الفصل الثالث

عاد إلى منزله متأخراً أكثر من ساعة عن موعده
لتستقبله إبتسامة ناعمة من الخمرية الدافئة ،زوجته ووالدة طفله الذى لم يتعدى العامين بعد...حدق
بها بعشق متأملاً منامتها الصيفية الناعمة التى
التفت حول جسدها بإحكام بلونها الأحمر النارى،
مدركاً انها عاشقة لذلك اللون ولكن إكراماً لغيرته
الشديدة،تحول إلى سيد الألوان فى ملابسها المنزلية وخلت منه الملابس التى تخرج بها حتى عندما
يعودون بالعطلات إلى مصر،فتقاليد البلد الذى
يقيمون بها لا تسمح للنساء سوى بإرتداء العباءة
السوداء.
"عندما تنتهى من حمامك سيكون العشاء على
المائدة"قالت سلمى وهى تقف على أطراف اصابعها تقبله كعادتها عند قدومه ولكنه احاط بخصرها
جاذباً إياها ليعانقها.
"هل أخبرتك من قبل أننى أحمد الله دائماً لأن قلبي
إهتدى لحبك وقلبك إهتدى لحبي؟"
"لا لم تخبرنى،لكننى اعرف،لأننى ايضاً احمد الله دائماً على ذلك..نعم مرت بحياتنا الكثير من الصعاب لكن
كان لدينا بعضنا البعض"اجابته وهى ترفع يدها
لتداعب جانب فكه الأملس الذى يحرص على حلاقته يومياً كل صباح من أجلها....رفعت عينيها تتأمل
وسامته بعينيه السوداء وشعره الأسود الناعم،و
ملامح وجهه الدافئة الهادئة وابتسامته التى تضيئ
وجهه،كانت مليكة النسخة الأنثوية من شقيقها،
كلاهما يتمتعان بجمال يحسدان عليه..
"سأذهب لأستحم ثم نتحدث بينما نتناول الطعام،
اريد نصيحتك فى كيفية إخبار مليكة،تعرفين أننا
بالكاد نتحدث"
قال ثم اتجه الى الحمام مباشرة فتبعته بإبتسامة..
لقد اعتادت طباعه منذ وقت طويل،فزوجها شخصية منظمة يكره الإهمال و يكره ان يجد شيئ بغير
موضعه..لا يجلس ولا يلمس شيئ إلا بعد الإستحمام ولكنها كسرت تلك القاعدة بتقبيلها له ومعانقته
كلما عاد إلى المنزل،واستطاعت ان تجعلها عادة
بينهما فأجبرته على ملامستها..على عكس زين التى كانت تدور بمنزلهم تجمع اشياؤه،تبحث عن الحذاء
بكل مكان وتجد القميص أسفل الفراش والملابس
المتسخة بخزانة الملابس،وملامح صارمة خشنة
وجسد ضخم عضلى بالفطرة ولكن له قلب من ذهب هى تعرف ذلك جيداً وتراهن عليه لنجاح زيجته من
مليكة.
فقط دقائق وكان خالد ينضم إليها على المائدة وبدأ
بتناول طعامه...
"إننى أرى ان تتحدثى أنتِ مع مليكة وانا سأخبر
والدتى،العلاقة بيننا منذ أكثر من ثلاثة اعوام بالكاد
تقتصر على عدة كلمات بكل اتصال هاتفى"
"خالد!!مليكة شقيقتك ويجب أن تتحدث معها
وتعرف رأيها،لقد شعرت بما يكفى انها وحيدة وبلا
سند،انها تحتاج إليك"
يشفق على شقيقته ويتألم من أجلها لكنه غير قادر
على نسيان ما اقترفته بحق نفسها وبحق كبرياء
والدها وإهانته التى تسببت بها...وقوفه بمفرده
كسيراً يتلقى مواساة الرجال البعض بسخرية
والبعض بشفقة،لم يكن معه ليشد عضده ويتلقى
المهانة بدلاً منه،مات مقهوراً.
"الوقت لازال مبكراً،يمكنك ان تحدثها الآن فيجب ان نبدأ الإجراءات من الغد..ستتقدم للشركة بطلب
لإحضار خالتى،وزين يجب ان يحصل بسرعة على صورة من قسيمة الزواج حتى يبدأ فى اجراءات حضور
مليكة،ثم...."
"توقفى..توقفى،كل هذا تريدينه أن ينتهى خلال
شهر؟"
"نعم،بما فى ذلك تجهيز شقة جديدة لمليكة"اجابته
بسعادة تنبض بنبرة صوتها ثم أمسكت بيده وهى
تضيف:"هيا،لتتحدث مع شقيقتك وتخبرها"
"حسناً،دعينا ننظف المائدة اولاً و أغسل يدى"اجابها بينما يرفع بضعة اطباق ويتجه إلى المطبخ فحملت
ما تبقى واتبعته بإستسلام.
"انتهينا من تنظيف المائدة وغسلت يديك،وسأغسل
الأطباق واعد لك الشاى،هل هناك شيئ آخر؟"قالت وقد ضاقت عينيها محدقة به بشك.
"هل يمكنك الآن أن تذهب لتتحدث مع مليكة؟"
اومئ بإستسلام ثم اتجه الى الحمام...لا يدرى كيف سيبدأ الحديث مع شقيقته فلقد شعر فجأة بأنه اخطأ بتخليه عنها بتلك الطريقة،وخطأه جعلها ترغب فى
بيع نفسها لعجوز تخطى الستين وهى تعتقد أنها
بذلك تريحهم تماماً وتنهى تواجدها بحياتهم..عندما أخبرته والدته شعر بالألم من اجل شقيقته وتخيل كم تشعر بأنها منبوذة،ووحيدة.
التقط هاتفه واتصل بها ولم يتعدى الأمر لحظات
حتى أجابته:"خالد،كيف حالك؟"
"بخير حال،مليكة...وأنت..كيف حالك؟"
لم تجيبه فهى لا تريد ان تكذب عليه وتخبره انها
بخير،ولا تريد أن تخبره ايضاً انها تعانى..عامين مضيا
لم يسألها يوما هل هى بخير..دائماً اتصاله لا يتعدى عدة كلمات،لما اليوم خاصة يسألها!!لما يمنحها أملاً هو وسلمى؟بينما هى كل ما ترغب به هو الإستسلام،لقد انهكت وما عادت تتحمل ذلك الشعور بالذنب
الذى ينهش بصدرها.
"حمداً لله،كنت سأتصل بك اليوم لأمر ما"قالت قبل ان تخونها شجاعتها،ارادت ان تنهى كل شيئ فى أقرب وقت.
"دعينى احدثك اولاً فيما لدىّ،ثم نستمع لما لديك"
اجاب بسرعة مقاطعاً لها.
"زين طلب منى الزواج منكِ،وهو ينتظر اجابتى عليه..
انا موافق ووالدتى ايضا ولكننا ننتظر اجابتك"
سلعة رخيصة او غالية ما عادت تهتم ولكنها مجرد
سلعة،حسناً هى من جعلت من نفسها سلعة عندما
بحثت عن من يدفع أكثر، فلا تلوم الآن سوى نفسها..شقيقها وافق ووالدتها ايضاً لما ينتظرون رأيها إذن؟؟لكن لما فعلها زين الآن؟؟فعامين مضيا منذ كان يقف بجوارهما فى عزاء والدها ومنذ سافر بعد تلك
الليلة ببضعة اسابيع لم تسمع منه اى شيئ ولم
تذكره سلمى ابدا فى احاديثهما إلا منذ عدة ايام.
"لماذا اليوم خاصة خالد؟"
"لا افهم ما تعنين"تحدث خالد بهدوء شديد ولكن
بنبرة حازمة ايضاً.
"لما طلب زين الزواج منى اليوم خاصة؟"
كررت سؤالها فربما كانت تبرر لنفسها من قبل ان لا سلطان لها على قلبها وانه ليس ذنبها إن لم تبادله مشاعره فلا ينقصها مزيد من الشعور بالذنب،لكن
الآن هو من بين الجميع يريد ان يتحمل نتائج طمعها وجحودها،لماذا؟
"لقد كنتِ لزين منذ سنوات طويلة،كانت هذه دائماً
رغبة والدى ولكنك كنتِ...حسناً لقد جدد طلبه مرة
أخرى منذ عدة ايام وليس اليوم"
حسناً فليسامحه الله على تلك الكذبة،لكنه لا يريد ان يجعل شقيقته تشعر بأنها رخيصة تم عرضها على زين ودفعه للزواج بها.
بتلك اللحظة كانت سلمى تخطو الى داخل الغرفة
وتستمع لزوجها فضاقت عينيها تريد ان تستشف
سبب كذبته على شقيقته فهى تعلم أن زين لم يخبره برغبته سوى اليوم...وضعت قدح الشاى امامه على
المنضدة الصغيرة بصمت بينما تنتظر بترقب على أمل أن يستطيع خالد إقناع مليكة.
"إذا كانت هذه رغبتك ورغبة والدتى وإذا كان زين
مازال يريدنى،فأنا اوافق"
مرة اخرى عادت لأنانيتها..انها تدرك ان زين افضل
خياراتها لذا وافقت...انه افضل بكثير من الإنتحار
المقنع إذا تزوجت العم عبد الرحيم وانتقلت لبلدته
وافضل مما اصبحت تعانيه بالعمل من ثرثرة زميلاتها فيبدو ان زميلتها لم تدخر جهداً فى حفظ سرها بعد
أن رفضت شرط العريس بالذهاب إلى الطبيبة بكشف عذرية..نعم،هى أنانية ولكن رغماً عنها،كيف يمكنها أن ترفض الزواج منه وهو طوق نجاة،ستكون فى
حضن عائلتها وقريبة منهم،وربما يوما ما تغفر لها. والدتها وشقيقها!!كيف يمكنها أن ترفض رجل تعلم جيداً أنه أحبها وربما لازال يحبها!!اغراء القبول كان
اقوى منها...فحينما يرغب المرء بالإنتحار عن عمد
ويلقى بنفسه لقاع البحر تأتى لحظات يقاوم،ينازع من اجل الحياة،يرغب فى التشبث بأى طوق نجاة..وهى
ارادت الانتحار ولكنها وجدت طوق نجاتها..
"حسناً،سنبدأ فى إتمام الإجراءات،من الغد سيرسل
زين توكيل إلى خاله ليزوجه بكِ،وسأتصل بعمى
ليكون وكيلك وبأسرع وقت ترسلى قسيمة الزواج
حتى يستطيع زين الإنتهاء من أوراق إستقدامك"
هزت سلمى رأسها بيأس وحدقت نحو خالد بضيق
وهى لا تصدق الطريقة الجافة التى يتحدث بها مع
مليكة فانتزعت الهاتف من يده وهتفت بسعادة:
"مبارك مليكة..مبارك حبيبتى،اكاد لا اصدق أنك
وخالتى ستكونان هنا قريباً..اتمنى لو اغمض عيني
وافتحها واجد الأيام قد مرت واقف بالمطار انتظرك بالفستان الأبيض..يا الله ستكونين رائعة"
وقف خالد مغادرا الغرفة،فهو لم يستطع ان يكون
مثل سلمى ويغفر لمليكة،فكلما تذكر إهانة والده
بين رجال الحارة وكسرته حتى سقط ميتاً بتأثير نوبة
قلبية ..كلما تذكر أنه لم يستطع ان يكون موجود
ليتحمل الخزى بدلاً من والده،كلما تذكر كل هذا
يعود ليشتعل قلبه بالغضب من شقيقته..لكنه
بالطبع ما كان سيسمح لها بهذا الإنتحار المقنع
حتى لو لم يطلبها زين للزواج،فوالدته ايضاً ورغم كل شيئ لم تستطع سوى أن ترفض فاتصالها به كان
لإعلان رفضها قبل ان تتحدث إليه مليكة بالأمر..فتلك العجوز الماكرة لم تكتفى بأنها حدثت شقيقته بشأن الرجل الخرف الذى يريد الزواج من فتاة اصغر من
أولاده بل ذهبت الى والدته ايضاً لتخبرها بالأمر.
عدة دقائق ولحقت به سلمى بغرفة النوم بعد ان
اطمأنت على نوم طفلهما بسلام لتجده مسترخى
فوق الفراش يحدق بالسقف وذراعه يستند على
جبهته فتقدمت لتداعب خصلات شعره الاسود
بيدها:"بما أنت شارد؟"
"لا شيئ"تمتم بشرود
"لقد أخبرت مليكة أننى سارسل رقم هاتفها لزين
حتى يستطيع ان يتحدث معها ببعض الترتيبات
لزواجهما،وسأتصل بزين فى الصباح حتى يكون عقد
القرآن الخميس المقبل لذا يجب ان تتحدث مع عمك
بالصباح ايضاً"
تنهد خالد بقوة:"حسناً"
"ماذا بك خالد؟كنت اعتقد أنك ستكون سعيداً بجمع شملنا!!"
"تمنيت لمليكة ان تكون لزين منذ سنوات لأننى اثق
بأنه رجل بما تعنيه الكلمة،ولكننى لم أكن اريد ابدا
ان يطلبها للزواج مدفوعاً منكِ"
"من قال أننى دفعته إلى شيئ؟هذا لم يحدث..اذا.
كنتم جميعاً فقدتم الشعور ببعضكم البعض فقلبي لازال يشعر بكم جميعاً..الغضب أعماكم..زين يحب
مليكة ويتعذب بهذا الحب،فلما يكابر؟؟ومليكة لن
اقول انها تحبه ولكنها بحاجة له فلما اتركها تهدر حياتها؟وانت تعرف كل هذا وبدلاً من ان تسعد تفكر فى سخافات..اتدرى خالد لن اتركك تفسد سعادتى"
هبت واقفة واتجهت الى مشغل الموسيقى لتديره
ثم التقطت وشاح ربطته حول خصرها وهى تتمايل.
بجسدها راقصة فابتسم خالد وجلس مستنداً على
ظهر الفراش يراقبها وبينما تقترب منه وهى تتمايل
بدلال همهم قائلاً:"كنت استرق النظر اليك وانت
ترقصين مع مليكة بغرفتها فمقبض الباب كان معطل ودائماً ما كان الباب ينفرج قليلاً بما يسمح لى لأن
اراقبك"
غمزت له بعينها:"لقد رأيتك ذات مرة من المرآة"
واصلت تمايلها والتواء جسدها مبتعدة عن يديه التى همت بجذبها للفراش وهى تضحك فانتفض مغادراً
الفراش مقترباً من تلك الخمرية التى تعرف كيف
تفقده عقله وتنسيه ما يؤرقه..وقف عاقداً ذراعيه
امام صدره وهو يحدق بها ثم رفع اصبعه يشير لها به أن تقترب ولكنها هزت كتفيها متمنعة بدلال.
"إذا لم تأتى إلى هنا وعلى الفور سأذهب الى غرفة
مهد وأنام"
من بين نغمات الأغنية الناعمة وتمايل جسدها
انساب صوتها الناعم بإغواء:"لن تستطيع حبيبي..لن
تستطيع فأنت يجافيك النوم إذا لم تستند ذراعك إلى خصري"
"حسناً سيدة واثقة من عشق زوجك،ألا يجب ان ترأفى بحاله؟"
قال مقتربا منها بتمهل وعينيه تراقب انحناءات
خصرها وتمايله المهلك وبمكر أنثى عاشقة توقفت عن مراوغته وتركته يمسك بها،فجذبها لترتطم بصدره فتأوهت بدلال وغنج وتركته يرتشف تآوهاتها
مهمهاً:"لا اعرف ماذا كنت سأفعل إن لم يهتدى
قلبك لحبي..لربما قتلتك قبل ان تكونى لسواى"
"خُلق قلبي لك فملكته وأصبح ينبض بصدرك..امتزجت نبضاتنا واصبحت نبضة واحدة تكفى لكلينا"قالت
بينما التفت ذراعيها حول خصره ووضعت رأسها فوق صدره...سماع نبضاته قلبه القوية الثابتة تجعلها
تشعر بالسلام والأمان والعشق..العشق لكل نبضة
تغادر قلبه لتتسلل إلى روحها وتستقر هناك مانحة
لها السعادة.
"تعلمتِ كلمات الحب من الروايات والشعر،وما عدت
استطيع مجاراتك"همس بالقرب من أذنها بينما يديه تجوب جسدها بتذوق وشغف خاتماً ثرثرتهما بفيضان عشق لم يتوقف تدفقه سوى بعد وقتاً ليس بالقليل.
***********
"زين!!حقاً لا استطيع أن افهمك،لقد توقعت ان
تتحدث مع مليكة منذ منحتك رقم هاتفها ولكنك لم تفعل!!كدت اشك أن الفتاة ستوافق على إتمام عقد
القرآن فأنت لم تكلف نفسك عناء التحدث حتى
معها"
زفر زين ببطئ مغمضاً عينيه وهو يشعر بثقل يجثم
على صدره..حسناً،هو ايضاً توقع ان تثور او ترفض،توقع ان تتحدث إليه،تسأله عن إهماله لها،تطالبه بأن
يخبرها عن سبب زواجه منها إذا كان سيهملها
ولكنها لم تفعل..أراد من قلبه أن يشعر بأنه ليس
فقط افضل خياراتها ولكنه بالفعل كذلك،مجرد
اختيار أفضل وليس لأنه الرجل الأفضل فربما هذا كان سيعزز كبرياؤه ولكن لأن هذا ما تريده والدتها. وشقيقها وحتى سلمى.
"سأتحدث معها بالوقت المناسب سلمى"
"ومتى هذا الوقت المناسب،أكثر من اسبوع مر على
عقد القرآن وعدة ايام مرت قبله وانت لم تتفوه معها بكلمة"قالت شقيقته بحنق وغضب فلم تعد تجد.
اعذاراً لتخبر بها مليكة على الرغم من انها ابدا لم
تسأل.
"الوقت المناسب سيحين فى موعده،وبدون ان
تضغطين علىّ،دعينى اجده على طريقتى"اجاب
شقيقته ببرود تعجب هو نفسه منه،ولكنه يتخبط
ويريد ان يجد بداية طريقه بدون أى ضغوط.
زفرت بقوة محاولة كبح جماح كلماتها الغاضبة حتى لا تنهمر من فمها كطلقات الرصاص فهى تدرك أن شقيقها عنيد برأس يابس وتخشى ان يأتى إلحاهها
عليه بنتيجة عكسية.
"حسناً زين،شركة الشحن وصلت اليوم واحضرت
النسخة الأصلية من عقد زواجكما وبعض الأوراق
الأخرى،سأرسلها مع خالد بالغد إن شاء الله"
"حسناً"اجابها بإقتضاب فزفرت بحنق.
ربما هو شقيقها الأكبر لكن منذ بداية مرض والدتها اصبحت تشعر انها مسئولة عنه فخلف ذلك الرجل
الصارم الخشن يقبع قلباً حنوناً دافئاً حزيناً ووحيداً...
"ألن تجعلنى أرى الشقة التى استأجرتها على الأقل
لأساعدك بتأثيثها؟"
"عندما انتهى من طلائها سأصطحبك لشراء الأثاث"
كلماته المختصرة جعلتها تريد الصراخ به فهى لن
تنكر انه احبط حماسها فلقد اعتقدت انها ستؤسس الشقة هى ومليكة وتكونان على تواصل عبر الإنترنت لتختارا سوياً كل شيئ كما خططتا وهما مراهقتان.
"أليس من المفترض ان تختار مليكة لون الطلاء؟
يمكننى ان اسألها ثم أساعدك بالإختيار"
"لا...عندما سأحتاج مساعدتك سأطلبها"اجابها اجابة قاطعة لا تحتمل اى جدال.
فزمت شفتيها وتمتمت بصوت خفيض:"كان الله
بعونك صديقتى"
"ماذا تقولين سلمى؟"
"قلت فليكن الله بعونك شقيقي،الى اللقاء فيبدو ان مهد يبكى"
خنق إبتسامته وهو ينهى الإتصال ثم نظر حوله الى
الشقة التى استأجرها حديثاً بالقرب من شقة خالد..
لقد انتهى العمال من الطلاء وتزيين الشقة،ويتمنى حقاً ان تروق لها..لا إنه جعلها مكاناً راقياً دافئاً من
أجله ايضاً وليس من اجلها فقط،كاذب،كاذب كل
جدار طلاه من أجلها وكل جدار زينه بورق الحائط
وفقاً لأحدث صيحة بالدهانات كان من اجلها،لقد
استغل صديقه مهندس الديكور الأردنى استغلالاً
كاملاً وجعله يضع كامل خبرته فى الشقة الصغيرة
لتكون أفضل ما يمكن.
خطى عدة خطوات للخلف ليتأمل البهو الذى خطط مع صديقه لتخصيص جزء منه كغرفة طعام
والمساحة المتبقية كغرفة معيشة..احنى رأسه يتأمل اللون الكاكاو الداكن الذى طلى به الجدران بينما
إستخدام اللون الكريمى لدهان السقف ليتناسب مع أرضية الغرفة الخشبية المصقولة،لقد استقر على نوع الأثاث وحجمه مع صديقه وحتى الألوان ولن يكون
حقيقة بحاجة لشقيقته سوى ببضعة اشياء صغيرة..
اتجه إلى غرفة النوم واحنى رأسه متأملاً فهو لم
يتخيل بأسوأ احلامه ان يختار ذلك اللون ولكنه اراد
لتلك الشقة أن تكون بأبهى صورة لذا وبالرغم ميله
إلى اللون الكريمى التقليدى ولكنه وافق صديقه
على للون الكشمير الذى احتل جدارين من الغرفة
بينما احتل اللون الكريمى جدارين آخرين.
تنفس بعمق وقوة لتتخلل أنفاسه رائحة الطلاء
الحديث ثم التقط هاتفه وترددت اصابعه وهو يكتب ثم يحذف ثم يعاود الكتابة ويحذف مرة أخرى حتى
كتب اخيرا كلمات رسمية جافة فواتته الشجاعة هذه المرة وضغط ارسال.
(تم ارسال حوالة بنكية بما يعادل عشرون الف جنيه مصري،هذا قيمة شبكتك، يتم انفاقها بالكامل بشراء مصوغات ذهبية)
دقات على الهاتف اخبرتها بوصول رسالة على
الواتس آب فالتقطت هاتفها بسأم ولكن ما أن
أدركت المرسل حتى شعرت بالإرتباك ولكن مشاعرها تبدلت فور رؤية محتوى الرسالة فتحول الإرتباك إلى حيرة،فهو لأول مرة يرسل لها أى شيئ،ألم يكن عليه أن يلقى عليها التحية؟او..او حتى يسألها عن حالها!!
أليس من المفترض انه اصبح زوجها!!
تأملت الرسالة لدقائق طويلة،لا تعرف بما تجيب وهل عليها أن تجيب؟!بتردد كتبت اول شيئ لاح بعقلها..
(مرحبا )
وعاودت تفكر بما يمكن أن تكتبه بينما على الطرف
الآخر كان زين ينتظر يجد اشارة على انها تكتب ولكن وكأنها مترددة بالإرسال..هل لم يروق لها مقدار
المال الذى ارسله؟
)اعتقد أن المبلغ أكثر من اللازم ومبالغ فيه)
عقد حاجبيه بينما يقرأ الرسالة،هل تتهكم؟هل تسخر منه؟ام انها حقا تعنى ذلك؟لقد أنفق الكثير مما
ادخره خلال العامين الماضيين بتجهيز الشقة ونقود
الشبكة بالإضافة لنفقات شراء الأثاث..اجاب بحيادية وببرود اخترق الأحرف ليصل لها بينما تقرأ.
)المبلغ المرسل بالحوالة انفقيه بشراء مصوغات
ذهبية)
(حسناً)
كلمة واحدة اجابت بها ثم القت الهاتف بجوارها
على الفراش وبداخل عقلها تساؤل بدأ يراودها بلا
توقف منذ عدة ايام،هل يريد بزواجه منها الإنتقام
لأنها رفضته من قبل وأهانت سلمى؟؟إنها تدرك أن صوتها كان مرتفعاً عندما كانت تهاجم خالد وتلومه على إتمام زواجه وهى تعمدت ذلك حتى يبدو رأيها جليا واضحاً لزين الذى كان يقف بشرفة شقتهم
ولمحته بطرف عينها. لو اراد أن ينتقم!!فليفعل فربما اكتسبت حينها عطف والدتها وشقيقها..ربما تشعر حينها بأنها نالت ما تستحق،كاذبة وعاقة ومغرورة
هكذا كانت وانتقامه ليس سوى ما جلبته على
نفسها...احياناً تظل تتساءل لساعات لماذا لم تكن
مثل سلمى؟لما لم تكن راضية بحياتها وقانعة بها؟
وقفت واتجهت الى خزانة ملابسها تحدق بها...هل
عليها أن تبتاع ملابس جديدة كعروس كما أصرت سلمى؟ألقت نظرة عابرة نحو ملابسها البالية،عامين لم
تبتاع اى ملابس جديدة وللحقيقة اللون الأسود
كحداد منحها تغطية جيدة بالعمل لفترة طويلة...
حسناً ستبتاع عدة ملابس جديدة للمنزل وبالطبع يجب ان تبتاع عباءة او اثنتين سوداء لأنها لا تملك منهم
بخزانتها وبينما تفكر فيما يجب أن تبتاعه وكيف
ستدبر المال له،انحدرت عينيها لأسفل الخزانة التى
كانا يتشاركان بها هى وخالد قبل سفره ولمحت
ألبوم الصور الخاص بشقيقها فانحنت تلتقطه
وامسكت به عائدة للفراش وهى تتذكر تذمره عندما
أمره والدهما أن ينقل فراشه لينام بالصالة الصغيرة
التى كانوا يستغلونها كغرفة معيشة ومكان
يتناولون به طعامهم ايضاً..
"لما يجب أن أترك انا الغرفة؟انا الأكبر وهذه غرفتى
منذ البداية"
زفر خالد بغضب واعتراض رغم أن هذا لم يمنعه من
مساعدة والده بنقل فراشه.
"لأنك الرجل،وشقيقتك اصبحت فتاة كبيرة ويجب أن
يكون هناك مكاناً خاص بها بمفردها"
كانت سعيدة وهى تستمع إلى والدها لم تكن قد
بلغت الرابعة عشر حينها وقرر والدها أنه يجب أن
تنام بمكان منفصل عن شقيقها وبشعور بالظفر.
لأنها حصلت على الغرفة بمفردها أخرجت لسانها
بطفولية لخالد الذى صرخ بها مخبراً والده عن
فعلتها.
"أنت الأكبر والرجل ويجب أن تتحمل دلال شقيقتك،
ستكون لها اباً واخاً إذا حدث لى شيئ"
دمعت عينيها وهى تتذكر كلمات والدها،لم تدرك
حينها قيمة ذلك الوالد الطيب ولم تدرك حتى بعدها قيمته حتى فقدته..
"إذا كانت ابنتى كنت سأكسر عنقها تلك المدللة"
تمتم خالد بنبرة غاضبة وهى تقفز لأعلى بسعادة
وتعاود إخراج لسانها مغيظة له.
"لقد تنازل زين عن الغرفة لشقيقته وبدون حتى أن
يطلب منه والده،فلقد شعر من تلقاء نفسه بوجوب
ذلك"
"والدى،زين قام ببناء جدار بالشرفة وحولها الى غرفة نوم له"
"يمكننى أن اساعدك فى فعل الشيئ نفسه لك،
وتوقف عن التذمر كالفتيات"صوت زين الخشن الجهورى خطى عبر باب الشقة المفتوح فجعلها تنتفض
بذعر وتعود لغرفتها..كانت تهابه حقاً كما تهابه سلمى تماماً.
مررت صفحة وراء صفحة بألبوم الصور حتى أوقفتها صورة لها وهى تجلس على ارجوحة وتمسك بشطيرة فى يدها..تتذكر تلك الصورة جيداً لقد التقطها لها
والدها بتلك الكاميرا العتيقة التى ابتاعها مستخدمة وكان سعيدا جدا بها لم يكن عمرها قد تجاوز
التاسعة وبناء على طلبها اصطحبهما والدها مع
عائلة عمها توفيق الى القناطر الخيرية..حتى وهى
طفلة كانت متطلبة أنانية فقد ظلت تحتل الأرجوحة
بدون ان تغادرها حتى لا تسمح لغيرها من الفتيات
بالحصول عليها...لاحت على شفتيها إبتسامة باهتة بينما تتذكر زين الذى وافق على عكس خالد على دفع الأرجوحة وواظب على ذلك بلا كلل..يؤرجحها تارة
ويؤرجح شقيقته تارة أخرى فى حين يحاول تهدئة
خالد..
"انهما فتاتان فهل سنذهب للتنزه ولعب الكرة
ونتركهما بمفردهما؟!"
"وهل آتينا إلى هنا لنعتنى بالفتيات؟"تذمر خالد
بغيظ.
لم يوقف جدالهما سوى والدها الذى احضر لهما
الشطائر ودفع زين دفعاً للذهاب مع خالد ليتنزها او
يلعبا.
لا تعرف متى بدأت تخشاه وتشعر بالذعر منه!!
تساءلت وهى تدرك أن هناك وقتاً كانت تخشاه
بالفعل،ربما منذ ذلك اليوم عندما رأته يتشاجر مع
أحد شباب الحارة السيئين لأنه تعرض لها هى وسلمى وهما عائدتان من المدرسة..حسناً لقد ابتسمت
للشاب وتركت له نظرة تعنى اتبعنى،كانت تجيد ذلك تماماً..تلقى بنظرة تعنى الموافقة ثم تتراجع متمنعة مستمتعة بقدرتها على جذب أى شاب بنظرة عينيها.
رأته يومها وذراعه ينزف الدماء بغزارة بعد أن جرحه
الشاب بمدية(سكين تطوى وتفتح) فى ذراعه ورغم
ذلك لم يتوقف عن شجاره مع الشاب حتى اسقطه
ارضاً وركله ركلات متتالية واستولى على مديته
ولولا
تدخل والدها والعم توفيق لكان قد إستخدمها
بإصابة الشاب كما اصابه ومن يومها وقد حمل ذراعه آثار ندبة غائرة بسببها...أصبحت تخشي قوته الغاشمة التى يتدخل بها فى حياتها وكرهت تلميحات
والديهما عن كون مليكة لزين...خرجت من دوامة
ذكريات لم تعد تفارقها بالآونة الأخيرة،على صوت
رنين هاتفها فالتقطته على الفور عندما وجدت اسم شقيقها.
"مرحبا،مليكة"
"مرحباً"اجابته بلهفة إليه،بلهفة للأمان الذى تشعر
به بمجرد سماع صوته..أمان من يشعر بأن له سند فى هذا العالم وليس وحيداً بلا جذور تتقاذفه الأمواج.
"مليكة،ارسلت لك حوالة نقدية،هذه المرة لن
تضعيها بالبنك،اشترى ملابس جديدة وكل ما يلزمك،لن انتظر بالتأكيد أن يبتاع زين لشقيقتى ملابس.
فالرجل اوفى بإلتزامته كما اتفقت معه،لن أقبل أن
تستهينى بكرامتى مرة أخرى..نفذى ما اطلبه منك،
هل تفهمين؟"
استمعت الى شقيقها بصمت وبدون ان تتفوه بكلمة حتى إنتهى،ثم تمتمت بكلمة واحدة:"حسنا"
ولم يكن لدىّ كليهما ما يقوله للآخر فلا هى لديها
قدرة على أن تخبره بما يختلج به صدرها ويؤرقها ولا هو كان لديه القدرة على الغفران.
ولأول مرة منذ أكثر من عامين مضيا تقف أمام محال لتبتاع ملابس ولكن بدون ذلك الحماس الذى كانت
تشعر به فيما مضى،فلطالما شعرت بالسعادة عندما كان حاتم يصطحبها إلى أحد تلك المحال الشهيرة
ذات الأسعار الخرافية ليبتاع لها هدية وكأن كل شيئ كانت عليه انطفئ وتلاشى بلا رجعة فما عادت تثيرها الألوان وما عادت تستهويها رحلات التسوق خاصة وهى تسير بمفردها وحيدة تبتلع غصة بحلقها محاولة عدم البكاء...يوم يليه يوم وهى تخرج من العمل
لتبتاع ما يلزمها،كم أرادت سلمى فى تلك اللحظة!!
كم تحتاج إليها بجانبها حتى لو لم تستطع أن
تخبرها بالأفكار التى تراودها عن رغبة زين فى الزواج منها من اجل الإنتقام.
خطت نحو مدخل الحارة الضيقة تحمل عدة حقائب
مشتريات..شاردة،غارقة فى أفكارها ولكن ظل لرجل يستند إلى عصا وقف أمامها فجعلها ترفع عينيها من الأرض وتستفيق من شرودها..
"جئتك بنفسي عندما وصلنى رفضك ورفض والدتك"
تحدث الرجل الستينى محدقاً بها..حسناً كان يفكر
بفتاة صغيرة من بلدته بسوهاج ليتزوجها ولكن تلك
الفتاة منذ أن كانت مراهقة وجسدها وجمالها يثيره ويتمنى لو يمتلكها.
"عم عبد الرحيم..من فضلك لقد تم عقد قرآنى وما
تفعله الآن ليس من النخوة بشيئ"
"هل زَوَجِك شقيقك لثري من الدولة الخليجية التى
يعمل بها؟لا تعتقدى أن الأخبار لا تتناقل وأننى لم
أعرف،يمكنك أن ترفضى وتطلبي الطلاق وستحكم
المحكمة بتطليقك،وما وعدك بأن يمنحه لك من
أموال سأدفعه لك..لا تعتقدى أننى قسمت كل
أموالى على اولادى وأصبحت لا أملك شيئ، فلدىّ
ارضى ببلدتى ويمكننى ان امنحك ما تشائين"
الصدمة عقدت لسانها وجعلتها تقف كالتمثال
متسعة العينين فمها يفتح ويغلق محاولة الكلام
لكن لا شيئ يغادر شفتيها،هل فقدت قدرتها على
الكلام؟!!ولكن صدمتها لم تطل كثيراً فقد أنقذها
صوت ما كانت لتحلم ان ينقذها بتلك اللحظة..
"مرحباً يا عم عبد الرحيم،هل كنت تهنئ مليكة على
عقد قرآنها من شقيقي زين؟!"
التفت الرجل نحوها بوجه مرتبك فعاجلت بالقول:
"انها مثل إبنتك وزين ايضاً واعرف أنك تتمنى لهما
الخير،سعدت برؤيتك مرة أخرى عم عبد الرحيم فما
هى إلا أيام وسأسافر واصطحب معى مليكة و
خالتى،بإذنك"
امسكت بيد مليكة الواجمة وابتسمت ابتسامة
متهكمة للرجل الذى حط على رأسه الطير ثم جذبت صديقتها وسارت نحو المنزل وهى تتمتم:"كنت أنتظرك بالنافذة لأعد لك مفاجأة وعندما رأيته يتبعك
ارتديت العباءة ونزلت على الفور"
عندما لم تجيب التفت لها سلمى بمدخل المنزل
المتهالك وهى تنظر حولها لتتأكد أن لا أحد
سيسمعهما..
"سمعت كل ما قاله لكِ ذلك العجوز الخرف،لكن لن
تغادرى هذه الحارة إلا بعد ان يعلم أصغر طفل بها
أن زوجك هو زين توفيق"
ارتمت مليكة فجأة على كتف صديقتها تبكى و
تعانقها بقوة فربتت سلمى على كتفها ورغما عنها عينيها كانت تدور بالمنزل الذى تعيث فيه الشروخ
فساداً وبالطبع ما كان العم عبد الرحيم مالكه
ليرممه لأنه يريده أن يتهدم ويسقط فيستطيع أن
يعيد بناء الأرض ويبيع الشقق بمبلغ كبير بدلاً من جنيهات الإيجار الزهيدة.
"توقفى عن البكاء حبيبتى،لقد أفرغت جيوب شقيقي وحضرت لكى نشترى سوياً فستان زفاف رائع و نذهب إلى صالون تجميل ونضع الأنوار بالحارة وتخرجين منها مرفوعة الرأس"
كانت غافلة طوال الأيام الماضية عن الثرثرة
والشائعات التى يروجوها عن عقد قرآنها..لقد أرادت
أن يتم فى صمت حتى لا يجدون ما يتحدثون عنه
ولكن يبدو أنها اخطأت فعقد قرآنها الهادئ اصبح مادة دسمة لتكهناتهم..
"هل حضر خالد معكِ؟"تمتمت مليكة عندما استعادت سيطرتها على دموعها.
"لا..لم يستطع الحصول على عطلته قبل موعدها،
لكننى واصلت الإلحاح عليه كإمرأة مصرية أصيلة حتى وافق على ان احضر لمصر انا ومهد ونعود معكما انتِ وخالتى"
رفعت مليكة يدها تجفف عينيها بلهفة:"كم اشتاق
لذلك الصغير!!"
"هيا لنصعد لقد أعددت لك غداء فاخر وانتظرك أنا
وخالتى لنتناول الطعام سوياً"قالتها سلمى بمرح
محاولة تبديد نظرة الحزن والأسى من عيني صديقتها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي