عودة السمندل

كيف لمجرد كلمات على ورق ان تحرقنا لهذه الدرجة؟! وكيف اخذتها الذكريات من غرفتها المُحصّنة الى تلك اللحظات التي قضتها معهُ وكأنّها تُشاهدُها على شاشة عرضٍ كبيرة، تسمعُ صوتهُ بدلًا عن نبرتها وهي تحكي تلك الحكايات، تُغمض عيناها الباكية ولا زالت ملامحهُ الوديعةُ تسكن اعماق حدقتيها، وبنهمٍ شديدٍ عادت لالتهام حروفه بكلماتها، تلك الحكايات التي اختلقتها من خيالها الخصب كوسيلة للتواصل بينهما لم تكُن مُجرّد كلمات عشوائية بل كانت بالنسبة اليه حياةً جديدة يغوص في تفاصيلها كُلّ يوم.


"انتظر المحبوب حبيبه ذلك اليوم بمشاعر جديدة، كطائرٍ مُهاجِرٍ يعود الى الديار اخيرًا هكذا شعر وهو ينتظرها بمكان موعدهما الأول ولكنها لم تأتي! بقي على انتظارها ايامًا رفض فيها مُجرد التزحزُح من المكان ليس جنونًا او غباءً بل اخذًا بالأسباب؛ فربما كانت مشغولة او في مشكلة.

مرّت الايام والاسابيع والشهور واجبرت الظروف الطائر لتغيير مكانه ومسايرة الحياة بالتحليق بعيدًا تاركًا قطعةً من روحه بذلك المكان، ولكن الهجرة لم تكُن هيّنةً عليه وهو يشعر بتلك الوحدة القارصة بالرغم من ذلك السرب الذي يحفه من كل حدبٍ وصوب؛ فالأمان منوطٌ فقط بتواجد الاحباء والفراق سبيلنا من دونهم، فمهما حلقنا عاليًا وتلاشت معالم الذكريات القديمة ستظل بداخلها جذوة الشوق.

لم يتملكُ طائرنا اليأس من ملاقاة الحبيبة فهي كطائر السمندل، ستعود مهما طال غيابها، ستعود كما خُلقت معهُ منذُ آلاف السنين حيث تلك الصحيفة التي كُتِبت عليها حكايتهما سويًّا، كالاسطورة القديمة لا يمكن تصديقها ولكن بذات الوقت لا يمكن دحضها وستظلّ عالقة بالذهن، وتقول الاساطير ان السمندل لا يحترق بنيران الفراق بل يتلذذُ بها ومهما طال الزمن سيخرُجُ منها ليحلّق بحُريّةٍ في الارجاء، سيخرج من رحم الماضي ليخلق الحاضر، سيخرجُ مهما طال الزمن."
النهاية.


هكذا خطّ نهاية حكايتهما دون حتى ان يمنحها الحقُّ بفهم ما يرمي اليه وقد شعرت من وقع كلماته انّهُ ينتظرها ولكن بذات الوقت بدى الأمرُ حقيرًا للغاية لعدم قدرتها على التبرير، لماذا لم تذهب ذلك اليوم؟ ولماذا لم ترتدي هذا الثوب؟! هي نفسها لا تعرف السبب؛ ففي ذلك المساء التقت بوالدته التي اخبرتها بكُلّ وضوح في رغبتها بأن يرتبط ابنها بها ولكن حينها ترددت طويلًا وادركت انها على وشك التورط بشيءٍ كبير، فالارتباط بشخص مثل فُرات يحتاج الكثير من التفكير ولم يكُن حُبّها لهُ بذلك الوقت كافيًا لتلك التضحية.

اعتصر الألمُ قلبها وسالت دموعُ الندم على وجنتيها لتسقُط على حروف الفُرات، نهرها العذبُ الذي غدى ماءً مُحرّمًا، ولكن تأمُّلها لتلك الحروف منحها قوّةً عجيبة لفعل اشياء لم تجرؤ حتى لتخيُّلها قبل بضعة ساعات ولكن هذا الكتاب قد غيّر حياتها كما فعل صاحب الكتاب منذ بضعة سنين، فجأة ودون ايّ مقدمات اجتاحتها تلك المشاعر المتضاربة ولم تكن لتسمح بأن تهفو هذه الغيمة دون ان تمطر على قلب حبيبها.

راحت تركُضُ في الشواعر الفارغة سوى القليل من المارّة بقدمين حافيتين، يصاحبها صوت موسيقى بعيدة، حنينة، دافئة ومشجعة، بكفّها كتابه وبقلبها حُبًّا اطهر من ان تلوثهُ مدنسات الحياة، لم تدري انّها كانت كفراشةٍ بذلك المظهر البريّ واقسم كُلّ من رآها انّها عاشقة هذا بالطبع إن لم تكُن مجنونة، وعندما شعرت بأن المسافة لبيته ابعد من تقطعها ركضًا كما في الافلام والروايات العاطفيّة اوقفت سائق الاجرة العجوز الذي لم يسألها عن شيءٍ سوى وجهتها من تلك الدموع المُختلطة ببسمة عميقة وشرود وتوهان ادرك ان تلك المرأة التي تقِفُ امامهُ هائمة حدّ النخاع وربما وحده الحُبّ من لا يُدفع إزاءه ثمن.


عندما اقتربت من منزله كانت تلك الشعلة الملتهبة بعيناها قد بدأت بالانخماد ولكنها وجدت من يهمسُ لها باصرار:
- مهما غادرت الطيور اعشاشها ستعود ذات يوم، هيا يا صغيرتي عودي وتذكري ان لا خوف في الحُبّ والحرب؛ فكلاهما اقدارنا.
منحتها كلمات العجوز قوّةً من نوعٍ آخر وكأنّما ازال احدهم غشاوةً عن قلبها فعادت خفيفةً كريشةٍ يحملها الهواء لتنتهي بين يديه يرسمها كما يشاء.

على اعتاب بابه لهثت بعُنف وعيناه تمنحها تذكرةً مجانية بالانهيار ولكنها تماسكت لآخر لحظة وقالت بعد صمتٍ طويل:
- لماذا رمزت لي بطائرٍ اسطوري؟! كان من السهل ان اكون طائر عادي يهاجر كما البقية، يهوى الى الارض او يصطادهُ البشر دون ان يصنع فرقًا، لماذا لم اكُن سوى طائرٍ من نار؟!
- تشبهين السمندل.


صار صوته اجشًّا كخشخشات المطر على الاوراق اليابسة، كصوت امواج البحر المتلاطمة بجنون، ولم يكُن هذا بصالح قلبها المسكين ولكنهُ اكمل مُتأمّلًا اياها بعُمق:
- انتِِ مثل الاساطير، لامعة كنجمةٍ بعيدة المنال، بكِ من الحقيقة ما يدحض الخيال ومن الخيال ما يُحقق الخُرافات، من الظُلم ان تظُنّي نفسكِ امرأةً عادية وانتِ بهذا المزيج المجنون.



غاب عن ناظريها لدقائق ظنّتها دهرًا من الزمان وعندما عاد كان يحمِلُ معهُ ذكرى لم تنساها بحياتها؛ امامها مُباشرةً وضع الخيط الأول الذي ربطهما، تحت قدميها الحافيين كان حذائها الرياضي الأحمر يعيد اليها تلك اللحظات بتواتُرٍ سريع، كُلّ بسمة وكُلّ ضحكة خرجت من اعماق قلبها، كُل حكاية طويلة اختلقها خيالها وصدّقها هو بكُلّ عفوية، كُلّ ليلة غفى بها على صوتها كطفلٍ صغير، بكت حينها كما لم تبكِ من قبل وهدهدها هو بعناقٍ حنون.


البسها حذائها ودمعتان ثقيلتان سقطتا من عينيه وصوت طفلٍ صغيرٍ يعلوا في الارجاء، ضحكاتٍ مرحة وهتافٍ رقيق:
- كُفّ عن الركض يا أمير.
جفّّت دموعها فجأةً وتوقّف قلبها عن الخفقان، بهتت ملامحها ولكنها لم تستطع محو صورة تلك المرأة الجميلة التي وقفت امامها، جالت اكثر الاحتمالات ايلامًا بداخل عقلها الصغير فسقطت جاثية بنحيب في محراب الحُبّ وكُلّ ما بداخلها يحترق الى درجة انّها لم ترى والد الطفل وهو يحمله ويصطحب زوجته معتذرًا لصديقه فرات وبقيت تلك اللحظات مُخلّدة في حياتهما الى الأبد؛ فعند شعورنا بفقدان اعزّ ما لدينا يبدوا حزننا حقيقيًّا بعيدًا عن كُلّ ما هو مزيّف، صادقًا لا يمتُّ الى الخداع بصِلة وهي كانت امرأة عاشقة، غارقة الى اخمُص قدميها دون ان تبوح باعترافٍ واحد.


وبينما يطالعها هو بصمت وهي تُقيم طقوسها الجنائزية على حُبّها ادرك انّها بالفعل طائر السمندل الخاص به؛ ومن احتراق هذه اللحظة ستولدُ من جديد هنا في بيته وبين ذراعيه حيّثُ عُشّها الدائم، تلك الاسطورة، اسطورة الرحيل.

تمت

___________________

رأيكم بالقصة،
وبالنهاية بصورة عامة.
صحيح انها لم تكن مجموعة قصصية كما خططت لها ولكنني راضية عن انهائها بهذه الطريقة فالقلم اراد لرحيل ان تكون قصة منفردة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي