3

الوقت يمضي و أنا مازلت انتظر بفارغ الصبر النتائج النهائية للامتحانات التي قدمتها مؤخرا ، الا ان الجميع كان مشغول بمرض جدي المفاجئ و قد كنت اذهب اليه بشكل يومي تقريبا انا و ابنة عمي ميرا نجلس بقربه نحاول التخفيف عنه بأحاديث قد تضحكه ، مر ما يقرب الخمسة عشر يوم و جدي لازال طريح الفراش و كالمعتاد ذهبت اليه بعد الظهر بعد ان حضرت عصير الليمون و اخذته معي لعله ينعش جدي قليلا، وضعت زجاجة العصير في ثلاجة و امضيت اليوم من عمتي و كنا نتفقد جدي في الغرفة المجاورة بين الحين و الآخر لا نبقى بجانبه دائما كي يستطيع أن ينام عندما يكون متعب ، و في مساء تلك الليلة التي مازالت اذكر ادق تفاصيلها لا ادري لماذا طلبت من امي ان ابقى لانام في منزل جدي و لصدفة وافقت امي بسرعة فهي عادة ما ترقض مثل هذا الطلب و لا تسمح لي بالبقاء فقط اقضي اليوم و اعود .

لقد سررت جدا بهذا و كنت انوي ان أقضي وقتا ممتع مع عمتي فهي لا تكبرني بكثير، عدة سنوات فقط و كنا صديقات و هناك احاديث مشتركة في ما بيننا.


و بينما كنا انا و عمتي نتبادل الاحاديث سمعنا صوت جدتي تنادينا خرجنا بسرعة و كان جدي متعب جدا و الالم باد على وجهه ماذا عسانا نفعل لقد تاخر الوقت و اقتربت الليلة من منتصفها ، انطلقت بسرعة نحو الهاتف الارضي الموجود في المنزل و اتصلت بأبي و أخبرته ان وضع جدي بات سيئ للغاية ، و خلال دقائق وصل الجميع الى المنزل ابي و اعمامي و نقلو جدي للمستشفى لان الامر لم يعد يحتمل التأجيل او الانتظار حتى اليوم الثاني، بعد ما ذهبوا للمستشفى عدنا للداخل ننتظر ان يتصل احدهم لعلنا نطمئن لكن لا جدوى لم ياتي احد حلى الصبح و كان هناك الكثير من الناس يسالون عن جدي كان هذا اليوم يوم الجمعة المصادف لمنتصف شهر شعبان ، و في يوم الجمعة في ذالك الوقت كانت تخرج تظاهرات في البلاد و يكون الوضع اشبه بساحة حرب فلا امان في شارع و لا حتى من دخول المستشفى ، بقيت انا عند جدتي انتظر لعل ابي و اعمامي يعودوا رفقة جدي و لكن هذا لم يحدث ،
كل الذي عرفناه في ذالك الوقت ان جدي وضع في غرفة العناية الفائقة بسبب تدهور حالته التي ساءت ، بعد ظهيرة من يوم الجمعة كنت انا و ميرا في غرفة عمتي نتحدث عما ممكن ان يحدث لجدي و كيف حدث ما حدث في الامس في تلك اللحظة بتحديد سمعنا صوت صراخ لاحد مفجوع صوت مخيف جدا لم نستطيع تخيل ماحدث الا اننا فهمنا على فورا ، نهضت من مكاني و فتحت الباب رأيت جمعا من الناس قد وصلو ، جدتي منهارة من شدة البكاء لا تستطيع الوقوف ، الجميع يصرخ :
وحدوا الله ، الله يرحمه.
لحظات حفرت بذكرتي ادق التفاصيل كلما تذكرتها شعرت وكانها تحصل امامي من جديد.

لقد انقلب كل شي رأس على عقب مع سماعي لهذه الكلمات و كاني فقدت سمعي و لا اسمع شي اخر بعدها ، لا اريد ان اصدق ، هل حق ؟لا لا ، لا يمكن ان يكون..

الا ان كل ما يجري حولي واضح ، توفي جدي .

الوضع مضطرب للغاية ، الجميع يبكي ، جدتي اغمي عليها من الصدمة لم تعد تقوى على الوقوف حتى ، البيت لم يعد يتسع للناس الذين حضروا في ذالك الوقت ، كل ما حدث كان بسرعة ، نزلت احدى اخوت جدي لتقطف له الازهار من حديقة المنزل كانت تبكي بحرقة كبيرة انها المرة الاخيرة التي سترى فيها اخاه الذي طالما احبته و استندت عليه و من كالاخ لا احد يشبهه ،.

و بعد ما يقرب الساعة وصل الجثمان للمنزل و ادخله الى الغرفة التي قضى بها ليلته الاخيرة قبل ان يغادر هذا العالم ، و كان هناك شيخ حاضر ليغسل جسد جدي للمرة الاخيرة ، اما انا كنت اجلس امام الغرفة التي يغسل بها و ارى الماء الذي يخرج من اسفل الباب ، كم هي دنيا فانية حقا انه مات جدي الرجل القوي الذي يخشى ازعاجه احد لقد مات ، يغسلونه ليضعوه تحت التراب ، قلبي يؤلمني ، شي لا يصدق ، بعد ان انهو كل شي خرجت الجنازة من البيت و كانت المرة الاخيرة التي يخرج فيها من منزله ذهب بلا عودة ، و كان الجميع في حالة انهيار شديد ، حملوا جدي على الاكتاف القيت عليه النظرة الاخيرة ،لقد رحل.

في ايام العزاء الثلاثة جاء كل من يعرف جدي وقام بواجب العزاء كان وقت صعبا للغاية انقلبت الموازين ركن البيت لم يعد موجودا ، انقضت ايام العزاء ، بقيت جدتي وعمتي صغرى لوحدهن ،لم يكن احد ليتركهن فقام احد اعمامي الستة بنقل عائلته لسكن معهن.

و بعد مايقرب الخمسة عشر يوم حل علينا شهر رمضان فكان هناك اقتراح متفق عليه من الجميع بأن يكون الافطار عند جدتي تجتمع كل العائلة عندها لعل هذا يخفف عنها حزنها ، و بالفعل مع بدء اول ايام الصيام كنا نذهب جميعا وبشكل يومي للافطار عند جدتي ، نجتمع نحن الاطفال ابي و اخوته الستة كان عددنا كبير جدا و كنا نقضي اوقات جميلة جدا على مائدة الافطار الا انها دائما تكون غصة في حديثنا عند الحديث عن جدي ،لا اعتراض على حكم الله الا ان الفراق صعب .

و في اول عيد بعد وفاة جدي لم يكن عيدا ذا بهجة كان كل شي ناقصا لم يعد احد يعطينا نقود في العيد ، كان عيد مليئ بالحسرة و الذكريات لكن ما باليد من حيلة انه امر الله .

و بعد كل هذه الأحداث جاء يومي المنتظر انه اليوم الموعود كنت اعد الثواني في ذالك الوقت اليوم سيتم الاعلن عن نتائج الامتحانات التي قدمتها .

لا استطيع الجلوس متى ستدق الساعة الثانية عشر حتى اتمكن من معرفة النتيجة ، جلست مع ميرا على شرفة المنزل نراقب الشارع ننتظر من سيخبرنا بنتجة التي كانت ستظهر على جهاز الحاسوب و نحن لم نكن نمتلك واحد في ذالك الوقت ، كان احد جيراننا يمتلك واحد لحكم دراسته في مجال الهندسة ، و اخيرا رايت خالي مضر قادم نحوي و عندما واصل حدثته من الشرفة

قال لي : اعطني رقم بطاقتك انت و ميرا لاذهب و ارى النتائج
و على عجلة من امري لقنته الارقام و ذهب
كاد قلبي يتوفف من شدة التوتر
ايعقل ان اكون قد ضعت سنة ؟
هل ساكون من الناجحين؟
اين انت يا خالي؟اين انت؟

لم اتحرك من مكاني و انا اراقب طريق عودته ، و اتامل ان تكون بشرى نجاحي عنده .

و بعد مايقرب العشر دقائق رايته عائد اخير وقد مرت علي و كأنها عشر سنوات

انا: ها , اخبرني ماهي النتيجة

بكل برود يقول لي : لا لقد رسبتي في مادة اللغة العربية

هنا كدت ان اقع من اعلى شرفة فلما رأى حالتي

صار يضحك قائلا: لا تخافي لقد نجحتي

هل حقا اني نجحت؟ ارجوك اخبرني الصدق

خالي مضر : اقسم لك انك ناجحة

انا : ماذا عن ميرا ؟

خالي : و هي ايضا نجحت .

بدءت اقفز في مكاني من شدة الفرح سعيدة للغاية
ياله من شعور هذه السعادة مختلفة انها سعادة النجاح
كنت اتمنى ان اخبر الجميع بهذا الخبر اخيرا سأنتقل للمرحلة الثانوية مأروع ان نرى ثمرات جهدنا و تعبنا .



الاوضاع في البلاد تزداد سوء انتشر الخطف و حوادث المداهمات الليلة حتى كثرت الاخبار السيئة المتداولة غيرت من حالنا امي تغيرت جدا اصبحت لا تحب شي تخاف من كل شي و قد مرت فترة لا تنام الا بعد ان تغلق الابواب و الشبابيك باحكام و تتاكد هي بنفسها من هذا

في احدى ليالي استيقظت على أزيز الرصاص و كانه يتخبط على جدران غرفتي من يواجه من لا اعرف ، هل قتل احد ؟لا اعرف ، لا ادري سوى عن كم الخوف الذي كنت اعيشه ، بسبب هذه الاحداث التي تمر علينا كنت اسمع امي دائما ما تقول
امي:الحمد لله اطفالي مازلوا صغار و استطيع ضبطهم في هذه الاحداث و لا يخرج احدا دون علمي و من المؤكد انها ستنتهي قبل أن يكبروا .

اه يا اماه لم تكوني لتعلمي ان هذه الحرب ستدوم لاعوام و نحن نكبر خلال هذه المصاعب و اصبحنا شباب و الحرب مستمرة انهت شبابنا و ربيع عمرنا ولم تنتهي بعد .

شارفت العطلة الصيفية على الانتهاء ، و افتتاح المدرسة لابوابها بات قريبا علينا ان نستعد
أمي متى سنذهب لشراء ملابس المدرسة ؟يجب ان تكون كل اشيائي جاهزة قبل انطلاقة العام الدراسي انت تعلمين اني اصبحت في مرحلة دراسية جديدة و احتاج لملابس تناسب ما وصلت اليه .

أمي:حسنا .. سأتكلم مع والدك بهذا الشأن ، الا تعلمين كيف هو الحال في المدينة .

أعرف يا امي لكن ما العمل ؟يجب ان يكن هناك حل ، لهذا اقول لكي دعينا نحضر الاشياء قبل حين ، و لا يضيق علينا الوقت

.

لم يكن احدا ليدري انها لن تفتح المدرسة ابدا هذه السنة بل ستغلقها حتى اجل غير مسمى لقد حل ما هو اسوء .

في ذالك اليوم الصيفي الحار و الساعة كانت تقترب من الخامسة عصرا ، كنت و اخوتي نتناول طعام الغذاء و فجأة شعرت ان هناك حركة غريبة في شارع نظرت خارجا من على الشرفة هناك اناس تركض يبدو ان امرا سيي قد وقع لكني لم افهم ماذا جرى و لم استطع ان اسال ايضا عدت لداخل و كنت انوي ان اكمل طعامي و ما ان جلست حتى سمعت مرة اخرى اصوات ناس تجمعت ،عدت للخروج مرة اخرى و رأيت سكان الحي كله اجتمعوا الذعر يبدو واضحا عليهم
يألهي مالذي يجري؟لا بد انه امر مريب جدا حتى اربك الحي باكمله .
ذهبت لطرف الاخر من المنزل و من الشرفة الموجودة في غرفتي رايت امرا غريبا ، كان هناك مجموعة رجال عددهم لا يتجوز الخمسة او ستة أشكالهم غريبة يسرون بسرعة و كانهم يفرون من ذنب اقترفوه .

لم تمضي سوى عشر دقائق الا و بدءت طائرات تحوم فوق القرية مع انه كانت قريتنا تخلو من اي ثوار او سلاح و ما شابه ، لكن بعد ماحدث جاء عدد كبير من الذين يقال عنهم ثوار من القرى الاخرى و معهم اسلحة ثقيلة ،الوضع اصبح مخيف جدا .

في البيت الذي نقطن فيه و هو عبارة عن طابقين نحن في الاعلى و بيت عمي يسكنون في الاسفل ، اجتمع اهل الحي عندا اقاربنا و جيران و نحن نزلنا لبيت عمي في طابق السفلي ، و كنا نسمع صوت اطلاق نار كثيف و قصف دبابات قريب ، كنت اظنها الاسوء ولاصعب في حياتي الا انها لم تكن كذالك .

امي لم تكون موجودة ، اين امي ؟

لقد كانت في الارض تقطف الخضار عندما حل كل هذا و لم تستطع السير في شارع من كثافة الرصاص غابت الشمس و نحن ننتظر امي .

و بعد انتظار داما لعدة ساعات استطاعت امي الوصول الى المنزل رغم قصر المسافة الا ان سوء الوضع اخرها لهذا الحد ، بدءنا نسمع عن خروج الاهالي من القرية ،كل واحد يجمع عائلته ويخرج بها من شدة القصف و المعارك التي كانت تدور حولنا ، جمعوا نساء العائلة و الاطفال معا في بيت واحد و بعد تفكير لم يدم طويل تم القرار على خروجنا من القرية و ترك كل ما نملك خلفنا من احلام و ذكريات كل شي.

خرجت الدفعة الاولى من العائلة كنت أراقب و الخوف من سقوط قذيفة في اي لحظة موجود و هذا كان احتمال وارد في تلك الاثناء لم يكن الامر مستبعدا فا نحن في وسط المعركة و على خط الجبهة .

اعطتني امي كيس نايلون يوجد داخله كل الاوراق الثبوتية لنا و الهويات و كل ما يمكن ان ينفعنا في الخارج و اوصتني ان انتبه جدا و لا اضيعه لان تلك الاوراق مهمة جدا اغلقت يدي على ذالك الكيس و لم اتركه ابدا الا عندما وصلنا الى وجهتنا التي كانت ..

قد حان دورنا في الخروج و كنا نحن الدفعة الاخيرة في سيارة بيك اب مفتوحة ركبت مع امي و اخوتي و ابي و من بقي من اولاد عمي و بعد أن صعد الجميع بقي عمي والد ميرا ، ناداه ابي

ابي: اين انت يا رجل هيا اسرع يجب ان ننطلق الوضع يزداد سوء

عمي:لست ذاهبا معكم
ابي:الوقت ليس مناسب لمثل هذا الكلام هي اصعد
عمي:قلت لك لن اذهب انا بقا هنا لن اخرج ، خذ الاطفال و هم امانة عندك
ابي:هل انت متاكد؟ماذا عن زوجتك؟
هي أيضا لم تستطع ان تتركني فقررت البقاء معي .

كان هذا قرارا نهائيا عمي لم يبدل رائيه و اصر جدا على البقاء رغم محاولتنا لثنيه لكن كما العادة لم يستطع عليه احد .

في جنح الليل و تحت الظلام الدامس انطلقت بنا السيارة بدون ان يعمل اي ضوء كي لا يتم استهدفنا ، على مهل تسير في منطقة الخطر ، و التي كانت مكشوفة و كان الخطر فيها يصل لاعلى دراجات ، مهما كتبت و حاولت اخباركم لن استطع ان اصف تلك المشاعر البشعة ، لا شي يعلو فوق صوت الرصاص ، كنت احاول ضبط نفسي لكن الحال الذي نحن فيه لم اصدق انا اراه في فيلم فا كيف لي ان اعيشه في حياتي ، لم ينتهي شي انها كانت البداية فحسب.

لم اكن اعرف الي اين نتجه او نحن في اي طريق نسير و الوقت ليس ملائم ابدا لاسال ، لا حد يستطيع التركيز و الاجابة كل الشغل الشاغل في تلك الاثناء ان ننجو مما نحن فيه .

بعد ان قطعنا مسافة حرقت فيها اروحنا من الخوف بدءت السيارة تبتعد عن القرية كنت ارى منازلها مظلمة مخيفة ، هل هذا حقيقي ام انها اضغاث احلام ؟
بل انه كابوس مرعب اود لو اني استفيق منه لينتهي ،لاطفال الذين كانو معنا عيونهم متوقفة الصدمة على وجههم لا احد يستطيع إنكارها ، لا احد يحق له ان يروع طفل لم يتجاوز عمره الخمس سنوات ، سالني ابن عمي الصغير و هو جالس بجانبي

الى اين نحن ذاهبون ؟
صمت و لم اجبه لانني انا لم اكن اعرف الى اين الطريق سينتهي بنا .

و عندما بدءت أرى اضواء منازل منارة عرفت اننا دخلنا الى قرية ما لم اكن اعرفها او ربما لانها كان ليل دامس

وقفت سيارة امام منزل احدهم ، نظرت الى المكان حولي و شعرت انني اعرف هذا المكان لكن ليس كثيرا اين نحن ؟
لمن هذا المنزل؟

ان يكون المرء غريبا في وطنه هي من ابشع ما قد يمر به في حياته ، الوطن الذي ولد فيه و عاش كل طفولته و احلامه .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي