الفصل الثاني

أنهى سعد جملته الأخيرة ثم صمت طيلة الطريق فيما ظل منير غارقًا في أفكار لم يرتب لها من قبل:
_كل اللي كان شاغلني هم قبولي في الوظيف ولا لأ، خرجتي منين انتي عشان تضيفي على الهم هم كمان وكأني كان ناقصني هموم وتفكير، وكأني كنت مستنيكي زي قضايا اللي مبيستناش هو حد لأ احنا اللي بنستنى.
وصل سعد ثم وقف اما الفيلا التي قصداها سويًا ثم ترجل منير بينما ظل سعد ممتطيًا دراجته:
_منير، ادخل انت دلوقتي قابل الراجل وأنا هستناك هنا، اقرأ المعوذتين يا حبيبي وخير إن شاء الله المهم تكون واثق في نفسك قدامه.
ابتلع منير لعابه وأومأ برأسه قائلًا:
_ادعيلي.
رد سعد:
_متقلقش إن شاء الله خير، اجمد ربنا مش بيجيب إلا الخير اوعى تتوتر.
وقف منير للحظة يرتب ثيابه الرثة التي بالكاد تتحمل مشقة السنوات ومرات الغسيل الألف المتكررة ثم تنفس عميقًا وانطلق يضغط على جرس الباب.
لم تمر لحظات حتى جاءه الصوت من الداخل:
_مين؟
رد منير بتوتر:
_أنا يا افندم حارس الامن الجديد اللي مصطفى بيه هيعمل معايا مقابلة شغل النهارده.
ساد الصمت للحظات حتى قطعه صوت البوابة التي تُفتح إلكترونيًا.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى بها منير بوابة بيت تُفتح إلكترونيا، صار ينظر إليها وهو يبتسم متعجبًا من أمرها محدثًا نفسه:
_ولما البوابة بتتفتح بالكهربا أنا جاي أعمل ايه بس؟!
دفع منير البوابة ومر إلى الداخل فإذا به أمام قصر شاهق تحده الأسوار وتغطي الورود النادرة والأشجار تلك المساحات المحيطة بالقصر ليبدو المنظر وكأنه لوحة فنية مُتقنة الصنع.
تقدم منير بحذر بينما فإذا باحدهم يقترب منه مسرعًا، كان رجل طويل القامة عريض المنكبين جاف الملامح تبدو على وجهه آثار الجدية الصلابة في الحديث والمعاملة يرتدي حُلة رسمية ونظارة شمس سودار وفي أذنيه سماعات أذن، اقترب الرجل حتى صار على بُعد خطوات من منير ثم صاح به بصوت أجش يثير الرعب:
_انت منير؟  
رد منير بخوف:
_أيوه يا افندم جاي اقابل مصطفى بيه.
فراح الرجل ينظر إليه بريبة ثم قال:
_مصطفى بيه منتظرك، تعالى ورايا.
في تلك اللحظة كان الخوف قد بدأ في التسرب إلى قلب منير حتى أنه راح يحدث نفسه:
_بوابة بالكهربا، حارس شخصي أطول وأعرض مني عشر مرات، وقصر بالشكل ده يعني ايه اللي هيميزني عن كل ده عشان يقبل بيا في الوظيفة دي، واشمعنى انا من بين كل اللي اتقدموا للوظيفة دي اللي قبلني وليه معملش معايا الانترفيو ده في الشركة وصمم يعمله هنا؟ لأ كده يا منير شكله حوار مش صح وتقريبا هيرفضني بشياكة وهرجع من حيث أتيت.
كان منير قد هلك من شدة السعي خلف تلك الوظيفة التي تتناسب مع ظروف دراسته وفي نفس الوقت تستطع ان توفر له من المال ما يلبي احتياجاته، يذكر يوم أن رأى هذذا الإعلان فذهب على إثره إلى مقر الشركة التي أعلنت عن حاجتها لأفراد امن لا يزيد عمرهم عن عشرون عامًا، في بداية الامر كان الوضع مريبًا ولماذا يريد أحدهم فرد أمن لشركته كل شروطه الا يزيد عمره عن عشرون سنة، لم يذكر الإعلان أن يتمتع الشاب بلياقة بدنية، لم يذكر مؤهلات او تفرغ، فقط العمر لا أكثر ولا أقل.
تنفس منير وهو يتذكر عندما دخل إلى القاعة التي جلس بها الجميع، جميع من تقدموا لشغل هذا الوظيفة حيث كان عددهم قرابة المائة، راح يتذكر كيف انه مر اكثر من ساعة وهم يجلسون في انتظار ان يحدثهم أحد أو يجري معهم مقابلة، كل واحد منهم يحكم قبضته على ملف ورقي فيه سيرته الذاتية ويرتدي أفضل ما عنده، لم لا وقد أشار الإعلان أن الراتب مغري وامتيازات تلك الوظيفة مغري أيضًا.
راح يبتسم وهو يتذكر عندما دلفت تلك السكرتيرة الانيقة وأشارت له:
_انت، تعالى ورايا.
ثم أشارت نحو الباب الذي دخلوا منه جميعًا:
_وانتو فرصة سعيدة تقدروا تمشوا.
راح يتذكر وهو يغادر الغرفة متبعًا خطى تلك السكرتيرة الحسناء بينما راح الشباب يرمقه بعضهم بنظرات حاقدة بينما يضحك البعض الآخر وهم في طريقهم إلى مغادرة الباب من حيث دخلوا.
جلست السكرتيرة إلى مكتبها ثم مدت يدها إليه تريد ان يمرر لها أوراقه فأعطاها اياهم منير.
فتحت السكرتيرة ورقه وراحت تطالعه باهتمام:
_اسمك منير خاطر؟
فأجاب منير:
_أيوه يا افندم.
فأومأت برأسها ثم تناولت ورقة ودونت بها شئ ما ومررتها إلى منير قائلة:
_بكرة سبعه الصبح تكون في العنوان ده مصطفى بيه هيقابلك ويتفق معاك على شروط قبولك في الوظيفة لو قبلت بيها هتستلم شغلك في نفس اليوم ولو رفضت من حقك.
راح منير يذكر كيف التقط الورقة وهو في حيرة من أمره ثم سألها:
_اشمعنى انا؟
فلم تعره السكرتيرة أي اهتمام بل ظلت منشغلة في مطالعة شاشة جهاز الكمبيوتر خاصتها وقالت:
_تقدر تروح..
تنفس منير ثانيًا وقال في نفسه:
_رغم إن الموضوع شكله مرعب وفيه ريحة غريبة بس معرفش جيت ليه برضه.
ثم ابتسم باستهزاء وقال:
_مش عارف ازاي يا منير، الفلوس يا غلبان، الفلوس اللي انت في أشد الحاجة ليها هي اللي جابتك هنا وإلا عمرك ما كنت هتمشي خطوة واحدة في حاجة انت مش فاهمها، مش عادتك تعمل حاجة مش فاهمها بس معلش أوصل لحلمي وبعدها والله ما فيه على وش الأرض حاجة هتجبرني أتقبلها أو أتذل ليها.
وقف الرجل قوي البنان ثم التفت ينظر إلى منير بوجهه الجاف وأشار بيده نحو حمام السباحة:
_مصطفى بيه هناك اهو، روح هتلاقيه مستنيك.
نظر منير نحوه ثم راح يتلمس موضع قدميه، كان يمشي على استحياء بعدما قذفت الرهبة إلى قلبه كل هذا الأشياء المتكلفة من حوله والتي لم يكن يتخيل ان يراها رأي العين سوى على شاشات التلفاز الذي لا يحوي بيت أبيه أحدهم.
اقترب منير حتى وقف على بُعد خطوات من الرجل وقال:
_صباح الخير يا افندم، أنا منير خاطر.
كان الرجل منهمكًا في مطالعة كتاب ما، بدا وكأنه شخصية خيالية هربت من إحدى الأفلام القديمة، كان لون شعره الأبيض يغلب على اللون الأسود تكسو وجهه تجاعيد قد لا تتناسب مع عمره وكأن بوجهه هم أضاف التجاعيد تلك ظلمًا وعدوانًا، بدا هادئًا يرتدي روب حريري ويضع قدم فوق الأخرى بينما يمسك بالكتاب بكلتا يديه،
رد مصطفى بيه على منير بينما لم ينظر إليه:
_انت عارف انت جاي هنا ليه؟
فأجابه منير:
_أشتغل حارس امن يا افندم.
فوضع مصطفى بيه الكتاب جانبًا ثم انتزع نظارته وراح ينظفها وهو يقول:
_حارس امن على بوابة الفيلا، مهمتك تحافظ على امن المكان.
راح منير يحدث نفسه باستهجان:
_أنا؟! انا وانا اصلا كلي على بعضي أد دراع الحارس الشهصي اللي وصلني ده؟ ثم رد على مصطفى بيه:
_أيوه يا افندم فاهم.
فوضع مصطفى بيه النظارة جانبًا ثم رفع عينه ينظر إلى منير:
_تعرف أنا اخترتك انت بالذات ليه؟
فابتلع لعابه وقال:
_هو شرف عظيم يا افندم والله بس انا حقيقي مش عارف ليه.
فابتسم مصطفى بيه وقال:
_عشان شكلك غلبان، مش هتعترض كتير.
دب الخوف في قلب منير ثم قال:
_على ايه يا افندم، اعترض على ايه؟، أنا أوعد حضرتك إني همارس مهام وضيفتي على اكمل وجه واللي تؤمر بيه هنفذه بدون نقاش.
ضحك مصطفى بيه ضحكة جمدت الدماء بشرايين منير ثم قال:
_مهام وظيفتك ايوه، طيب تمام، بص، انت كل يوم هتكون هنا من الساعة 8بالليل للساعة 6الصبح.
رد منير:
_تمام يا افندم.
فقال السيد مصطفى:
_هتتأخر دقيقة هتيجي بدري دقيقة البوابة دي مش هتتفتح وهيبقى اليوم ده مخصوم من مرتبك تمام؟
رد منير:
_تمام يا افندم.
أضاف السيد مصطفى:
_هتستلم دلوقتي شهر مقدم وزي وضيفتك وتبدأ بكرة على طول انت النهارده أجازة.
تهللت أسارير منير عندما سمع ما قاله ثم رد عليه:
_ربنا يوسعها عليك يا مصطفى بيه، بكرة إن شاء الله هكون هنا 8 بالثانية.
أشار السيد مصطفى إلى حارس شخصي آخر:
_تعالى يا ابني، خده خليه يشوف مكان عمله والأوضة بتاعته اللي جنب البوابة وسلمه الزي بتاعه واديه خمس الاف جنيه.
وقعت تلك الكلمات على رأس منير وكأنها صاعقة:
_خمس الاف جنيه مين؟! أنا كنت متعشم في ألف جنيه لما شوفت كلمة مرتب مجزي، لكن خمس الاف ازاي ليه يعني هعمل ايه عشان امسك مبلغ زي ده؟!
أشار السيد مصطفى إلى منير بالانصراف فانصرف يسير بتيه خلف الحارس الشخصي يكاد يسقط من شدة الرهبة حتى وصلا إلى غرفة مجاورة لبوابة القصر من الداخل فدلفا إليها، أشار الحارس إلى منير:
_دي أوضتك وده مكتبك، انت مسئول مين خارج ومين داخل طول الليل، وده اليونيفورم بتاعك خد قيس وشوف لو مقاسك ولو مش مقاسك خده معاك ظبطه.
قالها الحارس بصوت حاد جاد وبينما هم أن يغادر الغرفة تاركًا الحرية لمنير ان يرتدي الثياب مد منير يده يمسك بذراع الحارس:
_بالله عليك احنا شباب زي بعض، هو فيه حاجة غلط ولا انا بيتهيألي.
نظر اليه الحارس بحنق ثم اقترب منه وقال:
_متقطعش عيشك قبل ما تاكله، ولا غلط ولا حاجة، انت اشتغلت شغلانة محدش يحلم بيها بمرتب محدش يحلم بيه، خليك في نفسك بقه وركز في شغلك بس.
فابتلع منير لعابه وقال:
_يعني كله تمام؟
فأجابه:
_بطل خوف بس وكله هيبقى تمام، وبص عشان احنا شباب زي بعض وعنيك اللي خايفة دي صعبانة عليا هنصحك نصيحة، هنا تقول حاضر ونعم وبس، وخلي بالك إن كل كلمة وهمسة ونظرة وحركة متراقبة بالكاميرات.
كانت تلك الكلمات كصاعقة أصابت قلب منير بعدما وقف وحده بعدما غادر الحارس الغرفة وتركه يجرب الثياب.
كانت مقاسات الثياب ملائمة له وكأنه صُنعت خصيصًا من أجله.
انتزعها منير عنه ثم ارتدى ملابسه البالية مجددًا وخرج من الغرفة ليجد الشاب في انتظاره:
_اليونيفورم مناسب.
فرد عليه الحارس:
_طيب كويس.
ثم مد يده بمظروف كبير وقال:
_خد دي الفلوس بتاعة أول مرتب، بكرة تكون هنا الساعة 8 بالثانية.
التقط منير المظروف ثم اتجه إلى البوابة مغادرًا بينما لم يتوقف قلبه عن الركل وكأنه يريد الخروج من صدره، امام الفيلا كان سعد لا يزال واقفًا في انتظاره
_هاه عملت ايه؟
نظر إليه منير بعينان هائمتان وقال:
_استلمت شغل وقبضت شهر مقدم.
فتهللت أسارير سعد وهو يقول:
_اللهم صل ع النبي، ايوه كده الاخبار الحلوة دي بس مالك بتقولها وانت مش سعيد ليه؟
نظر منير حوله يطالع البوابة وأسوار الفيلا وراح يتذكر حديث الحارس الشخصي وهو يخبره أن يلتزم الصمت وأن كل حركة تُسجلها الكاميرات.
فاقترب من سعد وقال بصوت خافت:
_يلا بينا نمشي من هنا الاول وفي الطريق هحكيلك.
امتطى منير الدراجة النارية خلف سعد ثم وما ان انطلقوا حتى راح يحدثه:
_أنا قلقان يا سعد، كل حاجة غريبة، فيلا كبيرة وكلها حرس هيحتاجوا عيل غلبان زيي يعمل ايه، ثم إن الراجل بيقول إنه اختارني وأنا محدش كلمني ده احنا كنا 100 في غرفة يوم المقابلة ودخلت الممرضة اخدتني من وسطهم ازاي اختارني إلا إذا كان بيراقبنا بالكاميرات اللي كانت في كل مكان بالغرفة، طيب ولو كده اشمعنى انا، عملت ايه انا عشان يخليني أستحق يقع عليا الاختيار؟
ضحك سعد وقال:
_انت وش فقر على فكرة، يا ابني واحنا مالنا، مش انت ليك وظيفة خلاص تروح تعمل شغلك تخلص تروح وبس كده.
رد منير:
_بالبساطة دي؟
فأجابه:
_أومال ازاي؟ أي حاجة تانية ملكش دعوة بيها يا منير.
فرد منير:
_طب لو انت مكاني مش هتقلق؟
فأجابه سعد:
_لا مش هقلق، أصل هيكون ايه يعني، عايزين يسرقوا أعضائك مثلًا لأ طبعا الحاجات دي بيتعملها فحوصات وتحاليل، عايزينك تشتغل معاهم في المحظور برضه معلش ده مش منظر واحد يشتغل في المحظور وسامحني لو بقول كده.
تنهد منير ثم ضحك وقال:
_على رأيك ده منظر واحد ينطمع فيه والنبي.
كان منير شاب نحيف للغاية قد نش الفقر دهونه وشحومه ولم يترك له سوى عظام يكسوها الجلد الشاحب ويعلوها وجه شديد الشحوب تحيط بيعينه هالة سوداء تُقسم بأن صاحب الوجه حُرم كل ملذات الدنيا حتى أيسرها ألا وهو النوم.
راح يحدث نفسه باستهزاء:
_هيطمع أعمل ايه يعني ولا هيكون ايه، في الغالب الراجل لما شاف منظري صعبت عليه ف قرر يعطف عليا ويشغلني كنوع من الصدقة والشفقة على حالي اللي يبكي الحجر.
ثم قال:
_تفتكر صعبت عليه يا سعد؟
فضحك سعد مثيرًا حتى دمعت عيناه وقال:
_والله يا صاحبي الموضوع ده أنا مش متاكد منه بس لو كانت دي الحقيقة ف يبقى الحمد لله أخيرًا لقينا ميزة للبصمة اللي بيسيبها الفقر على أجسامنا وهيئتنا.
فضحك منير وقال:
_لدرجة إنه يديني شهر مقدم؟
فرد سعد:
_ليه لأ؟!
فقال منير:
_خمس الاف جنيه يا سعد، مرتب شهر خمس الالاف جنيه تفتكر انا صعبان عليه اوي اوي كده؟
صمت سعد بينما ألقت تلك الكلمة في نفسه الخوف وراح يتسائل بينه وبين نفسه:
_لا كده كتير، مش معقول يكون مجرد حارس امن وهياخد كل الرقم ده إلا إذا كان وراه حاجة.
ثم استطرد سعد لا يريد أن يثير خوف ورهبة منير:
_يرزق من يشاء يا صاحبي، انت بس خلي بالك من نفسك، أصل محدش هيخليك تعمل حاجة غصب عنك ولا حد هيقدر يرغمك على حاجة، انت بس اتق الله في رزقك وسيب الباقي على اللي خلقك.
فابتسم منير وقد هدأ ثم قال:
_تفتكر اعمل ايه بالفلوس دي؟
رد سعد:
_أهم حاجة دلوقتي تشتري عجلة ولو قديمة، اشتري عجلة توصلك المكان بسهولة وترجع بيها بسهولة وهو تبقى ضمنت مواصلة تحت رجليك.
ضحك منير وقال مازحًا:
_بتتهرب مني من اولها؟
فأجابه سعد:
_ايوه يا سيدي بتهرب منك بقه أنا هصحى كل يوم بدري عشان اروح اجيبك ليه عليا ذنب مثلًا؟!
فضحك منير بشدة حتى راحت عيناه تدمع من شدة الضحك وقال:
_لا بعد كده تكلمني بصوت أهدى شوية أنا راجل صاحب وظيفة وكام ألف جنيه.
فبادله سعد الضحك بينما راح قلبه ينذره بأن هناك خطب ما....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي