الفصل الثاني
للمرة الأولى منذ أن وصل إلى المملكة السعودية و
انضم إلى العمل بالشركة مع زوجها،يتفاعل معها
شقيقها بأى موضوع وهذا دفعها لمواصلة الحديث بينما تنتهى من إعداد الغداء وبترقب انتظرت
اجابته...
"لما لم تستأجر هى و خالتى شقة صغيرة بعيداً عن
الحارة،إننى اعرف جيداً الحال هناك فألسنتهم لم
ترحمنا من قبل،لما لم تنتقل إلى مكان لا يعرفهما
به أحد؟"
"إنها ترفض ان تمد يدها على اى نقود يرسلها لها
خالد،وبالكاد راتبها ومعاش عمى ابراهيم يكفيها
هى وخالتى"
"لقد كانت كل أمنياتها ان تغادر الحارة بلا رجعة،فلما لا تقبل المال من شقيقها!!"
كان مدركاً لطموحاتها واجتهد كثيراً ليحقق حلمها..اجتهد ليعمل منذ انهى دراسته الثانوية حتى
يستطيع ان يوفر نفقات دراسته المكلفة فى كلية
هندسة واختار قسم هندسة بترول حتى يسهل له
السفر ليحقق حلمها فمع تقديره المرتفع كانت
الإختيارات متاحة امامه،ولم ينتظر السفر بل بحث
عن عمل بتخصصه لأكثر من ثلاثة أعوام،عمل خلالها كل شيئ استطاع إيجاده حتى تسلم وظيفته أخيراً،
فوزارة البترول كانت غافلة عنه لأنه إبن الموظف
البسيط المعدم فى حين تم تعيين مهندسين آخريين بسنوات لاحقة لعام تخرجه..وما زاد سعادته أن بنفس العام الذى تم تعيينه به،رغبت مليكة فى الإلتحاق
بالجامعة ولم تكتفى بالتعليم التجارى كشقيقته،وبالتأكيد كان ذلك سيمنحه وقتاً ليساعد والده بتزويج شقيقته ومن بعدها يبدأ بالإستعداد لتلبية رغبات
فتاته ولكن مرض والدته حطم كل أحلامه كما حطم كيان عائلتهم.
"لم تعد مليكة التى تعرفها يا زين،الدموع اصبحت لا
تفارق عينيها،لم تعد تغادر المنزل سوى للعمل و
تعود بعدها مسرعة للمنزل،بالرغم أن خالتى لا
تتحدث إليها منذ وفاة العم إبراهيم وتتجنبها تماماً،إنها لم تستطع ان تغفر لها وربما هذا ما يضاعف
عذابها،فهى تعرف أيضا أن خالتى تتمنى لو تأتى
لتقيم معنا ويمكنها حينها ان يصاحبها خالد
بالعمرة اوالحج التى تتمناهما"
"لكن هذا ظلم لها بالفعل،خالتى إمرأة مؤمنة كيف
تلقى على إبنتها ذنباً لا يد لها به،فحتى لو كان العم إبراهيم اصيب بنوبة قلبية بعد إنصراف المأذون إلا
إن هذا قضاء الله،لما لم تخبرينى بكل هذا من قبل؟!"
لم يكن يتخيل إنها تعانى،لقد اعتقد أنها تعمل و
تعيش وربما لم تتزوج لأنها تنتظر من يحقق احلامها بالثراء.
"وماذا كنت ستفعل؟ليس بيدنا شيئ،فحتى خالد
يتحدث إليها بكلمات موجزة قليلة بالرغم من
محاولاتى معه،ولكن...أتعلم!!لا اعتقد أن خالد يلقى
عليها ذنب موت العم إبراهيم ولكنه لا يستطيع أن
يغفر لها ما ورطت نفسها به،وما جلبته على نفسها من فضيحة لازالت تتحمل تبعتها حتى الآن بينما فر
النذل وسافر"
توقفت عن اندفاعها بالكلام فهى لم تكن ترغب فى ذكر ذلك الرجل امام شقيقها الآن..
"على الأقل كان يمكننى ان اتحدث مع خالد من
أجلها..إنها..إننى...أعنى اننا نشأنا معاً واهتم بها
مثلك تماماً"
تلعثمت الكلمات بلسانه فهل يكذب على نفسه ام
على شقيقته!!انها لم تكن ابداً كشقيقته..هى كانت الحبيبة وحلم المراهقة والنضج،لم يستطع ان
يكرهها حتى حينما سمعها تصرخ بشقيقها ألا يتمم زواجه من إبنة سجين،لم يستطع أن يكرهها حتى
عندما رآها امام الجامعة تستقل سيارة فارهة
يقودها ذلك الشاب..ابداً لم يستطع أن يكرهها،ربما هو أحمق وغبي...ضعيف تسيطر نبضات قلبه على
ماكينة عقله،لكنه لم يستطع أن يكرهها.
"زين!!زين!!ماذا بك؟هذه المرة الثانية التى تشرد بها
بينما احدثك"
"لا شيئ..لا شيئ سلمى،سأغلق الآن"
"حسناً،هل انتظرك يوم الجمعة لنتناول الغداء
سوياً؟"
"نعم..سأحضر،إلى اللقاء"
أغلق الهاتف بسرعة حتى لا تشعر شقيقته بالغصة
التى تتغالظ بحلقه،هل تغيرت مليكة حقاً؟هل هى
تتألم؟اغمض عينيه لتطالعه ذكرى وخيالات لأسوأ
أيام مرت عليه بحياته.. فموت والدته والقبض على
والده دمره وجعله يائساً بائساً ولولا العم إبراهيم
ومساندته له لم يكن يعلم كيف سيتخطى تلك
الأزمات وحده خاصة بعد أن أصر والده وجعله يعده أن يتمم زواج شقيقته.
"استمع لى يا ولدى،إننى ما عدت أهتم لما سوف
يحدث لى،فروحى غابت مع فقدان والدتك وكل ما
أهتم له الآن هو الإطمئنان على شقيقتك،لقد اتفقت مع عمك إبراهيم على أن يتمم زواج سلمى وخالد
فهو رجل شهم مثل والده لم يتخلى عنها...تمم زواج شقيقتك يا ولدى واجعلها تسافر مع زوجها،خالد
لديه عرض سفر جيد دعهم يبتعدون"
دفع شقيقته دفعاً لتسافر مع زوجها ليس وفقاً لرغبة والده فقط لكنه ايضاً اراد ذلك رغم اعتراضها
وبكاءها وإتهامها له بأنه يريد التخلص منها لكن
بعد الحكم الذى ناله والده بالسجن عشرة سنوات
لم يكن هناك داع من بقائها،فيكفيها ما تعرضت له من غمز ولمز وهجمات الشرطة التى لا تنتهى على
المنزل بغرض التفتيش عن المال حتى وهى بمفردها بالمنزل..وقد كان أمله ضعيف فى قبول النقض ولم
يكن بقاءها سيفيده او يفيد والده بشيئ.
فرك ذقنه ثم فرك وجهه وزفر بقوة فالذكرى لا
تجلب له سوى الألم ورغم ذلك رغماً عنه لا يملك
سواها بين هذه الجدران الصماء،حسناً لما فجأة بدا
يتمرد على وحدته التى كان يقنع نفسه بها؟!!
يجب ان يتحدث مع خالد،واذا تطلب الأمر فليؤنبه
فلطالما كان الشقيق الأكبر له ويجب أن يحرص على ألا يظلم شقيقته حتى لو اخطأت فبالنهاية هى
نادمة كما أخبرته سلمى وهو يثق بحكمها..حسناً،
هل يثق بحكم شقيقته حقاً ام يريد ان يصدق ان
مليكة نادمة؟
التقط هاتفه وبداخله رغبة عارمة برؤيتها مرة اخرى ولو من خلال صورة،ففتح صفحة حسابها على الفيس بوك ولكن عينيه ضاقت بينما يمرر منشوراتها القليلة التى تتفاوت المدة بينهما لما يقارب عدة شهور..و
ليس من بينهما اية صور لها..لطالما تشاجر معها
شقيقها بسبب نشر صورها ولطالما وقف حائلاً امام نوبات غضب خالد محاولاً تهدئته ومحاولاً اقناعه بأن يمنحها فرصة لتنضج وتصبح اكثر وعياً وهذا عكس
طبيعته ولكن معها ومن أجلها،دائما كان مختلف...واصل بحثه لكنه لم يجد حتى صورها القديمة لقد
حذفتها جميعها وبقدر سعادته بقدر خيبة أمله لعدم رؤيتها...
"من أين لك بهذا الهاتف،إنه يبدو باهظ الثمن؟"
سألها زين بدهشة وألم لتخليها عن هديته فالتفتت متفاجأة من وجوده فوق سطح منزلهم.
"ما الذى آتى بك إلى هنا؟ثم ما شأنك انت بمصدر
الهاتف؟توقف عن مطاردتى والتجسس علىّ،وإلا
سأخبر والدى بأنك تزعجنى"اندفعت الكلمات من
شفتيها كطلقات رصاص اخترقت صدره فهو ابداً لم
يحاول إزعاجها ولم يتبعها حتى،لقد فوجئ بها فوق سطح المنزل تهمس بالهاتف عندما صعد ليرى ان
كان هناك خللاً فى مستقبل إشارة التلفاز كما طلبت منه والدتها.
"إننى لم الحق بك إلى هنا،ولازلت لم احصل على
إجابة عن سؤالى،من أين لك بهذا الهاتف؟"
"إنه هاتف صديقتى ولقد نسيته معى وكنت احاول
الإتصال على هاتف منزلها لأخبرها انه معى ولم
تفقده،هل تشعر بالإرتياح الآن؟"
انسابت كذبتها من بين شفتيها بسلاسة جعلته
يصدقها بتلك اللحظة حتى انه أخفض رأسه و اقترب منها محاولاً ان يعتذر لها ولكنها القت نحوه نظرة
غاضبة واندفعت نحو الدرج تركض هابطة.
أغمض عينيه عن تلك الذكرى وكأنه يقصيها بعيداً
ثم اغلق هاتفه مجبرا نفسه على فعل ذلك قبل ان
يتهور ويتحدث إليها فهو لديه كرامة وكبرياء ولن
يهدرهما ثانية بملاحقتها.
****************
عدة أيام توالت والفكرة تزداد رسوخا بعقل سلمى و
ترى فيها حلاً لجميع مشكلاتهم..فكلما تحدثت مع مليكة تأكدت أكثر من موافقتها على الزواج من زين،حسناً لقد تمنت لشقيقها فتاة تحبه لا فتاة تجده
وسيلة للهرب من كل مشكلاتها..لكن بعد ان اعادت التفكير لمرات ومرات اصبح بداخلها يقين ان كلاهما بحاجة للآخر،كلاهما مداواة للآخر،وكلاهما سيطبب
جراح الآخر،انه تثق فى حنان شقيقها واحتواءه
فلطالما كان السند والعون لها واصبحت الآن واثقة من ان مليكة لم تعد هى نفسها تلك الفتاة التى
تركض خلف حلم الثراء والمظاهر المترفة.
"بما أنتِ شاردة؟"تمتم خالد بينما يستند رأسه ال راحة يده التى يرتكز بمرفقها فوق الوسادة وهو يرقد الى جوارها بالفراش.
"اريد أن أتحدث إليك بأمر ما"تمتمت بينما تستدير
لتواجهه.
فضاقت عينيه منتظرا حتى تبوح بما لديها وعندما
لمح ترددها رفع يده ليربت على وجنتها بحنان
مهمهاً:"هيا حبيبتى،هذا الأمر يجعلك شاردة منذ
أيام،ولا تنسي ابداً أننى اعرفك جيدا كما اعرف
خطوط راحة يدى"
"حقاً؟يمكنك توقع ما أفكر به؟"
"ليس هذه المرة،فأنا اعرف ان هناك ما يشغل عقلك ولكن لا اعرف ما هو"
"ماذا سيكون رأيك إذا طلب زين منك الزواج من
مليكة؟"
"ماذا؟!!"قال بدهشة ثم اضاف:"هل زين من طلب منك ان تتحدثى معى بهذا الشأن؟"
لم تكن دهشته سوى لأنه شعر بأن زين نسي أمر
شقيقته بالكامل،فهى قد أهانته وجرحت كبرياؤه
عندما سمعها وهى ترفض زواجه هو وسلمى و
اهانته أكثر عندما لم تحضر الحفل الصغير الذى
أقامه والده له هو وسلمى قبل سفرهما.
"زين لم يتحدث معى،انت تعرفه جيداً لقد اصبح
شحيح الكلام ولكن..."
"اذا كان زين لم يلمح لكِ او يطلب منك ان تتحدثى
معى،فلما تسأليننى؟"قاطعها قائلاً
"استمع لى خالد،مليكة بحاجة لرجل قوى يحتويها
ويحتوى حزنها وتستمد منه قوتها لتستطيع ان
تتخلص من مشاعر الذنب التى تتحكم بها وهى
بإستسلام ترضخ لها،وزين بحاجة لمليكة حتى تقتحم وحدته وتملئ دنياه الجافة...ثم إنك تعرف ان رغبة
والدينا كانت ان يتزوج زين و مليكة"
هز خالد رأسه محاولاً نفض قشرة القناعة التى تحاول زوجته بنائها وتقويتها بعقله ثم قال:"توقفى سلمى عن إفتراض اشياء ليست حقيقية،إذا كان زين يريد
ذلك فسيطلبه منى،إنه أخى مثلما هو شقيقك،ثم
إنه....."
"إننى أثق بأن زين لا يمنعه من طلب الزواج من مليكة سوى كبرياؤه،فهو يخشى رفضها لأن كليكما
بالإضافة الى خالتى لا تريدون ان تروا كم تغيرت..لا
تريدون ان تجعلوا قلوبكم تشعر بإنهزامها وحاجتها للدعم والمساندة،لا تريدون أن تروا كم تغيرت و
اصبحت مليكة أخرى جديدة وبالرغم من سعادتى
بذلك بالرغم من حزنى عليها،فقد ذبلت الوردة
الجميلة التى كانت محط أنظار الجميع،حسناً هى
مخطئة ولكن يكفى جلداً لها فيكفيها ما تعانيه
من نظرات و همز ولمز من حولها،يكفيها غضب
خالتى لعامين كامليين لا تتحدث إليها وتتجنبها
وكأنها لا تقيم معها بنفس المنزل"
"هل انت حقاً من تدافعين عنها هذا الدفاع
المستميت؟وتتحدثين عن زواجها من شقيقك؟"
"ما كنت أتمناها لزين لو لم أكن متأكدة أنها جديرة
به كما هو جدير بها...إنها محاولة خالد..محاولة قد
تجمع شملنا وتعيد الإبتسامة إلى وجه خالتى
ومليكة وتخرج زين من صومعة وحدته وكآبته"
مرر يده بخصلات شعره بينما يفكر،إنه أمل تاقت إليه
نفسه أن تكون والدته بالقرب منه و...مليكة ايضاً،
فبعد موت والده لم يعد لهما سواه وهو حائر ما بين رغبته فى تأمين منزل بعيد لزوجته وولده حتى لا
يتعرضا لما يزعجهما من ثرثرة أهل الحارة عن والد
زوجته وبنفس الوقت حتى تبتعد مليكة عن الحارة
بعد ليلة عقد قرآنها المنكوبة التى لم يحضر بها
ذلك النذل وما بين ان يتواجد معهما وبالقرب منهما ليرعاهما مع إحتمالية كبيرة بعدم وجود عمل بدخل جيد كالذى يجنيه بغربته...لم يكن عقده مع الشركة
يتيح له سوى إحضار زوجته ووالدته بالإضافة الى ان تلك المدينة الصحراوية مقارنة بالقاهرة كانت ستعد سجناً كبيراً لفتاة لا تعمل وليست متزوجة ايضاً.
"ماذا؟هل اقتنعت؟"سألته سلمى تحثه على التحدث
معها والجهر بأفكاره الصامتة التى تدور بعقله..
حسناً انها تعرفه جيداً..تعرف تلك النظرة الشاردة
حينما يتعمق بالتفكير،تعرف انعقاد حاجبيه حينما
يكون لديه شك بنجاح الأمر..تعرف حتى طريقته بزم شفتيه وهو يحاول الإفصاح عن ما يدوربعقله.
"بماذا اقتنع؟لا زين طلب،ولا مليكة وافقت،فما الذى يمكننا ان نفعله نحن؟"
"انا سأتحدث إلى زين...وانتظر،بالطبع لن اعرض عليه
مليكة سأجعله هو من يطلب،اعرف الطريقة التى
اصل بها إلى شقيقي،وانت عليك الحصول على
موافقة مليكة حتى لا تشعر بالحرج منى"
"ممممم تعرفين الطريقة للوصول إلى شقيقك..
وتعرفين الطريقة التى تصلين بها إلى ما تريدين مع
زوجك،هيا إخبرينى ما هو سرك إذن؟"
قال مبتسماً ومداعباً لتلك الجميلة الخمرية التى
سرقت قلبه منذ كان مراهقاً وجعلته لا يري سواها ولا يتنفس إلا عشقها،اختذلت كل النساء فى نظرة
عينيها البنية كاللون القهوة التى كانت تحتسيها
والدته ووالدتها كل يوم عصراً..اختذلت كل النساء
فى دلالها الفطرى الذى اشعل كل رغبة ذكورية
فى تملكه حتى يكون دلالها هذا حصرياً له.
"ربما لم احظى بتعليم عالى مثلك ومثل زين ومليكة لكننى لدىّ قلب يهتم ويدفع عقلى للتفكير فى من
أحبهم"
"كم مرة أخبرتك ان تتوقفى عن تلك السخافات،لم
يعد التعليم ببلادنا العربية مقياس لثقافة الإنسان،
فكم من خريجيين جامعات أقرب من الجهل منهم
الى العلم..وانت تقضين وقت فراغك بالقراءة التى
منحتك ثقافة أكثر ربما منى فمنذ وقت طويل
انشغلت بالعمل والقراءة عن مستجداته وما يتعلق
به فقط وتوقفت عن القراءة فى اى شيئ آخر،اصبح
لديك كم معلومات وقراءات يجعلنى اشعر بالتقصير"
"دعك من قراءاتى واخبرنى هل ستتحدث الى مليكة؟"
"حسناً،إذا طلب زين منى الزواج منها بالطبع سأتحدث معها بهذا الشأن"
"وهذا كل ما اريده"همست بشرود وهى تخطط لبدء
الحرب على جدار الوحدة والقوقعة التى عزل
شقيقها نفسه بها..
"هذا كل ما تريديه فقط!!؟"قال بينما ينحنى لينثر
قبلات خفيفة ناعمة على كتفها العارى ثم تصاعدت قبلاته الى وجنتها والتفت ذراعه حول خصرها تعانق جسدها،لتنتشى اذنيه بضحكاتها الناعمة وينتشى
قلبه بهمسها بعشقه.
باليوم التالى كانت عينيها لا تتوقف عن إلقاء نظرة
نحو ساعة الجدار ترغب فى مرور الوقت بسرعة حتى
تتحدث مع مليكة عندما تعود من عملها..نعم لقد
أحالت أمر الحديث مع مليكة الى خالد ولكنها
بحاجة لمجرد أن تختبر رد فعلها حتى لا تمنح
شقيقها املاً ربما لن يتحقق،فهى اكثر الناس دراية
بعشق شقيقها لمليكة وهو واجه الكثير من
المصائب والخيبات وليس بحاجة للمزيد.
"كيف حالك اليوم مليكة؟"
"ألم تشعرى بالملل من تكرار هذا السؤال؟والإستماع لنفس الإجابة؟"
قالت مليكة بإبتسامة مريرة لصديقتها فهى ليست
لديها إجابة سوى انها أسوأ من ذى قبل خاصة بعد أن طلبت منها إحدى جارتهم العجائز أن تتحدث
معها قليلاً وبقليل من الأمل فى ان أحدهما قد نسي ابتسمت لها ووقفت تتبادل معها الحديث الذى لم يكن سوى عرض زواج من رجل تعدى الستين ولديه
اولاد اكبر من عمرها، وتوفت زوجته وربما يريد
ممرضة وخادمة برتبة زوجة.
"كل يوم جديد ينبض أمل جديد،عليك ان تثقى بتدابي الله حينما تعجزين"
القت مليكة بجسدها الى الفراش المعدنى الضيق
بينما السماعة التى تتصل بهاتفها مثبتة فى اذنيها وهى تستمع للأمل الذى تحاول صديقتها بثه بها.
"إننى لست ناقمة على ما يحدث لى سلمى فأنا
أستحقه،لكننى لا اريد ان تتعذب والدتى معى،فما
ذنبها؟وما ذنب خالد ان يُحرم من والدته،حتى انتِ
أحق بها منى..وهى أحق بأن تحيا بمكان تشعر به
بالراحة وهذا المكان لن يكون سوى معكما"
هى ليست ناقمة ابداً فبداخلها تَكَوّن يقين انها
تستحق...تستحق خداعه لها وتستحق الفضيحة التى ورطها بها...
اضواء ملونة وزينات تم تثبيتها على جدار منزلهما
الخارجى وامتدت الزينة إلى المنزل المقابل..منزل زين الذى وقف بنفسه يساعد العمال بتثبيت الزينة،
حينها لم تهتم حتى مع تلك النخزة بقلبها التى
آلمتها وجعلتها تحدق بوجهه الذى يكسوه الألم و
لكنها سرعان ما تخلصت منها وهى تحلم بالسيارة
الفارهة التى يملكها حاتم والفيلا التى تنتشر صوره
بها وتملئ صفحته بالفيس بوك وأسم والده الذى
بعد بحث دقيق وقبل أن تضع الإيقاع به نصب عينيها،
أدركت انه من أشهر أطباء جراحات القلب بالعالم..
تحلم أن يكون هذا يوماً لقب اطفالها وليس لقبهم ينسب إلى مختلس سجين…انطلقت الزغاريد من نساء وفتيات الحارة فالزغاريد بعادتهم واجب اجتماعى
وانهالت صناديق المشروبات الغازية على منزلهم
كنوع من الهدايا التى يهبونها فى تلك المناسبات وهمهمات بضعة نساء مع والدتها بالمطبخ يعدون
الطعام حتى يتناول عائلة العريس العشاء بعد
الإنتهاء من عقد القرآن..لن تنسي ابداً ملامح والدتها بتلك الليلة مزيج من الحزن والسعادة كانت سعيدة
كأى والدة بزواج إبنتها ولكن رغماً عنها الحزن
يسكن قلبها فلم تكن هذه هى الطريقة التى تريد
بها لإبنتها ان تتزوج انهم لم يمهلوا حتى شقيقها فرصة ليعود من سفره ويكون بجوار والده،ولم
ينتظروا مرور وقت كاف بعد وفاة جارهم الذى كان
بمثابة أخ لوالدها.. أو ربما شعرت والدتها بإنتهاء
تلك الليلة بالطريقة الكارثية التى انتهت بها.
لم تبالى فى حينها ولم تهتم فحاتم وعدها بزفاف
كبير عندما تظهر نتيجة عامهم الأخير بالجامعة
وبالطبع سيعلم شقيقها قبل الموعد بوقت كافى
ليتمكن من العودة،وسيعلم والدها ووالدتها أنها
كانت على صواب حينما لا يتحملون أعباء تجهيزها
فحاتم بالطبع لا يحتاج للقليل الذى سيوفروه من
اجل ابنتهم.
"يوماً ما ستغفر لك والدتك مليكة..ويوما ما ستجدى رجلاً حنونا قلبه يحمل حباً كبيراً لكِ ربما ليس ثرياً
كما كنتِ تحلمين من قبل ولكنكما سوياً ستجدا
الطريق لسعادتكما الخاصة"قاطع أفكارها صوت
سلمى الحانى.
"تفاؤلك لا مثيل له يا صديقتى،هل تريدين ان اقص
عليكِ حكاية عريس عرضته زميلة لى بالعمل؟"
ببعض الإضطراب والحزن تحدثت سلمى:"بالطبع لعله خيراً ان شاء الله"
خيبة أملها فى تطبيب جراح شقيقها تبخرت على
الفور ولكن هذا افضل من خيبة آماله مرة أخرى إذا
تحدثت إليه ثم فوجئت بوجود عريس محتمل..
"عرضت صديقتى بالعمل علىّ الأمر منذ شهر تقريباً
واخبرتنى انه رجل بالخامسة والثلاثين من العمر لديه شقة بحى متوسط ويعمل بالموارد البشرية بأحد
الشركات وجعلتنى أرى صورة له فأخبرتها
بموافقتى المبدأية وأننى سأتحدث مع شقيقي وهى طلبت عنوانى بالتفصيل ومنحته لها...عندما سأل
العريس المبجل عن عائلتى بالحارة وعلم بأمر فرار
العريس السابق وعدم حضوره بعقد القرآن طلب من صديقتى ان قبل اى لقاء بيننا او حديث يجب ان
اذهب معه لطبيبة ليتأكد من عذريتى،هل ترين الآن سبباً لأتفاءل!!"
وضعت يدها على فمها تكتم شهقتها وانهمرت
الدموع من عينيها من أجل ما تعانيه صديقتها
فالمجتمع يمكنه ان يكون قاسياً بضراوة على المرأة حينما تخطئ..لا يمكن ان يشفع لها أى شيئ بينما
هناك ألف عذر ومبرر ليشفع للرجل..لم يعد لديها ذرة تردد واحدة فى أن تدك قوقعة شقيقها وتشعل ثورة
بحياته فهو الرجل الوحيد القادر على احتواء مليكة.
"حقير!!حقير!!"هتفت سلمى
"إنه ليس حقير،إنه فقط رجل"تمتمت مليكة بإنهزام ومرارة كالعلقم فعرض اليوم الذى تلقته من جارتهم كان اكثر رحمة من هذا ولتؤكد لسلمى وجهة نظرها بأنه فقط تفكير رجل بدأت تقص عليها أخبار العريس العجوز ايضاً.
"عم عبد الرحيم!!ياله من متصابي!!"شهقت سلمى
بصدمة.
"إنه رجل،ينتهز فقط الفرصة المتاحة أمامه"
"لا،هناك رجال يتسمون بالأصالة و الأخلاق،لا تنسي
ابداً ان لازال هناك رجال كخالد شقيقك فهو لم
يتخلى عنى بالرغم كل ما حدث"
"ما حدث من والدك وإختلاسه لخزينة المحكمة ما
كان سيحدث ابدا لو وجد مكان متاح لعلاج والدتك
رحمها الله،لو كان وجد تأمين صحى جيد،ما كانت
الحاجة واليأس دفعه لذلك..خالد يعرف ذلك جيدا
وانا ايضاً كنت اعرفه حينما وقفت بغرور وانانية
اطلب منه التخلى عنك"
"يا الله مليكة!!ألن ترحمى نفسك!!"
"دعك منى ومن حياتى البائسة واخبرينى عن مهد هل بدأ يسير؟منذ عدة ايام لم ترسلى لى صور له"
"يسير قليلاً بضعة خطوات ويتعثر ولكنه عنيد كخاله
يعاود الوقوف والمحاولة مرة أخرى،لقد التقطت
مزيد من الصور له سأرسلها إليك..انتظرى"
بمكر ابتسمت لنفسها وهى تختار صورة التقطتها
لزين بينما يحمل مهد الجمعة الماضية حينما حضر
لزيارتهم ثم اضافت صورة اخرى لمهد مع خالد و
عديد من الصور لطفلها وبدأت بإرسالهم عبر الواتس آب..
توالى الرنين ليعلن عن وصول الصور ففتحتها مليكة بلهفة ولكن عينيها تجمدت للحظات محدقة
بالصورة وشعرت برجفة شفتيها وتغلظ الغصة التى
اعتادتها بحلقها،لقد تناقص وزن زين كثيراً لازال
نفسه بملامحه الخشنة الصارمة وتلك الندبة بجبهته التى نتجت عن شجار مع أحد شباب الحارة حينما
تهكم على والده والتى زادت من قسوة ملامحه و
لكن عينيه تمتلئ بالحزن رغم الإبتسامة الشاحبة
التى تزين شفتيه من تأثير مداعبة مهد للحيته
الخفيفة...مررت الصورة بسرعة لتقابلها صورة
شقيقها مع ولده وصور أخرى لمهد بين خاله
ووالده..ابتسمت وهى ترفع يدها لتجفف دموعها
محاولة
تخيل اجتماعهم العائلى وكيف يمكن أن يكون أكثر سعادة إذا كانت والدتها معهم.
"يا الله كم أتمنى رؤيته وعناقه،ليت خالد يستطيع
الحصول على أكثر من شهر عطلة هذا العام"
"دعى أمرك لله حبيبتى..أشعر أن القدر سيرأف بنا
قريباً"همهمت سلمى وقد ملئ الأمل قلبها.
وحينما انهت اتصالها مع صديقتها،اتصلت بشقيقها على الفور:"اريدك أن تحضر الآن زين"
"ماذا هناك؟هل انت مريضة؟هل مهد مريض؟أين
خالد؟"توالت اسئلته بلهفة وقلق.
"توقف زين!!انا بخير ومهد ايضاً،وخالد بالعمل"اجابته بهدوء
"لما إذن تريدين ان اترك عملى وأحضر؟"
"اريدك بأمر هام ولا يمكننى التحدث به فى حضور
خالد،من فضلك زين يمكنك الحصول على إذن طارئ،هيا إننى أنتظرك"
اغلقت الهاتف بدون أن تمنحه فرصة للإجابة أو
الإعتراض وبالفعل حدث ما أرادته وخلال ساعة كان
يدق جرس الباب...بإبتسامة واسعة استقبلته
مرحبة:"مرحبا زين،افتقدتك"
"لا تخبرينى أنك جعلتينى أترك عملى لأنكِ
افتقدتينى!!هل تشاجرتِ مع خالد؟"
"بالطبع لا،ولكن ماذا لو استدعيتك بالفعل لأننى
أفتقدك؟ عامين كاملين لم تحصل على إذن طارئ،
او عطلة"
ضاقت عينيه محدقاً بها بضيق،فربتت على كتفه
قائلة:"ولكن لا ليس هذا هو السبب..إننى أريدك بأمر ما حقاً،ولكن اجلس اولاً ودعنى اعد لك القهوة"
"حسناً،يمكن إختصار الوقت و اجلس معك بالمطبخ
لتخبرينى بينما تعدين القهوة"
تبعها للمطبخ الصغير حاملاً مقعد خشبي ثم وضعه وجلس ينتظر ما سيأتى به حديثها...
"لدىّ عروس لك"
"يا الله سلمى!!لو كنت اعلم أنكِ تريدينى لهذا الأمر
ما كنت آتيت"قال منتفضاً على قدميه من فوق
المقعد.
"ألا تريد حتى أن تعرف من هى العروس المقترحة؟"
اجابت بهدوء وتركيز على القهوة التى تعدها.
"لا أريد..لأن ليس هناك فارق،توقفى عن البحث لى عن زوجة،لأننى لا ارغب فى مشاركة حياتى...."
"انها مليكة"قاطعته بينما ترفع عينيها بتركيز تريد
التقاط كل رد فعل.
اتسعت عينيه للحظة..فقط للحظة وفتح فمه
ليتحدث ثم اغلقه مرة أخرى وكأنه يبحث عن ما
يقوله ولكنه استعاد اتزانه واندفع قائلاً:
"مليكة!!تعنين..مليكة!!التى رفضت زواجك من
شقيقها، ستوافق على أن يحمل اطفالها لقب
والدى!!مليكة التى تتطلع للزواج من رجل يُحلق بها
إلى حيث ساكنى الفيلل والقصور ستقبل بالإقامة
بالصحراء!!انسي الأمر بالكامل لأننى لا أريد مناقشته مرة اخرى"
"هل انتهيت؟"قالت شقيقته عاقدة ذراعيها امام
صدرها بعد ان انتهت من سكب القهوة بالقدح.
"إذا كنت انتهيت،فيمكننى ان أخبرك أننى الآن لا
اريدك ان تتزوجها،أتدرى لماذا يا شقيقي؟لأننى
خُدعت فيك..أنت لن تكون الرجل الذى يحتوى ألم
مليكة وحزنها،ولن تكون القلب الذى يغفر ويسامح،تلقى باللوم عليها لأنها لم تكن رحيمة بى ،وأنت؟
هل أنت رحيم بها الآن؟بعد أن أخبرتك كم تغيرت
وكم اصبحت مهزومة يائسة؟"
فرك وجهه بكلتا يديه ثم ارتفعتا ليمررهما فوق
خصلات شعره القصيرة للغاية قبل أن يقول:"توقفى سلمى...توقفى!مليكة لم تحبنى يوماً،لم تكن
تنتظرنى ابداً مثلما كنتِ تنتظرين خالد..إننى لم أكن
لها سوى واحد من صفوف المعجبين من شباب
الحارة ورجالها ثم أصبحت طموحاتها تتعدى حدود مقدرة هؤلاء المعجبين وانتقلت إلى الجامعة لتنتقى شاباً ثرياً يحقق لها احلامها وبدأت تنظر للحارة
واهلها بنفور واشمئزاز"
"حسناً هذا كله صحيح،لكن تلك الفتاة لم يعد لها
وجود لأنها تعلمت درسها بأقسى الطرق،مليكة لم
تكن فتاة سيئة،لقد كانت فقط تطمع بحياة مرفهة
ويراودها حلم الثراء،لكن من منا لا يتمنى ذلك؟حسناً ربما سلكت طريق خاطئ لتحقيق ذلك،ولكنها تؤنب نفسها وتجلدها وهى بحاجة لرجل..رجل يمكنه أن
يغفر ولكن يبدو أنك لست هذا الرجل"
هز رأسه بيأس..لا يعرف إن كان يائساً من قلبه الذى
نبض بقوة لمجرد تكرار اسمها على لسان شقيقته،ام يائساً من عقله الذى يقاتله ألا يستسلم مرة أخرى
ويركض خلف آمال واهية؟!!
استدار بدون أن يمس قهوته ثم غادر بينما احنت
سلمى رأسها الى جانبها تتبعه بنظراتها وابتسامة
تزين شفتيها،لهذا أ ارادت شقيقها بمفرده بعيدا عن خالد حتى يفرغ غضب السنوات الماضية معها وحدها ثم تتركه ليفكر وهى متأكدة انه سيعاود الإتصال
بها...
غادر منزل شقيقته ليتخلص من ضغطها عليه
فيكفيه صراع قلبه وعقله وهو ليس بحاجة مطلقاً أن ترجح شقيقته ميزان قلبه...ما أن استقل سيارته حتى
تدفقت ذكرى رؤيته لها مع شاب أنيق بسيارة فارهة،حينها تمنى لو لم يقترح على والدها ان يمروا
بالجامعة ليصطحبوها للمنزل فعلى الأقل كان
سيظل واهماً بدلاً من مواجهة الواقع فى اسوأ أيام حياته..
"تحلى بالأمل يا ولدى ودعنا نأمل ان يكون الحكم
مخفف على والدك"قال إبراهيم
فالتفت زين بلمحة سريعة نحو الرجل الخمسينى
أشيب الشعر والذى ترك الزمن آثاراً غائرة على
ملامحه ليبدو أكبر من عمره...لا يعرف كيف كان
يمكنه ان يتحمل كل ما مر به بدون مساندة ودعم
هذا الرجل،وفاة والدته فى اثناء اجراء العملية
والقبض على والده بدون ان يتمكن من دفنها
والوقوف بعزائها...عالمه تحطم فجأة فقد والدته
واصبح والده مجرماً،سارق...حاكموه بدون ان يحاكموا انفسهم ويسألوا ما الذى دفع رجل مثله عمل بذات
الوظيفة لأكثر من خمسة وعشرين عاما أن يختلس
فجأة!!لم يهتموا لتوسلاته ان يدفن زوجته..لم
يهتموا سوى بأن يقبضوا عليه وكأن كل ثروات البلاد المنهوبة تم اعادتها ولم يبقى سوى ما دفعه والده للمشفى.
"اتمنى ذلك يا عماه،لكن صحة والدى فى تدهور ولا
أعرف هل سيستطيع أن يتحمل"
"لنا الله يا ولدى..لنا الله"تمتم ابراهيم والدموع
تترقرق بعينيه من أجل صديق عمره بالسكن والعمل.
"اريد أن أؤجل قليلا زفاف سلمى وخالد،لكنه يأبى
ويريدها أن تتركه بهذه الحالة وتسافر مع خالد"
"والدك يريد أن يطمئن على إبنته يا ولدى،عندما
ستصبح أباً يوماً ما ستدرك مشاعره وتفهمها"
اومئ زين بإستسلام فهو ايضاً يريد ان يطمئن ان
شقيقته فى كنف رجل يُعتمد عليه مثل خالد...
"نحن قريبون من الجامعة،هل نمر على مليكة
لنصطحبها معنا ونرحمها اليوم من ازدحام
المواصلات؟"
اومئ الرجل بإبتسامة مريرة وهو يتمتم:"حسناً يا
ولدى،لكننى لا اريد أن ارهقك"
كان يري اللهفة بعين زين والخزى...وهو لا يستطيع ان يمحو عنه ذلك القلق ويؤكد له ان مليكة ستكون
له،فقد ابدت ابنته اعتراضها اكثر من مرة واخبرته
أنها لا ترى زين سوى اخاً لها.
توقفت السيارة بجانب سور الجامعة والتقط ابراهيم هاتفه المحمول الصغير المتواضع ليخبر ابنته انهما
بإتتظارها بالخارج ..دقات طويلة ولا اجابة،حاول
بعدها الإتصال مرة أخرى ولكن عينيه التقطت ابنته بسيارة فارهة متوقفة على الجانب الآخر من الطريق
وهى تضحك عالياً والشاب بجوارها يرفع يدها
ليقبلها..الصدمة جعلته يحدق بعدم تصديق،اراد حقاً ألا يصدق انها إبنته ولكنها كانت هى بلا أدنى شك...ملامح وجهه المحتدمة بالغضب والصدمة جعلت زين يتجه بعينيه حيث ينظر ليري هو ايضاً ما رآه والدها...ارتفعت يد الشاب لتداعب وجنتها فابتعدت عن اتجاه يده بدلال.
غادر إبراهيم السيارة مندفعاً ومن خلفه زين متجهماً والنيران تندفع بشرايينه من الغضب الغاشم الذى
امتزج بمرارة الحزن على كل غالى فقده بحياته
لينتهى الأمر بفقدها هى ايضاً..حاول إبراهيم فتح
الباب ولكنه موصداً ومن إنعكاس ظله على زجاج
النافذة بجوارها التفت نحوه وارتسم الخوف على
وجهها على الفور بينما كانت يد زين تطرق بقوة
غاشمة على زجاج النافذة المجاورة للشاب الذى فتح الباب بوجه غاضب وبعجرفة.
"ماذا هناك؟ارفع يدك عن سيارتى وإلا سأستدعى
الشرطة لكليكما"
"انه والدى.."هتفت مليكة من داخل السيارة بينما
تفتح الباب من جانبها وهى تحدق بهلع بوجهه
الذى امتزجت به مشاعر الغضب والإنكسار بطريقة
لم تراها ابدا من قبل..ورغماً عنها انتفضت مع ضربة
قوية من يد زين على السيارة.
"والدى..من فضلك دعنا نتحدث بالمنزل...من فضلك لا اريد أن يلتف الناس والطلبة من حولنا..اخبر زين ان يتوقف عما يفعله،لا اريد إثارة فضيحة بينما الأمر
اقسم انه لا يستحق"
بكلمات متعثرة و جسد يرتجف وقفت امام والدها
تحاول إنهاء الأمر وامتدت يدها لتضعها على ذراعه
بتوسل ولكنه نفضها وأغمض عينه بقوة قبل أن
يهتف:"زين!!هيا لنذهب من هنا"
وكأن كلمات إبراهيم لم تصل إلى أذنيه فقد تشبثت
يده بحافة قميص ذلك الشاب الأنيق مثل سيارته
وهوت قبضته على فكه لتسيل الدماء من فم الشاب وانفه وهو يضرب جانب السيارة بركلات من قدمه
سببت إعوجاج بالباب الخلفى...اندفع إبراهيم يجذب زين بعيداً عن الشاب بيد بينما يلكز ابنته لتسير أمامه بيده الأخرى مسرعاً بخطواته نحو سيارة زين العتيقة فقد بدأت الحشود تلتف لترى ما يحدث بفضول.
انطلق نافير السيارات من خلفه فأعاده الى الواقع،
فرفع عينيه نحو إشارة المرور وأدرك لما اطلقت
السيارات النفير فواصل قيادة سيارته ولكن فجأة
ضربه هاجس ما فالتفت حوله بالسيارة بنظرة
خاطفة...إنها سيارة فاخرة إذا قارنها بسيارته العتيقة الفيات الصغيرة من طراز السبعينات التى كان
يمتلكها بالماضى قبل ان يسافر،هل ستروق لها؟
"أحمق،احمق،تتساءل وكأنها ستراها!!ام أنك وافقت بلا وعى على ما عرضته عليك سلمى؟"
زفر بعمق وقد تنازعته الأفكار،هل ستوافق على
الزواج منه؟انه يعرف شقيقته جيداً ما كانت ستخبره إلا إذا كان لديها نسبة كبيرة من اليقين أنها
ستوافق!!هل عليه هو أن يوافق؟إنه يعلم أنها ابداً
لم تحبه لقد عشقها هو وحده بصمت ويقين أنها له،لقد صدق وآمن بما بثه والديه ووالديها بعقله..مليكة لزين..مليكة..مليكة التى امتلكت القلب وفرضت
سطوتها عليه ووقفت ترقص على حطامه بلا مبالاة.
****************
كلما غالبها الحنين لشقيق بالغربة وصديقة طفولة على مسافة اميال،تطلعت إلى الصور بهاتفها فربما تؤنسها...إبتسامة حزينة مرتجفة هربت من قلبها
لتستقر على شفتيها وهى تتطلع إلى صورة
إبن شقيقها الصغير،تعرف أن والدتها ستسعد كثيرا بصحبته واللهو معه ولكن ماذا بيدها أن تفعل!!
اتجهت الى النافذة تفتحها..الغرفة بحاجة لتجديد
الهواء فهى لا تفتح النافذة إلا كل بضعة أيام فليس لديها رغبة فى لقاء إحدى الجارات عبر النافذة،لا تريد أن ترى أحدهما تلتفت وتدعى انها لا تراها أو أن
تغادر أخرى نافذتها ما أن تراها..سالت دمعة من
عينيها وهى تتذكر كل إشاعة تناقلاتها الألسن،لقد
رأت ما ادانوها به فى اعينهم قبل أن تسمعه.
"الرجل لا يتزوج من نال منها...خدعها ونال منها ثم
تركها..فرطت فى شرفها من اجل المال...."
هزت رأسها بقوة تحاول ان تخرج ثرثرتهم من عقلها،كم مرة أرادت أن تصرخ وتقسم انه ما نال منها شيئاً...لا،كاذبة لقد نال من عذرية يديها..نال من عذرية
وجنتيها بقبلات خاطفة سرقها..نال من عذرية
خصلات شعرها عندما كان يلمسه او يرفعه لشفتيه
ليقبله..انها تستحق..تستحق ان يتهموها فهى
كانت خبيثة ماكرة،مع كل هدية يغدقها عليها تلين
له قليلاً وتمنحه قليلاً ولكنها ابدا لم تمنحه الكثير
لأنها كانت تدرك جيداً أنها إن منحته الكثير
ستفقده...لم يكن هذا حباً..الآن تدرك هذا جيداً..فمنذ متى يخضع الحب لتلك الحيل القذرة!!
لم تحبه ولم يعشقها كما اوهمها..وعدها كما وعد غيرها بالزواج،أليس هذا ما أخبرها به محامى والده
عندما ذهبت إليه..اسبوع كامل تتجه إلى مكتبه كل
يوم لتسأل عن أية أخبار عنه؟!!اسبوع كامل بعد وفاة والدها وهى تطارد محامى والده وتنتظره امام باب
مكتبه،ارادت أن تؤكد لنفسها بمحاولة بائسة أنها على صواب،وأنه ربما طرأ أمر ما جعله يتأخر عن عقد
قرآنهما.
"توقفى عن المجيئ إلى المكتب..لقد وافقتى على
خداع والدك عندما اتفقتى معه على أن التقى
بوالدك وادعى أننى خاله وأنوب عن والده لأنه لديه
عمل بالخارج،انتِ خدعت والدك وهو خدعك..لست
اول فتاة يذهب الى عائلتها ببضعة قطع ذهبية بعدة آلاف من الجنيهات التى لا تعنى له شيئ،لقد خطب
من قبل أكثر من خمسة فتيات وتمتد الخطبة حتى
يشعر بالملل ولكن والدك دفعه لإنهاء الأمر معكما بسرعة عندما أصر على عقد قرآن..حاتم سافر ولن
يعود وإذا عاد انصحك ألا تتعرضى له لأننى حينها لن
أتحدث إليك كما اتحدث الآن بل سيكون لى طرق
أخرى..."
ببطئ وتمهل فتحت النافذة تريد ان تصبح خفية حتى لا يراها أحدهم...وبنظرة حنين لأيام مضت نظرت إلى شرفة شقة والد سلمى المواجهة لهم،التراب و
العنكبوت يملئ الشرفة ويزيد من قتامة مشهد
الشقة المهجورة التى شهدت على طفولتها
ومراهقتها بنفس القدر الذى شهده منزلها..حتى
بعد وفاة خالتها والدة سلمى وبعد القبض على
عمها توفيق وحتى بعد سفر سلمى لم يكن المشهد بتلك القتامة،فلقد حرص زين على نظافة المنزل كما اعتادت والدته..ولكن منذ سفره هو ايضاً للملكة
السعودية بعد وفاة والده بالسجن بعد عدة شهور
قضاها به وقد اصبحت الشقة مهجورة تماماً..زين،
هو ايضاً اسم يمكنها أن تضيفه لقائمة من
ظلمتهم..لم تحبه ابدا رغم انها كانت تلمح عشقه
لها بعينيه،وبحارة مثل حارتهم الضيقة التى لا يمكن أن تظهر على خرائط جوجل،كان زين مهندس البترول عريس مرتقب لا مثيل له بالنسبة لكل فتاة بالحارة
ولكنه ابدا لم يلتفت لسواها،ربما هذا جعلها تشعر أكثر بالغرور؟!!
لم تستطع رؤيته كفارس أحلامها مثلما نظرت سلمى لخالد،كان خشناً،صارماً وملامحه لم تكن بوسامة
فارس أحلامها الذى حلمت به بالإضافة إلى يده التى تسبق لسانه بمعالجة أى مشكلة والتى جعلت
الكثيرين بالحارة يخشونه..ورغم كل هذا قبلت منه
هديته بعد نجاحها بالثانوية العامة،تعرف انه ربما
أدخر لعدة اشهر ليبتاع لها هاتف حديث ولكنها لم
تبالى كل ما اهتمت به انها حصلت على هاتف
محمول ومن الطراز الحديث ايضاً ولكنه بالطبع فقد قيمته لديها حينما منحها حاتم هاتف أكثر فخامة
رأت إعلانه على التلفاز ورأت تقريبا كل فنانين احد
المسلسلات يستخدمونه.
"لقد أراد أن يتحدث معى والدى،حتى يحدد موعد
ليقابلك به،انه يريد ان يتقدم لخطبتى،لم اوافق
بالطبع على طلبه ان القاه بمكان خارج الجامعة
لنتحدث ولكننى لم أرى ضرراً من البقاء معه بالسيارة على الطريق حتى نتحدث واخبره عن عائلتى...خاصة
انه ابن اشهر طبيب بجراحات القلب ولدي والده
مشفى كبير ويجب أن يعرف وضعنا الإجتماعى،وهو
لم يهتم واصر على ان احدد موعد معك"
تذكرت مبرراتها لوالدها التى لم تمهل حتى نفسها فرصة لتصل للمنزل بل أخبرته بالسيارة الصغيرة التى كان يقودها زين،ارادت ان تخبره هو ايضاً ان يصمت
ويتراجع فلا مجال للمنافسة بين ابن الطبيب
المشهور وابن السجين المختلس،كانت كاذبة جيدة
للغاية تندفع الكذبة وراء الأخرى من بين شفتيها
بسهولة جعلت والدها يعتقد أنها المرة الأولى التى تلتقى به خارج الجامعة،ولكنها كانت تثق بحاتم
وتثق بحبه لها وانه سيوافق على مقابلة والدها... لم تتوقف أكاذيبها على ذلك بل كذبت كثيراً بمبررات
منطقية كانت تتفنن بإبداعها عندما تريد تمرير اي شيئ اهداه لها من ملابس او عطور.
عادت لتغلق النافذة بسرعة فالذكريات التى تسللت
لها مع هواء الحارة خنقتها وجثمت على صدرها
وجعلت تلك الغصة تتغالظ بحلقها حتى تركت
لدموعها العنان لتتخلص منها..تزايد بكاءها ليتحول لنحيب،حسناً هى تستحق كل ما يحدث لها ولكن
رغماً عنها تشفق على نفسها..كبريائها وكرامتها
اصبحا سلعة رخيصة تتطاولها الأيدى وتنتهكهما
بعروض وثرثرة مخزية..
استمعت على غير العادة لصوت والدتها يتحدث
بالهاتف بهمهمة تتباعد حتى سمعت صوت باب
غرفةووالدتها يغلق واختفى صوتها خلفه..ولحظات ودق هاتفها ايضاً فالتقطته لتجد اتصال عبر الواتس
آب من سلمى...
"مرحباً حبيبتى،كيف حال مهد وخالد؟"
"بخير حال،لقد خطى اليوم من المنضدة حتى الجدار
بمفرده والتقطت فيديو له سأرسله لكِ"
"جدته ستسعد به كثيراً"قالت مليكة بينما تحاول
ترطيب شفتيها ولكن لسانها جاف تماما و حلقها
اكثر جفافا ومرارة،انها تعرف ان القرار الذى اتخذته لا رجعة فيه فهو الحل المناسب لسعادة والدتها
وليستريح شقيقها.
"قريباً ان شاء الله سينعم بقربها،وستكون إلى
جانبه...."
"ماذا تعنين بقريباً!!"قاطعتها سلمى فهى متأكدة أن خالد ابدا لن يخبرها بشيئ قبل ان يطلبها زين منه
للزواج.
"سأتزوج"قالت بنبرة إنكسار وشعور بالخوف من
المجهول الذى ستلقى نفسها به.
"ستتزوجين!!كيف ذلك؟ومن هذا؟"هتفت سلمى
بدهشة فهى كانت تتحدث لها بالأمس ولم تخبرها عن اى عريس محتمل.
"سأتزوج من الحاج عبد الرحيم"تمتمت بكلمات
متعثرة وشعوربالغثيان ينتابها من مجرد التفكير
بالأمر ولكن عليها ان تتأقلم على الفكرة وتتقبلها لأنها الحياة التى اختارتها لنفسها.
"مَنْ!!هل اصابك الجنون مليكة؟؟هذا لن يحدث،على جثتى مليكة..اتسمعين!!على جثتى!!هل تدرين فارق
العمر بينكما انك بالكاد بالخامسة والعشرين وهو
تعدى الستين!!"
كانت تصرخ بجنون وغضب..غضب من شقيقة قلبها
التى تتعمد إهدار حياتها وغضب من شقيقها الذى يُحَرّم على قلبه السعادة بكبرياء رجل شرقى..
"توقفى عن الصراخ سلمى،من فضلك،هذا الحل
هو الأفضل لنا جميعاً،ثم أن..."
"لا..لا مليكة،لن يحدث لأن زين لازال يحبك..انتِ
تعلمين انه احبك دائماً"
صمتت كلاهما..إحداهما تفاجأت والأخرى شعرت
بأنها تسرعت وكانت مليكة اول من تحدث ونبرة
صوتها توحى بعدم التصديق:"يحبنى!!لازال يحبنى؟!
كيف يمكنه أن يفعل فى حين والدتى نفسها
تكرهنى،وشقيقى يكرهنى..كيف لازال يحبنى
سلمى!!"
"هذا ما حدث،ألم تسألى نفسك لما لم يتزوج حتى
الآن؟ثم من أخبرك يا حمقاء ان والدتك تكرهك،من
اخبرك ان خالد يكرهك!!"
صمتت سلمى قليلاً لتفكر وصمتت مليكة ايضاً بعقل شارد حائر تتساءل بصمت:"زين يحبنى!!كيف بعد كل
ما فعلته!!"
"لقد اتخذت قرارى سلمى،زين يستحق فتاة افضل
منى و..."
"اصمتى،فهذا لن يحدث،خالد لن يوافق ووالدتك
ايضاً..لا تحدثى تلك العجوز الغبية بموافقتك حتى لا
يزداد الأمر سوءاً،هل تفهمين؟على الأقل انتظرى
لتتحدثى مع شقيقك ولكن يجب ان تضعى برأسك
شيئ واحد مليكة،خالد لن يوافق"
انهمرت الدموع من عين سلمى ولم تكن تعرف حقاً هل هى تبكى صديقة عمرها والأخت التى ليست من دمها،ام تبكى شقيقها وحياته الجافة الجامدة
وكبرياؤه الذى ينتصر على قلبه!!
"بالتأكيد سأخبر خالد اولاً قبل ان اجيب بالموافقة"
انهت الإتصال مع مليكة بسرعة فالجدل معها لن
يؤتى بأية نتائج مثمرة،عليها ان تحارب قرار تلك
الحمقاء ولكن ليس معها بل مع زين وخالد إذا
استدعى الأمر..لذا التقطت هاتفها على الفور
وتحدثت الى شقيقها.
"زين...مليكة ستتزوج"
هذا اول شيئ تفوهت به عندما التقطت اذنيها
انفاس شقيقها..اقتحمت كلماتها عقله اقتحاماً
وتسللت منه إلى قلبه لتعتصره..حسناً هو قرر أن
يحفظ كرامته وكبرياؤه ولا يوافق على عرض شقيقته لكنها رفضت ان تمنحه حتى الفرصة لذلك وعادت
لتدهس قلبه وكرامته بخبر زواجها..
"مبارك"قال بنبرة جليدية اصابت شقيقته بقشعريرة
فقد تبخر آملها ان تحصل على رد فعل غاضب.
"ألا تريد أن تعرف العريس؟"
"لا،فالأمر لا يعنيني،ابلغيها تهنئتى"
نبرته الباردة كانت ستاراً لحِمم القهر التى تندفع
بقلبه..ستاراً لطوفان من الغضب الغاشم والرغبة فى اقتلاع قلبه من صدره فهو نصيرها الوحيد.
"ستتزوج الحاج عبد الرحيم"واصلت هجومها عليه.
"مَنْ؟لماذا؟هل حبها للمال اعماها إلى هذا الحد؟
هل ..."
"اصمت زين،اصمت..الآن عرفت لما تجلد مليكة
نفسها بإستمرار!!لأنكم قساة،لم تغفروا لها بل
تضعون السوط بيدها وتجبروها أن تفعل هذا أفضل من انتظاركم لتفعلوا،سواء خالتى او خالد وحتى
أنت.. هل أحببتها يوماً بصدق؟لأنك إن احببتها يا
شقيقي ستغفر لها"
اندفعت كلماتها كطلقات الرصاص من شفتيها ولم تمهله لحظة ليجيبها او يدافع عن نفسه.
"سلمى..."حاول مقاطعتها ولكنها لم تمنحه الفرصة لذلك.
"أتدرى!!الحاج عبد الرحيم باع محلات العطارة في
الحارة والمناطق المجاورة التى يملكها وقسم
امواله على ابناؤه هذا ما يتردد في الحارة..أتدرى
ايضاً يا شقيقي!!انه يقيم الآن ببلدته ومن المفترض
ان تسافرمعه مليكة بعد الزواج لتقيم ببلدته،ولا
تعتقد أن هذا ما أخبرتنى به مليكة،لا إنها ثرثرة
صديقة لى،أخبرتنى ان اولاده اخبروه إن كان يريد
الزواج فعليه ان يقسم امواله بينهم حتى لا
تشاركهم إمرأة غريبة بورثهم وهو وافق،هل لازلت
ترى ان حب المال أعماها؟!!"
اغمض عينيه واستنشق انفاساً عميقة،كيف تتهمه
شقيقته أنه لم يحب مليكة؟وهى أدرى الناس
بعشقه لها!!وماذا تفعل تلك الحمقاء بنفسها؟انها تنتحر ولكن بطريقة شرعية!!
طال صمته للحظات...لحظات بدت لسلمى طويلة
فهى لا تعرف ما الذى يدور بعقل شقيقها فواصلت
بإندفاع غاضب:"لا تهتم يا شقيقي،انسي كل ما
أخبرتك به،عد لصمتك وكآبتك،عد لقوقعتك،عد
لقسوتك على قلبك وعليها ،واتركها لمصيرها،احمد الله أن خالد كان يحبنى حقاً،أحبنى بالقوة الكافية
ليقبل الزواج من إبنة سجين..وقف إلى جانبى
ودعمنى عندما كنت بحاجة له..."
"انتِ أحببتِ خالد،وهو ايضاً احبك..لكن مليكة لم
تحبنى ابداً"خرج صوته هذه المرة ابعد ما يكون عن
النبرة الباردة التى احتلت صوته بالسابق بل كانت نبرة حزينة مريرة.
"هناك ملايين الزيجات التقليدية التى بدأت بلا حب
واصبحت من أنجح الزيجات ومع الوقت والعشرة
الطيبة والإحتواء تحول الى حب عميق..مليكة بحاجة لرجل قوى وحنون يحتويها،رجل يجعلها تتوقف عن تعذيب نفسها وتأنيبها..يجب أن توفر جهدها لإعادة بناء علاقتها مع والدتها وشقيقها بدلاً من ذلك"
"ربما ما تقولينه صحيح لكنك نسيت أننا كنا نملك
الوقت منذ كانت طفلة ونملك العِشرة ورغم ذلك لم ترانى...ولم تفكر بي،ما الذى يمكن أن يتغير الآن؟"
كان يتحدث إلى نفسه اكثر مما يتحدث إلى شقيقته
محاولاً إقناع قلبه بأن يستمع لعقله فهو يدرك أن
عليه إقناعه لأنه لن يتحمل تمرده..فتمرده يعنى الآرق والألم والشعور بالذنب..هل حقاً هو ليس قوى بما
يكفى مثل خالد؟!!لا ،لا الوضع مختلف تماماً!!
"الذى تغير الآن كل شيئ يا شقيقي...انها تشعر
بالإنكسار وتحتاج لإنسان يحبها ليلملم شظاياها
المبعثرة ويعيد ترميمها،الذى تغير أنها تعلمت
بأقسى طريقة،أقوى انواع الحب هو ذلك القائم على إحتياج كل طرف للآخر لأنه يدرك أن حياته لن تكتمل
إلا به،فاسأل نفسك الآن زين وكن صادقاً معها..هل ستكتمل حياتك بدون مليكة؟فكر يا شقيقى قبل أن
يفوت الآوان"
هل ستكتمل حياتى بدون مليكة؟هل سيتستوطن
قلبي سواها؟هل سيرحمنى قلبي يوماً ويسمح لى أن تستكين إمرأة اخرى بين ذراعاى،فأكن لها سند
وتكن لى سكن ومأوى؟
منذ عاد لشقته الصغيرة وهو يدور بين جدرانها
ويشعر كأنها تطبق على صدره والأسئلة تتردد بعقله
بلا توقف والإجابات كانت واضحة لا ريب فيها..لا..لا...لا،لا لكل سؤال،ولا اضافية هدرت عالية لتتردد صداها بالشقة الصغيرة..لا لن يقبل أن تهدر حياتها بتلك
الطريقة..لن يقبل أن يراها تلقى بنفسها فى الجحيم ويقف ساكناً..منذ تركته شقيقته ليفكر منتظرة
إجابته،وهو لم يهدأ للحظة،مليكة..مليكة ستكون
زوجته!!تلك الفكرة بحد ذاتها كانت تجعل قلبه
يرقص طرباً غافلاً عن كل تحذيرات عقله ولكن بلحظة ما إتحدا كليهما وادرك أنه لن يسمح لها ابداً بأن
تلقى بنفسها إلى الهلاك وإذا لم يكن من أجله او
من أجلها فعلى الأقل من أجل ذكرى الرجل الذى
كان سنداً لهما بمصائبهم وإكراماً للمرأة التى
يعدها والدة ثانية له.
غادر شقته مسرعاً وهو ينظر بساعة يده،مازال يمكنه أن يلحق بخالد قبل ان يغادر الموقع فاليوم لديه دوام عمل إضافى...
انضم إلى العمل بالشركة مع زوجها،يتفاعل معها
شقيقها بأى موضوع وهذا دفعها لمواصلة الحديث بينما تنتهى من إعداد الغداء وبترقب انتظرت
اجابته...
"لما لم تستأجر هى و خالتى شقة صغيرة بعيداً عن
الحارة،إننى اعرف جيداً الحال هناك فألسنتهم لم
ترحمنا من قبل،لما لم تنتقل إلى مكان لا يعرفهما
به أحد؟"
"إنها ترفض ان تمد يدها على اى نقود يرسلها لها
خالد،وبالكاد راتبها ومعاش عمى ابراهيم يكفيها
هى وخالتى"
"لقد كانت كل أمنياتها ان تغادر الحارة بلا رجعة،فلما لا تقبل المال من شقيقها!!"
كان مدركاً لطموحاتها واجتهد كثيراً ليحقق حلمها..اجتهد ليعمل منذ انهى دراسته الثانوية حتى
يستطيع ان يوفر نفقات دراسته المكلفة فى كلية
هندسة واختار قسم هندسة بترول حتى يسهل له
السفر ليحقق حلمها فمع تقديره المرتفع كانت
الإختيارات متاحة امامه،ولم ينتظر السفر بل بحث
عن عمل بتخصصه لأكثر من ثلاثة أعوام،عمل خلالها كل شيئ استطاع إيجاده حتى تسلم وظيفته أخيراً،
فوزارة البترول كانت غافلة عنه لأنه إبن الموظف
البسيط المعدم فى حين تم تعيين مهندسين آخريين بسنوات لاحقة لعام تخرجه..وما زاد سعادته أن بنفس العام الذى تم تعيينه به،رغبت مليكة فى الإلتحاق
بالجامعة ولم تكتفى بالتعليم التجارى كشقيقته،وبالتأكيد كان ذلك سيمنحه وقتاً ليساعد والده بتزويج شقيقته ومن بعدها يبدأ بالإستعداد لتلبية رغبات
فتاته ولكن مرض والدته حطم كل أحلامه كما حطم كيان عائلتهم.
"لم تعد مليكة التى تعرفها يا زين،الدموع اصبحت لا
تفارق عينيها،لم تعد تغادر المنزل سوى للعمل و
تعود بعدها مسرعة للمنزل،بالرغم أن خالتى لا
تتحدث إليها منذ وفاة العم إبراهيم وتتجنبها تماماً،إنها لم تستطع ان تغفر لها وربما هذا ما يضاعف
عذابها،فهى تعرف أيضا أن خالتى تتمنى لو تأتى
لتقيم معنا ويمكنها حينها ان يصاحبها خالد
بالعمرة اوالحج التى تتمناهما"
"لكن هذا ظلم لها بالفعل،خالتى إمرأة مؤمنة كيف
تلقى على إبنتها ذنباً لا يد لها به،فحتى لو كان العم إبراهيم اصيب بنوبة قلبية بعد إنصراف المأذون إلا
إن هذا قضاء الله،لما لم تخبرينى بكل هذا من قبل؟!"
لم يكن يتخيل إنها تعانى،لقد اعتقد أنها تعمل و
تعيش وربما لم تتزوج لأنها تنتظر من يحقق احلامها بالثراء.
"وماذا كنت ستفعل؟ليس بيدنا شيئ،فحتى خالد
يتحدث إليها بكلمات موجزة قليلة بالرغم من
محاولاتى معه،ولكن...أتعلم!!لا اعتقد أن خالد يلقى
عليها ذنب موت العم إبراهيم ولكنه لا يستطيع أن
يغفر لها ما ورطت نفسها به،وما جلبته على نفسها من فضيحة لازالت تتحمل تبعتها حتى الآن بينما فر
النذل وسافر"
توقفت عن اندفاعها بالكلام فهى لم تكن ترغب فى ذكر ذلك الرجل امام شقيقها الآن..
"على الأقل كان يمكننى ان اتحدث مع خالد من
أجلها..إنها..إننى...أعنى اننا نشأنا معاً واهتم بها
مثلك تماماً"
تلعثمت الكلمات بلسانه فهل يكذب على نفسه ام
على شقيقته!!انها لم تكن ابداً كشقيقته..هى كانت الحبيبة وحلم المراهقة والنضج،لم يستطع ان
يكرهها حتى حينما سمعها تصرخ بشقيقها ألا يتمم زواجه من إبنة سجين،لم يستطع أن يكرهها حتى
عندما رآها امام الجامعة تستقل سيارة فارهة
يقودها ذلك الشاب..ابداً لم يستطع أن يكرهها،ربما هو أحمق وغبي...ضعيف تسيطر نبضات قلبه على
ماكينة عقله،لكنه لم يستطع أن يكرهها.
"زين!!زين!!ماذا بك؟هذه المرة الثانية التى تشرد بها
بينما احدثك"
"لا شيئ..لا شيئ سلمى،سأغلق الآن"
"حسناً،هل انتظرك يوم الجمعة لنتناول الغداء
سوياً؟"
"نعم..سأحضر،إلى اللقاء"
أغلق الهاتف بسرعة حتى لا تشعر شقيقته بالغصة
التى تتغالظ بحلقه،هل تغيرت مليكة حقاً؟هل هى
تتألم؟اغمض عينيه لتطالعه ذكرى وخيالات لأسوأ
أيام مرت عليه بحياته.. فموت والدته والقبض على
والده دمره وجعله يائساً بائساً ولولا العم إبراهيم
ومساندته له لم يكن يعلم كيف سيتخطى تلك
الأزمات وحده خاصة بعد أن أصر والده وجعله يعده أن يتمم زواج شقيقته.
"استمع لى يا ولدى،إننى ما عدت أهتم لما سوف
يحدث لى،فروحى غابت مع فقدان والدتك وكل ما
أهتم له الآن هو الإطمئنان على شقيقتك،لقد اتفقت مع عمك إبراهيم على أن يتمم زواج سلمى وخالد
فهو رجل شهم مثل والده لم يتخلى عنها...تمم زواج شقيقتك يا ولدى واجعلها تسافر مع زوجها،خالد
لديه عرض سفر جيد دعهم يبتعدون"
دفع شقيقته دفعاً لتسافر مع زوجها ليس وفقاً لرغبة والده فقط لكنه ايضاً اراد ذلك رغم اعتراضها
وبكاءها وإتهامها له بأنه يريد التخلص منها لكن
بعد الحكم الذى ناله والده بالسجن عشرة سنوات
لم يكن هناك داع من بقائها،فيكفيها ما تعرضت له من غمز ولمز وهجمات الشرطة التى لا تنتهى على
المنزل بغرض التفتيش عن المال حتى وهى بمفردها بالمنزل..وقد كان أمله ضعيف فى قبول النقض ولم
يكن بقاءها سيفيده او يفيد والده بشيئ.
فرك ذقنه ثم فرك وجهه وزفر بقوة فالذكرى لا
تجلب له سوى الألم ورغم ذلك رغماً عنه لا يملك
سواها بين هذه الجدران الصماء،حسناً لما فجأة بدا
يتمرد على وحدته التى كان يقنع نفسه بها؟!!
يجب ان يتحدث مع خالد،واذا تطلب الأمر فليؤنبه
فلطالما كان الشقيق الأكبر له ويجب أن يحرص على ألا يظلم شقيقته حتى لو اخطأت فبالنهاية هى
نادمة كما أخبرته سلمى وهو يثق بحكمها..حسناً،
هل يثق بحكم شقيقته حقاً ام يريد ان يصدق ان
مليكة نادمة؟
التقط هاتفه وبداخله رغبة عارمة برؤيتها مرة اخرى ولو من خلال صورة،ففتح صفحة حسابها على الفيس بوك ولكن عينيه ضاقت بينما يمرر منشوراتها القليلة التى تتفاوت المدة بينهما لما يقارب عدة شهور..و
ليس من بينهما اية صور لها..لطالما تشاجر معها
شقيقها بسبب نشر صورها ولطالما وقف حائلاً امام نوبات غضب خالد محاولاً تهدئته ومحاولاً اقناعه بأن يمنحها فرصة لتنضج وتصبح اكثر وعياً وهذا عكس
طبيعته ولكن معها ومن أجلها،دائما كان مختلف...واصل بحثه لكنه لم يجد حتى صورها القديمة لقد
حذفتها جميعها وبقدر سعادته بقدر خيبة أمله لعدم رؤيتها...
"من أين لك بهذا الهاتف،إنه يبدو باهظ الثمن؟"
سألها زين بدهشة وألم لتخليها عن هديته فالتفتت متفاجأة من وجوده فوق سطح منزلهم.
"ما الذى آتى بك إلى هنا؟ثم ما شأنك انت بمصدر
الهاتف؟توقف عن مطاردتى والتجسس علىّ،وإلا
سأخبر والدى بأنك تزعجنى"اندفعت الكلمات من
شفتيها كطلقات رصاص اخترقت صدره فهو ابداً لم
يحاول إزعاجها ولم يتبعها حتى،لقد فوجئ بها فوق سطح المنزل تهمس بالهاتف عندما صعد ليرى ان
كان هناك خللاً فى مستقبل إشارة التلفاز كما طلبت منه والدتها.
"إننى لم الحق بك إلى هنا،ولازلت لم احصل على
إجابة عن سؤالى،من أين لك بهذا الهاتف؟"
"إنه هاتف صديقتى ولقد نسيته معى وكنت احاول
الإتصال على هاتف منزلها لأخبرها انه معى ولم
تفقده،هل تشعر بالإرتياح الآن؟"
انسابت كذبتها من بين شفتيها بسلاسة جعلته
يصدقها بتلك اللحظة حتى انه أخفض رأسه و اقترب منها محاولاً ان يعتذر لها ولكنها القت نحوه نظرة
غاضبة واندفعت نحو الدرج تركض هابطة.
أغمض عينيه عن تلك الذكرى وكأنه يقصيها بعيداً
ثم اغلق هاتفه مجبرا نفسه على فعل ذلك قبل ان
يتهور ويتحدث إليها فهو لديه كرامة وكبرياء ولن
يهدرهما ثانية بملاحقتها.
****************
عدة أيام توالت والفكرة تزداد رسوخا بعقل سلمى و
ترى فيها حلاً لجميع مشكلاتهم..فكلما تحدثت مع مليكة تأكدت أكثر من موافقتها على الزواج من زين،حسناً لقد تمنت لشقيقها فتاة تحبه لا فتاة تجده
وسيلة للهرب من كل مشكلاتها..لكن بعد ان اعادت التفكير لمرات ومرات اصبح بداخلها يقين ان كلاهما بحاجة للآخر،كلاهما مداواة للآخر،وكلاهما سيطبب
جراح الآخر،انه تثق فى حنان شقيقها واحتواءه
فلطالما كان السند والعون لها واصبحت الآن واثقة من ان مليكة لم تعد هى نفسها تلك الفتاة التى
تركض خلف حلم الثراء والمظاهر المترفة.
"بما أنتِ شاردة؟"تمتم خالد بينما يستند رأسه ال راحة يده التى يرتكز بمرفقها فوق الوسادة وهو يرقد الى جوارها بالفراش.
"اريد أن أتحدث إليك بأمر ما"تمتمت بينما تستدير
لتواجهه.
فضاقت عينيه منتظرا حتى تبوح بما لديها وعندما
لمح ترددها رفع يده ليربت على وجنتها بحنان
مهمهاً:"هيا حبيبتى،هذا الأمر يجعلك شاردة منذ
أيام،ولا تنسي ابداً أننى اعرفك جيدا كما اعرف
خطوط راحة يدى"
"حقاً؟يمكنك توقع ما أفكر به؟"
"ليس هذه المرة،فأنا اعرف ان هناك ما يشغل عقلك ولكن لا اعرف ما هو"
"ماذا سيكون رأيك إذا طلب زين منك الزواج من
مليكة؟"
"ماذا؟!!"قال بدهشة ثم اضاف:"هل زين من طلب منك ان تتحدثى معى بهذا الشأن؟"
لم تكن دهشته سوى لأنه شعر بأن زين نسي أمر
شقيقته بالكامل،فهى قد أهانته وجرحت كبرياؤه
عندما سمعها وهى ترفض زواجه هو وسلمى و
اهانته أكثر عندما لم تحضر الحفل الصغير الذى
أقامه والده له هو وسلمى قبل سفرهما.
"زين لم يتحدث معى،انت تعرفه جيداً لقد اصبح
شحيح الكلام ولكن..."
"اذا كان زين لم يلمح لكِ او يطلب منك ان تتحدثى
معى،فلما تسأليننى؟"قاطعها قائلاً
"استمع لى خالد،مليكة بحاجة لرجل قوى يحتويها
ويحتوى حزنها وتستمد منه قوتها لتستطيع ان
تتخلص من مشاعر الذنب التى تتحكم بها وهى
بإستسلام ترضخ لها،وزين بحاجة لمليكة حتى تقتحم وحدته وتملئ دنياه الجافة...ثم إنك تعرف ان رغبة
والدينا كانت ان يتزوج زين و مليكة"
هز خالد رأسه محاولاً نفض قشرة القناعة التى تحاول زوجته بنائها وتقويتها بعقله ثم قال:"توقفى سلمى عن إفتراض اشياء ليست حقيقية،إذا كان زين يريد
ذلك فسيطلبه منى،إنه أخى مثلما هو شقيقك،ثم
إنه....."
"إننى أثق بأن زين لا يمنعه من طلب الزواج من مليكة سوى كبرياؤه،فهو يخشى رفضها لأن كليكما
بالإضافة الى خالتى لا تريدون ان تروا كم تغيرت..لا
تريدون ان تجعلوا قلوبكم تشعر بإنهزامها وحاجتها للدعم والمساندة،لا تريدون أن تروا كم تغيرت و
اصبحت مليكة أخرى جديدة وبالرغم من سعادتى
بذلك بالرغم من حزنى عليها،فقد ذبلت الوردة
الجميلة التى كانت محط أنظار الجميع،حسناً هى
مخطئة ولكن يكفى جلداً لها فيكفيها ما تعانيه
من نظرات و همز ولمز من حولها،يكفيها غضب
خالتى لعامين كامليين لا تتحدث إليها وتتجنبها
وكأنها لا تقيم معها بنفس المنزل"
"هل انت حقاً من تدافعين عنها هذا الدفاع
المستميت؟وتتحدثين عن زواجها من شقيقك؟"
"ما كنت أتمناها لزين لو لم أكن متأكدة أنها جديرة
به كما هو جدير بها...إنها محاولة خالد..محاولة قد
تجمع شملنا وتعيد الإبتسامة إلى وجه خالتى
ومليكة وتخرج زين من صومعة وحدته وكآبته"
مرر يده بخصلات شعره بينما يفكر،إنه أمل تاقت إليه
نفسه أن تكون والدته بالقرب منه و...مليكة ايضاً،
فبعد موت والده لم يعد لهما سواه وهو حائر ما بين رغبته فى تأمين منزل بعيد لزوجته وولده حتى لا
يتعرضا لما يزعجهما من ثرثرة أهل الحارة عن والد
زوجته وبنفس الوقت حتى تبتعد مليكة عن الحارة
بعد ليلة عقد قرآنها المنكوبة التى لم يحضر بها
ذلك النذل وما بين ان يتواجد معهما وبالقرب منهما ليرعاهما مع إحتمالية كبيرة بعدم وجود عمل بدخل جيد كالذى يجنيه بغربته...لم يكن عقده مع الشركة
يتيح له سوى إحضار زوجته ووالدته بالإضافة الى ان تلك المدينة الصحراوية مقارنة بالقاهرة كانت ستعد سجناً كبيراً لفتاة لا تعمل وليست متزوجة ايضاً.
"ماذا؟هل اقتنعت؟"سألته سلمى تحثه على التحدث
معها والجهر بأفكاره الصامتة التى تدور بعقله..
حسناً انها تعرفه جيداً..تعرف تلك النظرة الشاردة
حينما يتعمق بالتفكير،تعرف انعقاد حاجبيه حينما
يكون لديه شك بنجاح الأمر..تعرف حتى طريقته بزم شفتيه وهو يحاول الإفصاح عن ما يدوربعقله.
"بماذا اقتنع؟لا زين طلب،ولا مليكة وافقت،فما الذى يمكننا ان نفعله نحن؟"
"انا سأتحدث إلى زين...وانتظر،بالطبع لن اعرض عليه
مليكة سأجعله هو من يطلب،اعرف الطريقة التى
اصل بها إلى شقيقي،وانت عليك الحصول على
موافقة مليكة حتى لا تشعر بالحرج منى"
"ممممم تعرفين الطريقة للوصول إلى شقيقك..
وتعرفين الطريقة التى تصلين بها إلى ما تريدين مع
زوجك،هيا إخبرينى ما هو سرك إذن؟"
قال مبتسماً ومداعباً لتلك الجميلة الخمرية التى
سرقت قلبه منذ كان مراهقاً وجعلته لا يري سواها ولا يتنفس إلا عشقها،اختذلت كل النساء فى نظرة
عينيها البنية كاللون القهوة التى كانت تحتسيها
والدته ووالدتها كل يوم عصراً..اختذلت كل النساء
فى دلالها الفطرى الذى اشعل كل رغبة ذكورية
فى تملكه حتى يكون دلالها هذا حصرياً له.
"ربما لم احظى بتعليم عالى مثلك ومثل زين ومليكة لكننى لدىّ قلب يهتم ويدفع عقلى للتفكير فى من
أحبهم"
"كم مرة أخبرتك ان تتوقفى عن تلك السخافات،لم
يعد التعليم ببلادنا العربية مقياس لثقافة الإنسان،
فكم من خريجيين جامعات أقرب من الجهل منهم
الى العلم..وانت تقضين وقت فراغك بالقراءة التى
منحتك ثقافة أكثر ربما منى فمنذ وقت طويل
انشغلت بالعمل والقراءة عن مستجداته وما يتعلق
به فقط وتوقفت عن القراءة فى اى شيئ آخر،اصبح
لديك كم معلومات وقراءات يجعلنى اشعر بالتقصير"
"دعك من قراءاتى واخبرنى هل ستتحدث الى مليكة؟"
"حسناً،إذا طلب زين منى الزواج منها بالطبع سأتحدث معها بهذا الشأن"
"وهذا كل ما اريده"همست بشرود وهى تخطط لبدء
الحرب على جدار الوحدة والقوقعة التى عزل
شقيقها نفسه بها..
"هذا كل ما تريديه فقط!!؟"قال بينما ينحنى لينثر
قبلات خفيفة ناعمة على كتفها العارى ثم تصاعدت قبلاته الى وجنتها والتفت ذراعه حول خصرها تعانق جسدها،لتنتشى اذنيه بضحكاتها الناعمة وينتشى
قلبه بهمسها بعشقه.
باليوم التالى كانت عينيها لا تتوقف عن إلقاء نظرة
نحو ساعة الجدار ترغب فى مرور الوقت بسرعة حتى
تتحدث مع مليكة عندما تعود من عملها..نعم لقد
أحالت أمر الحديث مع مليكة الى خالد ولكنها
بحاجة لمجرد أن تختبر رد فعلها حتى لا تمنح
شقيقها املاً ربما لن يتحقق،فهى اكثر الناس دراية
بعشق شقيقها لمليكة وهو واجه الكثير من
المصائب والخيبات وليس بحاجة للمزيد.
"كيف حالك اليوم مليكة؟"
"ألم تشعرى بالملل من تكرار هذا السؤال؟والإستماع لنفس الإجابة؟"
قالت مليكة بإبتسامة مريرة لصديقتها فهى ليست
لديها إجابة سوى انها أسوأ من ذى قبل خاصة بعد أن طلبت منها إحدى جارتهم العجائز أن تتحدث
معها قليلاً وبقليل من الأمل فى ان أحدهما قد نسي ابتسمت لها ووقفت تتبادل معها الحديث الذى لم يكن سوى عرض زواج من رجل تعدى الستين ولديه
اولاد اكبر من عمرها، وتوفت زوجته وربما يريد
ممرضة وخادمة برتبة زوجة.
"كل يوم جديد ينبض أمل جديد،عليك ان تثقى بتدابي الله حينما تعجزين"
القت مليكة بجسدها الى الفراش المعدنى الضيق
بينما السماعة التى تتصل بهاتفها مثبتة فى اذنيها وهى تستمع للأمل الذى تحاول صديقتها بثه بها.
"إننى لست ناقمة على ما يحدث لى سلمى فأنا
أستحقه،لكننى لا اريد ان تتعذب والدتى معى،فما
ذنبها؟وما ذنب خالد ان يُحرم من والدته،حتى انتِ
أحق بها منى..وهى أحق بأن تحيا بمكان تشعر به
بالراحة وهذا المكان لن يكون سوى معكما"
هى ليست ناقمة ابداً فبداخلها تَكَوّن يقين انها
تستحق...تستحق خداعه لها وتستحق الفضيحة التى ورطها بها...
اضواء ملونة وزينات تم تثبيتها على جدار منزلهما
الخارجى وامتدت الزينة إلى المنزل المقابل..منزل زين الذى وقف بنفسه يساعد العمال بتثبيت الزينة،
حينها لم تهتم حتى مع تلك النخزة بقلبها التى
آلمتها وجعلتها تحدق بوجهه الذى يكسوه الألم و
لكنها سرعان ما تخلصت منها وهى تحلم بالسيارة
الفارهة التى يملكها حاتم والفيلا التى تنتشر صوره
بها وتملئ صفحته بالفيس بوك وأسم والده الذى
بعد بحث دقيق وقبل أن تضع الإيقاع به نصب عينيها،
أدركت انه من أشهر أطباء جراحات القلب بالعالم..
تحلم أن يكون هذا يوماً لقب اطفالها وليس لقبهم ينسب إلى مختلس سجين…انطلقت الزغاريد من نساء وفتيات الحارة فالزغاريد بعادتهم واجب اجتماعى
وانهالت صناديق المشروبات الغازية على منزلهم
كنوع من الهدايا التى يهبونها فى تلك المناسبات وهمهمات بضعة نساء مع والدتها بالمطبخ يعدون
الطعام حتى يتناول عائلة العريس العشاء بعد
الإنتهاء من عقد القرآن..لن تنسي ابداً ملامح والدتها بتلك الليلة مزيج من الحزن والسعادة كانت سعيدة
كأى والدة بزواج إبنتها ولكن رغماً عنها الحزن
يسكن قلبها فلم تكن هذه هى الطريقة التى تريد
بها لإبنتها ان تتزوج انهم لم يمهلوا حتى شقيقها فرصة ليعود من سفره ويكون بجوار والده،ولم
ينتظروا مرور وقت كاف بعد وفاة جارهم الذى كان
بمثابة أخ لوالدها.. أو ربما شعرت والدتها بإنتهاء
تلك الليلة بالطريقة الكارثية التى انتهت بها.
لم تبالى فى حينها ولم تهتم فحاتم وعدها بزفاف
كبير عندما تظهر نتيجة عامهم الأخير بالجامعة
وبالطبع سيعلم شقيقها قبل الموعد بوقت كافى
ليتمكن من العودة،وسيعلم والدها ووالدتها أنها
كانت على صواب حينما لا يتحملون أعباء تجهيزها
فحاتم بالطبع لا يحتاج للقليل الذى سيوفروه من
اجل ابنتهم.
"يوماً ما ستغفر لك والدتك مليكة..ويوما ما ستجدى رجلاً حنونا قلبه يحمل حباً كبيراً لكِ ربما ليس ثرياً
كما كنتِ تحلمين من قبل ولكنكما سوياً ستجدا
الطريق لسعادتكما الخاصة"قاطع أفكارها صوت
سلمى الحانى.
"تفاؤلك لا مثيل له يا صديقتى،هل تريدين ان اقص
عليكِ حكاية عريس عرضته زميلة لى بالعمل؟"
ببعض الإضطراب والحزن تحدثت سلمى:"بالطبع لعله خيراً ان شاء الله"
خيبة أملها فى تطبيب جراح شقيقها تبخرت على
الفور ولكن هذا افضل من خيبة آماله مرة أخرى إذا
تحدثت إليه ثم فوجئت بوجود عريس محتمل..
"عرضت صديقتى بالعمل علىّ الأمر منذ شهر تقريباً
واخبرتنى انه رجل بالخامسة والثلاثين من العمر لديه شقة بحى متوسط ويعمل بالموارد البشرية بأحد
الشركات وجعلتنى أرى صورة له فأخبرتها
بموافقتى المبدأية وأننى سأتحدث مع شقيقي وهى طلبت عنوانى بالتفصيل ومنحته لها...عندما سأل
العريس المبجل عن عائلتى بالحارة وعلم بأمر فرار
العريس السابق وعدم حضوره بعقد القرآن طلب من صديقتى ان قبل اى لقاء بيننا او حديث يجب ان
اذهب معه لطبيبة ليتأكد من عذريتى،هل ترين الآن سبباً لأتفاءل!!"
وضعت يدها على فمها تكتم شهقتها وانهمرت
الدموع من عينيها من أجل ما تعانيه صديقتها
فالمجتمع يمكنه ان يكون قاسياً بضراوة على المرأة حينما تخطئ..لا يمكن ان يشفع لها أى شيئ بينما
هناك ألف عذر ومبرر ليشفع للرجل..لم يعد لديها ذرة تردد واحدة فى أن تدك قوقعة شقيقها وتشعل ثورة
بحياته فهو الرجل الوحيد القادر على احتواء مليكة.
"حقير!!حقير!!"هتفت سلمى
"إنه ليس حقير،إنه فقط رجل"تمتمت مليكة بإنهزام ومرارة كالعلقم فعرض اليوم الذى تلقته من جارتهم كان اكثر رحمة من هذا ولتؤكد لسلمى وجهة نظرها بأنه فقط تفكير رجل بدأت تقص عليها أخبار العريس العجوز ايضاً.
"عم عبد الرحيم!!ياله من متصابي!!"شهقت سلمى
بصدمة.
"إنه رجل،ينتهز فقط الفرصة المتاحة أمامه"
"لا،هناك رجال يتسمون بالأصالة و الأخلاق،لا تنسي
ابداً ان لازال هناك رجال كخالد شقيقك فهو لم
يتخلى عنى بالرغم كل ما حدث"
"ما حدث من والدك وإختلاسه لخزينة المحكمة ما
كان سيحدث ابدا لو وجد مكان متاح لعلاج والدتك
رحمها الله،لو كان وجد تأمين صحى جيد،ما كانت
الحاجة واليأس دفعه لذلك..خالد يعرف ذلك جيدا
وانا ايضاً كنت اعرفه حينما وقفت بغرور وانانية
اطلب منه التخلى عنك"
"يا الله مليكة!!ألن ترحمى نفسك!!"
"دعك منى ومن حياتى البائسة واخبرينى عن مهد هل بدأ يسير؟منذ عدة ايام لم ترسلى لى صور له"
"يسير قليلاً بضعة خطوات ويتعثر ولكنه عنيد كخاله
يعاود الوقوف والمحاولة مرة أخرى،لقد التقطت
مزيد من الصور له سأرسلها إليك..انتظرى"
بمكر ابتسمت لنفسها وهى تختار صورة التقطتها
لزين بينما يحمل مهد الجمعة الماضية حينما حضر
لزيارتهم ثم اضافت صورة اخرى لمهد مع خالد و
عديد من الصور لطفلها وبدأت بإرسالهم عبر الواتس آب..
توالى الرنين ليعلن عن وصول الصور ففتحتها مليكة بلهفة ولكن عينيها تجمدت للحظات محدقة
بالصورة وشعرت برجفة شفتيها وتغلظ الغصة التى
اعتادتها بحلقها،لقد تناقص وزن زين كثيراً لازال
نفسه بملامحه الخشنة الصارمة وتلك الندبة بجبهته التى نتجت عن شجار مع أحد شباب الحارة حينما
تهكم على والده والتى زادت من قسوة ملامحه و
لكن عينيه تمتلئ بالحزن رغم الإبتسامة الشاحبة
التى تزين شفتيه من تأثير مداعبة مهد للحيته
الخفيفة...مررت الصورة بسرعة لتقابلها صورة
شقيقها مع ولده وصور أخرى لمهد بين خاله
ووالده..ابتسمت وهى ترفع يدها لتجفف دموعها
محاولة
تخيل اجتماعهم العائلى وكيف يمكن أن يكون أكثر سعادة إذا كانت والدتها معهم.
"يا الله كم أتمنى رؤيته وعناقه،ليت خالد يستطيع
الحصول على أكثر من شهر عطلة هذا العام"
"دعى أمرك لله حبيبتى..أشعر أن القدر سيرأف بنا
قريباً"همهمت سلمى وقد ملئ الأمل قلبها.
وحينما انهت اتصالها مع صديقتها،اتصلت بشقيقها على الفور:"اريدك أن تحضر الآن زين"
"ماذا هناك؟هل انت مريضة؟هل مهد مريض؟أين
خالد؟"توالت اسئلته بلهفة وقلق.
"توقف زين!!انا بخير ومهد ايضاً،وخالد بالعمل"اجابته بهدوء
"لما إذن تريدين ان اترك عملى وأحضر؟"
"اريدك بأمر هام ولا يمكننى التحدث به فى حضور
خالد،من فضلك زين يمكنك الحصول على إذن طارئ،هيا إننى أنتظرك"
اغلقت الهاتف بدون أن تمنحه فرصة للإجابة أو
الإعتراض وبالفعل حدث ما أرادته وخلال ساعة كان
يدق جرس الباب...بإبتسامة واسعة استقبلته
مرحبة:"مرحبا زين،افتقدتك"
"لا تخبرينى أنك جعلتينى أترك عملى لأنكِ
افتقدتينى!!هل تشاجرتِ مع خالد؟"
"بالطبع لا،ولكن ماذا لو استدعيتك بالفعل لأننى
أفتقدك؟ عامين كاملين لم تحصل على إذن طارئ،
او عطلة"
ضاقت عينيه محدقاً بها بضيق،فربتت على كتفه
قائلة:"ولكن لا ليس هذا هو السبب..إننى أريدك بأمر ما حقاً،ولكن اجلس اولاً ودعنى اعد لك القهوة"
"حسناً،يمكن إختصار الوقت و اجلس معك بالمطبخ
لتخبرينى بينما تعدين القهوة"
تبعها للمطبخ الصغير حاملاً مقعد خشبي ثم وضعه وجلس ينتظر ما سيأتى به حديثها...
"لدىّ عروس لك"
"يا الله سلمى!!لو كنت اعلم أنكِ تريدينى لهذا الأمر
ما كنت آتيت"قال منتفضاً على قدميه من فوق
المقعد.
"ألا تريد حتى أن تعرف من هى العروس المقترحة؟"
اجابت بهدوء وتركيز على القهوة التى تعدها.
"لا أريد..لأن ليس هناك فارق،توقفى عن البحث لى عن زوجة،لأننى لا ارغب فى مشاركة حياتى...."
"انها مليكة"قاطعته بينما ترفع عينيها بتركيز تريد
التقاط كل رد فعل.
اتسعت عينيه للحظة..فقط للحظة وفتح فمه
ليتحدث ثم اغلقه مرة أخرى وكأنه يبحث عن ما
يقوله ولكنه استعاد اتزانه واندفع قائلاً:
"مليكة!!تعنين..مليكة!!التى رفضت زواجك من
شقيقها، ستوافق على أن يحمل اطفالها لقب
والدى!!مليكة التى تتطلع للزواج من رجل يُحلق بها
إلى حيث ساكنى الفيلل والقصور ستقبل بالإقامة
بالصحراء!!انسي الأمر بالكامل لأننى لا أريد مناقشته مرة اخرى"
"هل انتهيت؟"قالت شقيقته عاقدة ذراعيها امام
صدرها بعد ان انتهت من سكب القهوة بالقدح.
"إذا كنت انتهيت،فيمكننى ان أخبرك أننى الآن لا
اريدك ان تتزوجها،أتدرى لماذا يا شقيقي؟لأننى
خُدعت فيك..أنت لن تكون الرجل الذى يحتوى ألم
مليكة وحزنها،ولن تكون القلب الذى يغفر ويسامح،تلقى باللوم عليها لأنها لم تكن رحيمة بى ،وأنت؟
هل أنت رحيم بها الآن؟بعد أن أخبرتك كم تغيرت
وكم اصبحت مهزومة يائسة؟"
فرك وجهه بكلتا يديه ثم ارتفعتا ليمررهما فوق
خصلات شعره القصيرة للغاية قبل أن يقول:"توقفى سلمى...توقفى!مليكة لم تحبنى يوماً،لم تكن
تنتظرنى ابداً مثلما كنتِ تنتظرين خالد..إننى لم أكن
لها سوى واحد من صفوف المعجبين من شباب
الحارة ورجالها ثم أصبحت طموحاتها تتعدى حدود مقدرة هؤلاء المعجبين وانتقلت إلى الجامعة لتنتقى شاباً ثرياً يحقق لها احلامها وبدأت تنظر للحارة
واهلها بنفور واشمئزاز"
"حسناً هذا كله صحيح،لكن تلك الفتاة لم يعد لها
وجود لأنها تعلمت درسها بأقسى الطرق،مليكة لم
تكن فتاة سيئة،لقد كانت فقط تطمع بحياة مرفهة
ويراودها حلم الثراء،لكن من منا لا يتمنى ذلك؟حسناً ربما سلكت طريق خاطئ لتحقيق ذلك،ولكنها تؤنب نفسها وتجلدها وهى بحاجة لرجل..رجل يمكنه أن
يغفر ولكن يبدو أنك لست هذا الرجل"
هز رأسه بيأس..لا يعرف إن كان يائساً من قلبه الذى
نبض بقوة لمجرد تكرار اسمها على لسان شقيقته،ام يائساً من عقله الذى يقاتله ألا يستسلم مرة أخرى
ويركض خلف آمال واهية؟!!
استدار بدون أن يمس قهوته ثم غادر بينما احنت
سلمى رأسها الى جانبها تتبعه بنظراتها وابتسامة
تزين شفتيها،لهذا أ ارادت شقيقها بمفرده بعيدا عن خالد حتى يفرغ غضب السنوات الماضية معها وحدها ثم تتركه ليفكر وهى متأكدة انه سيعاود الإتصال
بها...
غادر منزل شقيقته ليتخلص من ضغطها عليه
فيكفيه صراع قلبه وعقله وهو ليس بحاجة مطلقاً أن ترجح شقيقته ميزان قلبه...ما أن استقل سيارته حتى
تدفقت ذكرى رؤيته لها مع شاب أنيق بسيارة فارهة،حينها تمنى لو لم يقترح على والدها ان يمروا
بالجامعة ليصطحبوها للمنزل فعلى الأقل كان
سيظل واهماً بدلاً من مواجهة الواقع فى اسوأ أيام حياته..
"تحلى بالأمل يا ولدى ودعنا نأمل ان يكون الحكم
مخفف على والدك"قال إبراهيم
فالتفت زين بلمحة سريعة نحو الرجل الخمسينى
أشيب الشعر والذى ترك الزمن آثاراً غائرة على
ملامحه ليبدو أكبر من عمره...لا يعرف كيف كان
يمكنه ان يتحمل كل ما مر به بدون مساندة ودعم
هذا الرجل،وفاة والدته فى اثناء اجراء العملية
والقبض على والده بدون ان يتمكن من دفنها
والوقوف بعزائها...عالمه تحطم فجأة فقد والدته
واصبح والده مجرماً،سارق...حاكموه بدون ان يحاكموا انفسهم ويسألوا ما الذى دفع رجل مثله عمل بذات
الوظيفة لأكثر من خمسة وعشرين عاما أن يختلس
فجأة!!لم يهتموا لتوسلاته ان يدفن زوجته..لم
يهتموا سوى بأن يقبضوا عليه وكأن كل ثروات البلاد المنهوبة تم اعادتها ولم يبقى سوى ما دفعه والده للمشفى.
"اتمنى ذلك يا عماه،لكن صحة والدى فى تدهور ولا
أعرف هل سيستطيع أن يتحمل"
"لنا الله يا ولدى..لنا الله"تمتم ابراهيم والدموع
تترقرق بعينيه من أجل صديق عمره بالسكن والعمل.
"اريد أن أؤجل قليلا زفاف سلمى وخالد،لكنه يأبى
ويريدها أن تتركه بهذه الحالة وتسافر مع خالد"
"والدك يريد أن يطمئن على إبنته يا ولدى،عندما
ستصبح أباً يوماً ما ستدرك مشاعره وتفهمها"
اومئ زين بإستسلام فهو ايضاً يريد ان يطمئن ان
شقيقته فى كنف رجل يُعتمد عليه مثل خالد...
"نحن قريبون من الجامعة،هل نمر على مليكة
لنصطحبها معنا ونرحمها اليوم من ازدحام
المواصلات؟"
اومئ الرجل بإبتسامة مريرة وهو يتمتم:"حسناً يا
ولدى،لكننى لا اريد أن ارهقك"
كان يري اللهفة بعين زين والخزى...وهو لا يستطيع ان يمحو عنه ذلك القلق ويؤكد له ان مليكة ستكون
له،فقد ابدت ابنته اعتراضها اكثر من مرة واخبرته
أنها لا ترى زين سوى اخاً لها.
توقفت السيارة بجانب سور الجامعة والتقط ابراهيم هاتفه المحمول الصغير المتواضع ليخبر ابنته انهما
بإتتظارها بالخارج ..دقات طويلة ولا اجابة،حاول
بعدها الإتصال مرة أخرى ولكن عينيه التقطت ابنته بسيارة فارهة متوقفة على الجانب الآخر من الطريق
وهى تضحك عالياً والشاب بجوارها يرفع يدها
ليقبلها..الصدمة جعلته يحدق بعدم تصديق،اراد حقاً ألا يصدق انها إبنته ولكنها كانت هى بلا أدنى شك...ملامح وجهه المحتدمة بالغضب والصدمة جعلت زين يتجه بعينيه حيث ينظر ليري هو ايضاً ما رآه والدها...ارتفعت يد الشاب لتداعب وجنتها فابتعدت عن اتجاه يده بدلال.
غادر إبراهيم السيارة مندفعاً ومن خلفه زين متجهماً والنيران تندفع بشرايينه من الغضب الغاشم الذى
امتزج بمرارة الحزن على كل غالى فقده بحياته
لينتهى الأمر بفقدها هى ايضاً..حاول إبراهيم فتح
الباب ولكنه موصداً ومن إنعكاس ظله على زجاج
النافذة بجوارها التفت نحوه وارتسم الخوف على
وجهها على الفور بينما كانت يد زين تطرق بقوة
غاشمة على زجاج النافذة المجاورة للشاب الذى فتح الباب بوجه غاضب وبعجرفة.
"ماذا هناك؟ارفع يدك عن سيارتى وإلا سأستدعى
الشرطة لكليكما"
"انه والدى.."هتفت مليكة من داخل السيارة بينما
تفتح الباب من جانبها وهى تحدق بهلع بوجهه
الذى امتزجت به مشاعر الغضب والإنكسار بطريقة
لم تراها ابدا من قبل..ورغماً عنها انتفضت مع ضربة
قوية من يد زين على السيارة.
"والدى..من فضلك دعنا نتحدث بالمنزل...من فضلك لا اريد أن يلتف الناس والطلبة من حولنا..اخبر زين ان يتوقف عما يفعله،لا اريد إثارة فضيحة بينما الأمر
اقسم انه لا يستحق"
بكلمات متعثرة و جسد يرتجف وقفت امام والدها
تحاول إنهاء الأمر وامتدت يدها لتضعها على ذراعه
بتوسل ولكنه نفضها وأغمض عينه بقوة قبل أن
يهتف:"زين!!هيا لنذهب من هنا"
وكأن كلمات إبراهيم لم تصل إلى أذنيه فقد تشبثت
يده بحافة قميص ذلك الشاب الأنيق مثل سيارته
وهوت قبضته على فكه لتسيل الدماء من فم الشاب وانفه وهو يضرب جانب السيارة بركلات من قدمه
سببت إعوجاج بالباب الخلفى...اندفع إبراهيم يجذب زين بعيداً عن الشاب بيد بينما يلكز ابنته لتسير أمامه بيده الأخرى مسرعاً بخطواته نحو سيارة زين العتيقة فقد بدأت الحشود تلتف لترى ما يحدث بفضول.
انطلق نافير السيارات من خلفه فأعاده الى الواقع،
فرفع عينيه نحو إشارة المرور وأدرك لما اطلقت
السيارات النفير فواصل قيادة سيارته ولكن فجأة
ضربه هاجس ما فالتفت حوله بالسيارة بنظرة
خاطفة...إنها سيارة فاخرة إذا قارنها بسيارته العتيقة الفيات الصغيرة من طراز السبعينات التى كان
يمتلكها بالماضى قبل ان يسافر،هل ستروق لها؟
"أحمق،احمق،تتساءل وكأنها ستراها!!ام أنك وافقت بلا وعى على ما عرضته عليك سلمى؟"
زفر بعمق وقد تنازعته الأفكار،هل ستوافق على
الزواج منه؟انه يعرف شقيقته جيداً ما كانت ستخبره إلا إذا كان لديها نسبة كبيرة من اليقين أنها
ستوافق!!هل عليه هو أن يوافق؟إنه يعلم أنها ابداً
لم تحبه لقد عشقها هو وحده بصمت ويقين أنها له،لقد صدق وآمن بما بثه والديه ووالديها بعقله..مليكة لزين..مليكة..مليكة التى امتلكت القلب وفرضت
سطوتها عليه ووقفت ترقص على حطامه بلا مبالاة.
****************
كلما غالبها الحنين لشقيق بالغربة وصديقة طفولة على مسافة اميال،تطلعت إلى الصور بهاتفها فربما تؤنسها...إبتسامة حزينة مرتجفة هربت من قلبها
لتستقر على شفتيها وهى تتطلع إلى صورة
إبن شقيقها الصغير،تعرف أن والدتها ستسعد كثيرا بصحبته واللهو معه ولكن ماذا بيدها أن تفعل!!
اتجهت الى النافذة تفتحها..الغرفة بحاجة لتجديد
الهواء فهى لا تفتح النافذة إلا كل بضعة أيام فليس لديها رغبة فى لقاء إحدى الجارات عبر النافذة،لا تريد أن ترى أحدهما تلتفت وتدعى انها لا تراها أو أن
تغادر أخرى نافذتها ما أن تراها..سالت دمعة من
عينيها وهى تتذكر كل إشاعة تناقلاتها الألسن،لقد
رأت ما ادانوها به فى اعينهم قبل أن تسمعه.
"الرجل لا يتزوج من نال منها...خدعها ونال منها ثم
تركها..فرطت فى شرفها من اجل المال...."
هزت رأسها بقوة تحاول ان تخرج ثرثرتهم من عقلها،كم مرة أرادت أن تصرخ وتقسم انه ما نال منها شيئاً...لا،كاذبة لقد نال من عذرية يديها..نال من عذرية
وجنتيها بقبلات خاطفة سرقها..نال من عذرية
خصلات شعرها عندما كان يلمسه او يرفعه لشفتيه
ليقبله..انها تستحق..تستحق ان يتهموها فهى
كانت خبيثة ماكرة،مع كل هدية يغدقها عليها تلين
له قليلاً وتمنحه قليلاً ولكنها ابدا لم تمنحه الكثير
لأنها كانت تدرك جيداً أنها إن منحته الكثير
ستفقده...لم يكن هذا حباً..الآن تدرك هذا جيداً..فمنذ متى يخضع الحب لتلك الحيل القذرة!!
لم تحبه ولم يعشقها كما اوهمها..وعدها كما وعد غيرها بالزواج،أليس هذا ما أخبرها به محامى والده
عندما ذهبت إليه..اسبوع كامل تتجه إلى مكتبه كل
يوم لتسأل عن أية أخبار عنه؟!!اسبوع كامل بعد وفاة والدها وهى تطارد محامى والده وتنتظره امام باب
مكتبه،ارادت أن تؤكد لنفسها بمحاولة بائسة أنها على صواب،وأنه ربما طرأ أمر ما جعله يتأخر عن عقد
قرآنهما.
"توقفى عن المجيئ إلى المكتب..لقد وافقتى على
خداع والدك عندما اتفقتى معه على أن التقى
بوالدك وادعى أننى خاله وأنوب عن والده لأنه لديه
عمل بالخارج،انتِ خدعت والدك وهو خدعك..لست
اول فتاة يذهب الى عائلتها ببضعة قطع ذهبية بعدة آلاف من الجنيهات التى لا تعنى له شيئ،لقد خطب
من قبل أكثر من خمسة فتيات وتمتد الخطبة حتى
يشعر بالملل ولكن والدك دفعه لإنهاء الأمر معكما بسرعة عندما أصر على عقد قرآن..حاتم سافر ولن
يعود وإذا عاد انصحك ألا تتعرضى له لأننى حينها لن
أتحدث إليك كما اتحدث الآن بل سيكون لى طرق
أخرى..."
ببطئ وتمهل فتحت النافذة تريد ان تصبح خفية حتى لا يراها أحدهم...وبنظرة حنين لأيام مضت نظرت إلى شرفة شقة والد سلمى المواجهة لهم،التراب و
العنكبوت يملئ الشرفة ويزيد من قتامة مشهد
الشقة المهجورة التى شهدت على طفولتها
ومراهقتها بنفس القدر الذى شهده منزلها..حتى
بعد وفاة خالتها والدة سلمى وبعد القبض على
عمها توفيق وحتى بعد سفر سلمى لم يكن المشهد بتلك القتامة،فلقد حرص زين على نظافة المنزل كما اعتادت والدته..ولكن منذ سفره هو ايضاً للملكة
السعودية بعد وفاة والده بالسجن بعد عدة شهور
قضاها به وقد اصبحت الشقة مهجورة تماماً..زين،
هو ايضاً اسم يمكنها أن تضيفه لقائمة من
ظلمتهم..لم تحبه ابدا رغم انها كانت تلمح عشقه
لها بعينيه،وبحارة مثل حارتهم الضيقة التى لا يمكن أن تظهر على خرائط جوجل،كان زين مهندس البترول عريس مرتقب لا مثيل له بالنسبة لكل فتاة بالحارة
ولكنه ابدا لم يلتفت لسواها،ربما هذا جعلها تشعر أكثر بالغرور؟!!
لم تستطع رؤيته كفارس أحلامها مثلما نظرت سلمى لخالد،كان خشناً،صارماً وملامحه لم تكن بوسامة
فارس أحلامها الذى حلمت به بالإضافة إلى يده التى تسبق لسانه بمعالجة أى مشكلة والتى جعلت
الكثيرين بالحارة يخشونه..ورغم كل هذا قبلت منه
هديته بعد نجاحها بالثانوية العامة،تعرف انه ربما
أدخر لعدة اشهر ليبتاع لها هاتف حديث ولكنها لم
تبالى كل ما اهتمت به انها حصلت على هاتف
محمول ومن الطراز الحديث ايضاً ولكنه بالطبع فقد قيمته لديها حينما منحها حاتم هاتف أكثر فخامة
رأت إعلانه على التلفاز ورأت تقريبا كل فنانين احد
المسلسلات يستخدمونه.
"لقد أراد أن يتحدث معى والدى،حتى يحدد موعد
ليقابلك به،انه يريد ان يتقدم لخطبتى،لم اوافق
بالطبع على طلبه ان القاه بمكان خارج الجامعة
لنتحدث ولكننى لم أرى ضرراً من البقاء معه بالسيارة على الطريق حتى نتحدث واخبره عن عائلتى...خاصة
انه ابن اشهر طبيب بجراحات القلب ولدي والده
مشفى كبير ويجب أن يعرف وضعنا الإجتماعى،وهو
لم يهتم واصر على ان احدد موعد معك"
تذكرت مبرراتها لوالدها التى لم تمهل حتى نفسها فرصة لتصل للمنزل بل أخبرته بالسيارة الصغيرة التى كان يقودها زين،ارادت ان تخبره هو ايضاً ان يصمت
ويتراجع فلا مجال للمنافسة بين ابن الطبيب
المشهور وابن السجين المختلس،كانت كاذبة جيدة
للغاية تندفع الكذبة وراء الأخرى من بين شفتيها
بسهولة جعلت والدها يعتقد أنها المرة الأولى التى تلتقى به خارج الجامعة،ولكنها كانت تثق بحاتم
وتثق بحبه لها وانه سيوافق على مقابلة والدها... لم تتوقف أكاذيبها على ذلك بل كذبت كثيراً بمبررات
منطقية كانت تتفنن بإبداعها عندما تريد تمرير اي شيئ اهداه لها من ملابس او عطور.
عادت لتغلق النافذة بسرعة فالذكريات التى تسللت
لها مع هواء الحارة خنقتها وجثمت على صدرها
وجعلت تلك الغصة تتغالظ بحلقها حتى تركت
لدموعها العنان لتتخلص منها..تزايد بكاءها ليتحول لنحيب،حسناً هى تستحق كل ما يحدث لها ولكن
رغماً عنها تشفق على نفسها..كبريائها وكرامتها
اصبحا سلعة رخيصة تتطاولها الأيدى وتنتهكهما
بعروض وثرثرة مخزية..
استمعت على غير العادة لصوت والدتها يتحدث
بالهاتف بهمهمة تتباعد حتى سمعت صوت باب
غرفةووالدتها يغلق واختفى صوتها خلفه..ولحظات ودق هاتفها ايضاً فالتقطته لتجد اتصال عبر الواتس
آب من سلمى...
"مرحباً حبيبتى،كيف حال مهد وخالد؟"
"بخير حال،لقد خطى اليوم من المنضدة حتى الجدار
بمفرده والتقطت فيديو له سأرسله لكِ"
"جدته ستسعد به كثيراً"قالت مليكة بينما تحاول
ترطيب شفتيها ولكن لسانها جاف تماما و حلقها
اكثر جفافا ومرارة،انها تعرف ان القرار الذى اتخذته لا رجعة فيه فهو الحل المناسب لسعادة والدتها
وليستريح شقيقها.
"قريباً ان شاء الله سينعم بقربها،وستكون إلى
جانبه...."
"ماذا تعنين بقريباً!!"قاطعتها سلمى فهى متأكدة أن خالد ابدا لن يخبرها بشيئ قبل ان يطلبها زين منه
للزواج.
"سأتزوج"قالت بنبرة إنكسار وشعور بالخوف من
المجهول الذى ستلقى نفسها به.
"ستتزوجين!!كيف ذلك؟ومن هذا؟"هتفت سلمى
بدهشة فهى كانت تتحدث لها بالأمس ولم تخبرها عن اى عريس محتمل.
"سأتزوج من الحاج عبد الرحيم"تمتمت بكلمات
متعثرة وشعوربالغثيان ينتابها من مجرد التفكير
بالأمر ولكن عليها ان تتأقلم على الفكرة وتتقبلها لأنها الحياة التى اختارتها لنفسها.
"مَنْ!!هل اصابك الجنون مليكة؟؟هذا لن يحدث،على جثتى مليكة..اتسمعين!!على جثتى!!هل تدرين فارق
العمر بينكما انك بالكاد بالخامسة والعشرين وهو
تعدى الستين!!"
كانت تصرخ بجنون وغضب..غضب من شقيقة قلبها
التى تتعمد إهدار حياتها وغضب من شقيقها الذى يُحَرّم على قلبه السعادة بكبرياء رجل شرقى..
"توقفى عن الصراخ سلمى،من فضلك،هذا الحل
هو الأفضل لنا جميعاً،ثم أن..."
"لا..لا مليكة،لن يحدث لأن زين لازال يحبك..انتِ
تعلمين انه احبك دائماً"
صمتت كلاهما..إحداهما تفاجأت والأخرى شعرت
بأنها تسرعت وكانت مليكة اول من تحدث ونبرة
صوتها توحى بعدم التصديق:"يحبنى!!لازال يحبنى؟!
كيف يمكنه أن يفعل فى حين والدتى نفسها
تكرهنى،وشقيقى يكرهنى..كيف لازال يحبنى
سلمى!!"
"هذا ما حدث،ألم تسألى نفسك لما لم يتزوج حتى
الآن؟ثم من أخبرك يا حمقاء ان والدتك تكرهك،من
اخبرك ان خالد يكرهك!!"
صمتت سلمى قليلاً لتفكر وصمتت مليكة ايضاً بعقل شارد حائر تتساءل بصمت:"زين يحبنى!!كيف بعد كل
ما فعلته!!"
"لقد اتخذت قرارى سلمى،زين يستحق فتاة افضل
منى و..."
"اصمتى،فهذا لن يحدث،خالد لن يوافق ووالدتك
ايضاً..لا تحدثى تلك العجوز الغبية بموافقتك حتى لا
يزداد الأمر سوءاً،هل تفهمين؟على الأقل انتظرى
لتتحدثى مع شقيقك ولكن يجب ان تضعى برأسك
شيئ واحد مليكة،خالد لن يوافق"
انهمرت الدموع من عين سلمى ولم تكن تعرف حقاً هل هى تبكى صديقة عمرها والأخت التى ليست من دمها،ام تبكى شقيقها وحياته الجافة الجامدة
وكبرياؤه الذى ينتصر على قلبه!!
"بالتأكيد سأخبر خالد اولاً قبل ان اجيب بالموافقة"
انهت الإتصال مع مليكة بسرعة فالجدل معها لن
يؤتى بأية نتائج مثمرة،عليها ان تحارب قرار تلك
الحمقاء ولكن ليس معها بل مع زين وخالد إذا
استدعى الأمر..لذا التقطت هاتفها على الفور
وتحدثت الى شقيقها.
"زين...مليكة ستتزوج"
هذا اول شيئ تفوهت به عندما التقطت اذنيها
انفاس شقيقها..اقتحمت كلماتها عقله اقتحاماً
وتسللت منه إلى قلبه لتعتصره..حسناً هو قرر أن
يحفظ كرامته وكبرياؤه ولا يوافق على عرض شقيقته لكنها رفضت ان تمنحه حتى الفرصة لذلك وعادت
لتدهس قلبه وكرامته بخبر زواجها..
"مبارك"قال بنبرة جليدية اصابت شقيقته بقشعريرة
فقد تبخر آملها ان تحصل على رد فعل غاضب.
"ألا تريد أن تعرف العريس؟"
"لا،فالأمر لا يعنيني،ابلغيها تهنئتى"
نبرته الباردة كانت ستاراً لحِمم القهر التى تندفع
بقلبه..ستاراً لطوفان من الغضب الغاشم والرغبة فى اقتلاع قلبه من صدره فهو نصيرها الوحيد.
"ستتزوج الحاج عبد الرحيم"واصلت هجومها عليه.
"مَنْ؟لماذا؟هل حبها للمال اعماها إلى هذا الحد؟
هل ..."
"اصمت زين،اصمت..الآن عرفت لما تجلد مليكة
نفسها بإستمرار!!لأنكم قساة،لم تغفروا لها بل
تضعون السوط بيدها وتجبروها أن تفعل هذا أفضل من انتظاركم لتفعلوا،سواء خالتى او خالد وحتى
أنت.. هل أحببتها يوماً بصدق؟لأنك إن احببتها يا
شقيقي ستغفر لها"
اندفعت كلماتها كطلقات الرصاص من شفتيها ولم تمهله لحظة ليجيبها او يدافع عن نفسه.
"سلمى..."حاول مقاطعتها ولكنها لم تمنحه الفرصة لذلك.
"أتدرى!!الحاج عبد الرحيم باع محلات العطارة في
الحارة والمناطق المجاورة التى يملكها وقسم
امواله على ابناؤه هذا ما يتردد في الحارة..أتدرى
ايضاً يا شقيقي!!انه يقيم الآن ببلدته ومن المفترض
ان تسافرمعه مليكة بعد الزواج لتقيم ببلدته،ولا
تعتقد أن هذا ما أخبرتنى به مليكة،لا إنها ثرثرة
صديقة لى،أخبرتنى ان اولاده اخبروه إن كان يريد
الزواج فعليه ان يقسم امواله بينهم حتى لا
تشاركهم إمرأة غريبة بورثهم وهو وافق،هل لازلت
ترى ان حب المال أعماها؟!!"
اغمض عينيه واستنشق انفاساً عميقة،كيف تتهمه
شقيقته أنه لم يحب مليكة؟وهى أدرى الناس
بعشقه لها!!وماذا تفعل تلك الحمقاء بنفسها؟انها تنتحر ولكن بطريقة شرعية!!
طال صمته للحظات...لحظات بدت لسلمى طويلة
فهى لا تعرف ما الذى يدور بعقل شقيقها فواصلت
بإندفاع غاضب:"لا تهتم يا شقيقي،انسي كل ما
أخبرتك به،عد لصمتك وكآبتك،عد لقوقعتك،عد
لقسوتك على قلبك وعليها ،واتركها لمصيرها،احمد الله أن خالد كان يحبنى حقاً،أحبنى بالقوة الكافية
ليقبل الزواج من إبنة سجين..وقف إلى جانبى
ودعمنى عندما كنت بحاجة له..."
"انتِ أحببتِ خالد،وهو ايضاً احبك..لكن مليكة لم
تحبنى ابداً"خرج صوته هذه المرة ابعد ما يكون عن
النبرة الباردة التى احتلت صوته بالسابق بل كانت نبرة حزينة مريرة.
"هناك ملايين الزيجات التقليدية التى بدأت بلا حب
واصبحت من أنجح الزيجات ومع الوقت والعشرة
الطيبة والإحتواء تحول الى حب عميق..مليكة بحاجة لرجل قوى وحنون يحتويها،رجل يجعلها تتوقف عن تعذيب نفسها وتأنيبها..يجب أن توفر جهدها لإعادة بناء علاقتها مع والدتها وشقيقها بدلاً من ذلك"
"ربما ما تقولينه صحيح لكنك نسيت أننا كنا نملك
الوقت منذ كانت طفلة ونملك العِشرة ورغم ذلك لم ترانى...ولم تفكر بي،ما الذى يمكن أن يتغير الآن؟"
كان يتحدث إلى نفسه اكثر مما يتحدث إلى شقيقته
محاولاً إقناع قلبه بأن يستمع لعقله فهو يدرك أن
عليه إقناعه لأنه لن يتحمل تمرده..فتمرده يعنى الآرق والألم والشعور بالذنب..هل حقاً هو ليس قوى بما
يكفى مثل خالد؟!!لا ،لا الوضع مختلف تماماً!!
"الذى تغير الآن كل شيئ يا شقيقي...انها تشعر
بالإنكسار وتحتاج لإنسان يحبها ليلملم شظاياها
المبعثرة ويعيد ترميمها،الذى تغير أنها تعلمت
بأقسى طريقة،أقوى انواع الحب هو ذلك القائم على إحتياج كل طرف للآخر لأنه يدرك أن حياته لن تكتمل
إلا به،فاسأل نفسك الآن زين وكن صادقاً معها..هل ستكتمل حياتك بدون مليكة؟فكر يا شقيقى قبل أن
يفوت الآوان"
هل ستكتمل حياتى بدون مليكة؟هل سيتستوطن
قلبي سواها؟هل سيرحمنى قلبي يوماً ويسمح لى أن تستكين إمرأة اخرى بين ذراعاى،فأكن لها سند
وتكن لى سكن ومأوى؟
منذ عاد لشقته الصغيرة وهو يدور بين جدرانها
ويشعر كأنها تطبق على صدره والأسئلة تتردد بعقله
بلا توقف والإجابات كانت واضحة لا ريب فيها..لا..لا...لا،لا لكل سؤال،ولا اضافية هدرت عالية لتتردد صداها بالشقة الصغيرة..لا لن يقبل أن تهدر حياتها بتلك
الطريقة..لن يقبل أن يراها تلقى بنفسها فى الجحيم ويقف ساكناً..منذ تركته شقيقته ليفكر منتظرة
إجابته،وهو لم يهدأ للحظة،مليكة..مليكة ستكون
زوجته!!تلك الفكرة بحد ذاتها كانت تجعل قلبه
يرقص طرباً غافلاً عن كل تحذيرات عقله ولكن بلحظة ما إتحدا كليهما وادرك أنه لن يسمح لها ابداً بأن
تلقى بنفسها إلى الهلاك وإذا لم يكن من أجله او
من أجلها فعلى الأقل من أجل ذكرى الرجل الذى
كان سنداً لهما بمصائبهم وإكراماً للمرأة التى
يعدها والدة ثانية له.
غادر شقته مسرعاً وهو ينظر بساعة يده،مازال يمكنه أن يلحق بخالد قبل ان يغادر الموقع فاليوم لديه دوام عمل إضافى...