بداية النهاية

ابتسمت بالرغم من تساقُط دموعها على ذلك الغِلاف الذي يحوي رسمًا لامرأةً بملامِح تجريديّة غير واضِحة التقاسيم على نسق الرسومات القديمة لبعض الفنانين الذين يرون ان المرأة نهدان وخصر وارداف، رُبما لديهم فلسفة خاصة حول رسمهم ولكنها فلسفةٌ لا تروق لها مُطلقًا، ورُبما هي السببُ بكونِها رحيل التي تمقتُ كُلّ القوانين خاصّةً تلك التي يضعها الرِجال لتغدوا اُنثى مُتمرّدة على كُلّ ما هو طبيعي.

كانت المرأة في غلافه تضعُ إكليلا من الورد على رأسِها لتُناقِض جمود جسدِها برِقّة ذلك التاج، شعرت للحظةٍ ما انّ هذه الصورة ليست سوى تجسيدًا لها، لأُنوثها وحُزنها، رِقّتها وجمودها، خُبثها وبراءتها، ضمت حينها الكتاب وبكت ألم كُلّ ما اقترفتهُ بحياتِها، استلقت على اريكتها الصغيرةُ تضُم ما تبقى من اشلاء روحها الى ذلك الكِتاب علّهُ يستجمِعُ بقاياها ليُعيدها ولو نصِف امرأة.

مرّت ساعةٌ كامِلة وهي صامِتة لا يحكي عنها سوى سيل الدموع والحياةُ في الخارِج تدور كما هو كُلّ يوم، شوارع المدينة مُكتظّة بالأرواح العابِرة والأجساد التوّاقة للراحة من الشقاء، والشمسُ ساطِعةُ تُدثّرُ بضياءها الأنفُس المُظلِمة من مرارة الفقد والخوف والأرق، وامام واجِهة احد المقاهي يقِفُ عمران بأعيُنٍ شارِدة قبل ان يدلِف للداخل لإحتِساء بعض القهوة علّها تُزيلُ بمرارتها عُلقم حنقه على رحيل.

لقد تمنّى طويلا تلك اللحظة ولكنّها كانت اسوأ ما قد يقدمه له القدر؛ فبحياته لم يشعُر بالخزي بقدر شعوره به ليلة الأمس، إنسياقه لها واستسلامه لمشاعره كلّفهُ الكثير وجعله يتّخِذ قرار تأخر كثيرًا في تنفيذه؛ فقد توجّب عليه الابتِعاد عنها منذُ معرِفته بإرتباط قلبها بفُرات ولكنّهُ ظنّ انّ السنوات قد تمحوه من قلبها خاصّةً عقِب قطِعها لكُلّ ما قد يجمعهُما ولكن بعد مرور خمسة أعوام من الفُراق مُجرّد رؤيتها له اثبتت لهُ ان لا مكان لهُ بحياتِها، رُبما تركهُ لها بعد ليلة أمس ورسالته كانا قاسيان على قلبِها الرقيق ولكن يجِب ان تُصدم بحقيقتها لتُحاوِل إنقاذ ما تبقّى من روحها المُحتضِرة.

قاطع شروده صوت هاتِفه مُنبِئًا عن مُكالمة هاتِفية تلقّاها قائلًا بحنان:
- مرحبًا أُمّي، كيف حالك؟
صمت لثوانٍ وارتسمت ابتسامةً حنونة على شفتيه قبل ان يُكمِلُ:
- هل لا زال هُنالِك مُتسعُ لي بحِجرِك؟ ارغبُ بالعودة طِفلا يا أُمّي، أتستطيعين تحمُّل بُكائي بين ذراعيكِ؟
اغمض عينيه بانهاك وابتلع تلك الغصّة الحارِقة ليُضيف كاذِبًا:
- انا بخير يا أُمي، لا تقلقي، فقط اشتقتُ إليكِ، بالطبع سآتي، سأحجِزُ مقعد الطائرة اليوم وتقريبا سأكون معكُم مساء الغد، حضّري لي عشاءً ملكيًّا من يداكِ الحنونتان فأنا جائعٌ لكُلّ ما قد تصنعينهُ لي.

اغلق هاتِفه عقِب تحدُّثه مع والده واخته وقد نوى اخيرًا ان يعود لدفئ العائلة؛ فقد سافر والديه برفقة أُخته التي تدرُس بدولةٍ أُخرى فلم يستطيعوا تركها وحدها بينما ظلّ هو بحجّة العمل الواهية التي اساسها البقاءُ بجانب رحيل والآن بما انّهُ قد كتب آخر سطور حكايته معها يتوجّبُ عليه العودة لعائلته فهم الوحيدون القادرون على شفاء جروحه، سيستقِر هُناك ويُؤسس حياة جيدية بعيدًا عن كُلّ ما قد يُذكّرهُ برحيل، ومهما التهبت جراحهُ سيأتي يومٌ وتُشفى الى الأبد.

بينما بشقّة رحيل لا زال الصمتُ يُخيُّم على الارجاء بالرغم من ضجيج الذكريات التي حولت مشاعرها الى جمودٍ غريب جعلها تنهضُ مُتجِهةً الى غُرفتِها لتقِف امام خِزانتها المُمتلِئة بالثِياب الملوّنة ولكن ثوبٌ وحيد يختبِئُ بخجلٍ بين الفساتين، وكأنّهُ يُعبر عن حُزنه لعدم مُلامسته لجسدها؛ فهو الثوب الوحيد الذي شهِد تحرُّك مشاعرها تجاه فُرات.

في ذلك اليوم وبعد عامان من الإبحار في خِضمّ مشاعر غريبة ادركت انها تُحِبّهُ ومُستعِدّة ان تتخلى عن كُلّ شيءٍ في حياتِها في سبيل الاحتفاظ به، خرجت يومها الى التسوّق لترى هذا الفستان على واجِهة إحدى المحلات، لم يكُن لونهُ الأحمر فقط ما جذبها بل قُماشته الرقيقة كبتلات الزهور وتصميمه الذي يعود لحقبة الملوك بضيقه الفاتن بمنطقة الصدر مُسترسِلا بنعومةٍ على جسد المانيكان الذي يشبه قوامها الممشوق، لم تتردد في شراءه والتخطيط لأول موعدٍ قد يجمعها به كحبيبة وليس كصديقة او طبيبة، غادرت واللهفة تمتزِجُ بالعشق بقلبِها ولكن ما حدث في ذلك اليوم اعدم كُلّ آمالها.

شعرت بدموعها تتساقط دون ارادتها إلّا ان ملامحها لا زالت مُحايدة، صامِدة، رافِضةً الإنهِيار حتى امام نفسها، التقطته بصمت قبل ان تضعهُ امام جسدها ناظِرةً لمرآتها الساحرة التي دومًا ما تُصوّرها باذِخة الجمال وهذا ما يزيدُ من رضاها بنفسِها وإدراكها لقيمتها امام كُلّ من يراها، بهدوءٍ شديد راحت تفعلُ كُلّ ما يُمليه عليها قلبها، بدءً بوضع شراشِفِ فراشِها ووسادتها العالِقة بنكهة الخطيئة في كيس المُهملات مرورًا بإغتِسالاها عن كُلّ ما قد يلوّث انوثتها؛ فقد خُلِقت صافِية وستظلُّ بالرغم من كُلّ شيء.

بعد ساعاتٍ كانت قد تناولت إفطارًا خفيفًا ودلفت لإرتِداء ثوبِها الأحمر في موعِد مع ذاتها التي ظلمتها كثيرًا، اسدلت شعرها الأسود الكثيف على ظهرِها تارِكةً إياهُ على سجيته وكأنما تمنحهُ هو الآخرُ مُتنفّسًا للحياة، خطّ الكُحل الكثيف لم يستطِع الإفلات من ترصُّد رمشيها ليستسلِم بطاعةٍ على سطوة كثافتهُما، لا زالت مرآتها مبهورةً بتأنُّقِها وكأنّها مُراهِقة تستعِدُّ للِقاء حبيبِها بأوّل موعد، انهت زينتها بأحمر شفاه بنكهة التوت البرّي المُلائم لإحمرار بشرتها وتورُّد وجنتيها، غدت في لحظةٍ أميرةً للحُزن وكأنّها فينوس بأبهى حُلّتها.

بقدمان حافِيتان اتجهت لتجلِس على كُرسيّها الهزّاز وبحِجرِها كتاب فُرات، اغلقت عيناها ما ان وصلها صوت الموسيقى الناعمة التي بدأت بالتصاعُد من مُشغّل الاسطوانات العتيق الذي كان هديّة والدها بيوم ميلادِها العشرين، فتحت عيناها لتتأمل بابتِسامةٍ صغيرة ما استطاعت فعله بساعاتٍ قليلة، كان الجوّ صحوًا بالخارِج والشمس تلفحُ بضياءها اجساد العابرين إلّا ان الظلام منحها ستائره السوداء مُنسجِما مع ضوء الشموع الفائحة بنكهات الورود، بينما انسجم الغِطاء الجديد للفِراش ذو اللون الأبيض مع اثاث الغُرفة المُحايد في ألوانه بين الأبيض والأسود والأزرق، قررت أخيرًا ان تطرُد كُلّ مخاوِفِها وتبدأُ بفتح الكِتاب لتصطدِم بإهداءٍ اوصل إليها نبرة صوته الحنونة:

" الى الأقدار التي جعلتني مريض توحُّد، وجعلتها طبيبتي، شُكرًا بحجم السماء يا إلهي"

قبل البداية ارغبُ بأن انوّه ان هذه القِصص ليست سوى حكايا صغيرة ببطولات انثوية رُبما تُضيفُ الى النِساءِ او تنتقِص من قدرهن، لا يُهم فالأهم انها تُثبِتُ انّهُنّ اساس الحياة.

ملحوظة أُخرى، انا لم أقُم بتأليف سوى قِصّة إكليل بينما بقيّة القِصص قد سردتها الطبيبة رحيل كإحدى طُرق العلاج، وستعود عائدات العمل لشخصِها؛ فأنا لم أقُم سوى بتجميل الفكرة ونثرها بأسلوبي الخاص على حسب فهمي للأفكار.

وأخيرًا اغمضوا اعيُنكُم وازيلوا هموم الحياة عن عاتِقِكُم وعودوا بالزمن الى الوراء الى حيث لحظاتِكُم المُؤلِمة الحزينة او تلك التي جبِنتُم فيها عن المُدافعة عن حقوقِكُم بالآخرين، هل تذكرون تلك اللحظات؟! اذا شعرتُم بذات الألم سيكونُ هذا دليلٌ على تشبُّثِكُم بالماضي، لا تخافوا فالماضي يتنكّرُ بهيئة طِفلٍ ضائع لذلك تُمسِكون بيده بحُسن نِيّة وما هو إلّا قزمٌ شِرير يُريدُ قيادتكُم الى حافّة الهاوية حيث تسقُطون في بئرٍ من تأنيب الضمير.

نحنُ بشر يا اعِزّائي والخطأُ جُزءٌ من حياتِنا لذا لا تغُرّكم هالة براءة الماضي وافلتوه لتنجوا بأنفُسِكُم فالحاضِر لن ينتظِر طقوس عذاب ذاتِكُم والمُستقبل لن يرأف بحُزنِكُم، عيشوا اللحظة بكُلّ ما تحمِلُ من واقِعيّة ولا تهتمّوا لما قد يمضي فالهدفُ هو السير في طريق الحياة الى الوصول للعالم الآخر وفي هذه الرِحلة ليس عليكُم الإلتفات الى الوراء بل التمتُّع بفكرة المسير سواءً بين الأشواك او الورود فكِلاهُما من ذات الأصل مما يُثبِتُ انّ الحياة في اسمى معانيها ليست سوى غُصن زهرةٍ عبِقة لا بُدّ من تحمُّل أشواكِها لاستنشاق عبيرها.

ابتسمت بحنان وخفقات قلبِها العالية تطرُقُ قفصها الصدريّ بقوّةٍ مُرعِبة دفعتها لوضع كفّيها المُرتعِشين على جدار قلبها المُتعب هامِسةً بخفوت:
- يكفيك عذابًا؛ ما عُدتُ قادِرةً على هذا الألم.
ظلّت لدقائق تُهدِئ نبضاتها الثائرة وقد بدى حديث فُرات مُوجّه لها وكأنّهُ يعلمُ بما تشعُر، أتُراهُ يُحبّها بقدر شعوره بمرارة حالِها ام انها ليست سوى صُدفةً عابرة؟ هل هذه الكلِمات تستحِثّهُ على نسيانِها ام انها بادِرة لفتح صفحة جديدة؟

الكثير من الأسئلة اطلّت بمُخيلتها إلا انّها كبحتها بصرامة وارتشفت بضع رشفات من كوب قهوتها قبل ان تعود الموسيقى لتصفية مزاجِها وحثّها على المُتابعة حيث القِصّة الأولى التي تحمِلُ عنوان (هيرا)

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ما رأيكم بالفصل ككُل؟

اعتذر لقِصر الفصل ولكن القادم سيكون اطول بإذن الله.

هذا الفصل بمثابة الفصل قبل الأخير بقِصّة رحيل؛ فقراءتها للقصص القادمة ستعقبها النهاية.
الفصول القادمة ستكون عبارة عن قصص مختلفة اتمنى ان تسمتعوا بها.


.
.
.
.
..
...
مع حُبّي

.
.
.
..
...
فايا
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي