبر المفتوح توقع أن يرى أي شيء غير الذي أمامه
كان في القبر هيكل عظمي بدون كفن وقد قيدت اطرافه وفي إصبع رجله اليسرى كان هناك ورقة بيضاء مربوطة بطريقة احترافية ذكرت صلاح ببطاقات التعريف التي يستعملها للجثث في المشرحة
-أظن هذه رسالة القاتل الثانية
قال احمد دون ان يحيد نظره عن ذلك الهيكل العظمي، اما صلاح فكان مشغولا بمراقبة كومة العظام يحاول ان يستنبط تحليل اولي حتى قبل ان يعاين العظام، وبعد دقائق نزل هو ومعداته القبر وباشر بفحص العظام على عجل، تركه احمد وتوجه للجلوس ينتظر بهدوء تقيم صلاح الاولي.
مضت ساعة ثانية وصلاح بداخل القبر مع عظامه دون ان يتفوه بكلمة واحدة، كان لديه طاقة للعمل يشعر انه امام لغز حياته قضية لن تتكرر طوال عمره
-لقد تم حرق هذا الرجل حيا
-إذن هو رجل؟
-نعم الفحص الأولي يدل على انه ذكر في أوائل العقد الرابع ومن خلال خبرتي اراهن ان هذا الرجل
كان مقيد وهو حي وقد تم حرقه حتى الموت.
-هل هو دكتور سلام؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي