الفصل الأول

القسم الاول

جلجامش
" اخلق لي نارا تأكل جلجامش إن أنتَ أبيت أحطم باب الجحيم وأكسر المزلاج، تتدفق جموع الموتى
تطغى على الأحياء، أسلط الموتى على الأحياء "
'على لسان عشتار ملحمة جلجامش'

بعد ثلاث شهور – بغداد
كان يومًا صيفيا من ايام بغداد الحامية وبعد أذان الظهر بنصف ساعة، كان المحقق أحمد يمشي
بخطى متثاقلة قادمًا من المختبر الجنائي، يفكر بتلك الملاحظة، لقد قرر القاتل أن يهديه موتًا، أنه
محقق جنائي بحق كل ما هو مختل ألا يكفيه ما لديه من موت
ربما لو أضاف سيارة او حتى ربطة عنق ربما
حينها كان سيشعر ببعض المواساة ويتقبل تلك الهدية، فكر بسخرية، وتنهيدة متعبة.
اليوم تم التعرف على المجني عليه لديه في هذا الملف تفاصيل هديته، لكن عليه أن يقرأن القاتل لديه بعض الذوق وبعد النظر، أنه يعلم إننا نعيش في بلاد الواق واق ثلاثة شهور للحصول على نتيجة تحليل الحمض النووي للضحية تعتبر معجزة في حد ذاته، ربما لو تكرم وارسل إليه التحليل مع المرحوم، لكانت النتيجة ظهرت بوقت أسرع
هذا القاتل يبدد مواهبه هنا يجب إن يهاجر إلى بلاد الغرب، هناك سيتم تقديره أكثر أما هنا في بلاد الشرق فـ مواهبه في طريقها إلى الضياع
كان أحمد يلهث بعض الشيء عند الوصول إلى مكتبه كان متوسط الطول ذو وجه عريض مائل الى
السمرة، غزا الشيب شعره الاسود ولديه بطن متمرد على حزام البنطلون، قد أكتسبه من مختلف أنظمة الريجيم التي تتبعها
لقد أمضى ما يقرب العشرين عامًا محققا جنائيا. يعتبر نفسه محقق متمرس، ولكن ليس بالموهوب لا
يملك ذلك الحدس الطبيعي لمعرفة النفس البشرية وخبايا ظلامها.
حدسه قادم من الخبرة المتراكمة، الأخطاء، الصدمات، والمحققين الأكبر منه سنًا الذين أخذوا بيده
عندما كان شابًا مبتدئًا بعمله.
عندما يتذكر نفسه بتلك المرحلة يشعر بالقشعريرة من مقدار غروره وسذاجته، كان يظن أنه يملك من
الموهبة ما يجعل أباطرة الإجرام يفكرون بالتقاعد، الحمد الله ذلك الاعتقاد لم يدم طويلًا
كما أنه عاصر الكثير والكثير، يستطيع أن يضع عنوان لكل عقد من عمره بعدد الحروب التي مرت
على هذه الأرض ، طفولته ومراهقته قضاها على انغام الحرب مع إيران، أيام شبابه قضاها بين
حرب الخليج والحصار الاقتصادي، منتصف العمر كانت الأكثر عنفا.
سقوط بغداد، الاحتلال، الحرب الاهلية، الموت المجاني، والان هو يعاصر عصر الفساد الأكبر
لقد عاصر الكثير والكثير من الموت، وتألف معه، إلا أن تلك الهدية قدمت له موتًا لم يختبره من قبل
هذا الموت متفرد ليس موت عشوائي أو موت يدخل بقائمة الإحصاء التي تصدر كل شهر لـ ضحايا العنف بالعراق،وراء هذا الموت حكاية ولسوء حظ احمد القاتل أختاره ليشارك معه تلك الحكاية، عادت به الذاكرة إلى ذلك اليوم المشئوم الذي استلم به هديته وذهابه الى مكتب المدير، ونظرة الدهشة التي اعتلت وجه المدير، كانت أفكاره الداخلية مسموعة
لأحمد لماذا هذا القاتل اختص
احمد بتلك الهدية؟ للحظة شعر
احمد بالإهانة، لماذا هل هو أقل من أن يكون محور اهتمام قاتل لديه ذرة من الذكاء والابداع؟ الا
يستحق بعد حياة مهنية مليئة
بالأغبياء ومدعي الفضيلة، وجرائم
الشغف والجشع والشرف، الحصول على قاتل من نوع خاص.
كان مديره بحالة من الهلع وهو يستمع لأحمد ساردًا عليه تفاصيل الهدية
-هذا ما كان ينقصني يا احمد، نعم
هذا ما كان ينقصني،مختل، أجزاء جثة، لو علمت الصحافة سيتم تحويل القضية إلى قضية رأي
عام، عجز الحكومة، تدخل الدول الأجنبية، انهيار منظومة الأخلاق،، هذا فقط ما كان ينقصني
-سيدي لو تهدأ قليلًا لنفكر
-لنفكر احمد ! لنفكر! هل تطلب
مني أن أهدأ لنفكر!
لم يرد أحمد، اعتبر انه سؤال بلاغي، وأن الرجل تحت ضغط نفسي يحق له ثورة غضب غير مستحقة لرجل بمنصبه
-لن يعلم كائن بهذا الأمر
-كما تشاء يا سيدي، ولكن المشكلة
الصغيرة أن الجماهير المجيدة ستبدأ بالانتباه عندما يختفي أفراد من عامة الشعب، وربما يزداد الغضب عندما يحاول الناس دفن موتاهم ناقصي أطراف وأعضاء
-هل اسمع نبرة سخرية، ربما تود الاحتفاظ بحسك الفكاهي للأيام القادمة فأنت من استلم الهدية وهي موجهة لكَ بالتحديد لماذا يا ترى ،
ماذا فعلت لهذا المختل؟
-لقد قلتها سيدي بنفسك أنه مختل، والجواب على سؤالك سيدي، لا أعلم لماذا هذا المختل اختصني بهذا الشرف، انا استلم القضايا المعتادة، الزوج متهرب من دفع النفقة فقرر قتل المدام، الزوجة الغاضبة، المدمن، من يسعى لإخفاء اختلاس بجريمة قتل، يعني الزبائن المعتادين أنا لا أحاول و
لا أريد العثور على تلك الجريمة الكاملة لحلها
تمعن المدير بكلام أحمد وهو يدرك صحته، احمد محقق أقل من عادي يؤدي الوظيفة كما مطلوب لا يسعى الى شهرة أو ترقية يعشق الروتين والروتين يبادله العشق
-إليك ما سنفعله لا أحد من القسم
سيعلم بهذا الموضوع الان
سنستدعي صلاح ليفحص البقايا، أنتَ وصلاح فقط من سيتولى الموضوع
-صلاح ذلك الشاب الغريب
-نعم صلاح هل من مشكلة؟
-لا لا توجد مشكلة، لكن الكهرباء مقطوعة بيني وبين هذا الشاب
-اعد تشغيلها، هذا الشاب كتوم كالأموات هو أفضل فرصة لنا ببقاء الأمر سرًا
-كما تشاء سيدي
-أحمد لم ولن يعلم احد عن الموضوع
كان ذلك الحوار منذ ثلاث شهور والآن احمد يجلس على مكتبه يحدق بالمغلف ثم يحدق في باب
غرفة المدير، الرجل سيصاب بسكتة قلبية عندما يعلم هوية القتيل اخذ هاتفه وبعث رسالة الى صلاح
-أنا في انتظارك
بعد دقائق رد عليه صلاح
-في الطريق إليك،احمد، الرجل سيصاب بالسكتة القلبية حين يعلم
-من جيد أنك معي ، ستقوم بعمل الاسعافات الاولية
----
اليوم سيتم الكشف عن صنيعه الأول، قربانه المسجى أمامه على الطاولة، مجمد الى الابد كما أراد، خالدًا في لحظة الموت.
ربما حان الوقت لدفنه لتكتمل عملية الانتقال ويعبر جلجامش الى العالم السفلي. أخذ ينظر مطرقا إلى ذلك المسجى أمامه من بين جميع الأغبياء
الذين حاولوا الهروب من البوابة الأبدية للموت كان جلجامش أكثر من يثير غضبه وشفقته.
حزنه لفقد أنكيدو عدو الأمس وصديق العمر جعله يخشى على ذاته من الموت، ذهب الى أعالي
الجبال وأعماق البحار بحث محموم عن خلود مزعوم وفشل.
ألا يعلم أن الخلود الحق يكمن بالاستمرارية الانسيابية الحياة، ثم تأتي الهبة الكبرى الموت، التحرر، تلك اللحظة من الصمت المهيب والسكون، قبل الانتقال الى البعد الآخر.
عندما سمعه يلقي محاضرته في إحدى المؤتمرات الطبية، انبهر بمقدار الغرور الإنساني والغباء المتوارث من جيل الى الاخر. أحمق آخر مصاب بحمى الخلود، جلجامش آخر يسعى للهرب من الحقيقة الوحيدة لبني البشر.
الموت هو حقيقتنا الوحيدة النقية التي لا نستطيع تزيفها.
تستطيع عيش حياة كاملة مزيفة وراء قناع، تستطيع أن تمثل آلاف المشاعر المزعومة، تستطيع ان تقنع عقلك أن ما يخرج من فمك أفكار عظيمة، وليس مجرد هراء، الا موتك لا تستطيع الاحتيال على تلك الحظة مهما حاولت، كما أنتَ بحقيقتك المجردة بجوهرك ومعدنك الاصلي ستموت، إذن لماذا الهروب من تلك لحظة، لحظة الانعتاق الكامل.
يجلس بهدوء ويعلم الدور العظيم الذي وقع على عاتقه يجب أن يبشر بهذا المذهب الجديد
الموت حقيقتنا.


وهو الرسول الملقى على عاتقه
إيصال تلك الرسالة
لا ينكر انبهاره بالموت منذ زمن تلك الظاهرة التي علي كل فاني التعايش معها، ومهما حاول الهرب منها الموت كان يجده، يواجهه بكل فجاجة بحقيقة الحياة الهشة، تلك الأيام التي تمضي بوتيرة واحدة ونحن نفضي عليها تفاصيل تغير بفرح وحزن وحُب كل ذلك مجرد محطات حتى نصل الى بوابة العبور ،الموت هو بوابتنا نحو السرمد

----
كان أحمد وصلاح يجلسان أمام مكتب المدير وهو يقرأ تقرير الطبيب الشرعي
-هل هذه مزحة؟
أجاب صلاح بهدوء حذر
-كلا يا سيدي ليست كذلك
-هل هذه محاولة لإصابتي بجلطة دماغية؟
نظر أحمد وصلاح الى بعضهما البعض بحذر، فالحقيقة كان رهانهما على سكتة قلبية
-إذن وفقا لتقريرك صلاح، أن المجني عليه هو الدكتور سلام توفيق صاحب أول مركز للخلايا
الجذعية بالشرق الاوسط؟
-نعم
-وهل يمكن لأي منكم أن يفسر لي كيف يمكن أن يكون الدكتور هو المجني عليه، وقد توفي منذ سنتين وأقيمت له جنازة رسمية، حيث تم نقل الجثمان بطائرة مخصصة لكبار الشخصيات من دبي الى بغداد وتم بث الجنازة على تلفزيون الرسمي، الان تجلسان أمامي بكل هدوء وتقولين لي ان الدكتور قد تم قتله
صمت بليغ عم الغرفة وتابع المدير في غضب يحاول أن يتحكم به
-حسب معلوماتي المتواضعة لا
يمكن قتل الموتى، ومن ذلك الذي
أقيمت له الجنازة؟


-قبل سنتين ونصف – دبي
كان الدكتور سلام توفيق يجلس في مكتبه على كرسيه الجلدي المفضل مغمض العينين، الأفكار في دماغه تتسابق بسرعة الصواريخ العابرة للقارات، لقد تحقق الانجاز الاول مركزه كان من المشاركين في تجربة ولادة أول طفل بالعالم يحمل الحمض النووي لثلاث اشخاص، ألام والأب والمتبرع. لقد استطاع العلماء تصحيح الحمض النووي للجنين لتلافي الأمراض الوراثية
القاتلة التي أصابت أشقائه الأكبر
وهناك تجربة الأخرى، لعلاج مرض تصلب اللويحات العصي، هذه تجربة تعتمد على تدمير الجهاز المناعي للمريض بأدوية السرطان والعلاج الكيميائي، ثم العمل على بناء الجهاز المناعي تحت أعين العلماء. لحد لان جميع المشاركين بالتجربة أظهروا بوادر الاستجابة للعلاج، وتم بنجاح القضاء على أعراض المرض.
كل هذا كان مستحيل قبل عشر سنوات لكن ما كان مستحيل أصبح في نطاق المعقول والممكن، ويتحقق
أمام عينيه، المستحيل أصبح واقعًا.
أبحاثه وتجاربه بالطب التجديدي من نجاح الى اخر، زراعة أعضاء بشرية في المختبر من خلايا الجذعية للمريض ومن خلايا الحبل السري للمواليد الجدد، تجارب مشجعة لـ زراعة الجلد، وأبحاث حول القضاء على السكري الأطفال من خلال الهندسة الجينية.
لكن مازال هناك الحلم السري خاص به، طموحه الأكبر الحلم الذي من أجله افتتح هذا المركز،
هل يستطيع باستخدام الخلايا الجذعية وعلاج الحمض النووي أحياء خلية ميتة
كان هذا حلمه الأوحد ربما سعي البشرية منذ خليقتها للبحث عن أحياء ما قضى.
هل يمكن أن نصل الى ذلك الحلم.
هل يمكن أن نبلغ الخلود؟
لم يكن يعلم دكتور سلام توفيق بأن أحلامه بالخلود كانت السبب في دخوله عالم الموتى من أضيق أبوابه.
كان صلاح يجلس بغرفة مكتبه الصغيرة خارج المشرحة لديه من المعاملات الورقية ما يكفيه لشهرين الى الامام، لكن ذلك الهاجس الذي
بداخله لا يستطيع التخلص منه هوسه السري الذي يرافقه منذ ثلاث شهور.
لم يقوى على المقاومة، نهض مسرعًا الى ثلاجة رقم 72 وفتحها هنا ترقد بقايا الدكتور سلام أو هكذا يعتقد بدون بقية الجثة لا يستطيع أن يطلق على ما لديه بقايا، كان ينظر بنوع من الافتتان إلى تلك البقايا، طريقة استخلاص الأسنان والشعر وأطراف الأصابع تنم عن اتزان وحرفية عالية لا يخفى
إعجابه بعمل القاتل اليدوي.
لقد قضى وقت طويل وهو يحدق بتلك البقايا يحفظ عن ظهر قلب أدق الخدوش، ينطلق بخياله لمعرفة كيف، ولماذا لكنه يحتفظ بنفسه، بكل توقعاته.
أحمد هو المحقق الرئيسي بهذه القضية، لن يسمح لنفسه الارتباط بقضية ما، لن يجعل من نفسه
اضحوكة وينطلق ليلبس دور غير دوره لكن رغم كل الوعود التي يقطعها على نفسه لا يستطيع
التوقف عن التفكير بهذه القضية، هنالك شيء ما يناديه، شيء خاص به، لو كان ممن يؤمنون بالقدر
لا أعتقد ان القدر من أرسل هذه، القضية إليه
كان صلاح شاب في أوائل الثلاثينيات من عمره، طويل بعض الشيء ذو كتفين ضيقين وبنية نحيفة، يتمتع بوسامة متوسطة، ومتحفظ بعض الشيء بعلاقته مع زملائه.
ولكنه يتمتع بقدر كافي من الذكاء بحيث دائمًا يجد ما يغفل عنه زملائه من المحققين والأطباء الشرعيين لكن هذه القضية تستفذ ذكائه، تشحذ خلاياه العصبية بطاقة للتخيل خارج حدود المألوف، بعيدًا عن كل النهايات الواضحة لجرائم
القتل المملة.
يشعران القاتل يحاول فتح حديث مع احمد جره الى نوع من التواصل الشخصي لإيصال رسالة ما
يتمنى أن يتم القبض عليه سريعًا، أي من كان هذا القاتل فقط حرم البشرية من عقل عبقري، لماذا
يقوم شخص ما، أيا كانت أسبابه
بسلب اذى العقول في الشرق الاوسط؟
----
هناك أنواع كثيرة من الصمت، الصمت الغاضب، الصمت العاجز، صمت اللامبالاة، صمت الخيبة، لكل وقفة بين جملة واخرى، جملة اجهضت لخوف أو لضرورة اجتماعية.
إذا أردت معرفة إنسان حق المعرفة عليك بصمته، راقب صومه عن الحروف، راقب لحظات سهوه
عندها تبدأ بالتعرف عليه.
نحن مجموع كل الجمل المبتورة والحروف التي ابتلعناها، نحن كل هذا الذي لم نبح به، صمتنا حقيقتنا.
أما الصمت الذي اعتراه باللحظات التي تلت انفجار السيارة المفخخة، كان صمت الانفصال وبداية
الانسلاخ عن آدميته.
مغطى بالغبار والدماء وبقايا المتجولين بالشارع
وقف يراقب المشهد بحيادية تامة كأنه الشخصية الجامدة في مشهد. صاخب
صراخ، عويل، صدمة، رائحة اللحم البشري المشوي، رائحة المتفجرات أصوات سيارات
الإسعاف والشرطة، رجل يلوح
للجميع بالابتعاد وعدم تقديم المساعدة ربما توجد سيارة مفخخة ثانية.
ورغم سرعة المشهد الذي أمامه، حدثت المعجزة لقد اخترق البعد الرابع، الوقت اصبح بطيء جدًا استطاع أن ينفصل عن الحدث ويراقب، عويل شاب يصرخ
بهستيرية يمسك قدم ممزقة، على يساره رجل مسجى نصف وجهه مفقود ، سيدة تحاول بجهد إطفاء ملابسها المحترقة وستر نفسها في الوقت ذاته، حتى الهواء المحملة ذراته بدخان أسود استطاع رؤيتها، بوضوح تام في تلك ثواني حدث الانسلاخ، الغضب الذي اجتاحه غضب بارد
جاف وصلب بدأ من قدميه ثم امتد الى شرايينه يجري بسرعة مع الدم المتدفق الى انحاء جسده، وما إن وصل الغضب الى وعيه لينطق أول
جملة بصوت مسموع
-أنظر ما افعل هؤلاء البشر
كانت تلك هي بدايته،. لم يعد
يشعر بالانتماء لبني البشر لقد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي