ذنب لا يغتفر

فيروز عاطف`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-06-29ضع على الرف
  • 120.5K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الاول

كان يقف أمام منزله في انتظار أن يمر به صديقه سعد ليذهبا سيًا لشراء بعض الاغراض، كان يتململ في ضجر فقد تأخر سعد كعادته بينما لم يكن هو يملك من الوقت إلا القليل:
_كالعادة متأخر، طب لو مكنتش نبهت عليه ييجي بدري عشان ألحق أرتب اموري بدري، وبعدين مش كفاية إني هفوت اول يوم ليا في الدراسة ومش هروح عشان أخلص المشوار التقيل ده؟ منك لله يا سعد عمرك ما هتتغير.
راح يغدوا ذهبًا وإيابًا يطالع الشارع الذي خلا من البشر في هذا الوقت المبكر للغاية عدا قليل من الطلبة والطالبات الذين بدأوا يتوجهون صوب المدرسة الثانوية التي تبعد خطوات عن بيته،
لقد كان منير طالبا في الصف الثالث الثانوي، يحمل في قلبه أمنية عظيمة وهي أن يُصبح طبيبًا في يوم ما، لم يحول الفقر بينه وبين أمنياته فقد كان منير طالبًا متفوقًا للغاية ولم يقف سعيه نحو هدفه بينه وبين العمل ليحقق متطلباته التي لم يستطع والده أن يلبيها.
على عكس العادة فإن رفاقه جميعًا كانوا يقضون الإجازة في مرح ولهو بحجة أن لهم الحق في ذلك تعويضًا عن ضغط الدراسة والتوتر ولكن مع منير كان الامر مختلف تماما.
اليوم هو اول يوم في الدراسة وهو كذلك أول يوم له في عمل يستطع ان ينفق منه على نفسه وعلى در استه ولا تعوقه المادة في الوصول إلى هدفه.
راح منير ينظر إلى ساعة يده مجددًا:
_منك لله يا سعد، الساعة قربت على سته واأنا ما صدقت لقيت حد يشغلني فترة مسائية ولو الشغلانة دي ضاعت مني هروح في داهية.
ثم تنفس بحزن وقال:
_ده انا قضيت الإجازة كلها ألف على المحلات والشركات عشان ألاقي حد يقبل يشغلني لغاية ما الراجل الطيب ده قبل.
ثم ضرب كف بكف وقال:
_يعني يا عم الحاج مكانش ينفع تكمل جميلك معايا وتخلي ميعاد الانترفيو ده متأخر شوية؟
ثم راح يزفر في حزن وضيق:
_ماهو برضه لو أنا عندي عجلة او موتوسيكل زي بتاع سعد او حتى كان فيه عربيات دلوقتي توصلني مشواري ده أكيد كان زماني مشيت مش واقف تحت رحمة سي سعد اللي نام وقفل تليفونه.
كان قد بلغ من الغضب مبلغه عندما راح ينظر صوب الطريق الذي يأتي منه سعد، ثم اختفى الغضب وجحظت عيناه فجأة وكأنه يرى بهما للمرة الأولى.
كان الطريق خاليًا من كل شئ سوى منها، أو ربما خُيل له هذا
فتاة صغيرة رقيقة تمشي بتأني وكأنها تخشى السقوط، تحتضن حقيبة كتبها إلى صدرها في رقة لم تشاهدها عيناه من قبل،
_دي طالبة في الثانوية عندنا، لبسها بيقول كده، بس ازاي اول مرة أشوفها؟ دي أكيد في سنة أولى؟
راح يتبعها بنظره بينما مرت من أمامه وكأنه نسمة صيف حارة لفح وجهه صهدها فتركه لا يقوى على مقاومة نبضاته التي جعلته يرتجف وكأن مسه جني.
ظل على هذا الحالة، تتعلق عينيه بها وكأنها الشمس التي ينشدها من قلته برد ثلوج لا نهاية لها، راح يرتشف النظر إليها وكأنه عاص يتذوق الخمر لأول مرة فيذوب به حد الثمالة.
نعم لقد ذاب بها إلى الحد الذي جعله يقف متيبسًا للغاية لا يسمع صوت دراجة سعد البخارية ولم يستطع صوت سعد أن يسلبه من سُباته،
لقد كان سعد يقف على مسافة خطوات منه يناديه:
_معلش اتأخرت شوية نزلت لقيت العجلة نايمة ف على ما غيرتها.
قالها سعد بينما منير لم ينظر إليه ولم يتحرك قيد انملة وكأنه في عالم آخر.
راح سعد ينظر باستغراب نحو الموضع الذي ينظر إليه منير فقد كان الشارع خاليًا تمامًا:
_ماله ده؟!
ثم عاد يناديه بصوت اعلى:
_يا منير، يا دكتور منير يا سيدي مالك؟
فانتبه منير فجاة ونظر إلى سعد بعينان هائمتان تائهتان:
_ايه ده انت هنا من امتى؟
ضحك سعد وقال:
_من دقايق بس انت اللي مش هنا.
مسح منير وجهه وقال:
_هو ايه؟ ايه اللي حصل؟
فضحك سعد مجددًا وقال:
_انت اللي بتسألني ايه اللي حصل، انا قولت انت نايم وانت واقف، ياخي ده انت مسمعتش صوتي وانا بنادي عليك من ساعتها، ايه مالك النداهة ندهتك ولا ايه؟
انتبه منير لكلام سعد وقال بسرعة:
_أيوه يا سعد، أيوه هو ده اللي حصل بالظبط.
فنظر إليه سعد باستهزاء وقال:
_هو ايه اللي حصل بالظبط، انت هتهزر بقولك ايه انا بخاف، نداهة مين في النهار ده انا بهزر.
رد منير:
_لا بس انا مبهزرش، مرت عليا وانا واقف خطفت روحي من غير ما تبصلي كأنها ندهتني بالظبط.
ابتلع سعد لعابه مرتعبًا وقال:
_انت منظرك وانت واقف زي الصنم يقول كده بس الكلام مش معقول، نداهة مين يا منير وحد الله طب اوصفهالي كده.
رد منير:
_كانت صغننة رقيقة متكعبلة في خطوتها، شعرها اسود ليل وبيضه كأنها المرمر، لون اليونيفورم الكحلي كان مبروز جمالها الهادي وكأنه الهالة اللي حوالين القمر وهو بدر.
نظر إليه سعد متعجبًا وقال:
_يونيفورم؟
رد منير:
_أيوه اليونيفورم بتاع المدرسة الثانوي.
فقال سعد بينما أوشك على الانفجار في نوبة من الضحك الهيستيري:
_النداهة لابسه لبس المدرسة الثانوي يا منير؟
رد منير:
_بص انت بتتريق عليا ازاي؟
فضحك سعد بشدة ثم قال:
_اركب يا منير اركب الله يسامحك، وقعت قلبي منك لله.
رد منير بغضب شديد:
_انت مش مصدقني؟
أجابه سعد بينما راح يجفف دموع الضحك وقال:
_يا عم اركب بس عشان نلحق ميعادك ونتكلم في الطريق عن النداهة أم مريلة كحلي والله حاضر بس خلينا نشوف مصالحنا الأول.
امتطى منير الدراجة البخارية خلف سعد بينما راح ينظر نحو الشارع المؤدي إلى المدرسة وكأنه يتوقع عودتها مجددًا.
في الطريق لم يتوقف سعد عن الضحك:
_تخيل لو بتقول لحد تاني إنك شوفت نداهة لابسه مريله كحلي والله هتبقى نكتة الموسم.
رد منير:
_انت مش فاهمني يا سعد.
رد سعد:
_طب فهمني انت.
رد منير:
_هي بنوتة رايحه المدرسة بس خطفتني وكاني أول مرة أشوف بنت في الدنيا.
فرد سعد:
_آه فهمت، انت قصدك شوفت بنت حلوة وعجبتك يعني؟
رد منير:
_مش مجرد بنوتة خطفتني يا سعد، أنا أول مرة أحس إني المفروض أروح وراها وأكلمها واسمع صوتها، اول مرة أحس إني كان لازم اخطفها.
ضحك سعد مجددًا وقال:
_لا تخطف مين، خلينا في حدوتة النداهة أسهل.
ضحك منير وقال:
_أنا مش عارف مالي النهارده.
رد سعد:
_أنا عارف يا حبيبي، انت شكلك تقلت في العشا امبارح وطبعا مشغول بمقابلة الشغل بتاعة النهارده وأكيد مش في كامل قواك يعني وجايز جدًا يكون لا فيه بنت ولا حاجة وانت بتهذي.
رد منير:
_لا بقه، إلا دي إن شاء الله فيه بنت وهروح المدرسة بكرة مخصوص عشان اشوفها.
رد سعد بجدية:
_الله، ده بجد بقه، انت بتتكلم بجد يا منير؟ انت حبيت ولا ايه؟ يعني فعلا فيه بنت عرفت تلفت نظرك يا ابني انا كنت شاكك فيك أصلًا ده انت عمرك ما عرفت حد ولا كان ليك علاقة بحد ولا حتى حاولت تقرب من المنطقة دي في حياتك.
رد منير:
_بص يا سعد، انا واقف مستنيك وشوفتها جاية من بعيد، كأني اتكهربت، قلبي بقى يدق أوي وكأنه عايز يخرج من صدري، بقيت مش عارف أعمل ايه، لحظة واحدة خطفتني ليها، بقيت بين مطرقة إني مش فاهم وسندان إني حاسس جوايا بحاجة بتقولي قرب او اتكلم او حتى ارمي عليها السلام المهم تعمل اي حاجة بس انا وقفت مكاني يا سعد، وقفت مش شايف ولا سامع ولا حاسس بحاجة في الدنيا غير خطوة رجليها اللي كأنها بتخطي في قلبي مش ع الأرض.
ضحك سعد وقال:
_بلاش الطريق ده يا صاحبي، بلاش تنجرف وتصدق قلبك، كله غش في الأول هتفرح وهتطير وهتنسى الدنيا بنظرة عيونها وبعدين هتدمرك، بلاش يا منير.
رد منير:
_انا فكرتك هتفرح إني أخيرًا لقيت ليا قلب مكنتش عارف انه موجود.
رد منير:
_أنا آخر واحد في الدنيا ممكن افرح لحد إنه يحب، على يدك، الحب هدني وقتل فيا كل حاجة حلوة، انت راسم مستقبلك صح يا منير، انت ماشي في دراستك بخطوات ثابتة ومقرر هتعمل ايه متجيش يا صاحبي على سنة تحديد المصير وترمي كل ده ورا ضهرك، أرجوك بلاش، أتمنى إنها تطلع أوهام أو حتى نداهة بس لو طلعت حقيقة أرجوك تجاهلها، ارجوك اخرس قلبك من ناحيتها واعمل كأنك مشوفتهاش، ارحم أحلام أهلك اللي مستنيين يشوفوك دكتور وارحم مرمطتك في الشغل عند الناس عشان تعمل حاجة.
تنفس منير بحزن بينما غادرته سعادة كان للمرة الأولى يتذوق حلاوتها داخل قلبه ثم تنهد بانهزام قائلًا:
_انت صح يا سعد، انت صح، انا مينفعش أحب زي الناس ولا ينفع أعيش سني، أنا مرتب لدنيتي ترتيب تاني.
تنهد سعد وقال:
_لا ينفع تحب وتتحب وتعمل كل حاجة بس مش دلوقتي يا منير، بعدين بقه لما تبقى الدكتور منير اللي عنده فلوس وبيت وعربية وساعتها تقعد رجل على رجل وتختار اللي تحبها.
رد منير بأسى:
_مفيش حاجة اسمها تختار اللي تحبها يا سعد.
رد سعد ضاحكًا:
_فيه صدقني.
رد منير طب وانت بعد اللي حصلك مع سمر مخترتش ليه تدخل تجربة تانية، مجربتش ليه تختار اللي تحبها زي ما بتقول وخصوصًا وانت بقيت على وشك تحقق حاجات كتير، عندك بيتك وشغلك؟
رد سعد بحزن شديد:
_عشان سمر مسابتش حاجة لغيرها يا منير، هو ده اللي بقولك عليه، متسمحش لواحدة تدخل حياتك وقلبك تنزعهم منك وتسيبك فارغ، فارغ حتى من القدرة على المحاولة مرة تانية، سمر يوم فرحها انا كنت خلاص هموت نفسي بس قعدت مع نفسي بعد ما ربطت الحبل اللي كنت هشنق نفسي بيه وقولت طب وليه؟ وبعد ما أنا اموت، تعيش هي وتتهنى، لأ والله أنا هنجح وأكون أحسن من اللي فضلته عليا وأخليها تفضل طول عمرها تندم على اللحظة اللي رمت دبلتي في وشي وقالتلي أنا معنديش استعداد استنى اكتر من كده، يومها يا منير أنا وقفت مرة واحدة وقولت لنفسي لأ مش دي اللي تستحق أسيب الدنيا عشانها ولا أي واحدة في الدنيا تستحق، في الليلة دي قررت أعيش عشاني أنا بس، فضلت طول الليل أفكر طب لو كنت انا ناجح وشاطر وغني ومعايا فلوس كانت سمر هتكمل أكيد بس هتكمل عشان فلوسي؟! هتكمل عشان أقدر أقدملها رفاهيات، أقدر أحقق لها أحلامها طب وأنا مين هيحقق ليا احلامي، وايه الحكمة إني أعيش مع واحدة عشان أحقق لها هي وفي نفس الوقت هي في أقرب فرصة هترميني لو بطلت أديها اللي اتجوزتني عشان تاخده، في الليلة دي عرفت إن الحب ده رفاهية ومش بس كده لأ ده آخر رفاهية المفروض الإنسان يسعى ليها بعد ما يقدر يوصل لكل حاجة في الدنيا، وإن حتى وهو في آخر قائمة أهدافك يجوز تشطب عليه بقلم إسود في أي لحظة وتعيش من غيره، الحب ذنب لا يغتفر يا منير، طلقة رصاص لو طلعت من السلاح خلاص لا يمكن تقدر ترجعها تاني، ولو صابت قلب ف للأسف احتمالات نجاته بدون ضرر صفر,
امسك قلبك بإيدك واعصره يا صاحبي قبل هو ما يعصرك ويقضي عليك، ومرة تانية متبقاش تسيب لعيونك العنان كده تبص وتشرب، كلهم واحد ف غض بصرك يعصمك.
تنهد منير بحزن وقال:
_للدرجة دي انت موجوع يا سعد؟
رد سعد:
_انا محدش يتخيل الوجع اللي جوه قلبي بس محبش أحكي، يعني شوف احنا اصحاب لينا كام سنة رغم فرق السن الكبير بيننا بس اول مرة أكلمك بصراحة عن إحساسي وصدقني مكنتش هحكيلك ولا اكلمك غير لما لقيتك هتقع في نفس الفخ.
ثم استطرد سعد وكأنه يحاول الهروب من الأنخراط في هذا الحديث اكثر من ذلك وقال:
_بقولك ايه سيبك انت من الكلام الفا رغ ده، خلينا نتكلم عن شغلك الجديد، هتقدر يا ابن الناس توفق بين شغلك ودراستك؟ انت ثانوية عامة السنة دي؟
رد منير بأسى بينما كان لم يزال غارقًا في صدمة ما قاله سعد:
_سيبها على الله يا سعد، هتفرق ايه السنة دي من غيرها، من وأنا في ابتدائي بشتغل، خلاص اخدنا ع البهدلة.
رد سعد باستنكار:
_لا بس السنة دي كل لحظة فيها مهمة، دي اللي هتحدد مصيرك بقية عمرك، يا منير الموضوع مش هزار.
رد منير:
_ومصاريف الدروس والملازم والكتب الخارجية كمان مش هزار يا سعد.
رد سعد:
_ما انت لو تطاوعني بس.
رد منير بحنق:
_مش قولتلك متتكلمش في الموضوع ده تاني.
رد سعد:
_يا ابني ما قولتلك اعتبرهم سلفة ولما تبقى دكتور ابقى اكشف عليا ببلاش.
ضحك منير ثم قال:
_إن شاء الله هكشف عليك ببلاش من غير حاجة بس انت ادعيلي أتقبل النهارده دي فرصة كويسة خالص والشغل هادي جدًا وهيساعدني كتير.
رد سعد:
_هيساعدك ازاي؟
رد منير:
_حارس الامن بتاع وردية بالليل شغله خفيف هبقى قاعد على مكتبي طول الليل مش بعمل حاجة، هجيب الكتب معايا وهقدر أذاكر.
فرد سعد:
_هتقدر تعمل كده؟
رد منير:
_أنا لما كلمت صاحب الفيلا قالي أنا موافق وكده كده المكان فيه كاميرات بس انت تعالى أشوفك ونحدد المرتب ونجرب اول إسبوع.
ثم ضحك منير وقال:
_تعرف يا سعد؛ المكتب بتاع حارس الأمن اللي هقعد عليه ده أنضف من بيتنا كله والمكان اللي هبقى قاعد فيه ده أهدى من شارعنا كمان يعني سبحان الله شوف تدبير ربنا وكأنها مقصودة.
رد سعد:
_بس انت كده هتفضل طول الليل صاحي يا منير، تروح مدرستك ودروسك امتى يا ابني؟
رد منير:
_سهلة، هروح المدرسة وارجع من المدرسة انام كام ساعة واقوم على ميعاد الشغل.
ف رد سعد وقال:
_ربنا يصلح حالك يا منير، احنا قربنا نوصل اهو وإن شاء الله تتقبل ويجعل فيها الخير بس انت قول يارب.
تنهد منير بأمل ورجاء وقال:
_يارب انت عالم انا ازاي محتاج الشغل ده.
فتنهد سعد وقال:
_ طب ما بلاش المدرسة.
ابتسم منير وهو يعلم غرض سعد ثم قال:
_متخافش يا سعد مش هحاول أدور عليها، ولو لقيتها هعمل نفسي مش شايفها.
تنهد سعد بأسى وقال:
_أتمنى تقدر تعمل كده، اتمنى يكون قلبك لسه في مكانه من الأساس.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي