الفصل الرابع
اعلن قائد الطائرة عن الإستعداد لربط احزمة الأمان
فوقفت سلمى تساعد والدة زوجها بربط الحزام
وهى تبتسم:"دقائق خالتى وستكونين خارج الطائرة"
لم تجيبها خالتها واستمرت بتمتمة الأدعية التى
بدأتها منذ بدأت الطائرة الحركة بمطار القاهرة فقد كان جسدها كله يرتجف ذعراً ولكنها هدأت قليلا
حينما انتظمت الطائرة فى الجو وها هى عادت
لإرتجافها والطائرة على وشك الهبوط.
التفتت سلمى نحو صديقتها وعروس شقيقها
فوجدتها قد تعاملت مع حزام الأمان بالرغم من
طبقات نسيج فستان الزفاف التى تعوق حركتها
فعادت لتجلس بمقعدها حاملة مهد فوق ساقيها
وربطت الحزام من حولهما ثم أمسكت بيد مليكة
فوجدتها ترتجف...انها تعرف أن ارتجاف خالتها
خوفاً من تجربة ركوب الطائرة فالأمر جديد عليها
تماماً وربما هو جديد ايضاً على مليكة ولكن
ارتجافها لم يكن من تلك التجربة هى متأكدة من
ذلك...انها لا تفهم شقيقها حقاً!!لما لم يتحدث مع
زوجته؟!لما لم يخلق بينهما ألفة قبل أن يلتقى بها؟
"انه فقط زين مليكة،نعم اصبح زوجك ولكنه بالنهاية زين..زين الذى نشأتى معه وكان يبتاع لك الحلوى
بمصروفه ويذهب الى المدرسة سيراً على الأقدام،ربما هو صارم وفوضوى لكن سيتقى الله بك ولن يظلمك ابداً،تثقين بهذا أليس كذلك؟"
توقفت عن اخبار مليكة أن زين يحبها لأنها ما عادت
تجد الأمر منطقياً فكيف يحبها وهو لم يكلف نفسه عناء التحدث إليها او حتى مشاركتها فى تأسيس
شقتها!!
اومأت مليكة محاولة ان تبتسم وهى تشعر أن قلبها يرتجف،هل يمكن للقلب أن يرتجف خوفاً مما هو
مقبل عليه!!يديها باردة للغاية تكاد تفقد الإحساس
بهما،فلقد أصبحت الآن متيقنة أنه تزوج منها
لينتقم،فلا شيئ حدث ينفى اعتقادها هذا..لقد
اهملها ولم يتحدث معها مطلقاً،لم يهنئها حتى
بعقد قرآنهما حتى عندما تهورت وارسلت له صورة
فستان الزفاف محاولة أن تجد وسيلة لتتحدث إليه
ولكنه لم يبالى ايضاً ولم يهتم فقط تيقنت انه رآه
وتسلم الصورة ولكنه لم يكلف نفسه عناء الرد!!
اغمضت عينيها حتى تقاوم الشعور بالغثيان من
حركة هبوط الطائرة فيكفيها الخزى الذى تحمله
بينما تلتقى به،لذا فهى ليست بحاجة لتزيد الأمر
سوء وتتقيئ ايضاً!!
حينما استقرت الطائرة اخيراً على الأرض التفتت نحو
والدتها التى تمتمت بالشهادتين وكأنها ناجية
لتوها من موت مؤكد فى حين كان مهد الصغير
يلعب غير مبالى بأى شيئ..لا خوف...لا قلق،فتمنت
حينها لو تعود تلك الطفلة التى تلعب هى وسلمى
بالحارة مع الفتيات بعد أن منعهما زين من لعب
الكرة مع الصبية،ولم يكتفى بهذا بل كان يقف امام
باب المنزل فى نوبات مراقبة متبادلة مع شقيقها
حتى تنتهيا هى وسلمى من اللعب.
وقفت سلمى امامها وهى تمسك بمرآة جلبتها من حقيبتها قائلة بينما تتأملها:"لا تحتاجين إلى أى
شيئ سوى إعادة وضع احمر الشفاه"
قدمت لها أحمر الشفاه ولازالت تمسك بالمرآة
فرفعت سلمى يدها بإستسلام وتناولته منها وبدأت
بإعادة رسم شفتيها أمام المرآة بيد مرتجفة... حدقت بإنعكاس صورتها بالمرآة..عينين مكحلتين بإتقان
سوادهما ينافس العقيق الأسود وشعرينافس عينيها سواداً،شفتين رغم ارتجافهما لكنهما مكتنزتين
والحمرة زادتهما إكتنازاً وبشرة بيضاء ناعمة كانت
محل حسد فتيات الحارة السمراوات فبعقولهن
تراسبات قديمة توارثت تجعلهن يعتقدن أن ذوات
البشرة البيضاء اكثر جمالاً وأسرع فى الزواج..لم
يعرفن أن هذا الجمال هو ربما نقمة ليس لأن أياً كان استغلها من أجله بل لأنها هى نفسها استغلت
جمالها و انتهى بها الأمر إلى هنا..عروس وحيدة لا والدة اطلقت الزغاريد فرحة بإبنتها ولا شقيق بجانبها وزوج....زوج لا تعرف لما تزوجها!!وما دافعه لذلك!!
وقفت تتبعها سلمى وهى تطلق الزغاريد وشاركتها
بضعة نساء مصريات فى إطلاق الزغاريد إكراماً
للعروس بينما تنحى المسافرين بطيب خاطر يصطفون على الجانبين ليخلوا الطريق أمام العروس ومن
يصطحبها..بخطوات بطيئة أرادت بها تأجيل
المحتوم الذى ينتظرها سارت عبر ممر الطائرة
وسلمى ترفع الثوب لتساعدها بالهبوط بينما
والدتها تحمل مهد.
مرت عبر الإجراءات بسرعة وساعدهم على ذلك
ارتدائها لفستان الزفاف..فالجميع يهنئها بود حتى
الضابط الذى ختم جوازات سفرهم والعامل الذى
حمل لهم الحقائب على عربة..الجميع حقاً كان ودوداً معها ما عدا والدتها،حسناً إنها لن تطمع فيكفى ان الأيام الماضية كانت تجلس معها هى وسلمى
لتناول الطعام،يكفى أنها سترى شقيقها وربما
يكون زين على قدر من اللطف وجعل مكان إقامتها بالقرب من سلمى.
حينما انتهت الإجراءات وتسلموا حقائبهم وجهتهم سلمى نحو بوابة الخروج وهى ترفع جسدها على
اطراف اصابعها تبحث عن مستقبليهم وحينما
لمحت شقيقها ضغطت على اسنانها بعنف وهى
تكاد تنفجر من الغضب..حتماً هى غاضبة ولو كان
بمقدورها أن تصطحب مليكة إلى منزلها لفعلت!!
فقد كان يقف عاقداً ذراعيه أمام صدره مرتدياً قميص باللون الزيتونى من الكتان يناسب العمل بموقع
بالصحراء اكثر من استقبال عروسه..وسروال كاكى
بنفس اللون ولكنه داكن قليلاً..تاركاً شعيرات ذقنه
النامية والتى يبدو انه لم يحلقها منذ عدة ايام..طاوياً أكمام قميصه لتبدو ندبة ذراعه واضحة...
"فليسامحك الله زين،ألم تستطع أن ترتدى بدلة كأى عريس ينتظر عروسه!!"تمتمت بهمس بينما تنحنى
نحوه وبصمت رفع احد حاجبيه لها محدقاً بها بنظرة حادة.
"لم أعد أخشي تلك النظرة يا شقيقي،لأننى اصبحت
ادرك ان خلفها رأس يابس لا أكثر"عاودت همسها
بينما لازال زوجها يختضن والدته بشوق جارف والتى
انهمرت دموعها على قميصه الرمادى لترطبه.
"اصمتى سلمى"تمتم بحزم ثم قدم لها عباءة سوداء واسعة قائلاً:"ضعيها على كتفيها فلقد أصبحت محط نظر الجميع"
"محط نظر الجميع لأنها عروس وتقف وحيدة يا ابله"
"لقد ترك خالد لسانك بدون تقليم،ويجب أن يعمل
على ذلك بأقرب وقت،ضعى العباءة على كتفيها،
هيا"دفع بالعباءة بين يديها.
وقفت بالخلف تراقب شقيقها بينما تترقرق عينيه
بالدموع وهو ينحنى مقبلاً يد والدته ثم يرفع رأسه
ليقبل جبينها بينما انهمرت دموع والدتها وهى
تتشبث به كطفلة تائهة وجدت والدها فجأة وليس
والدة تحتضن ولدها،فغمر كليهما سعادة اللقاء حتى نسيا كل شيئ حولهما..بجوارهما كانت سلمى
تتهامس مع شقيقها بينما هى تقف وحيدة...وحيدة على مسافة بضع خطوات منهما ولكنها بدت لها وكأنها أميال..فهم ليسوا بحاجة لها..هى مجرد عبئاً عليهم تحمله وقد تنازل زين ليحمله عنهم.
اقتربت سلمى منها تضع العباءة على كتفيها
وهمست بإرتباك ونبرة إعتذار:"إنها تقاليد البلاد هنا"
اومأت مليكة محاولة أن تخنق دموعها بينما تقدم
منها شقيقها وانحنى يقبل جبينها:"مرحباً مليكة..
مبارك لكِ"
"افتقدتك خالد.."تمتمت وقد التمعت عينيها
بدمعاتها بينما تشبثت بذراعه بدون وعى وبعينيها
نظرة اعتذار عميقة..اعتذار عن أى اذى تسببت به،
وعن أى خزى تعرض له هو ووالدها..اعتذار عن
كونها لم تكن الفتاة التى يفخرون بها.
أغمض عينيه ولم يستطع قلبه تحمل رؤية شقيقته
أمام عينيه عروس بعينين باكية خزينة و...خائفة!!
فعانقها بقوة متمتماً:"مبارك لك مليكة..زين رجل
جيد،فكونى له زوجة جيدة"
تراجع عنها ثم امسك بيدها واقترب من زين وربت
على كتفه قبل ان يقول:"إنها أمانتى لديك..فلتعتنى
بها جيداً"
اومئ زين لصديقه متمتماً:"لست رجلاً يخون العهد"
اتسعت ابتسامة خالد وربت على كتف صديقه وهو
يتذكر عهد زين له حينما طلب منه الزواج من مليكة..
قدم زين ذراعه لمليكة بدون ان يأخذ المبادرة ويمسك بيدها وبإرتباك وخجل وضعت ذراعها بذراعه وهى
ترتجف..انه لم يوجه لها ولو كلمة واحدة بل إنه حتى لم ينظر نحوها،لما وافقت على تلك الزيجة!!وما
الذى ينتظرها؟!ظل الصمت قرينه حتى فى السيارة
المزينة التى استقلتها إلى جانبه بينما يقودها ما
بدا لها أنه احد اصدقائه وتبعها شقيقها وسلمى
ووالدتها بسيارة شقيقها التى تم تزينها ايضاً....
قطعت السيارة مسافة طويلة استمرت اكثر من
ساعتين حتى وصلت أمام مبنى حديث مكون من
سبعة طوابق فهبط زين ولم يساعدها لتخرج من
السيارة ولكن سلمى انقذتها من الحرج عندما
اسرعت تفتح الباب بجانبها وتساعدها على الخروج..
استقلوا المصعد وما ان توقف خرج زين وتقدم ليفتح باب الشقة...
"يا لها من مفاجأة،انها رائعة زين،لهذا كنت تتكتم
ولم تجعلنى آراها"قالت سلمى بإبتسامة راضية ثم
التفتت إلى مليكة:"أليست رائعة؟"
تنحنت محاولة ايجاد صوتها فهى تخشى إن لم تجيب يفسر صمتها بأنه تقليل من شأن الشقة التى بدت
بالفعل جميلة..بل للحقيقة كان ما شاهدته منها
حتى الآن رائعاً.
"انها..جميلة"بالكاد خرج صوتها همساً مبحوحاً
محاولة تزيين وجهها بإبتسامة ممتنة بالكاد نجحت فى رسمها.
"خالتى سننتظرك هنا حتى تساعدى مليكة بإستبدال ملابسها"قالت سلمى وهى تتلفت حولها مدركة
للصمت المربك الذى يحوم حولها..وللحقيقة هى
تريد المغادرة سريعاً لتترك زين ومليكة فالبقاء معاً
بمفردهما سيجعلهما يجدا طريقة لكسر هذا الحاجز الذى بدأ يخنقها هى نفسها.
"اذهبي معها يا ابنتى،وسأحمل مهد عنكِ"قالت
والدة مليكة لسلمى فكسى وجه سلمى الضيق من
اجل صديقتها بينما كانت مليكة تستمع وهى
تدعو الله بصمت ان تنتهى هذه الليلة،حسناً لقد
اعتقدت أن كل لياليها بعد وفاة والدها سيئة ولكن
الآن أدركت ان تلك الليلة هى الأسوء على الإطلاق.
"هل يمكنك أن تحمل حقائب مليكة وتتقدمنا إلى
غرفة النوم"قالت سلمى وهى تكاد تنفجر غضباً
وليست بحاجة سوى لكلمة اعتراض او تهكم من
شقيقها وستفرغ طاقة غضبها كاملة به.
بصمت حمل الحقائب محاولاً عدم إثارة غضب
شقيقته أكثر من ذلك وتقدمهم نحو غرفة النوم ثم وضع الحقائب ارضاً بداخل الغرفة وغادرها مسرعاً..
"لم أعتقد أن لدى زين ذوق راقى إلى هذا الحد!!"قالت سلمى وهى تتلفت حولها بدهشة تشاهد الأثاث
الذى لم يسمح لها بمرافقته عند شراؤه وألوان
الدهانات التى تناغمت مع الأثاث بطريقة مدهشة
منحت الغرفة دفئا وسلاماً مريح.
"ربما التجهيزات بالشقة هى ما استنفذته ولم يكن
الوقت متاحاً أمامه ليهتم بملابسه...سأغفر له فقط مقابل انه اجاد تجهيز الشقة"قالت سلمى ثم
أمسكت بيد مليكة الباردة بالرغم من أن تكييف
الهواء الذى اعده زين للعمل فور دخوله الغرفة لم يجعلها باردة بعد.
"مليكة انظرى لى..اعرف أن هذا اليوم يبدو لك سيئاً وأنك تتساءلين الآن لما وافقت على هذه الزيجة،
صدقينى لو كنت مكانك سأفكر بنفس الشيئ،لكن لا تداعى المظاهر الخارجية تخدعك..زين يحبك،لا اعرف لما يتصرف بتلك الطريقة ولكننى واثقة مما أخبرك
به..سيجد كل منكما طريقه للآخر حبيبتى ولكن كل ما اطلبه منك هو أن تتغاضى عن تلك القشرة
الخارجية الواهية من الوجه المتجهم والصرامة
وتمنحى نفسك الوقت لتكتشفى القلب الذى
خلفها"
تنفست مليكة بقوة ودمعت عينيها فجأة وهى
تتمتم لصديقتها:"سأحاول..اعدك سأحاول"
عانقتها سلمى ثم همست:"اهتمى بنفسك وبحياتك الجديدة واتركى لى خالتى وخالد...وخاصة خالد لا
أدرى كيف سمح لزين أن يأتى المطار بملابس اشبه
بملابس العمل بينما هو يرتدى بدلة!!يبدو أنه يفتقد والدته لذا سأتركه ينام معها الليلة عقاباً له"انهت
سلمى تلميحها بغمزة ماكرة من عينيها جعلت
مليكة تبتسم رغماً عنها..
"هيا دعينى اساعدك فى استبدال الفستان"أضافت
سلمى ثم انحنت نحو أحد الحقائب التى تعرفها جيداً وفتحتها لتجد ما تحتاج إليه على الفور..ساعدت
مليكة فى استبدال فستان الزفاف بقميص نوم أبيض ثم عاودت إغلاق الحقيبة قائلة:"يمكنك ترتيب
ملابسك فيما بعد...والآن دعينى أخبرك....أعنى....
حسناً،دعيه يتولى أمر هذه الليلة،وسيكون لديك
ليالى كثيرة قادمة تتولين أنتِ أمرها"
عاودت غمزتها العابثة ثم غادرت الغرفة مسرعة
بينما بقت مليكة تجلس على حافة الفراش تنتظر..
وكأنها تنتظر عقاباً ما مجهول وتتمنى أن يهبط
عليها أفضل من بقاءها وحيدة تفكر بالأسوء..تلاشت الأصوات تماماً بالخارج وساد الصمت وبأذن مرهفة وجسد يرتجف اتجهت لتقف خلف باب غرفة النوم
محاولة استراق السمع ولكن لا شيئ فعادت للجلوس بموضعها مرة أخرى..دقائق طويلة..تبعها دقائق
حتى مر أكثر من ساعة فانحنت للخلف لتتكئ على
الوسادة بإرهاق حتى غفت...غافلة عن ذلك الذى
وقف امام باب الغرفة للمرة العاشرة بتردد يمسك
المقبض ثم يتراجع فيعود للغرفة الأخرى الصغيرة..وكأن بداخله رجلين يتصارعان لمن تكون الغلبة..رجل
يحن ويشتاق لملامحها،عاشق يهوى قربها الذى ما ان يفتح الباب حتى تكون له ورجل آخر يرفع راية الكبرياء ولا يقبل بتنكيسها وما بين نزاعهما هو مشتت وضائع.
تغلب حنينه لها على كل شيئ سواه وفتح الباب
ببطئ فوجدها غافية بينما تجلس على حافة الفراش وجزعها ينحنى مستندا مع رأسها على الوسادة..وقف قليلاً يتأملها فللمرة الأولى منذ رآها بالمطار يملك
الحرية فى تأملها...لقد استطال شعرها عن آخر مرة
رآها بها،استطال حتى تعدى خصرها وها هو منثورا على وسادته..وها هى تغفو على فراشه..وسادة
وفراش ابتاعهم بماله وبغربة عامين كاملين..احنى
رأسه يتأمل اهدابها الطويلة السوداء الرطبة ومسار الدموع على وجنتها التى تلطخت بسواد كحل عينيها وهمس يحدثها بصمت:"أخشى أن ألين واجفف
دمعاتك فتعودين لتحطمى قلبي وترقصين عل حطامه منتصرة،ماذا أفعل يا حبيبة القلب ومليكته؟"
ابتلع لعابه بصعوبة وعينيه تلتقط انفراجة شفتيها
وتنهداتها الخافتة فقبض علي يديه التى تقاومه
بأوامر من قلبه وتريد ان تندفع لتلامس شفتيها،برغبة فى استكشاف ملمسهم فلطالما حلم بنعومتهم
المخملية على اطراف اصابعه الخشنة..رؤيته لها
بملابس النوم كان كآلاف السهام التى اخترقت
جسده وجعلته يئن بجراحه..زفر بقوة محاولاً ان
يستفيق من خيالاته وكاد أن يرفع ساقيها ليضعها
بالفراش ولكنه تراجع بلحظة الأخيرة فهو لا يريدها
أن تدرك أنه يهتم.
اسرع عائدا لغرفة النوم الأخرى الصغيرة قبل أن
يضعف..سلمى تعتقده صارم وقاسي وخالد يعتقد أنه يعرف ما يفعله تماماً واكتفى بوعده له ولم يتدخل
بأى شيئ حتى عندما رآه بتلك الملابس بدت عليه
الصدمة ولكنه امسك لسانه ولم يتحدث بالأمر..
ولكنه يتساءل الآن ما الذى تعتقده مليكة؟أنه يريد
الإنتقام منها!!
القى بجسده على الفراش بكامل ملابسه ولم يتخلص حتى من حذائه مستسلماً لأفكاره بدون أن يحاول
دفعها بعيداً فلعل إرهاق عقله يدفعه للنوم..فعادت ذاكرته إلى صباح ذلك اليوم الذى تلى رؤيته لها فى سيارة ذلك الشاب.
"توقف عن تحريض والدى ضدى زين..لأننى اريد ذلك
الشاب وأحبه..هل تستمع لى!! أحبه،وقد اتفقت مع والدى على أن يحضر حاتم لمقابلته حتى يحدد موعد
خطبتنا...أريد رجل انيق راقى..لا أريده أن يحمل ملامح الحارة وشقائها وترابها..اريده مبتسماً هادئاً وليس
متجهم تزوره الإبتسامة فى الأعياد ولا همجياً يتشاجر بمدية ويحمل ندبة فى ذراعه واخرى بوجهه ويعلم
الله إن كان يحمل ندبات أخرى!!وبالطبع لا أريد أن
يكون والده سجيناً مختلساً"
"احمل ندبة أعمق من تلك التى بذراعى أو بوجهى..
ندبة أعمق كثيراً إنها ندبة فى القلب يا مليكته"تمتم بصوت خفيض تاركاً الذكريات تتوافد على رأسه
لعلها تنهكه وتنهك قلبه حتى لا يلين لها.
استيقظت تنظر حولها وتمسد جانبها الذى تشعر
بالألم بعضلاته ثم تلفتت حولها تريد أن تعرف
الوقت الذى استغرقته بالنوم فوجدت ساعة انيقة
على الطاولة الجانبية للفراش بالجانب الآخر وكانت
تشير للسابعة صباحاً يبدو انها غفت لعدة ساعات،
فوقفت تتمطى لتحرر جسدها من تيبسه...لقد بدأ
إنتقامه بإهمالها وإذلالها حسناً،إن كان يعتقد أن
النوم بمفردها فى تلك الغرفة الناعمة المكيفة
الهواء ذات الفراش الناعم،إنتقاماً فمرحباً بإنتقامه..فتحت الحقائب وبدأت فى ترتيب ملابسها بعناية
ولكن ما لاحظته أن الخزانة خالية تماماً ولا أثر
لملابسه فتنهدت بقوة وواصلت ترتيب ملابسها
الجديدة وعندما انتهت ارتدت منامة ذات أكمام
طويلة وسروال طويل ومحتشمة تماماً ثم فتحت
الباب بتمهل وطلت برأسها نحو الممر الصغير ولكن الهدوء كان يسود الشقة ولا اثر لأى صوت بالخارج..
فخطت خارج الغرفة تستكشف مكان الحمام
ووجدت باباً مجاور تماماً للغرفة فطرقته عدة مرات
ولكن لا مجيب ففتحت الباب بتردد ووجدته الحمام..
غسلت وجهها التى تلطخت زينته وانتعشت قليلاً ثم صففت شعرها ورفعته بذيل فرس داعب طرفه
خصرها ثم غادرت الحمام وخطت عبر الممر القصير
لتجد باباً آخر طرقته عدة طرقات وهى لا تدرى ما
يمكنها أن تقوله لو فتح الباب ولكن عندما لم تجد
إجابة فتحت الباب ببطئ وحينما وجدت الغرفة
خالية وقف تتأملها.. إحدى ألوان الكشمير احتلت
جدارين بالغرفة مع اللون الكريمى للجدار خلف
الخزانة الصغيرة ونافذة كبيرة تحتل جدار آخر تنسدل ستائر ذات اقلام طولية متعددة اللون ولكن جميعها بدرجات الكشمير المنوعة...والفراش ليس كبيراً مثل فراش الغرفة الأخرى ولكنه بدا مريح وبنفس
التصميم...غادرت الغرفة وهى تتساءل إذا أراد
الإنتقام فلما كل تلك التجهيزات التى تبدو أنها
مكلفة؟
زمت شفتيها بتهكم:"من أجل شقيقك وشقيقته من أجل والدتك...فرغم كل شيئ لم يكن خالد ليقبل اى
تهاون بحقى"
اتجهت إلى منطقة الإستقبال متوسطة الحجم
والتى تحوى منطقة للمعيشة واخرى للطعام
وبالجانب وجدت باباً يجاور باب الشقة فتوقعت ان
يكون المطبخ وخطت نحوه بجرأة أكبر بعد أن تيقنت أنه لا أحد سواها بالشقة...شعرت بملمس التراب
اسفل قدميها العارية فهبطت بعينيها لتجد آثار
حذائه تصنع لها مساراً من الأتربة حول السجاد وكأنه يخشي على نظافة السجاد الجديد فقط لكن لا يبالى بغيره..تتبعت أثر الحذاء الذى تنقل عبر المطب
والردهة الصغيرة امام باب الشقة وحول مائدة
الطعام.
فتنهدت وعادت إلى المطبخ تبحث عن شيئ ما
لتتناوله فهى لم تضع طعاما بفمها منذ صباح اليوم السابق..فتحت الثلاجة ووجدت الكثير من الأطعمة
والفاكهة التى لا تعرف هويتها فتناولت شطيرة
وهى تقف امام خزانة المطبخ الذى يعلوها سطح
رخامى باللون الأخضر وحينما انتهت بدأت بالبحث
عن أدوات النظافة فعلى الأقل لديها ما تفعله الآن
بديلاً لجلوسها وحيدة بالغرفة.
ساعات طويلة مرت لينقضى النهار وينسدل الليل..لا
تستطيع ان تفتح نافذة تتطلع بها إلى الطريق أو ان
ترى أى معالم للبلدة التى تقيم بها فالحرارة بالخارج مرتفعة كثيراً والشقة مكيفة الهواء بالكامل...لم
تستطع أن تفتح التلفاز لأنه يختلف عن ذلك القديم
بمنزلها فهو شاشة مسطحة مثبتة بالحائط ولا يوجد بها اية ازرار ولا يوجد مستقبل اشارة مثل الذى يوجد بمنزلها..ولا حتى استطاعت فتح هاتفها والإتصال
بسلمى لأنه لازال به شريحة الإتصالات المصرية..يوماً طويل لم تجد فيه ما تفعله مطلقاً سوى الذكريات
والصمت والوحدة وإعداد الغداء الذى لم تمسه
وحينما أشارت ساعة الحائط للعاشرة مساء غادرت
غرفة المعيشة واتجهت إلى غرفة النوم..لم تكن من نوع الفتيات التى تخاف او تخشي البقاء بمفردها
طويلاً ولكنها انتقلت للتو من الحارة المكتظة التى
تسمع من غرفتها.. رغم النافذة المغلقة..كل ضجيج
الحارة وتشم روائح طعام المنازل المجاورة،لذا فهذا
الهدوء والسكون يبعث بنفسها الخوف.
بهدوء قدر المستطاع فتح زين باب الشقة عندما
تخطت الساعة الثانية عشر ليلاً وخطى نحو الداخل
فوجد اضواء الشقة كلها مُضاءة وهادئة تماماً
فاتجه نحو غرفة النوم ووقف يسترق السمع ولكن لا صوت...فتح الباب ببطئ فوجدها نائمة بالفراش
وجسدها يلتف بغطاء السرير حتى أعلى راسها
وبالكاد كان يظهر طرف شعرها من اسفل الغطاء..فتقدم متمهلاً وانحنى يمسك بخصلة شعرها
ويرفعها إلى شفتيه ليقبلها ممرراً إياها على وجنته هامساً لنفسه:"لقد جننت تماماً يا زين،ماذا تفعل؟
وماذا اذا استيقظت؟ما الذى ستخبرها به؟"
زفر بقوة بينما يغادر الغرفة وما ان عاد ليري الأضواء
المضاءة حتى بدأ يتساءل،هل اضاءت الأنوار لأنها
خائفة؟ بدأ بغلق المصابيح بطريقه حتى وصل إلى
المطبخ وعقد حاجبيه وهو يتجه نحو الموقد:"أعدت الغداء!!"
بدأ يرفع اغطية الأوانى فوجد أرز بالشعرية و ملوخية وبامية باللحم،لكن الطعام لم يمس فالتفت يفتح
المبرد ولم يستطع ان يدرك ما الطعام الذى تناولته طوال اليوم!!زأرت معدته تنبهه لجوعه فوضع
الطعام بالأطباق ونقلهم نحو مائدة الطعام وما ان
وصل حتى فوجئ بأطباق أرز باللبن على المائدة،
فلاحت ابتسامة حزينة على شفتيه وهو يضع الأطباق ويبدأ بتناول الطعام وعينيه تتأمل اطباق الأرز باللبن..
"تناولت الأربعة اطباق؟خالتك ارسلت لكل فرد منا
طبق فتتناولها جميعاً؟!!"قالت والدته وهى تضرب
على صدرها.
"لم استطع المقاومة يا أم زين،لقد طُهى بيد
الأحباب"قال بينما يضع الملعقة بالطبق بعد أن
انتهى منه.
"وما مذاق الأرز باللبن المطهو بيد الأحباب؟هل هو
جيد؟"قالت والدته تشاكسه.
"سكر..سكر زيادة يا أم زين"
"لكنه ليس دسماً يا قلب أم زين،يحتاج أن يسّمن
قليلاً...أعنى يصبح دسماَ قليلاً"قالت بضحكة عالية
تردد صداها بالمنزل.
"احبه نحيف...اعنى خفيف،خفيف على القلب"
"بالهناء والعافية على قلبك يا غالى"قالتها والدته
وهى تربت على كتفه قبل أن يغادر الآريكة تاركاً
الأطباق الخاوية متراصة على المنضدة الصغيرة.
بإبتسامة حزينة افاق من خيالاته حينما انتهى من
تناول عشاؤه مدركاً أنه انهى كل ما بالأطباق
فالتفت إلى اطباق الأرز باللبن متأملاً قبل أن تمتد يده نحو أحدهم ثم بدأ بتناوله وهو يتلذذ مع كل معلقة
تدخل فمه..
"لازالت نبضات القلب تنبض بجنون لمجرد أننى اعلم
أنك أعددت شيئ ما من أجلى يا مليكة القلب،
سيقتلنى هواكِ يوماً"تمتم مغمضاً عينيه وكأن كل
حواسه تركزت على حاسة التذوق مستمتعاً،منتشياً
كمن ظن أنه تعافى من إدمانه ومع مجرد التلويح
بالمخدر أمام عينيه تاق جسده للمزيد.
غادر المائدة أخيراً بعد ان انتهى ووقف ليتجه إلى
الحمام ولكنه عاد ليلتفت حوله عاقداً حاجبيه فلقد كان جهاز التحكم عن بعد الخاص بتلفاز بنفس
موقعه فوق حافة الشاشة المسطحة من الأعلى،ألم تحاول تشغيله؟أم لم تدرك تقنية تشغيله؟اللعنة
عليك زين!!لا هاتف،لا تلفاز،لا انترنت..كيف قضت
يومها!!
ذهب الى غرفة النوم ثم التقط ورقة كتب فوقها
وعاد إلى الغرفة الأخرى حيث تنام فوضعها على
الطاولة الجانبية للفراش وفوقها صندوق ابيض
مستطيل الشكل ثم أجبر نفسه على مغادرة الغرفة
قبل أن يضعف ويتسلل إلى الفراش بجانبها رغبة فى منح قلبه المتعب دقائق ليستريح..فقط دقائق تعينه على الإحتمال.
عاد إلى غرفة المعيشة وفتح التلفاز ثم قام بوضع
جهاز التحكم على المنضدة بمنتصف الغرفة وبجواره جهاز التحكم عن بعد الخاص بمستقبل الإشارة
وحينما انتهى اتجه إلى غرفة نومه وتخلص من
ملابسه وكعادته حيث تصل يديه يلقيها...القى
بجسده المنهك فوق الفراش وهو يعلم أنه يجب أن يستيقظ قبل السادسة ليغادر فهو لازال يُدرب نفسه وقلبه على الصمود أمامها مع إدراكهما لوجودها
امامه..بمنزله..بفراشه..زوجته.
استيقظت بالسابعة صباحاً وما أن التفتت لتغادر
الفراش حتى وجدت على الطاولة الجانبية صندوق
ابيض لم يكن موجوداً بالأمس..هل دخل الغرفة؟لم
تشعر بوجوده؟التقطت الصندوق وفتحته بتجهم
فهو حقاً يثير دهشتها..كان الصندوق يحتوى على
هاتف من الطراز الحديث ووجدته يعمل وبه شريحة
إتصالات جديدة واسفل الصندوق ورقة كتب فوقها
كلمتان الرقم السري لشبكة الانترنت واسفلها
رقم....نعم إنه يثير دهشتها،لقد أعد لها شقة جميلة،وابتاع لها هاتف حديث..حسناً،لما يهملها ويعاملها بهذه الطريقة!!
غادرت الغرفة مسرعة علها تجده فربما تبدأ الأمر
بشكره على الهاتف..ولكن ما أن خرجت حتى شعرت
بأن إعصاراً إجتاح الشقة الرائعة..منشفة معلقة على مقبض باب الحمام وباب غرفة النوم الأخرى مفتوحاً ويظهر أن النصيب الأكبر من الإعصار كان من حظها فالملابس ملقاة بكل مكان والملاءة مكومة بطرف الفراش والأغطية تتعلق ما بين الأرض والفراش
فسارت لتعبر الممر القصير نحو منطقة الاستقبال
لتجد انه لم ينجو ايضا،فطاولة الطعام فوقها عديد من الأطباق الفارغة.
"حسناً،على الأقل لدىّ ما أفعله"
همهمت لنفسها ثم بدأت برفع الأطباق عن المائدة
وترتيب المطبخ وتلميع الأرض التى افسدها بحذائه
ولكنها كانت ممتنة أنه لم يفسد السجاد الرائع التى لم تره من قبل سوى بالمسلسلات وحينما أصبحت
راضية تماما عن ما فعلته اتجهت إلى غرفته وهى
تتمتم لنفسها بألم:"حسناً زين إن كانت هذه الشقة
الجميلة هى سجنى المرفه الذى قررتم جميعاً
تقيدى فيه فعلى الأقل يجب أن تظل زنزانتى رائعة
كما هى"
بدأت بترتيب غرفته وهى تتساءل هل كان يسبح أم
ينام!ما الذى اثار هذا الإعصار بالفراش؟ انحنت
لتجمع ملابسه من على الأرض ووضعها فى سلة
للغسيل بالحمام ورتبت الغرفة كما يجب أن تكون ثم وضعت صندوق الهاتف الذى احضره لها على
الطاولة الجانبية لفراشه وغادرت الغرفة...فهاتفها
يكفيها وهى لا تحتاج شريحة اخرى فمع من
ستتحدث!!يكفيها الإنترنت لتتحدث مع سلمى كما
اعتادت من خلال برامج التواصل الإجتماعى.
"مليكة..حبيبتى كيف حالك؟"
"انا بخير سلمى..بخير تماماً"قالت محاولة إدعاء
السعادة.
"كاذبة مليكة..لست بخير..ولا تحاولى أن توهمينى
بذلك،ماذا فعل ذلك الأبله؟"قالت سلمى بمرارة بالغة فلقد بدأت تعقد أنها مخطئة فى فكرة زواجهما
فيبدو أن شقيقها لن ينسي ابدا ما فعلته مليكة
معه.
"اقسم أننى بخير..اقيم بشقة رائعة و استطعت ان
اعرف كيف ادير التلفاز و شقيقك ابتاع لى هاتف على أحدث طراز وشريحة اتصالات وشبكة الإنترنت هنا
جيدة وقوية حتى إننى شاهدت فيلما بدون تقطيع
هل تصدقين؟!"
تمتمت مليكة محاولة خنق دموعها فهى بالتأكيد لا تريد إثارة أي مشكلات وبالطبع لا تريد ان يظن خالد
او والدتها انها تتمرد على حياتها.
"مليكة..من فضلك إخبرينى كيف يعاملك زين؟
لا تجعلينى اندم أننى ....اعنى اندم على موافقتى على زواج زين منكِ"تلعثمت سلمى وضربت على ساقها
لغبائها بينما تجهم وجه مليكة محاولة استيعاب
تلعثم صديقتها وسببه.
"هيا مليكة اريد أن اعرف حتى لا اتصل به الآن واجعل ليالى هذا الأبله حالكة"
واصلت سلمى حديثها بغضب عارم فهى اعتقدت أن
زين يمكنه ان يغفر ويكون زوج محب لمليكة لكن
يبدو أن كل ما فعلته هو نقل مليكة من ظروف سيئة الى اسوأ،فكل ما يدور حولها يقلقها..بداية من رفض خالد أن تذهب لزيارة مليكة كأى اهل عروس
يذهبون ليطمئنوا على ابنتهم..ورفضه حتى ان
تدعو زين ومليكة على الغداء..معرفتها بأن زين لم
يطلب عطلة من أجل زواجه وانه يذهب للعمل..كل
ذلك يثير قلقها على صديقتها.
"سلمى من فضلك،انا ليس لى سواكِ دعينى اتحدث
معك لأننى إن لم افعل سأصاب بالجنون ولكن لا
تثيري أية مشكلات من أجلى،عاهدينى سلمى أن
يبقى كل واى شيئ نتحدث به سراً بيننا..أو انسيه
بمجرد ان تتركين الهاتف"
قالت مليكة بهدوء محاولة ان تنتزع وعداً من
صديقتها فهى بحاجة لها لتتحدث إليها فيومين
مضيا بدون ان تتحدث إلى أى إنسان واصبحت تخشى ان تصاب بالجنون.
"حسناً مليكة أعدك أننى لن اتفوه بكلمة مما يدور بيننا ولكن اخبرينى بما يحدث معكِ،هل يسئ زين معاملتك؟"
"ليته فعل،إننى لم أراه منذ تركته يقف امام الشقة مع خالد ووالدتى"
"ماذا!!ما الذى يعنى بأنك لم تريه...هذا يعنى انكما...اعنى ...لم تريه مطلقاً"
"نعم،يخرج بالصباح الباكر قبل السابعة صباحاً ويعود بوقت متأخر جدا ربما بعد منتصف الليل"
"الأحمق...الأبله،يا الله !!لا اعرف ما الذى يجب أن
اقوله لك مليكة،لكنى لن اتركه يستمر فى غباؤه...."
"لا..لا سلمى،لا اريد لأى احد ان يعلم بأى شيئ مما
اخبرك به،ولا حتى اريده هو ان يعلم أننى تحدثت
إليكِ،لقد عاهدتينى سلمى"
اندفعت الكلمات من فم مليكة بسرعة فهى تقدر
كل ما تكلفه زين من أجل زوجة فقط بالأرواق
الرسمية لن تضيف شيئاً لحياته بل تُعد عبئاً عليه.
انهت سلمى اتصالها مع صديقتها وضغطت رقم
شقيقها على الفور لكنه لم يجيب فلم تستسلم حتى استسلم هو واجاب بعد الإتصال العشرون خلال
عشرة دقائق.
"لما لا تجيب على شقيقتك يا عريس؟!هل العروس
تستأثر بك،ام انت الذى تستأثر بها!!"
"ومرحباً لك ايضاً سلمى،لما هذا الهجوم؟"
"اى هجوم هذا يا ابن توفيق..يا ابن الرجل الذى مات بعد شهور من وفاة زوجته لأنه لم يتحمل الحياة
بدونها..الرجل الذى رأيناه طوال حياتنا يرعى زوجته ويتقى الله بها"
"لما تخبرينى بهذا الآن سلمى؟"
"لأنك عريس جديد يا شقيقى ويجب أن اقدم لك
النصيحة"اجابته بنبرة حادة ثم اضافت:"اتقى الله بها يا زين..اتقوا الله بها جميعاً،من أين لكم جميعاً بهذه القسوة التى امتلأت بها قلوبكم"
"سلمى!!"هتف بها خالد من امام باب الغرفة
فالتفتت نحوه متجهمة بينما يقترب ثم أمسك
بالهاتف من يدها.
"انا آسف زين،انت تعرف سلمى،بقدر ما هى عاطفية
بقدر ما يشبه لسانها السيف"
"لا عليك خالد،مضطر أن اغلق الهاتف الآن"
عندما انتهى الإتصال ضاقت عينى خالد وهو يلتفت.
إليها قائلاً:"كم مرة أخبرتك خلال اليومين الماضيين
ان زواج سلمى وزين كان اقتراحك نعم،ولكن ليس لك الحق فى تسيير حياتهم،كم مرة أخبرتك أن نتركهما
ليجدا طريقهما بأنفسهما؟وكم مرة كررت عليكِ أن
نمنحهما الوقت بدون تدخلنا؟"
"حسناً..ولكن كل هذا لن يمنعه ان اذهب لزيارتها،او تأتى هى لزيارتنا"
"لا سلمى..يجب ان نبقى بعيداً،يجب أن يعرف كلاهما أن لا ملجأ له سوى الآخر..زين رجل يحفظ الأمانة
وشقيقتى أمانة لديه،إننى أثق به"قال خالد ثم غادر
الغرفة تاركاً سلمى حائرة لا تدرى إن كانوا على
صواب ام غلفت القسوة قلوبهم.
فوقفت سلمى تساعد والدة زوجها بربط الحزام
وهى تبتسم:"دقائق خالتى وستكونين خارج الطائرة"
لم تجيبها خالتها واستمرت بتمتمة الأدعية التى
بدأتها منذ بدأت الطائرة الحركة بمطار القاهرة فقد كان جسدها كله يرتجف ذعراً ولكنها هدأت قليلا
حينما انتظمت الطائرة فى الجو وها هى عادت
لإرتجافها والطائرة على وشك الهبوط.
التفتت سلمى نحو صديقتها وعروس شقيقها
فوجدتها قد تعاملت مع حزام الأمان بالرغم من
طبقات نسيج فستان الزفاف التى تعوق حركتها
فعادت لتجلس بمقعدها حاملة مهد فوق ساقيها
وربطت الحزام من حولهما ثم أمسكت بيد مليكة
فوجدتها ترتجف...انها تعرف أن ارتجاف خالتها
خوفاً من تجربة ركوب الطائرة فالأمر جديد عليها
تماماً وربما هو جديد ايضاً على مليكة ولكن
ارتجافها لم يكن من تلك التجربة هى متأكدة من
ذلك...انها لا تفهم شقيقها حقاً!!لما لم يتحدث مع
زوجته؟!لما لم يخلق بينهما ألفة قبل أن يلتقى بها؟
"انه فقط زين مليكة،نعم اصبح زوجك ولكنه بالنهاية زين..زين الذى نشأتى معه وكان يبتاع لك الحلوى
بمصروفه ويذهب الى المدرسة سيراً على الأقدام،ربما هو صارم وفوضوى لكن سيتقى الله بك ولن يظلمك ابداً،تثقين بهذا أليس كذلك؟"
توقفت عن اخبار مليكة أن زين يحبها لأنها ما عادت
تجد الأمر منطقياً فكيف يحبها وهو لم يكلف نفسه عناء التحدث إليها او حتى مشاركتها فى تأسيس
شقتها!!
اومأت مليكة محاولة ان تبتسم وهى تشعر أن قلبها يرتجف،هل يمكن للقلب أن يرتجف خوفاً مما هو
مقبل عليه!!يديها باردة للغاية تكاد تفقد الإحساس
بهما،فلقد أصبحت الآن متيقنة أنه تزوج منها
لينتقم،فلا شيئ حدث ينفى اعتقادها هذا..لقد
اهملها ولم يتحدث معها مطلقاً،لم يهنئها حتى
بعقد قرآنهما حتى عندما تهورت وارسلت له صورة
فستان الزفاف محاولة أن تجد وسيلة لتتحدث إليه
ولكنه لم يبالى ايضاً ولم يهتم فقط تيقنت انه رآه
وتسلم الصورة ولكنه لم يكلف نفسه عناء الرد!!
اغمضت عينيها حتى تقاوم الشعور بالغثيان من
حركة هبوط الطائرة فيكفيها الخزى الذى تحمله
بينما تلتقى به،لذا فهى ليست بحاجة لتزيد الأمر
سوء وتتقيئ ايضاً!!
حينما استقرت الطائرة اخيراً على الأرض التفتت نحو
والدتها التى تمتمت بالشهادتين وكأنها ناجية
لتوها من موت مؤكد فى حين كان مهد الصغير
يلعب غير مبالى بأى شيئ..لا خوف...لا قلق،فتمنت
حينها لو تعود تلك الطفلة التى تلعب هى وسلمى
بالحارة مع الفتيات بعد أن منعهما زين من لعب
الكرة مع الصبية،ولم يكتفى بهذا بل كان يقف امام
باب المنزل فى نوبات مراقبة متبادلة مع شقيقها
حتى تنتهيا هى وسلمى من اللعب.
وقفت سلمى امامها وهى تمسك بمرآة جلبتها من حقيبتها قائلة بينما تتأملها:"لا تحتاجين إلى أى
شيئ سوى إعادة وضع احمر الشفاه"
قدمت لها أحمر الشفاه ولازالت تمسك بالمرآة
فرفعت سلمى يدها بإستسلام وتناولته منها وبدأت
بإعادة رسم شفتيها أمام المرآة بيد مرتجفة... حدقت بإنعكاس صورتها بالمرآة..عينين مكحلتين بإتقان
سوادهما ينافس العقيق الأسود وشعرينافس عينيها سواداً،شفتين رغم ارتجافهما لكنهما مكتنزتين
والحمرة زادتهما إكتنازاً وبشرة بيضاء ناعمة كانت
محل حسد فتيات الحارة السمراوات فبعقولهن
تراسبات قديمة توارثت تجعلهن يعتقدن أن ذوات
البشرة البيضاء اكثر جمالاً وأسرع فى الزواج..لم
يعرفن أن هذا الجمال هو ربما نقمة ليس لأن أياً كان استغلها من أجله بل لأنها هى نفسها استغلت
جمالها و انتهى بها الأمر إلى هنا..عروس وحيدة لا والدة اطلقت الزغاريد فرحة بإبنتها ولا شقيق بجانبها وزوج....زوج لا تعرف لما تزوجها!!وما دافعه لذلك!!
وقفت تتبعها سلمى وهى تطلق الزغاريد وشاركتها
بضعة نساء مصريات فى إطلاق الزغاريد إكراماً
للعروس بينما تنحى المسافرين بطيب خاطر يصطفون على الجانبين ليخلوا الطريق أمام العروس ومن
يصطحبها..بخطوات بطيئة أرادت بها تأجيل
المحتوم الذى ينتظرها سارت عبر ممر الطائرة
وسلمى ترفع الثوب لتساعدها بالهبوط بينما
والدتها تحمل مهد.
مرت عبر الإجراءات بسرعة وساعدهم على ذلك
ارتدائها لفستان الزفاف..فالجميع يهنئها بود حتى
الضابط الذى ختم جوازات سفرهم والعامل الذى
حمل لهم الحقائب على عربة..الجميع حقاً كان ودوداً معها ما عدا والدتها،حسناً إنها لن تطمع فيكفى ان الأيام الماضية كانت تجلس معها هى وسلمى
لتناول الطعام،يكفى أنها سترى شقيقها وربما
يكون زين على قدر من اللطف وجعل مكان إقامتها بالقرب من سلمى.
حينما انتهت الإجراءات وتسلموا حقائبهم وجهتهم سلمى نحو بوابة الخروج وهى ترفع جسدها على
اطراف اصابعها تبحث عن مستقبليهم وحينما
لمحت شقيقها ضغطت على اسنانها بعنف وهى
تكاد تنفجر من الغضب..حتماً هى غاضبة ولو كان
بمقدورها أن تصطحب مليكة إلى منزلها لفعلت!!
فقد كان يقف عاقداً ذراعيه أمام صدره مرتدياً قميص باللون الزيتونى من الكتان يناسب العمل بموقع
بالصحراء اكثر من استقبال عروسه..وسروال كاكى
بنفس اللون ولكنه داكن قليلاً..تاركاً شعيرات ذقنه
النامية والتى يبدو انه لم يحلقها منذ عدة ايام..طاوياً أكمام قميصه لتبدو ندبة ذراعه واضحة...
"فليسامحك الله زين،ألم تستطع أن ترتدى بدلة كأى عريس ينتظر عروسه!!"تمتمت بهمس بينما تنحنى
نحوه وبصمت رفع احد حاجبيه لها محدقاً بها بنظرة حادة.
"لم أعد أخشي تلك النظرة يا شقيقي،لأننى اصبحت
ادرك ان خلفها رأس يابس لا أكثر"عاودت همسها
بينما لازال زوجها يختضن والدته بشوق جارف والتى
انهمرت دموعها على قميصه الرمادى لترطبه.
"اصمتى سلمى"تمتم بحزم ثم قدم لها عباءة سوداء واسعة قائلاً:"ضعيها على كتفيها فلقد أصبحت محط نظر الجميع"
"محط نظر الجميع لأنها عروس وتقف وحيدة يا ابله"
"لقد ترك خالد لسانك بدون تقليم،ويجب أن يعمل
على ذلك بأقرب وقت،ضعى العباءة على كتفيها،
هيا"دفع بالعباءة بين يديها.
وقفت بالخلف تراقب شقيقها بينما تترقرق عينيه
بالدموع وهو ينحنى مقبلاً يد والدته ثم يرفع رأسه
ليقبل جبينها بينما انهمرت دموع والدتها وهى
تتشبث به كطفلة تائهة وجدت والدها فجأة وليس
والدة تحتضن ولدها،فغمر كليهما سعادة اللقاء حتى نسيا كل شيئ حولهما..بجوارهما كانت سلمى
تتهامس مع شقيقها بينما هى تقف وحيدة...وحيدة على مسافة بضع خطوات منهما ولكنها بدت لها وكأنها أميال..فهم ليسوا بحاجة لها..هى مجرد عبئاً عليهم تحمله وقد تنازل زين ليحمله عنهم.
اقتربت سلمى منها تضع العباءة على كتفيها
وهمست بإرتباك ونبرة إعتذار:"إنها تقاليد البلاد هنا"
اومأت مليكة محاولة أن تخنق دموعها بينما تقدم
منها شقيقها وانحنى يقبل جبينها:"مرحباً مليكة..
مبارك لكِ"
"افتقدتك خالد.."تمتمت وقد التمعت عينيها
بدمعاتها بينما تشبثت بذراعه بدون وعى وبعينيها
نظرة اعتذار عميقة..اعتذار عن أى اذى تسببت به،
وعن أى خزى تعرض له هو ووالدها..اعتذار عن
كونها لم تكن الفتاة التى يفخرون بها.
أغمض عينيه ولم يستطع قلبه تحمل رؤية شقيقته
أمام عينيه عروس بعينين باكية خزينة و...خائفة!!
فعانقها بقوة متمتماً:"مبارك لك مليكة..زين رجل
جيد،فكونى له زوجة جيدة"
تراجع عنها ثم امسك بيدها واقترب من زين وربت
على كتفه قبل ان يقول:"إنها أمانتى لديك..فلتعتنى
بها جيداً"
اومئ زين لصديقه متمتماً:"لست رجلاً يخون العهد"
اتسعت ابتسامة خالد وربت على كتف صديقه وهو
يتذكر عهد زين له حينما طلب منه الزواج من مليكة..
قدم زين ذراعه لمليكة بدون ان يأخذ المبادرة ويمسك بيدها وبإرتباك وخجل وضعت ذراعها بذراعه وهى
ترتجف..انه لم يوجه لها ولو كلمة واحدة بل إنه حتى لم ينظر نحوها،لما وافقت على تلك الزيجة!!وما
الذى ينتظرها؟!ظل الصمت قرينه حتى فى السيارة
المزينة التى استقلتها إلى جانبه بينما يقودها ما
بدا لها أنه احد اصدقائه وتبعها شقيقها وسلمى
ووالدتها بسيارة شقيقها التى تم تزينها ايضاً....
قطعت السيارة مسافة طويلة استمرت اكثر من
ساعتين حتى وصلت أمام مبنى حديث مكون من
سبعة طوابق فهبط زين ولم يساعدها لتخرج من
السيارة ولكن سلمى انقذتها من الحرج عندما
اسرعت تفتح الباب بجانبها وتساعدها على الخروج..
استقلوا المصعد وما ان توقف خرج زين وتقدم ليفتح باب الشقة...
"يا لها من مفاجأة،انها رائعة زين،لهذا كنت تتكتم
ولم تجعلنى آراها"قالت سلمى بإبتسامة راضية ثم
التفتت إلى مليكة:"أليست رائعة؟"
تنحنت محاولة ايجاد صوتها فهى تخشى إن لم تجيب يفسر صمتها بأنه تقليل من شأن الشقة التى بدت
بالفعل جميلة..بل للحقيقة كان ما شاهدته منها
حتى الآن رائعاً.
"انها..جميلة"بالكاد خرج صوتها همساً مبحوحاً
محاولة تزيين وجهها بإبتسامة ممتنة بالكاد نجحت فى رسمها.
"خالتى سننتظرك هنا حتى تساعدى مليكة بإستبدال ملابسها"قالت سلمى وهى تتلفت حولها مدركة
للصمت المربك الذى يحوم حولها..وللحقيقة هى
تريد المغادرة سريعاً لتترك زين ومليكة فالبقاء معاً
بمفردهما سيجعلهما يجدا طريقة لكسر هذا الحاجز الذى بدأ يخنقها هى نفسها.
"اذهبي معها يا ابنتى،وسأحمل مهد عنكِ"قالت
والدة مليكة لسلمى فكسى وجه سلمى الضيق من
اجل صديقتها بينما كانت مليكة تستمع وهى
تدعو الله بصمت ان تنتهى هذه الليلة،حسناً لقد
اعتقدت أن كل لياليها بعد وفاة والدها سيئة ولكن
الآن أدركت ان تلك الليلة هى الأسوء على الإطلاق.
"هل يمكنك أن تحمل حقائب مليكة وتتقدمنا إلى
غرفة النوم"قالت سلمى وهى تكاد تنفجر غضباً
وليست بحاجة سوى لكلمة اعتراض او تهكم من
شقيقها وستفرغ طاقة غضبها كاملة به.
بصمت حمل الحقائب محاولاً عدم إثارة غضب
شقيقته أكثر من ذلك وتقدمهم نحو غرفة النوم ثم وضع الحقائب ارضاً بداخل الغرفة وغادرها مسرعاً..
"لم أعتقد أن لدى زين ذوق راقى إلى هذا الحد!!"قالت سلمى وهى تتلفت حولها بدهشة تشاهد الأثاث
الذى لم يسمح لها بمرافقته عند شراؤه وألوان
الدهانات التى تناغمت مع الأثاث بطريقة مدهشة
منحت الغرفة دفئا وسلاماً مريح.
"ربما التجهيزات بالشقة هى ما استنفذته ولم يكن
الوقت متاحاً أمامه ليهتم بملابسه...سأغفر له فقط مقابل انه اجاد تجهيز الشقة"قالت سلمى ثم
أمسكت بيد مليكة الباردة بالرغم من أن تكييف
الهواء الذى اعده زين للعمل فور دخوله الغرفة لم يجعلها باردة بعد.
"مليكة انظرى لى..اعرف أن هذا اليوم يبدو لك سيئاً وأنك تتساءلين الآن لما وافقت على هذه الزيجة،
صدقينى لو كنت مكانك سأفكر بنفس الشيئ،لكن لا تداعى المظاهر الخارجية تخدعك..زين يحبك،لا اعرف لما يتصرف بتلك الطريقة ولكننى واثقة مما أخبرك
به..سيجد كل منكما طريقه للآخر حبيبتى ولكن كل ما اطلبه منك هو أن تتغاضى عن تلك القشرة
الخارجية الواهية من الوجه المتجهم والصرامة
وتمنحى نفسك الوقت لتكتشفى القلب الذى
خلفها"
تنفست مليكة بقوة ودمعت عينيها فجأة وهى
تتمتم لصديقتها:"سأحاول..اعدك سأحاول"
عانقتها سلمى ثم همست:"اهتمى بنفسك وبحياتك الجديدة واتركى لى خالتى وخالد...وخاصة خالد لا
أدرى كيف سمح لزين أن يأتى المطار بملابس اشبه
بملابس العمل بينما هو يرتدى بدلة!!يبدو أنه يفتقد والدته لذا سأتركه ينام معها الليلة عقاباً له"انهت
سلمى تلميحها بغمزة ماكرة من عينيها جعلت
مليكة تبتسم رغماً عنها..
"هيا دعينى اساعدك فى استبدال الفستان"أضافت
سلمى ثم انحنت نحو أحد الحقائب التى تعرفها جيداً وفتحتها لتجد ما تحتاج إليه على الفور..ساعدت
مليكة فى استبدال فستان الزفاف بقميص نوم أبيض ثم عاودت إغلاق الحقيبة قائلة:"يمكنك ترتيب
ملابسك فيما بعد...والآن دعينى أخبرك....أعنى....
حسناً،دعيه يتولى أمر هذه الليلة،وسيكون لديك
ليالى كثيرة قادمة تتولين أنتِ أمرها"
عاودت غمزتها العابثة ثم غادرت الغرفة مسرعة
بينما بقت مليكة تجلس على حافة الفراش تنتظر..
وكأنها تنتظر عقاباً ما مجهول وتتمنى أن يهبط
عليها أفضل من بقاءها وحيدة تفكر بالأسوء..تلاشت الأصوات تماماً بالخارج وساد الصمت وبأذن مرهفة وجسد يرتجف اتجهت لتقف خلف باب غرفة النوم
محاولة استراق السمع ولكن لا شيئ فعادت للجلوس بموضعها مرة أخرى..دقائق طويلة..تبعها دقائق
حتى مر أكثر من ساعة فانحنت للخلف لتتكئ على
الوسادة بإرهاق حتى غفت...غافلة عن ذلك الذى
وقف امام باب الغرفة للمرة العاشرة بتردد يمسك
المقبض ثم يتراجع فيعود للغرفة الأخرى الصغيرة..وكأن بداخله رجلين يتصارعان لمن تكون الغلبة..رجل
يحن ويشتاق لملامحها،عاشق يهوى قربها الذى ما ان يفتح الباب حتى تكون له ورجل آخر يرفع راية الكبرياء ولا يقبل بتنكيسها وما بين نزاعهما هو مشتت وضائع.
تغلب حنينه لها على كل شيئ سواه وفتح الباب
ببطئ فوجدها غافية بينما تجلس على حافة الفراش وجزعها ينحنى مستندا مع رأسها على الوسادة..وقف قليلاً يتأملها فللمرة الأولى منذ رآها بالمطار يملك
الحرية فى تأملها...لقد استطال شعرها عن آخر مرة
رآها بها،استطال حتى تعدى خصرها وها هو منثورا على وسادته..وها هى تغفو على فراشه..وسادة
وفراش ابتاعهم بماله وبغربة عامين كاملين..احنى
رأسه يتأمل اهدابها الطويلة السوداء الرطبة ومسار الدموع على وجنتها التى تلطخت بسواد كحل عينيها وهمس يحدثها بصمت:"أخشى أن ألين واجفف
دمعاتك فتعودين لتحطمى قلبي وترقصين عل حطامه منتصرة،ماذا أفعل يا حبيبة القلب ومليكته؟"
ابتلع لعابه بصعوبة وعينيه تلتقط انفراجة شفتيها
وتنهداتها الخافتة فقبض علي يديه التى تقاومه
بأوامر من قلبه وتريد ان تندفع لتلامس شفتيها،برغبة فى استكشاف ملمسهم فلطالما حلم بنعومتهم
المخملية على اطراف اصابعه الخشنة..رؤيته لها
بملابس النوم كان كآلاف السهام التى اخترقت
جسده وجعلته يئن بجراحه..زفر بقوة محاولاً ان
يستفيق من خيالاته وكاد أن يرفع ساقيها ليضعها
بالفراش ولكنه تراجع بلحظة الأخيرة فهو لا يريدها
أن تدرك أنه يهتم.
اسرع عائدا لغرفة النوم الأخرى الصغيرة قبل أن
يضعف..سلمى تعتقده صارم وقاسي وخالد يعتقد أنه يعرف ما يفعله تماماً واكتفى بوعده له ولم يتدخل
بأى شيئ حتى عندما رآه بتلك الملابس بدت عليه
الصدمة ولكنه امسك لسانه ولم يتحدث بالأمر..
ولكنه يتساءل الآن ما الذى تعتقده مليكة؟أنه يريد
الإنتقام منها!!
القى بجسده على الفراش بكامل ملابسه ولم يتخلص حتى من حذائه مستسلماً لأفكاره بدون أن يحاول
دفعها بعيداً فلعل إرهاق عقله يدفعه للنوم..فعادت ذاكرته إلى صباح ذلك اليوم الذى تلى رؤيته لها فى سيارة ذلك الشاب.
"توقف عن تحريض والدى ضدى زين..لأننى اريد ذلك
الشاب وأحبه..هل تستمع لى!! أحبه،وقد اتفقت مع والدى على أن يحضر حاتم لمقابلته حتى يحدد موعد
خطبتنا...أريد رجل انيق راقى..لا أريده أن يحمل ملامح الحارة وشقائها وترابها..اريده مبتسماً هادئاً وليس
متجهم تزوره الإبتسامة فى الأعياد ولا همجياً يتشاجر بمدية ويحمل ندبة فى ذراعه واخرى بوجهه ويعلم
الله إن كان يحمل ندبات أخرى!!وبالطبع لا أريد أن
يكون والده سجيناً مختلساً"
"احمل ندبة أعمق من تلك التى بذراعى أو بوجهى..
ندبة أعمق كثيراً إنها ندبة فى القلب يا مليكته"تمتم بصوت خفيض تاركاً الذكريات تتوافد على رأسه
لعلها تنهكه وتنهك قلبه حتى لا يلين لها.
استيقظت تنظر حولها وتمسد جانبها الذى تشعر
بالألم بعضلاته ثم تلفتت حولها تريد أن تعرف
الوقت الذى استغرقته بالنوم فوجدت ساعة انيقة
على الطاولة الجانبية للفراش بالجانب الآخر وكانت
تشير للسابعة صباحاً يبدو انها غفت لعدة ساعات،
فوقفت تتمطى لتحرر جسدها من تيبسه...لقد بدأ
إنتقامه بإهمالها وإذلالها حسناً،إن كان يعتقد أن
النوم بمفردها فى تلك الغرفة الناعمة المكيفة
الهواء ذات الفراش الناعم،إنتقاماً فمرحباً بإنتقامه..فتحت الحقائب وبدأت فى ترتيب ملابسها بعناية
ولكن ما لاحظته أن الخزانة خالية تماماً ولا أثر
لملابسه فتنهدت بقوة وواصلت ترتيب ملابسها
الجديدة وعندما انتهت ارتدت منامة ذات أكمام
طويلة وسروال طويل ومحتشمة تماماً ثم فتحت
الباب بتمهل وطلت برأسها نحو الممر الصغير ولكن الهدوء كان يسود الشقة ولا اثر لأى صوت بالخارج..
فخطت خارج الغرفة تستكشف مكان الحمام
ووجدت باباً مجاور تماماً للغرفة فطرقته عدة مرات
ولكن لا مجيب ففتحت الباب بتردد ووجدته الحمام..
غسلت وجهها التى تلطخت زينته وانتعشت قليلاً ثم صففت شعرها ورفعته بذيل فرس داعب طرفه
خصرها ثم غادرت الحمام وخطت عبر الممر القصير
لتجد باباً آخر طرقته عدة طرقات وهى لا تدرى ما
يمكنها أن تقوله لو فتح الباب ولكن عندما لم تجد
إجابة فتحت الباب ببطئ وحينما وجدت الغرفة
خالية وقف تتأملها.. إحدى ألوان الكشمير احتلت
جدارين بالغرفة مع اللون الكريمى للجدار خلف
الخزانة الصغيرة ونافذة كبيرة تحتل جدار آخر تنسدل ستائر ذات اقلام طولية متعددة اللون ولكن جميعها بدرجات الكشمير المنوعة...والفراش ليس كبيراً مثل فراش الغرفة الأخرى ولكنه بدا مريح وبنفس
التصميم...غادرت الغرفة وهى تتساءل إذا أراد
الإنتقام فلما كل تلك التجهيزات التى تبدو أنها
مكلفة؟
زمت شفتيها بتهكم:"من أجل شقيقك وشقيقته من أجل والدتك...فرغم كل شيئ لم يكن خالد ليقبل اى
تهاون بحقى"
اتجهت إلى منطقة الإستقبال متوسطة الحجم
والتى تحوى منطقة للمعيشة واخرى للطعام
وبالجانب وجدت باباً يجاور باب الشقة فتوقعت ان
يكون المطبخ وخطت نحوه بجرأة أكبر بعد أن تيقنت أنه لا أحد سواها بالشقة...شعرت بملمس التراب
اسفل قدميها العارية فهبطت بعينيها لتجد آثار
حذائه تصنع لها مساراً من الأتربة حول السجاد وكأنه يخشي على نظافة السجاد الجديد فقط لكن لا يبالى بغيره..تتبعت أثر الحذاء الذى تنقل عبر المطب
والردهة الصغيرة امام باب الشقة وحول مائدة
الطعام.
فتنهدت وعادت إلى المطبخ تبحث عن شيئ ما
لتتناوله فهى لم تضع طعاما بفمها منذ صباح اليوم السابق..فتحت الثلاجة ووجدت الكثير من الأطعمة
والفاكهة التى لا تعرف هويتها فتناولت شطيرة
وهى تقف امام خزانة المطبخ الذى يعلوها سطح
رخامى باللون الأخضر وحينما انتهت بدأت بالبحث
عن أدوات النظافة فعلى الأقل لديها ما تفعله الآن
بديلاً لجلوسها وحيدة بالغرفة.
ساعات طويلة مرت لينقضى النهار وينسدل الليل..لا
تستطيع ان تفتح نافذة تتطلع بها إلى الطريق أو ان
ترى أى معالم للبلدة التى تقيم بها فالحرارة بالخارج مرتفعة كثيراً والشقة مكيفة الهواء بالكامل...لم
تستطع أن تفتح التلفاز لأنه يختلف عن ذلك القديم
بمنزلها فهو شاشة مسطحة مثبتة بالحائط ولا يوجد بها اية ازرار ولا يوجد مستقبل اشارة مثل الذى يوجد بمنزلها..ولا حتى استطاعت فتح هاتفها والإتصال
بسلمى لأنه لازال به شريحة الإتصالات المصرية..يوماً طويل لم تجد فيه ما تفعله مطلقاً سوى الذكريات
والصمت والوحدة وإعداد الغداء الذى لم تمسه
وحينما أشارت ساعة الحائط للعاشرة مساء غادرت
غرفة المعيشة واتجهت إلى غرفة النوم..لم تكن من نوع الفتيات التى تخاف او تخشي البقاء بمفردها
طويلاً ولكنها انتقلت للتو من الحارة المكتظة التى
تسمع من غرفتها.. رغم النافذة المغلقة..كل ضجيج
الحارة وتشم روائح طعام المنازل المجاورة،لذا فهذا
الهدوء والسكون يبعث بنفسها الخوف.
بهدوء قدر المستطاع فتح زين باب الشقة عندما
تخطت الساعة الثانية عشر ليلاً وخطى نحو الداخل
فوجد اضواء الشقة كلها مُضاءة وهادئة تماماً
فاتجه نحو غرفة النوم ووقف يسترق السمع ولكن لا صوت...فتح الباب ببطئ فوجدها نائمة بالفراش
وجسدها يلتف بغطاء السرير حتى أعلى راسها
وبالكاد كان يظهر طرف شعرها من اسفل الغطاء..فتقدم متمهلاً وانحنى يمسك بخصلة شعرها
ويرفعها إلى شفتيه ليقبلها ممرراً إياها على وجنته هامساً لنفسه:"لقد جننت تماماً يا زين،ماذا تفعل؟
وماذا اذا استيقظت؟ما الذى ستخبرها به؟"
زفر بقوة بينما يغادر الغرفة وما ان عاد ليري الأضواء
المضاءة حتى بدأ يتساءل،هل اضاءت الأنوار لأنها
خائفة؟ بدأ بغلق المصابيح بطريقه حتى وصل إلى
المطبخ وعقد حاجبيه وهو يتجه نحو الموقد:"أعدت الغداء!!"
بدأ يرفع اغطية الأوانى فوجد أرز بالشعرية و ملوخية وبامية باللحم،لكن الطعام لم يمس فالتفت يفتح
المبرد ولم يستطع ان يدرك ما الطعام الذى تناولته طوال اليوم!!زأرت معدته تنبهه لجوعه فوضع
الطعام بالأطباق ونقلهم نحو مائدة الطعام وما ان
وصل حتى فوجئ بأطباق أرز باللبن على المائدة،
فلاحت ابتسامة حزينة على شفتيه وهو يضع الأطباق ويبدأ بتناول الطعام وعينيه تتأمل اطباق الأرز باللبن..
"تناولت الأربعة اطباق؟خالتك ارسلت لكل فرد منا
طبق فتتناولها جميعاً؟!!"قالت والدته وهى تضرب
على صدرها.
"لم استطع المقاومة يا أم زين،لقد طُهى بيد
الأحباب"قال بينما يضع الملعقة بالطبق بعد أن
انتهى منه.
"وما مذاق الأرز باللبن المطهو بيد الأحباب؟هل هو
جيد؟"قالت والدته تشاكسه.
"سكر..سكر زيادة يا أم زين"
"لكنه ليس دسماً يا قلب أم زين،يحتاج أن يسّمن
قليلاً...أعنى يصبح دسماَ قليلاً"قالت بضحكة عالية
تردد صداها بالمنزل.
"احبه نحيف...اعنى خفيف،خفيف على القلب"
"بالهناء والعافية على قلبك يا غالى"قالتها والدته
وهى تربت على كتفه قبل أن يغادر الآريكة تاركاً
الأطباق الخاوية متراصة على المنضدة الصغيرة.
بإبتسامة حزينة افاق من خيالاته حينما انتهى من
تناول عشاؤه مدركاً أنه انهى كل ما بالأطباق
فالتفت إلى اطباق الأرز باللبن متأملاً قبل أن تمتد يده نحو أحدهم ثم بدأ بتناوله وهو يتلذذ مع كل معلقة
تدخل فمه..
"لازالت نبضات القلب تنبض بجنون لمجرد أننى اعلم
أنك أعددت شيئ ما من أجلى يا مليكة القلب،
سيقتلنى هواكِ يوماً"تمتم مغمضاً عينيه وكأن كل
حواسه تركزت على حاسة التذوق مستمتعاً،منتشياً
كمن ظن أنه تعافى من إدمانه ومع مجرد التلويح
بالمخدر أمام عينيه تاق جسده للمزيد.
غادر المائدة أخيراً بعد ان انتهى ووقف ليتجه إلى
الحمام ولكنه عاد ليلتفت حوله عاقداً حاجبيه فلقد كان جهاز التحكم عن بعد الخاص بتلفاز بنفس
موقعه فوق حافة الشاشة المسطحة من الأعلى،ألم تحاول تشغيله؟أم لم تدرك تقنية تشغيله؟اللعنة
عليك زين!!لا هاتف،لا تلفاز،لا انترنت..كيف قضت
يومها!!
ذهب الى غرفة النوم ثم التقط ورقة كتب فوقها
وعاد إلى الغرفة الأخرى حيث تنام فوضعها على
الطاولة الجانبية للفراش وفوقها صندوق ابيض
مستطيل الشكل ثم أجبر نفسه على مغادرة الغرفة
قبل أن يضعف ويتسلل إلى الفراش بجانبها رغبة فى منح قلبه المتعب دقائق ليستريح..فقط دقائق تعينه على الإحتمال.
عاد إلى غرفة المعيشة وفتح التلفاز ثم قام بوضع
جهاز التحكم على المنضدة بمنتصف الغرفة وبجواره جهاز التحكم عن بعد الخاص بمستقبل الإشارة
وحينما انتهى اتجه إلى غرفة نومه وتخلص من
ملابسه وكعادته حيث تصل يديه يلقيها...القى
بجسده المنهك فوق الفراش وهو يعلم أنه يجب أن يستيقظ قبل السادسة ليغادر فهو لازال يُدرب نفسه وقلبه على الصمود أمامها مع إدراكهما لوجودها
امامه..بمنزله..بفراشه..زوجته.
استيقظت بالسابعة صباحاً وما أن التفتت لتغادر
الفراش حتى وجدت على الطاولة الجانبية صندوق
ابيض لم يكن موجوداً بالأمس..هل دخل الغرفة؟لم
تشعر بوجوده؟التقطت الصندوق وفتحته بتجهم
فهو حقاً يثير دهشتها..كان الصندوق يحتوى على
هاتف من الطراز الحديث ووجدته يعمل وبه شريحة
إتصالات جديدة واسفل الصندوق ورقة كتب فوقها
كلمتان الرقم السري لشبكة الانترنت واسفلها
رقم....نعم إنه يثير دهشتها،لقد أعد لها شقة جميلة،وابتاع لها هاتف حديث..حسناً،لما يهملها ويعاملها بهذه الطريقة!!
غادرت الغرفة مسرعة علها تجده فربما تبدأ الأمر
بشكره على الهاتف..ولكن ما أن خرجت حتى شعرت
بأن إعصاراً إجتاح الشقة الرائعة..منشفة معلقة على مقبض باب الحمام وباب غرفة النوم الأخرى مفتوحاً ويظهر أن النصيب الأكبر من الإعصار كان من حظها فالملابس ملقاة بكل مكان والملاءة مكومة بطرف الفراش والأغطية تتعلق ما بين الأرض والفراش
فسارت لتعبر الممر القصير نحو منطقة الاستقبال
لتجد انه لم ينجو ايضا،فطاولة الطعام فوقها عديد من الأطباق الفارغة.
"حسناً،على الأقل لدىّ ما أفعله"
همهمت لنفسها ثم بدأت برفع الأطباق عن المائدة
وترتيب المطبخ وتلميع الأرض التى افسدها بحذائه
ولكنها كانت ممتنة أنه لم يفسد السجاد الرائع التى لم تره من قبل سوى بالمسلسلات وحينما أصبحت
راضية تماما عن ما فعلته اتجهت إلى غرفته وهى
تتمتم لنفسها بألم:"حسناً زين إن كانت هذه الشقة
الجميلة هى سجنى المرفه الذى قررتم جميعاً
تقيدى فيه فعلى الأقل يجب أن تظل زنزانتى رائعة
كما هى"
بدأت بترتيب غرفته وهى تتساءل هل كان يسبح أم
ينام!ما الذى اثار هذا الإعصار بالفراش؟ انحنت
لتجمع ملابسه من على الأرض ووضعها فى سلة
للغسيل بالحمام ورتبت الغرفة كما يجب أن تكون ثم وضعت صندوق الهاتف الذى احضره لها على
الطاولة الجانبية لفراشه وغادرت الغرفة...فهاتفها
يكفيها وهى لا تحتاج شريحة اخرى فمع من
ستتحدث!!يكفيها الإنترنت لتتحدث مع سلمى كما
اعتادت من خلال برامج التواصل الإجتماعى.
"مليكة..حبيبتى كيف حالك؟"
"انا بخير سلمى..بخير تماماً"قالت محاولة إدعاء
السعادة.
"كاذبة مليكة..لست بخير..ولا تحاولى أن توهمينى
بذلك،ماذا فعل ذلك الأبله؟"قالت سلمى بمرارة بالغة فلقد بدأت تعقد أنها مخطئة فى فكرة زواجهما
فيبدو أن شقيقها لن ينسي ابدا ما فعلته مليكة
معه.
"اقسم أننى بخير..اقيم بشقة رائعة و استطعت ان
اعرف كيف ادير التلفاز و شقيقك ابتاع لى هاتف على أحدث طراز وشريحة اتصالات وشبكة الإنترنت هنا
جيدة وقوية حتى إننى شاهدت فيلما بدون تقطيع
هل تصدقين؟!"
تمتمت مليكة محاولة خنق دموعها فهى بالتأكيد لا تريد إثارة أي مشكلات وبالطبع لا تريد ان يظن خالد
او والدتها انها تتمرد على حياتها.
"مليكة..من فضلك إخبرينى كيف يعاملك زين؟
لا تجعلينى اندم أننى ....اعنى اندم على موافقتى على زواج زين منكِ"تلعثمت سلمى وضربت على ساقها
لغبائها بينما تجهم وجه مليكة محاولة استيعاب
تلعثم صديقتها وسببه.
"هيا مليكة اريد أن اعرف حتى لا اتصل به الآن واجعل ليالى هذا الأبله حالكة"
واصلت سلمى حديثها بغضب عارم فهى اعتقدت أن
زين يمكنه ان يغفر ويكون زوج محب لمليكة لكن
يبدو أن كل ما فعلته هو نقل مليكة من ظروف سيئة الى اسوأ،فكل ما يدور حولها يقلقها..بداية من رفض خالد أن تذهب لزيارة مليكة كأى اهل عروس
يذهبون ليطمئنوا على ابنتهم..ورفضه حتى ان
تدعو زين ومليكة على الغداء..معرفتها بأن زين لم
يطلب عطلة من أجل زواجه وانه يذهب للعمل..كل
ذلك يثير قلقها على صديقتها.
"سلمى من فضلك،انا ليس لى سواكِ دعينى اتحدث
معك لأننى إن لم افعل سأصاب بالجنون ولكن لا
تثيري أية مشكلات من أجلى،عاهدينى سلمى أن
يبقى كل واى شيئ نتحدث به سراً بيننا..أو انسيه
بمجرد ان تتركين الهاتف"
قالت مليكة بهدوء محاولة ان تنتزع وعداً من
صديقتها فهى بحاجة لها لتتحدث إليها فيومين
مضيا بدون ان تتحدث إلى أى إنسان واصبحت تخشى ان تصاب بالجنون.
"حسناً مليكة أعدك أننى لن اتفوه بكلمة مما يدور بيننا ولكن اخبرينى بما يحدث معكِ،هل يسئ زين معاملتك؟"
"ليته فعل،إننى لم أراه منذ تركته يقف امام الشقة مع خالد ووالدتى"
"ماذا!!ما الذى يعنى بأنك لم تريه...هذا يعنى انكما...اعنى ...لم تريه مطلقاً"
"نعم،يخرج بالصباح الباكر قبل السابعة صباحاً ويعود بوقت متأخر جدا ربما بعد منتصف الليل"
"الأحمق...الأبله،يا الله !!لا اعرف ما الذى يجب أن
اقوله لك مليكة،لكنى لن اتركه يستمر فى غباؤه...."
"لا..لا سلمى،لا اريد لأى احد ان يعلم بأى شيئ مما
اخبرك به،ولا حتى اريده هو ان يعلم أننى تحدثت
إليكِ،لقد عاهدتينى سلمى"
اندفعت الكلمات من فم مليكة بسرعة فهى تقدر
كل ما تكلفه زين من أجل زوجة فقط بالأرواق
الرسمية لن تضيف شيئاً لحياته بل تُعد عبئاً عليه.
انهت سلمى اتصالها مع صديقتها وضغطت رقم
شقيقها على الفور لكنه لم يجيب فلم تستسلم حتى استسلم هو واجاب بعد الإتصال العشرون خلال
عشرة دقائق.
"لما لا تجيب على شقيقتك يا عريس؟!هل العروس
تستأثر بك،ام انت الذى تستأثر بها!!"
"ومرحباً لك ايضاً سلمى،لما هذا الهجوم؟"
"اى هجوم هذا يا ابن توفيق..يا ابن الرجل الذى مات بعد شهور من وفاة زوجته لأنه لم يتحمل الحياة
بدونها..الرجل الذى رأيناه طوال حياتنا يرعى زوجته ويتقى الله بها"
"لما تخبرينى بهذا الآن سلمى؟"
"لأنك عريس جديد يا شقيقى ويجب أن اقدم لك
النصيحة"اجابته بنبرة حادة ثم اضافت:"اتقى الله بها يا زين..اتقوا الله بها جميعاً،من أين لكم جميعاً بهذه القسوة التى امتلأت بها قلوبكم"
"سلمى!!"هتف بها خالد من امام باب الغرفة
فالتفتت نحوه متجهمة بينما يقترب ثم أمسك
بالهاتف من يدها.
"انا آسف زين،انت تعرف سلمى،بقدر ما هى عاطفية
بقدر ما يشبه لسانها السيف"
"لا عليك خالد،مضطر أن اغلق الهاتف الآن"
عندما انتهى الإتصال ضاقت عينى خالد وهو يلتفت.
إليها قائلاً:"كم مرة أخبرتك خلال اليومين الماضيين
ان زواج سلمى وزين كان اقتراحك نعم،ولكن ليس لك الحق فى تسيير حياتهم،كم مرة أخبرتك أن نتركهما
ليجدا طريقهما بأنفسهما؟وكم مرة كررت عليكِ أن
نمنحهما الوقت بدون تدخلنا؟"
"حسناً..ولكن كل هذا لن يمنعه ان اذهب لزيارتها،او تأتى هى لزيارتنا"
"لا سلمى..يجب ان نبقى بعيداً،يجب أن يعرف كلاهما أن لا ملجأ له سوى الآخر..زين رجل يحفظ الأمانة
وشقيقتى أمانة لديه،إننى أثق به"قال خالد ثم غادر
الغرفة تاركاً سلمى حائرة لا تدرى إن كانوا على
صواب ام غلفت القسوة قلوبهم.