صبا العمر

نورسين همسات`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-06-30ضع على الرف
  • 152.8K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

خطت بخطوات متمهلة بالحارة الضيقة،وكأنها بلا
وعى راغبة فى تأجيل وصولها إلى منزلها فالنظر
بعينى والدتها اصبح قاتلاً،نظراتها التى تدينها
أصبحت كطعنات خنجر تمزق روحها وما عادت
تتحمل ذلك الصمت الأسود الذى يخيم على المنزل،فوالدتها تتجنبها وتمتنع عن الحديث معها منذ تلك الليلة المشؤمة التى مات بها والدها،تتوشح بالسواد منذ عامين كما تتوشح بالصمت،عامين كاملين لم
تُظهر فيهما اى بادرة توحى بأنها غفرت لها،لا
تستطيع ان تلومها فهى ايضاً لا تستطيع ان تغفر
لنفسها،وكيف تفعل وقد تسببت بموت والدها..مات وهو غاضب منها.
دلفت الى داخل المنزل القديم الذى برزت الشقوق
فى جدرانه معلنة عن حاجته إلى الترميم السريع
ولكن من يبالى بترميم الجدران بينما الأرواح مهزومة محطمة...لم يكن ذلك المنزل يخلو من زيارات
الجيران والأهل لسنوات طويلة،لم يخلو من صوت
شقيقها وصياحه وهتافه ومرحه ولم يخلو من صوت مزاحها وضحكاتها هى وسلمى ولكن المصائب لا
تأتى فرادى وهى كانت أنانية جاحدة،لم تقف بجوار صديقتها بمصيبتها ولم تكن الشقيقة الجيدة
لشقيقها ورغم ذلك ها هى سلمى تجعلها تشعر
كم كانت دنيئة معها.
وجدت والدتها حيث اعتادت ان تجدها،تجلس على
الآريكة الصغيرة بجانب النافذة تنظر بشرود الى
اللاشيئ فاقتربت منها وانحنت تُقبل رأسها ثم
همهمت:"آسفة والدتى..سأظل كل يوم اعتذر لكِ
واطلب منك المغفرة فربما يوماً تغفرين لى"
عامين منذ وفاة والدها تعتذر لوالدتها صباحاً قبل ان تذهب لعملها وبعد ان تعد لها الإفطار وبعد
الظهيرة عندما تعود،لم تيأس من تكرار اعتذارها
حتى لو لم تغفر لها والدتها ابدا فهى تستحق،وما
يؤرقها ويعذبها اكثر أن بعد ما حدث اصبحت
فرصتها بالزواج شحيحة وهذا بالطبع يمنع والدتها
من السفر لولدها لتقيم معه...
"والدتى،خالد أرسل الحوالة الشهرية كعادته،لقد اخبرته مراراً أننا لسنا بحاجة للمال فمعاش والدى وراتبى لا يجعلوننا نحتاج إلى أى شيئ،لكنه يصر على إرسال المال كل شهر"
لم تجيبها كالعادة وظلت شاردة بنظراتها فتقدمت
مليكة نحوها بينما تحمل بيدها كوب من الماء مع
الأدوية التى أمر بها الطبيب وبصمت ايضاً تناولتها
والدتها وابتلعتها بدون أى إعتراض ولكن بدون أى
بادرة عن إستعدادها حتى للتفوه بكلمة..قبل ان
تمنحها الدواء تأكدت انها تناولت طعامها و
كعادتها ايضاً بمفردها وبدون أي استعداد
لتشاركها الطعام لذا وقفت مليكة امام خزانة
المطبخ العتيقة تلتقط بضع لقيمات يقمن صلبها
فقط،ثم اتجهت إلى غرفتها بصمت..لا تعرف لما
تواصل والدتها إعداد الطعام كل يوم ولا تعرف حتى أين يذهب ما يتبقى منه ولكنها لا تهتم فيبدو أن
والدتها تمارس بعض مظاهر الحياة بينما هى
بعملها.
"لم أعد أتحمل سلمى،لولا العمل كنت قد انهرت منذ وقت طويل،إننى أدرك رغبة والدتى بالسفر لتقيم
معكم ولكن ماذا بيدى أن افعل لقد طلبت من خالد ان يبحث لى عن أى عمل بالقرب منكم او حتى
بمدينة قريبة ولكن عملى ليس مطلوب وخاصة
للنساء"
همهمت مليكة بعينين باكية بينما تتحدث الى زوجة شقيقها وصديقة طفولتها فرغم المسافات إلا أن
سلمى لازالت صديقتها الوحيدة تقريباً خاصة بعد ما حدث، فقد أصبحت منبوذة من كل فتيات الحارة فرغم انها نشأت بينهن إلا أن السوط الذى حملنه ضدها لا يشفع لديه أى شيئ...لازالت سلمى تحافظ على
موعدها اليومى معها لتتحدث إليها كل يوم إذا
اتيحت لها الفرصة عن طريق إتصالات مواقع التواصل الإجتماعي رغم أنها لم تعتقد ابداً ان سلمى يمكنها أن تسامحها ولكنها كانت اكثر أخلاقاً و أكثر رحمة
منها.
"مليكة حبيبتى إنها والدتك، ويوما ما ستغفر لك
بالتأكيد،فبالرغم من مرور الوقت إلا أن كل الحوادث
التى توالت علينا كانت صعبة جداً ..ونحمد الله انها لازالت بصحة جيدة"
"اقيم معها بمنزل واحد واطمئن عليها منكِ،من
يمكنه ان يصدق ذلك؟!"
همهمت مليكة ثم أضافت:"ليتها توافق على السفر والتخلى عنى،على الأقل حينها لن أشعر بمزيد من
الذنب"
"تعرفين أن هذا لن يحدث ابداً،وهذا أكبر دليل على
أنها لازالت تحبك وتتمسك بوجودها معكِ…اعرف أن ما سأقوله مؤلماً ولكن حبيبتى إختيارك الخطأ و
إصرارك عليه جعلك تتحملين كثير من المسئولية،بل
للحقيقة تحملتيها بمفردك كاملة"
سالت دمعة من عين مليكة..دمعة اعتقدت انها ما
عادت تملكها فمنذ عامين وهى تبكى حتى اعتقدت
ان دموعها جفت ولكن يبدو ان مازال لديها المزيد...
"الذنب يقتلنى سلمى..لا استطيع أن احيا بذلك
الشعور من الذنب،ذنب تجاه والدى ووالدتى وذنب
تجاه شقيقي و ايضاً تجاهك وتجاه....تجاه نفسي"
"جميعنا نخطئ حبيبتى ثم إننى سامحتك منذ وقت
طويل فأنتِ صديقة طفولتى التى لم أكن أفترق عنها سوى عند النوم،وخالد يحبك كثيراً ومهما كان غضبه منكِ إلا أن كل ما يتمناه الآن أن يجمع مبلغ جيد
لنستطيع ان نترك الحارة كما كنتِ تحلمين دائماً،وما حدث قد حدث ليس بيدنا ان نعيد الزمن للخلف...يجب ان تهتمى بنفسك وبوالدتك،ويجب ان تخططى
لمستقبلك"
ضحكة مريرة اختلطت بالدموع وبنشيج وشهقات
لتتحول الدمعات الصامتة إلى نحيب:"اى مستقبل
تتحدثين عنه؟مستقبل لفتاة تعمل بتجميع المقالات والصور بأحد مطابع صحف الدرجة الثالثة!!أم مستقبل لفتاة تركها خطيبها بيوم عقد قرآنها؟اى مستقبل
لفتاة تلوك سيرتها الألسن حتى بعد مضى عامين؟
صدقينى لم أعد أريد أن أرحل عن الحارة لنفس
تطلعاتى السابقة بل لأن نظراتهم تجلدنى ولا
ترحمنى،وكأنهم حريصين ألا أنسي ولو لحظة"
"مليكة..ما بالك اليوم حبيبتى؟لما تدافعت كل
الذكريات والأحزان مرة واحدة؟يجب أن تغفرى أنتِ
أولاً لنفسك لتستطيعى أن تتخطى هذا الأمر"
هزت سلمى رأسها بقلق على صديقتها وهى لا تدرى ما الذى يمكنها أن تساعدها به!!فالإنتقال من
الحارة وإيجاد شقة جديدة يحتاج إلى مبلغ جيد لم
يستطع زوجها تأمينه بعد،وربما بالفعل ببادئ الأمر كانت تتحدث إليها لتواسيها من أجل خالد فقط فقد أرادت من قلبها ان تخفف عنه حزنه على شقيقته
كما رغبت فى ان ترد له صنيعه ولكن الآن ومع مرور
الوقت غفرت لها حقاً فبالنهاية هى صديقة
طفولتها التى تحبها.
"اليوم ذكرى سنوية والدى"همست مليكة من بين
دموعها التى تركت لها العنان حتى تتخلص من تلك الغصة التى تخنقها.
"يالا غبائى!!كيف نسيت!!"
لعنت سلمى عقلها الذى سقط منه هذا التاريخ
وهى تتذكر وجه زوجها الواجم بالصباح،ويبدو أن
الذكريات تدفقت عليه هو ايضاً..كيف لها ان تنسى
سنوية عمها إبراهيم!!ذلك الرجل الذى عاملها
كإبنته دائماً وكان إلى جانبهم بمرض والدتها ولم
يتخلى عنهم ايضاً حينما تم القبض على والدها.
"وقفت اليوم أمام قبره سلمى وشعرت بالكلمات
تختنق بحلقى،حاولت أن اطلب منه أن يغفر لى،
حاولت أن أخبره كم أعانى من بعد فقدانه ولكننى لم استطع،فأنا لم استحق والد مثله،دائماً كنت متعجرفة مغرورة،طامعة فى الوصول إلى عالم خارج حدود
حارتنا،لقد حلمت وتمنيت مراراً فيما مضى والداً سواه يستطيع أن يحقق أحلامى،هل رأيت فتاة بذلك
الجحود من قبل؟رجل يقف لساعات وساعات بصالون الحلاقة الرجالى بعد أن يعود من عمله بالمحكمة،
فقط ليلبي لى متطلباتى،وما هو جزاؤه؟ابنة عاقة،
جاحدة"
"بالله عليك توقفى عن تعذيب نفسك مليكة،لما لا
تخرجى مع صديقاتك بالعمل؟ لما لا تحاولين تحضير
دراسات عليا؟أى شيئ بجانب العمل يملئ وقت
فراغك حتى لا تفكرين"
"راتبى مع معاش والدى يكفينا،ولكن لا يكفى تلك
الرفاهيات،ولقد أخبرتك من قبل أن يتوقف خالد عن
إرسال الحوالات،ولكنه يستمر بإرسالها على أية حال إنها بحساب فى البنك فيمكنها مساعدتكم حينما
يحين الوقت لشراء منزل"
"شقيقك مسؤول عن الإنفاق عليكما،هذا حقكما
عليه...."
"يكفيه ما يتحمله من جهد لتوفير المال لشراء منزل
او شقة كبيرة تكفينا جميعاً،بعيداً عن الحارة"
لم تجادلها ومررت الأمر فعامين مضيا لم تمس يد
مليكة النقود الذى يرسلها شقيقها بل تدخرهم له،فإختلاس والدها وسجنه ماضى سيظل يطاردهم ولم يعد وجودهم بالحارة مقبولاً إلى جانب ما حدث
لمليكة وكأنها لعنة اصابتهم وجعلت الخزى والعار يلاحق العائلتين.
"سأغلق معك الآن حبيبتى فخالد على وشك العودة
لتناول الغداء قبل أن يعود مرة أخرى لعمله و
سنتحدث بالغد إن شاء الله"
انهت مليكة اتصالها مع صديقتها و زوجة شقيقها
ثم ألقت جسدها على الفراش الصغير الذى اصدر
صريراً على أثر حركة جسدها الرشيق..ما عاد هذا
الصرير يثير حنقها كما بالماضى فليتها تفترش
الأرض ويعود والدها مرة أخرى،لكن لم تعد تملك
سوى الدعاء بإستمرار أن يغفر لها،فهى كانت
مدللته ولم يبخل عليها بأى شيئ بقدر استطاعته
ولكنها طمعت بالمزيد والمزيد،فمنذ مشارف
المراهقة اكتشفت أنها أنثى جميلة بشعرها الأسود الناعم الكثيف وطوله الذى ينسدل حتى منتصف
ظهرها وبتلك اللمعة التى تدل على قوته وبذلك
الجسد النحيف والذى ما ان اكتملت انوثتها حتى
استدار لتبرز انحناءته المثيرة،وعينيها السوداء كليلة
بلا قمر بينما لمعانها وكأن آلاف النجمات سكنت
بليلهما،فتيقنت من جمالها وعرفت انه سيكون
سلاحها الذى سيساعدها على التحليق بجناحين
قويين لتغادر الحارة بلا رجعة ولأنها إبنة الحارة التى نشأت وهى تسمع ثرثرة النساء عن حياتهن الزوجية
فقد تعلمت من اكثر النساء حنكة،فبالرغم جهلهن وعدم ثقافتهن ولكنهن لديهن خبرة عتيقة فيما
يتعلق بالرجل الشرقى فمهما اختلفت طبقته و
مهما اختلف مستوى ثقافته يظل لديه رغبة فى ان
يكون الصياد وليس الفريسة،يشعر بنشوة الإنتصار
عندما يحكم حصاره حول طريدته وتصل تلك النشوة
أقصى مداها حينما يتربص بها طويلاً وتقاومه ثم
تستسلم له بالنهاية فيزأر ظافراً بسعادة وربما تكون سعادة زائفة وتلك الفريسة لم تكن فريسة مطلقاً بل كانت الصياد الذى يرتدى رداء الطريدة الضعيفة.
هزت رأسها والتوت شفتيها بإبتسامة مريرة ساخرة،
فقد انقلب السحر على الساحر وبعد ان اعتقدت انها فازت بصيدها إلتف و انقض عليها ليطعنها بمقتل ولكنها بقت تنزف من جراحها لا هى لفظت أنفاسها الأخيرة لتستريح ولا هى تعافت وتخلصت من
جراحها..فقط تنزف ببطئ وألم.
*********
بآلية وشرود بدأت بطهو الطعام فعقلها كان لا يركز سوى على صديقة طفولتها والحل الذى بدأ يتكون
بعقلها،لما لا؟فهذا الحل به سعادة للجميع،وربما
يوماً ما يمكن لمليكة ان تشعر بما يعتمر به قلب
شقيقها زين!!لقد عرضت عليه بعضاً من صديقاتها
اللائى وافقن على ظروفه وهن قليلات لا يمكنها ان تنكر هذا ولكنه لم يوافق،فمنذ صغرهم كان كلا
الوالدين يرسخون فى عقولهم أن خالد لسلمى و زين لمليكة..ربما بحالتها هى وخالد راق لهما ذلك لأن
خالد احبها بصدق وهى بادلته نفس المشاعر..ولكن زين لم يكن الرجل الذى يحقق طموح مليكة.
أغمضت عينيها محاولة ألا تعاود التفكير بمليكة
بتلك الطريقة حتى لا تقسو عليها ولكن الذكرى آبت سوى ان تتدفق برأسها وتعود إلى خمسة سنوات
مضت حينما اكتشفوا للمرة الأولى مرض والدتها
بسرطان الكبد وبدأ من حينها إنهيار حياتهم
المتواضعة البسيطة التى كانوا سعيدين راضيين
بها..فوالدها كان موظف بخزانة نفس المحكمة
التى يعمل بها والد خالد بالأرشيف ومع راتبه
البسيط وعمله كسائق على سيارة أجرة بعد العمل
كانت حياتهم تمضى ربما ببعض الصعوبة ولكنها
تمضى وحينما بدأ زين يشارك بنفقات المنزل ببعض
من راتبه اصبحت الأمور اكثر رخاءً بقليل.
"يمكننى بيع سيارتى والدى،فهى ستساعد ولو قليلاً فى تدبير نقود العملية لوالدتى،إلى جانب أننى كنت
أدخر مبلغ للمساعدة بزواج سلمى"تحدث زين بحزن
عميق يختنق به صوته.
"السيارة لن تساعد فى شيئ فسعرها لا يتحاوز بضعة آلاف،ولكن ستتضرر والدتك من بيعها فهى تساعدنا فى الإنتقال من وإلى المشفى بعد جلسات العلاج
الكيماوى،إنها تجعل والدتك تتجنب مشقة
المواصلات المرهقة وتجنبنا تكلفة سيارات الأجرة
فصاحب السيارة التى اعمل عليها لا يرحم وإذا أدرك
أننى استخدمها بقضاء حاجات خاصة لن يقبل
بعملى معه" تمتم والده بنبرة حزينة وعينين دامعة
محاولاً الثبات ولكن رغماً عنه وصلت تلك النبرة
المرتجفة إلى زين.
"سأتقدم للشركة التى أعمل بها بطلب سلفية فربما
يوافقون"قال زين بغصة من الإنهزام والحزن على
والدته التى تدهورت صحتها خلال اشهر قليلة.
"وسأتقدم انا ايضاً يا ولدى بطلب إستقطاع من
مكافأة نهاية الخدمة و المعاش وليفعل الله ما
يشاء"تمتم والده بينما خطت سلمى نحو داخل
الغرفة ووضعت على المنضدة التى امامهما بضع من قطع الحلى الذهبية.
"ما هذا يا سلمى؟"تمتم زين.
"إنها شبكتى..الشبكة هدية العريس لعروسه،وأنا
قبلت هدية خالد ولكنه لا يحق له أن يسألنى كيف
تصرفت بهديته"
"إننى أثق أن خالد ابداً لن يسألك،ولكن يا ابنتى انه
شاب بمقتبل العمر ادخر من عمله حتى استطاع تدبر نقود الشبكة وحفل الخطبة والآن تريدين أن تخبريه
انكِ ستبيعين ما عمل من أجله!!"
"اننى أبيع هديته من أجل والدتى،واثق بأنه سيقدر
ذلك"
"استمعى لى بنيتى،شبكتك لا يتعدى ثمنها عشرة
آلاف جنيه وحتى مع السيارة إذا غامرنا وقمنا ببيعها فهى ثمنها عشرين الف جنيه،وعملية والدتكما
تتكلف مائة وخمسين الف جنيه،لذا فلندع ممتلكاتك انتِ و شقيقك كخيار أخير"قال الوالد على أمل ان
يقتطع جزء كبير من المعاش التقاعدي من أجل
شريكة عمره إلى جانب ما يمكن ان يتدبره زين من
عمله وما يدخره وإذا تطلب الأمر يمكنه بيع سيارة
ولده البسيطة التى أدخر من عمله حتى يبتاعها و
ليكن خيار شبكة إبنته هو آخر ما يلجأ إليه.
سالت دمعة من عينيها فرفعت ظهر يدها التى
تمسك بالسكين بينما تقطع شرائح البطاطس
لتجفف دمعتها،فلازالت تبكى والدتها ووالدها حتى بعد مرور سنوات على موتهما...وما زاد آلمها حال
شقيقها الذى تخطى الثلاثين عاماً ويبدو وكأنه لا
يفكر ابداً بتكوين عائلة،واكتفى بوحدته وربما
ستكون سعيدة قليلاً من أجله لو كان يعيش حياته
ولكنه اصبح انطوائى للغاية وقليل الكلام وقليل
الإبتسام..أين هذا من شقيقها زين الذى كان يملئ
منزلهم بالصخب والصوت الجهورى العالى،
والفوضى.
زفرت بقوة ثم التقطت هاتفها لتتحدث إلى شقيقها الذى يعمل مهندس مع زوجها بنفس شركة البترول لكنه اختار ان يقيم بالشقق الصغيرة التى تخصصها
الشركة للعاملين العزاب بها بالقرب من مواقع
العمل بالصحراء بينما هى وزوجها يقيمان بالمدينة
القريبة وهذا بالطبع أفضل لها حتى لا تشعر بالملل
او الوحدة فى المنطقة الصحراوية حيث موقع عمل الشركة.
"مرحباً زين،كيف حالك؟"
"مرحباً حبيبتى،إننى بخير حال،كيف حال صغيرك
مهد هل يسأل عن خاله؟"
رغم النبرة المرحة التى يحاول صبغ صوته بها إلا انها تعلم إنها مجرد قشرة واهية يغلف بها صوته لدقائق قليلة حتى تنتهى من حديثها معه وحتى عندما
يحضر لزيارتها فرغم الإبتسامة المتزنة التى يرسمها على فمه إلا أنه صامت..هادئ..وبعينيه حزن مرير
لا يفارقهما ولو لدقائق..لقد كان شقيقها دائماً ومنذ صغره خشناً،صارماً، متهوراً،يتحدث بيده قبل لسانه
حتى أصبح يخشاه الكثيرين وبالرغم من ذلك
يحترمونه..ولكن ابداً لم يحتل ذلك الحزن عينيه سوى منذ وفاة والدتهما وكأن الحزن وجد وطناً يأويه
فستوطن بعينيه ولم يفارقهما.
"مهد بخير،ولكن والدة مهد هى من اشتاقت
لشقيقها والذى يرفض زيارتها سوى كل يوم جمعة وبالكاد يقضى ساعة او ساعتين ويرحل وكأنه لديه
زوجة تنتظره وتشتاق إليه بالمنزل"
"ألا تشعرين بالملل من تكرار تلميحاتك تلك سلمى؟"
زفر بتنهيدة قوية فشقيقته لا تيأس وهو لا يرغب،
ولكن يبدو أنها تصر حتى ترى من منهما له الغلبة..
لقد اعتاد وحدته وما عاد يرغب فى ان يشاركه بها
أحد،لا يريد ان تنظر إليه المرأة التى سيتزوجها على
انها تتفضل عليه،لن يقبل أدنى نظرة إهانة له حينما يتحدث عن والده،لا...لا يريد فعقله يرفض وقلبه
يتشدد بالرفض فكيف له ايضاً ان ينسي فتاته التى
نضج على حبها..
فكانت حب مراهقته وشبابه ونضجه،كيف فجأة
ينقلب على حبها،حسناً إنه أبداً لن يهين كبرياؤه و
يخبرها بذلك وبالطبع لن يهين كرامته ويطلب يدها للزواج فهو لن ينسى ابداً ما سمعه من بين شفتيها
بينما هو بشرفة منزلهم التى لا تبتعد سوى مترين
بالكاد هما اتساع حارتهم الضيقة.
"هل انت مجنون خالد؟كيف ستتمم زواجك على إبنة سارق مختلس؟انك بذلك تهدم مستقبلك،ومستقبلي معك،لا يجب ان تتمم هذه الزيجة فهى ستظل نقطة سوداء تطاردك طوال حياتك،سيرث أبناءك ماضى
جدهم الأسود..وما ذنبي انا بأن يتلوث اسمى وتكون
زوجة شقيقي والدها سارق مختلس"
"زين!!زين!!أين ذهبت؟إننى اتحدث معك ويبدو أنك شردت كعادتك"هتاف سلمى قاطع ذكرياته المريرة.
"معكِ حبيبتى"
"وكأن إتصالى بك أنت و مليكة أصبح روتين يومى
بالنسبة لى،ولكن لا انت تتراجع عن نفورك من الزواج ولا هى تتوقف عن تأنيب نفسها وجلد روحها،حتى
اصبحت ذابلة هزيلة"قالت سلمى بخبث فهى لم تعتاد منذ وقت طويل ذكر اى شيئ عن مليكة أمامه
ولكن مع الحل الذى بدأ يترسخ بعقلها وجدت أن
ذكرها الآن يمكنها من خلاله أن تزن رد فعل
شقيقها.
"ولما تفعل ذلك بنفسها؟حسناً إنها اخطأت
بإختيارها ولكن ليس ذنبها أنه نذل حقير وتخلى
عنها بليلة عقد قرآنها بعد ان جلس ووضع يده بيد
والدها،لم يكن رجلاً شريفاً وهذا سوء إختيار وليس
ذنب"
لاحت ابتسامة على شفتى سلمى فدفاع شقيقها عن مليكة وحماسه فى ان يلقى اللوم على ذلك النذل
جعلها تعتقد أن ربما ما ستقترحه سيلاقى ترحيب
من شقيقها،وتساءلت بصمت:"ألازال قلبك معلق
بها يا قلب شقيقتك؟!"
ولكنها لم تتفوه بسؤالها وواصلت تلميحها:"إنها
تحمل نفسها ذنب موت العم إبراهيم"
"لا حول ولا قوة إلا بالله،لكل أجَلّ وقت محدد لا
يمكن لأحد ان يُعجل به أو يأخره،فلما تحمل نفسها هذا الذنب؟"
"وكأنها ترغب فى عقاب نفسها فتتمادى بإلقاء
الذنوب عليها ،لم اعد أعرف كيف اساعدها،حتى
خالد بحث لها عن عمل هنا لتنتقل هى و خالتى
للإقامة معنا فربما الإبتعاد عن الحارة وعن مصر كلها يجعلها تنسي ولكن تخصصها ليس مطلوب،وبقائها هنا دون عمل أو زواج سيجعلها تفقد أى معنى من
معانى الحياة،فعلى الأقل هناك تعمل"
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي