الفصل الثالث
وصل منير إلى البيت يحمل بقلبه من الاماني ألف وبين يديه من الأموال ما يحقق مالم يحلم به ولكن يشوب سعادته ريبة تؤرق حياته البائسة، يخشى أن يزيده الأمر بؤسًا وشقاء
كان بيت والده بسيط للغاية ضيق حد الاختناق، له من الاخوة أربعة وأخت واحدة انتزت منها الحياة ابتسامتها حتى أنه لا يذكر آخر مرة رآها تبتسم
في مدخل البيت كانت والدته جالسة تحيط بعض الثياب المهترئة بالإبرة والخيط جلس منير إلى جوارها فالتفتت تنظر إليه بابتسامة حنونة يرهقها الفقر كعادة صنيعته
اقترب منها ولثم يدها ثم وضع المظروف الذي يحوي النقود بين يديها وقال:
_أنا اشتغلت يا امي، شغلانة حلوة ومريحة ومش هتتعارض مع دراستي.
فعانقته والدته وقالت:
_الحمد لله يا حبيبي، ربنا استجاب دعائي.
ثم نظرت إلى المظروف وقالت:
_ايه ده؟
فأجابها متلعثمًا:
_الراجل صاحب الشغل طيب جدًا لما شاف حالتي تقريبا أشفق عليا وخلاهم يصرفولي شهر مقدم.
راحت امه تطالعه بقلق ثم قالت:
_ليه مش شايفاك مبسوط؟
تنهد منير وهو يشيح بوجهه بعيدًا ثم قال:
_لا بس حاسس بالمسئولية مش أكتر.
فالتسمت والدته وراحت تربت على كتفه:
_متخافش انت قدها يا منير، طول عمرك حمول وراجل ومخلص لكل اللي بتعمله.
ثم نكست رأسها وقالت بأسى:
_حقك علينا يا منير، شيلت الهم معانا بدري يا ابني ولو كان ابوك ولا امك ميسورين عمرنا ما كنا حوجناك للبهدلة دي.
عاد منير يقبل يد والدته مرة أخرى وقال:
_لا يا أمي متقوليش كده أنا شايف الحال.
ثم قال مداعبًا وكأنه يهرب من دموعها المنهمرة التي تحرق قلبه بعنف وقسوة:
_انتي مش هتفتحي الظرف وتشوفي فلوس ابنك؟
جففت والدته عبراتها وفتحت الظرف ثم تجمدت ملامحها، لم تكن قد رأت مبلغ كبير هكذا من قبل، لم تُحكم قبضتها طيلة حياتها سوى على بضع جنيهات لم تتعدى المائة، رفعت أمه عينها تنظر إليه:
_كل ده يا منير؟!
رد منير:
_وكل شهر كده يا أمي.
انخرطت والدته في بكاء عميق ثم قالت:
_معقول الدنيا هتضحك، معقول يا ابني مش هشيل هم الجاي تاني ومش هخاف ييجي يوم وملاقيش اللقمة اللي تسد جوعكم، هنشبع يا منير.
تنفس منير بحزن وقال:
_قولي يارب.
فابتسمت وقالت:
_يارب ملناش غيرك، بس قولي انت هتجيب ايه بالفلوس دي؟
رد منير:
_اول حاجة هجيب عجلة أروح بيها لأن المشوار بعيد شوية والباقي يا امي بتاعك انتي شوفي عايزة تجيبي بيه ايه وكل شهر هاخد مصاريف كتب المدرسة والباقي برضه هيفضل بين ايديكي.
ثم هم منير ليغادر المكان تاركًا خلفه والدته التي راحت تحصي في النقود مرارًا وتكرارًا لا تصدق ما تراه عينيها بينما اختلى هو بنفسه فوق سطح المنزل يجلس بالشمس مطالعًا السماء:
_شايف امك فرحانة بالفلوس ازاي يا منير، شايف ازاي شايفة فيها طول نجاة، شايف ازاي انت قدرت تفرحها؟ تفتكر أيا كان غرض مصطفى بيه يستاهل تخاف منه لأ والله ولا حاجة في الدنيا تخوف، انا هعمل اي حاجة عشان أخلي امي زي ما بتقول كده، تبطل تخاف من الجوع.
تنهد منير بعمق ثم راح يطالع الطريق، كانت الساعة قد اقتربت من الثانية عندما رأى أفواج الطلبة يغادرون المدرسة، شئ ما راح يذكره بتلك النداهة التي اقتحمته صباحًا:
_استغفر الله، خلاص بقه يا ابني بطل تفكر فيها اعتبرها حلم حلمته وصحيت منه، انت مش عارف داخل على ايه.
شئ ما داخله كان يستجديه أن يبحث عنها بين البنات وشئ آخر راح يوبخه، صراع القلب والعقل هو صراع أبدي لم ينجو منه أحد،
وبين قلبه وعقله حار ولكن منذ متى ينتصر العقل عندما يكون القلب في موضع أقوى.
لم يدري منير بنفسه وهو يهبط إلى الأسفل تحمله قدماه نحو الخارج إلى حيث تمر الفتيات من أما بيت أبيه, راح يطالع الحشود باحثًا عنها
يرجوه قلبه ان يستسلم لنظرة قد تُسكنه الجنة اليوم وينهره عقله على ما يصنع بنفسه.
لم تمر سوى دقائق عندما رآها، إنها هي، تلك النداهة التي خطفت روحي صباحًا، يا لها من فتاة تُشرق كالشمس
كانت تتحدث إلى زميلة لها عندما رقعت عينيها عليه واقفًا يطالعها بشغف تمتلئ عيناه بسحر اللقاء الاول والنظرة الاولى.
حاولت فاتن أن تشيح بنظرها عنه ولكن لم تستطع، شء ربط عينيهما ببعضهما بعضًا حتى أنها توقفت عن الحديث إلى زميلتها وراحت تنظر إليه وكأنها تعرفه منذ اعوام، أثارت حالتها هذه حفيظة زميلتها فراحت تنظر إلى ذاك الشئ الذي اختطف عينا فاتن اللامعتان:
_ده منير، دحيح المدرسة واللي كل المدرسين بيحبوه عشان كلهم متأكدين إنه هيبقى دكتور ويكشف عليهم ببلاش.
نظرت إليها فاتن:
_ايه؟
ردت زينب:
_اللي بيبص علينا ده اسمه منير.
ابتسمت فاتن وهي تنظر إليه بينما تمر من أمامه ثم قالت:
_انا مش ببص على حد
فضحكت زينب:
_لا بصيتي عليه وهو كمان بص عليكي وانا خدت بالي، بصي هو هيبقى حاجة كبيرة بس من هنا لليوم ده بقه حال أهله يا حرام زي الزفت، الفقر بيهرب منهم من شدة فقرهم.
تنهدت فاتن وقالت:
_حال معظم أهل البلد يا زينب.
ردت زينب:
_صح يا فاتن حال معظم أهل البلد، ربنا يوسعها على الجميع ويرزقنا عرسان حلوين كده ينتشلونا من الفقر مش ياخدونا معانا لفقرهم فيبقى فقر على فقر.
ابتسمت فاتن وقالت:
_صدقيني يا زينب الغنى حاجة متستحقش تبقى حلم، ساعات كتير بييجي الغنى ويجيب معاه وجع القلب وتعب البال، سيبك انتي المهم السعادة حتى لو هننام ع الأرض.
ردت زينب:
_لا يا ستي نامي لوحدك ع الأرض أنا مستنيه فارس ابيض يسكنني فيلا بجنية ويركبني عربية بسواق ويفسحني كل يوم في بلد شكل ويشتريلي ألف ألف فستان وجزمة وشنطة ويلبسني الدهب لغاية ما أنا معرفش أعد بقى عندي منه أد ايه.
ابتسمت فاتن بهدوء كعادتها ثم التفتت تنظر إلى حيث كان منير يقف، كان لا يزال مكانه لم يتحرك به شئ سوى عينان عاشقتان تتبعانها بلهفة وشغف، ابتسمت له مرة اخرى قبل أن تدير وجهها ناظرة إلى الطريق مرة أخرى، كانت ابتسامتها هذه المرة صريحة أكثر، ناعمة أكثر مقصودة أكثر من تلك التي سبقتها، مقصودة إلى الحد الذي جعل قلب منير ينتفض من مكانه:
_التفتت وبصت عليا وابتسمت، كانت تقصدني انا بابتسامتها دي، مش مجرد ابتسامة عابرة، فاضل بس اعرف اسمك يا نداهة عشان اكمل اللوحة الجميلة اللي اترسمت جوه قلبي.
وضع منير يده على الجانب الأيسر من صدره يستجدي قلبه أن يهدأ قليلًا فقد غطى صوت نبضاته الهائمة على كل الأصوات منه حوله:
_اهدى، اهدى يا قلبي انت لسه شايفها النهارده الصبح ليه محسسني إننا نعرفها من يوم ما اتولدنا؟
راح يتذكر كيف انها طالبة في المدرسة التي عليه ارتيادها كل صباح:
_ايه الصدف والهدايا دي؟ كل يوم هنكون أنا وانتي في مكان واحد بين أربع جدران، صحيح في عالم واسع بس كفاية إني هبقى قادر أحس بانفاسك قريبة مني.
تنهد بحرارة وهو يسير ببطء عائدًا إلى المنزل ثم دلف إلى غرفة النوم التي تحوي سريرين ينام بها هو واخوته الأربعه ثم ارتمى على سرير منهم وتوسد يده وأغمض عينيه مستسلمًا للحب لا للنوم،
_هو ده بقه اللي بيقولوا عنه حب؟ هو ده اللي بسببه ضاع سعد وضيع مستقبله عشان معرفش يتخطاه، هو ده اللي وقف قصاده سعد وسلم كل أسلحته وقال مش هكررها تاني ولا هحب تاني عشان اتغدر فيه، هو ده الحب اللي يامه هزم ممالك وسلاطين.
ثم تنهد بارتياح وقال:
_ياااه، لو أعرف إنه بالجمال ده كنت دورت عليه من زمان، لو اعرف إن ابتسامة عيونك هتملكني جناحات و تخليني أطير كده كنت دورت علي عيونك من يوم ما اتولدت يا حلوة.
راح منير يحدث نفسه حتى قاطعه صوت والدته:
_منير، سعد مستنيك بره عشان تروحوا تشتروا العجلة اللي قولت عليها.
انتبه منير فجاة وقال:
_سعد؟!
وكأنه نسي أمره ونسي امر حديثهم عنها صباحًا.
فنظر إلى والدته وقال متلعثمًا:
_ايوه يا امي قوليله يستنى شوية انا خارج اهو.
جلس منير على الفراش يحدث نفسه:
_انا نسيت ازاي، ازاي ابتسامتها عملت حاجز بيني وبين كلامنا واتفاقنا أنا وسعد الصبح، ازاي أصلًا رجليا ساقتني لغاية ما طلعت بره عشان أقف استناها، تكونش نداهة بجد، ماهو مفيش غيرها ممكن يسلبني الإرادة كده.
راح منير يرتب ثيابه ويسمح وجهه بكلتا يديه ثم يطالع وجهه في مرآة لم تكن أكثر من قطعة مرآة مهشمة بالكاد يستطع أن يستكشف القليل من ملامحه بها.
راح يحدث نفسه بجدية:
_منير، تمالك نفسك عشان ميبانش عليك حاجة قدام سعد، اهدى كده ولو سألك انت خرجت تشوفها وهي راجعة من المدرسة قوله لأ.
ثم عاد ينظر إلى المرآة مرة أخرى:
_هتكدب يا منير؟، أيوه هكدب، ليه مش عارف وليه مقولش الحقيقة برضه مش عارف، يمكن خايف يوبخني بس انا مبخافش منه،
ثم ابتلع لعابه وقال:
_لأ انت خايف يحاول تاني يقنعك إنك متحاولش تشوفها، خايف يحاول وانت تقتنع، انت ببساطة خايف تخسر الشعور اللي حسيت بيه النهارده لاول مرة، شعور أدمنته وأدمنه قلبك ومن اول مرة، ازاي ده؟ معقول حد يبقى مدمن من اول مرة يجرب.
تنفس منير بعمق ثم توجه نحو الباب وخرج إلى الصالة، كان سعد يجلس يتحدث إلى والدة منير عن الدنيا ومشاغلها.
_أهلًا أهلًا الناس المهمة اللي معاها فلوس، لا وشوية وهيبقوا أصحاب املاك.
ضحك منير وقال:
_أملاك؟!
رد سعد بخفة ظله الغير معتادة:
_مش هتشتري عجلة؟ يبقى هتكون من أصحاب الاملاك يا ولدي.
ثم راحا يضحكان
ربتت والدة منير على كتفه وقالت:
_ربنا يزيدك من نعيمه يا منير، قلبي وربي راضيين عليك.
ثم مدت يدها بالنقود فالتقطهم سعد وراح يعد القليل منهم ووضعه في جيبه ثم أعطى بقية المال لوالدة منير وقال:
_إن شاء الله مش هنحتاج اكتر من دول، يلا بينا.
انطلق منير بصحبة سعد قاصدين بائع الدراجات ليشتريا واحدة وبينما هما يسيران يتبادلان اطراف الحديث قال سعد:
_وفاء أختك مالها يا منير؟
بدا وكأنه سؤال ولكن لا إنه خنجر دقه سعد في قلب منير بقسوة وشراسة لم يكن هو يعلمها ولم يقصدها فلم يجيبه منير بل فضل الصمت المؤلم مبتلعًا حزنه على حالها، فعاد سعد يسأل:
_مبتردش ليه يا ابني؟
رد منير:
_وانت بتسأل عن وفاء ليه؟
فأجابه سعد:
_شوفتها كأنها تايهة أو تعبانة او مكسور خاطرها ومعرفش ليه، لما دخلت البيت مسلمتش عليا ولا كلمتني زي عادتها، ماشية كأنها في دنيا غير الدنيا ف قولت أسألك عنها، هي وفاء مش زي أختي برضه؟
رد منير:
_مش محتاجة سؤال ولا إجابة يا سعد، انت عارف كل حاجة، انت عارف إن وفاء انطفت شمعتها من يوم ما اتجوزوا كل البنات اللي في عمرها وفضلت هي مكانها عشان مفيش فلوس نجهزها، انت فاهم كل حاجة يا سعد ف مكانش ليه لازمة تسأل سؤال زي ده وتوجعني اوي كده يا صاحبي.
رد سعد باستهجان:
_أوجعك؟!
فأجابه منير:
_طبعًا توجعني، كلنا ملناش حيلة، من ابويا لأكبر لأصغر اخواتي، كلنا واقفين مكتف الفقر ايدينا ومحدش قادر يعملها حاجة، اتوجع بقه ولا متوجعش؟
ابتسم سعد وقال:
_لا متتوجعش، وفاء دي ست البنات وبكرة يجيلها اللي يشيلها على راسه.
رد منير:
_جه وجه كتير احنا اللي مش أد مسئولية إننا نوصلها لبيت اللي هيشيلها على راسه يا صاحبي.
فنكزه سعد في كتفه وقال:
_ايه التشاؤم ده، اومال لو مكنتش لسه النهارده مستلم وظيفة كويسة وماسك في ايدك مبلغ كويس.
رد منير:
_ما هو ده اللي مخوفني، أنا خايف تتعشم امي وتتعشم وفاء وتتعشم جدران البيت في طاقة الخير اللي اتفتحت دي ومرة واحدة تتقفل تاني.
رد سعد بغضب:
_وتتقفل ليه يا ابني بس؟
رد منير بحزن شديد:
_قلبي مش مرتاح يا سعد، قلبي بيقولي فيه حاجة هتنطلب مني، خايف فرحة أمي واختي بالفلوس دي يكونوا سكينة على رقبتي في يوم من الأيام وأضطر أنفذ أو اعمل حاجة انا مش راضي عنها.
ابتسم سعد وقال:
_إن شاء الله مفيش حاجة وحشة هتحصل انت بس بص للجانب المشرق.
نظر إليه منير وقال:
_جانب مشرق؟.
رد سعد:
_هتبقى صاحب ملك.
ثم ضحك سعد فراح منير هو أيضًا يضحك فلكزه سعد مرة أخرى:
_ايوه اضحك محدش واخد منها حاجة
ثم أشار بيده إلى محل بيع الدراجات:
_يلا وصلنا المحل هناك اهو انت بس لما ندخل تشاور على العجلة اللي تعجبك ومتتكلمش في موضوع الفلوس خالص وسيبني أنا أفاصل مع الراجل صاحب المكان انا أعرفه كويس.
ابتسم منير وقال:
_انا مش عارف من غيرك كنت عملت ايه.
رد سعد:
_ولا كنت تعرف تعيش من غيري اصلا، انت بس اسمع كلامي وهتكسب والله.
كانت تلك الجملة الاخيرة خنجر آخر غرسه سعد في قلب منير:
_أسمع كلامه، صح أسمع كلامه، ليه لا؟ هو بيحبني وبيخاف عليا أكتر من نفسه، دايما غرضه مصلحتي وهدفه الخير ليا، ازاي كده هكسر كلامه وهيبقى ليا سر هو ميعرفوش، ازاي هعملها دي وأنا عمري ما خبيت عليه حاجة.
ثم تنهد وراح يحدث نفسه مؤنبًا:
_يبدو إن طريقك من أوله شوك يا نداهة، اول حاجة هخالف كلام صاحبي وهخبي عليه اللي في قلبي خوفًا ينزعك من جواه لأني عايز كده، أنا مش عايز حد ينزعك من جوايا وانتي لسه غرس يوم واحد، طب لو قدر بيننا الزمن وأذن بعشرة وحب وسنين هعمل ايه يا بنت الناس وأول القصيدة كفر كده؟
دخلوا إلى المحل فلكزه سعد عندما رآه هائمًا:
_يا منير مالك سرحان في ايه، الراجل بيكلمك وبيقولك شوف انهي عجلة عجباك.
انتبه منير ثم راح ينظر إلى الدراجات الموجودة بالمكان:
_كلهم حلوين، أي حاجة.
ابتسم سعد وقال:
_طب شوف كده واختار ما هو في دي لازم انت تختار.
سار منير بين الدراجات ثم توقف فجاة وراح ينظر إليها:
_بص يا سعد اللي لونها كحلي دي، اجملهم.
ابتسم سعد وكانه يفهم ما جال بخاطر صديق عمره:
_الكحلي، يا بت يا ام المريلة الكحلي، ماشي يا سيدي حلوة الكحلي برضه وشيك.
ثم أردف قائلًا:
_طب ايه رأيك تجربها يا منير على ما اتكلم مع الحاج كلمتين.
كان بيت والده بسيط للغاية ضيق حد الاختناق، له من الاخوة أربعة وأخت واحدة انتزت منها الحياة ابتسامتها حتى أنه لا يذكر آخر مرة رآها تبتسم
في مدخل البيت كانت والدته جالسة تحيط بعض الثياب المهترئة بالإبرة والخيط جلس منير إلى جوارها فالتفتت تنظر إليه بابتسامة حنونة يرهقها الفقر كعادة صنيعته
اقترب منها ولثم يدها ثم وضع المظروف الذي يحوي النقود بين يديها وقال:
_أنا اشتغلت يا امي، شغلانة حلوة ومريحة ومش هتتعارض مع دراستي.
فعانقته والدته وقالت:
_الحمد لله يا حبيبي، ربنا استجاب دعائي.
ثم نظرت إلى المظروف وقالت:
_ايه ده؟
فأجابها متلعثمًا:
_الراجل صاحب الشغل طيب جدًا لما شاف حالتي تقريبا أشفق عليا وخلاهم يصرفولي شهر مقدم.
راحت امه تطالعه بقلق ثم قالت:
_ليه مش شايفاك مبسوط؟
تنهد منير وهو يشيح بوجهه بعيدًا ثم قال:
_لا بس حاسس بالمسئولية مش أكتر.
فالتسمت والدته وراحت تربت على كتفه:
_متخافش انت قدها يا منير، طول عمرك حمول وراجل ومخلص لكل اللي بتعمله.
ثم نكست رأسها وقالت بأسى:
_حقك علينا يا منير، شيلت الهم معانا بدري يا ابني ولو كان ابوك ولا امك ميسورين عمرنا ما كنا حوجناك للبهدلة دي.
عاد منير يقبل يد والدته مرة أخرى وقال:
_لا يا أمي متقوليش كده أنا شايف الحال.
ثم قال مداعبًا وكأنه يهرب من دموعها المنهمرة التي تحرق قلبه بعنف وقسوة:
_انتي مش هتفتحي الظرف وتشوفي فلوس ابنك؟
جففت والدته عبراتها وفتحت الظرف ثم تجمدت ملامحها، لم تكن قد رأت مبلغ كبير هكذا من قبل، لم تُحكم قبضتها طيلة حياتها سوى على بضع جنيهات لم تتعدى المائة، رفعت أمه عينها تنظر إليه:
_كل ده يا منير؟!
رد منير:
_وكل شهر كده يا أمي.
انخرطت والدته في بكاء عميق ثم قالت:
_معقول الدنيا هتضحك، معقول يا ابني مش هشيل هم الجاي تاني ومش هخاف ييجي يوم وملاقيش اللقمة اللي تسد جوعكم، هنشبع يا منير.
تنفس منير بحزن وقال:
_قولي يارب.
فابتسمت وقالت:
_يارب ملناش غيرك، بس قولي انت هتجيب ايه بالفلوس دي؟
رد منير:
_اول حاجة هجيب عجلة أروح بيها لأن المشوار بعيد شوية والباقي يا امي بتاعك انتي شوفي عايزة تجيبي بيه ايه وكل شهر هاخد مصاريف كتب المدرسة والباقي برضه هيفضل بين ايديكي.
ثم هم منير ليغادر المكان تاركًا خلفه والدته التي راحت تحصي في النقود مرارًا وتكرارًا لا تصدق ما تراه عينيها بينما اختلى هو بنفسه فوق سطح المنزل يجلس بالشمس مطالعًا السماء:
_شايف امك فرحانة بالفلوس ازاي يا منير، شايف ازاي شايفة فيها طول نجاة، شايف ازاي انت قدرت تفرحها؟ تفتكر أيا كان غرض مصطفى بيه يستاهل تخاف منه لأ والله ولا حاجة في الدنيا تخوف، انا هعمل اي حاجة عشان أخلي امي زي ما بتقول كده، تبطل تخاف من الجوع.
تنهد منير بعمق ثم راح يطالع الطريق، كانت الساعة قد اقتربت من الثانية عندما رأى أفواج الطلبة يغادرون المدرسة، شئ ما راح يذكره بتلك النداهة التي اقتحمته صباحًا:
_استغفر الله، خلاص بقه يا ابني بطل تفكر فيها اعتبرها حلم حلمته وصحيت منه، انت مش عارف داخل على ايه.
شئ ما داخله كان يستجديه أن يبحث عنها بين البنات وشئ آخر راح يوبخه، صراع القلب والعقل هو صراع أبدي لم ينجو منه أحد،
وبين قلبه وعقله حار ولكن منذ متى ينتصر العقل عندما يكون القلب في موضع أقوى.
لم يدري منير بنفسه وهو يهبط إلى الأسفل تحمله قدماه نحو الخارج إلى حيث تمر الفتيات من أما بيت أبيه, راح يطالع الحشود باحثًا عنها
يرجوه قلبه ان يستسلم لنظرة قد تُسكنه الجنة اليوم وينهره عقله على ما يصنع بنفسه.
لم تمر سوى دقائق عندما رآها، إنها هي، تلك النداهة التي خطفت روحي صباحًا، يا لها من فتاة تُشرق كالشمس
كانت تتحدث إلى زميلة لها عندما رقعت عينيها عليه واقفًا يطالعها بشغف تمتلئ عيناه بسحر اللقاء الاول والنظرة الاولى.
حاولت فاتن أن تشيح بنظرها عنه ولكن لم تستطع، شء ربط عينيهما ببعضهما بعضًا حتى أنها توقفت عن الحديث إلى زميلتها وراحت تنظر إليه وكأنها تعرفه منذ اعوام، أثارت حالتها هذه حفيظة زميلتها فراحت تنظر إلى ذاك الشئ الذي اختطف عينا فاتن اللامعتان:
_ده منير، دحيح المدرسة واللي كل المدرسين بيحبوه عشان كلهم متأكدين إنه هيبقى دكتور ويكشف عليهم ببلاش.
نظرت إليها فاتن:
_ايه؟
ردت زينب:
_اللي بيبص علينا ده اسمه منير.
ابتسمت فاتن وهي تنظر إليه بينما تمر من أمامه ثم قالت:
_انا مش ببص على حد
فضحكت زينب:
_لا بصيتي عليه وهو كمان بص عليكي وانا خدت بالي، بصي هو هيبقى حاجة كبيرة بس من هنا لليوم ده بقه حال أهله يا حرام زي الزفت، الفقر بيهرب منهم من شدة فقرهم.
تنهدت فاتن وقالت:
_حال معظم أهل البلد يا زينب.
ردت زينب:
_صح يا فاتن حال معظم أهل البلد، ربنا يوسعها على الجميع ويرزقنا عرسان حلوين كده ينتشلونا من الفقر مش ياخدونا معانا لفقرهم فيبقى فقر على فقر.
ابتسمت فاتن وقالت:
_صدقيني يا زينب الغنى حاجة متستحقش تبقى حلم، ساعات كتير بييجي الغنى ويجيب معاه وجع القلب وتعب البال، سيبك انتي المهم السعادة حتى لو هننام ع الأرض.
ردت زينب:
_لا يا ستي نامي لوحدك ع الأرض أنا مستنيه فارس ابيض يسكنني فيلا بجنية ويركبني عربية بسواق ويفسحني كل يوم في بلد شكل ويشتريلي ألف ألف فستان وجزمة وشنطة ويلبسني الدهب لغاية ما أنا معرفش أعد بقى عندي منه أد ايه.
ابتسمت فاتن بهدوء كعادتها ثم التفتت تنظر إلى حيث كان منير يقف، كان لا يزال مكانه لم يتحرك به شئ سوى عينان عاشقتان تتبعانها بلهفة وشغف، ابتسمت له مرة اخرى قبل أن تدير وجهها ناظرة إلى الطريق مرة أخرى، كانت ابتسامتها هذه المرة صريحة أكثر، ناعمة أكثر مقصودة أكثر من تلك التي سبقتها، مقصودة إلى الحد الذي جعل قلب منير ينتفض من مكانه:
_التفتت وبصت عليا وابتسمت، كانت تقصدني انا بابتسامتها دي، مش مجرد ابتسامة عابرة، فاضل بس اعرف اسمك يا نداهة عشان اكمل اللوحة الجميلة اللي اترسمت جوه قلبي.
وضع منير يده على الجانب الأيسر من صدره يستجدي قلبه أن يهدأ قليلًا فقد غطى صوت نبضاته الهائمة على كل الأصوات منه حوله:
_اهدى، اهدى يا قلبي انت لسه شايفها النهارده الصبح ليه محسسني إننا نعرفها من يوم ما اتولدنا؟
راح يتذكر كيف انها طالبة في المدرسة التي عليه ارتيادها كل صباح:
_ايه الصدف والهدايا دي؟ كل يوم هنكون أنا وانتي في مكان واحد بين أربع جدران، صحيح في عالم واسع بس كفاية إني هبقى قادر أحس بانفاسك قريبة مني.
تنهد بحرارة وهو يسير ببطء عائدًا إلى المنزل ثم دلف إلى غرفة النوم التي تحوي سريرين ينام بها هو واخوته الأربعه ثم ارتمى على سرير منهم وتوسد يده وأغمض عينيه مستسلمًا للحب لا للنوم،
_هو ده بقه اللي بيقولوا عنه حب؟ هو ده اللي بسببه ضاع سعد وضيع مستقبله عشان معرفش يتخطاه، هو ده اللي وقف قصاده سعد وسلم كل أسلحته وقال مش هكررها تاني ولا هحب تاني عشان اتغدر فيه، هو ده الحب اللي يامه هزم ممالك وسلاطين.
ثم تنهد بارتياح وقال:
_ياااه، لو أعرف إنه بالجمال ده كنت دورت عليه من زمان، لو اعرف إن ابتسامة عيونك هتملكني جناحات و تخليني أطير كده كنت دورت علي عيونك من يوم ما اتولدت يا حلوة.
راح منير يحدث نفسه حتى قاطعه صوت والدته:
_منير، سعد مستنيك بره عشان تروحوا تشتروا العجلة اللي قولت عليها.
انتبه منير فجاة وقال:
_سعد؟!
وكأنه نسي أمره ونسي امر حديثهم عنها صباحًا.
فنظر إلى والدته وقال متلعثمًا:
_ايوه يا امي قوليله يستنى شوية انا خارج اهو.
جلس منير على الفراش يحدث نفسه:
_انا نسيت ازاي، ازاي ابتسامتها عملت حاجز بيني وبين كلامنا واتفاقنا أنا وسعد الصبح، ازاي أصلًا رجليا ساقتني لغاية ما طلعت بره عشان أقف استناها، تكونش نداهة بجد، ماهو مفيش غيرها ممكن يسلبني الإرادة كده.
راح منير يرتب ثيابه ويسمح وجهه بكلتا يديه ثم يطالع وجهه في مرآة لم تكن أكثر من قطعة مرآة مهشمة بالكاد يستطع أن يستكشف القليل من ملامحه بها.
راح يحدث نفسه بجدية:
_منير، تمالك نفسك عشان ميبانش عليك حاجة قدام سعد، اهدى كده ولو سألك انت خرجت تشوفها وهي راجعة من المدرسة قوله لأ.
ثم عاد ينظر إلى المرآة مرة أخرى:
_هتكدب يا منير؟، أيوه هكدب، ليه مش عارف وليه مقولش الحقيقة برضه مش عارف، يمكن خايف يوبخني بس انا مبخافش منه،
ثم ابتلع لعابه وقال:
_لأ انت خايف يحاول تاني يقنعك إنك متحاولش تشوفها، خايف يحاول وانت تقتنع، انت ببساطة خايف تخسر الشعور اللي حسيت بيه النهارده لاول مرة، شعور أدمنته وأدمنه قلبك ومن اول مرة، ازاي ده؟ معقول حد يبقى مدمن من اول مرة يجرب.
تنفس منير بعمق ثم توجه نحو الباب وخرج إلى الصالة، كان سعد يجلس يتحدث إلى والدة منير عن الدنيا ومشاغلها.
_أهلًا أهلًا الناس المهمة اللي معاها فلوس، لا وشوية وهيبقوا أصحاب املاك.
ضحك منير وقال:
_أملاك؟!
رد سعد بخفة ظله الغير معتادة:
_مش هتشتري عجلة؟ يبقى هتكون من أصحاب الاملاك يا ولدي.
ثم راحا يضحكان
ربتت والدة منير على كتفه وقالت:
_ربنا يزيدك من نعيمه يا منير، قلبي وربي راضيين عليك.
ثم مدت يدها بالنقود فالتقطهم سعد وراح يعد القليل منهم ووضعه في جيبه ثم أعطى بقية المال لوالدة منير وقال:
_إن شاء الله مش هنحتاج اكتر من دول، يلا بينا.
انطلق منير بصحبة سعد قاصدين بائع الدراجات ليشتريا واحدة وبينما هما يسيران يتبادلان اطراف الحديث قال سعد:
_وفاء أختك مالها يا منير؟
بدا وكأنه سؤال ولكن لا إنه خنجر دقه سعد في قلب منير بقسوة وشراسة لم يكن هو يعلمها ولم يقصدها فلم يجيبه منير بل فضل الصمت المؤلم مبتلعًا حزنه على حالها، فعاد سعد يسأل:
_مبتردش ليه يا ابني؟
رد منير:
_وانت بتسأل عن وفاء ليه؟
فأجابه سعد:
_شوفتها كأنها تايهة أو تعبانة او مكسور خاطرها ومعرفش ليه، لما دخلت البيت مسلمتش عليا ولا كلمتني زي عادتها، ماشية كأنها في دنيا غير الدنيا ف قولت أسألك عنها، هي وفاء مش زي أختي برضه؟
رد منير:
_مش محتاجة سؤال ولا إجابة يا سعد، انت عارف كل حاجة، انت عارف إن وفاء انطفت شمعتها من يوم ما اتجوزوا كل البنات اللي في عمرها وفضلت هي مكانها عشان مفيش فلوس نجهزها، انت فاهم كل حاجة يا سعد ف مكانش ليه لازمة تسأل سؤال زي ده وتوجعني اوي كده يا صاحبي.
رد سعد باستهجان:
_أوجعك؟!
فأجابه منير:
_طبعًا توجعني، كلنا ملناش حيلة، من ابويا لأكبر لأصغر اخواتي، كلنا واقفين مكتف الفقر ايدينا ومحدش قادر يعملها حاجة، اتوجع بقه ولا متوجعش؟
ابتسم سعد وقال:
_لا متتوجعش، وفاء دي ست البنات وبكرة يجيلها اللي يشيلها على راسه.
رد منير:
_جه وجه كتير احنا اللي مش أد مسئولية إننا نوصلها لبيت اللي هيشيلها على راسه يا صاحبي.
فنكزه سعد في كتفه وقال:
_ايه التشاؤم ده، اومال لو مكنتش لسه النهارده مستلم وظيفة كويسة وماسك في ايدك مبلغ كويس.
رد منير:
_ما هو ده اللي مخوفني، أنا خايف تتعشم امي وتتعشم وفاء وتتعشم جدران البيت في طاقة الخير اللي اتفتحت دي ومرة واحدة تتقفل تاني.
رد سعد بغضب:
_وتتقفل ليه يا ابني بس؟
رد منير بحزن شديد:
_قلبي مش مرتاح يا سعد، قلبي بيقولي فيه حاجة هتنطلب مني، خايف فرحة أمي واختي بالفلوس دي يكونوا سكينة على رقبتي في يوم من الأيام وأضطر أنفذ أو اعمل حاجة انا مش راضي عنها.
ابتسم سعد وقال:
_إن شاء الله مفيش حاجة وحشة هتحصل انت بس بص للجانب المشرق.
نظر إليه منير وقال:
_جانب مشرق؟.
رد سعد:
_هتبقى صاحب ملك.
ثم ضحك سعد فراح منير هو أيضًا يضحك فلكزه سعد مرة أخرى:
_ايوه اضحك محدش واخد منها حاجة
ثم أشار بيده إلى محل بيع الدراجات:
_يلا وصلنا المحل هناك اهو انت بس لما ندخل تشاور على العجلة اللي تعجبك ومتتكلمش في موضوع الفلوس خالص وسيبني أنا أفاصل مع الراجل صاحب المكان انا أعرفه كويس.
ابتسم منير وقال:
_انا مش عارف من غيرك كنت عملت ايه.
رد سعد:
_ولا كنت تعرف تعيش من غيري اصلا، انت بس اسمع كلامي وهتكسب والله.
كانت تلك الجملة الاخيرة خنجر آخر غرسه سعد في قلب منير:
_أسمع كلامه، صح أسمع كلامه، ليه لا؟ هو بيحبني وبيخاف عليا أكتر من نفسه، دايما غرضه مصلحتي وهدفه الخير ليا، ازاي كده هكسر كلامه وهيبقى ليا سر هو ميعرفوش، ازاي هعملها دي وأنا عمري ما خبيت عليه حاجة.
ثم تنهد وراح يحدث نفسه مؤنبًا:
_يبدو إن طريقك من أوله شوك يا نداهة، اول حاجة هخالف كلام صاحبي وهخبي عليه اللي في قلبي خوفًا ينزعك من جواه لأني عايز كده، أنا مش عايز حد ينزعك من جوايا وانتي لسه غرس يوم واحد، طب لو قدر بيننا الزمن وأذن بعشرة وحب وسنين هعمل ايه يا بنت الناس وأول القصيدة كفر كده؟
دخلوا إلى المحل فلكزه سعد عندما رآه هائمًا:
_يا منير مالك سرحان في ايه، الراجل بيكلمك وبيقولك شوف انهي عجلة عجباك.
انتبه منير ثم راح ينظر إلى الدراجات الموجودة بالمكان:
_كلهم حلوين، أي حاجة.
ابتسم سعد وقال:
_طب شوف كده واختار ما هو في دي لازم انت تختار.
سار منير بين الدراجات ثم توقف فجاة وراح ينظر إليها:
_بص يا سعد اللي لونها كحلي دي، اجملهم.
ابتسم سعد وكانه يفهم ما جال بخاطر صديق عمره:
_الكحلي، يا بت يا ام المريلة الكحلي، ماشي يا سيدي حلوة الكحلي برضه وشيك.
ثم أردف قائلًا:
_طب ايه رأيك تجربها يا منير على ما اتكلم مع الحاج كلمتين.