4
بدأت ترمي كل شيء و تفسد كل ما احضروه في غضب ثائر و شديد دون أن تشعر او ان تتحكم في نفسها ، شعور ما غريب تسلل اليها و تملكها ، هي لم تعد تحتفل في عيد ميلادها ، لقد أصبحت تتشائم من أي غريب يتودد اليها ، لقد أصبحت تخشى السعاد و تخاف الثقة و تتوهم بالغدر و الخيانة الدائمة ، هي لم تعد تثق بأي أحد سوى في نفسها ، أما أمير فهو أيضاً لم يعد يحتفل في عيد مولده و ذلك بسبب خسارته الشديدة ، فلقد خسر حب حياته ، لقد عانى كثيراً و لذلك أصبح في عيد ميلاده من كل عام لا يخرج أبداً و لا يتكلم مع أي أحد ، هو أصبح يبقى لوحده و يتعايش مع ذكرى شمس و يقضي يومه كاملاً مع وهم شمس ..
خرجت ميرا بغضب بعد أن توعدت للمجميع بخصم كبير من رواتبهم و ذلك بسبب ما قاموا به ، ثم لحق بها آلبرت بغضب و أثناء ذهابها مسرعة قام في لحاقها و أمسك في يدها مانعاً لها من الذهاب ، أفلتت يدها و خلصتها من يده و بدأت تنفض يدها مدّعيةً تنظيفها من لمسة آلبرت ثم قالت في غضب و وجهت في كلامها اليه
ميرا : ألم أقل لك بأن لا تقترب مني او تلمسني ؟ لماذا لا تفهم
آلبرت : اعتذر لكنني أردتُ ايقافك
ميرا : و ما شأنك أنت ؟ و من أنت لتوقفني ؟ ام نسيت مكانتك ..
آلبرت : ارجوكِ لا تخطئي في كلامك ، انا لا أريد التسبب لكِ بأي من الألم لكنني أعبر لكِ عن اعجابي بك
ميرا : أخبرتك في السابق و سوف أخبرك الآن مجدداً
انا لست معجبة بك ، و لا أريدك ، ارجوك أبقى في عملك فقط ، يكفي أرجوك افهم
آلبرت : أعتذر إن سببت لكِ الازعاج
ثم أكملت طريقها في غضب و أخذت بمفتاح سيارتها و صعدت اليها و بدأت في القيادة لتسير في دربها وحيدة ، كانت تقود سيارتها ببطئ و هدوء شديدان و كأنها تقود نحو وجهة عالم الشتات و الضياع ، و كأنها تذهب نحو المتاهة و الوهم ، تسير بين نسمات الهواء الهادئة و أفكارها المترنحة في جميع الجهات ، لقد كانت تقود سيارتها و الحرب التي في داخلها في آن واحد ، لقد كانت تفر هاربة من صُداع رأسها و الأسئلة التي تدور في رأسها ، كانت هاربة من تلك الحروب القائمة بين روحها و عقلها و كأنها كانت تهرب الى عام اللاشيء بعيداً عن الضجيج و زحام الأفكار في رأسها ، لقد كانت تحاول اطفاء عقلها و قلبها و ايقافهما عن التفكير و الكلام ، و كأنها تريد أن ترمي بنفسها نحو بنابيع من السلام الداخلي ، لكي ترتاح من كل ما تشعر به و تنزعج منه ، لقد كانت ميرا تريد فقط الرحيل عن هذه الحياة التي لم تعطيها سوى الألم و الأسى ، التي لم تعطيها سوى الجروح اللئيمة و المعاناة ، لقد كان قلبها ينزف أفكاراً غريبة و كأنه مرهق من كل الخذلان لكن مع ذلك و كأن قلبها يريد ان يبرر كل ما حدث مع ميرا من خذلان و ألم و معاناة ، و كأن قلبها يريد اختراع حجج و براهين ليغفر و يُنهي القصة لكي يرتاح من خضم كل هذه الآلام و الجروح ، لكن مجدداً عقلها لا يتوعب و يكاد أن ينفجر من ضغط قلبها عليها ، عقلها الراجح و المتّزن لا يريد سوى تحقيق اهدافه بعيداً عن كلام القلب و مواساته ، و هكذا كانت تدور الحرب الفاجعة بين قلبها و عقلها ، و هكذا كانت تضطر ميرا لاستماع نقاشاتهم معاً طوال الوقت ، في داخل ميرا هناك براكين من الحروب و اختلاف الأفكار ، كانت تظهر من الخارج على أنها هادئة الطباع ، فهي أصبحت قليلة الكلام ربما لأنها سئمت من التحدث او القاء الكلمات هي تسمح لعنانها بأن يُشرح في كتاب او قصة او رواية ، لقد جعلت ميرا من معاناتها ابداع ، في مرة من المرات في كتابٍ ما من كتاباتها كالعادة ، كتبت ميرا عبارة ترافق فصل من الفصول التي كتبتها فقالت في ذلك الاقتباس
" الكلمات على السطور قد يكون بينها ألف قصة و قصة "
ميرا لا تكتب من أجل النجاح أو المال أو من أجل تحقيق شهرة ما ، ميرا لطالما كانت تعبر عن كل شيء في داخلها عبر الكتابة و القاء الكلمات على السطور و النقاط على الحروف ، تلك هي ميرا ، تلك المتفائلة و التي لطالما كانت تحيا مع الأمل ، أصبحت لا تُغري قلبها الفاتن مجرد ابتسامات و لا يخدعها اهتمام مزيف و كاذب و لا تغرّها المظاهر ، أصبحت هادئة و صامتة طوال الوقت ، لا تبوح بأي شيء سوى في كتبها بين السطور و عبر الكلمات ، لقد أصبحت ناضجة أكثر عن السابق فلم تعد تنخدع بالناس ، أصبحت شديدة الانتباه و التركيز ، تحتمل و تصبر على ضغوطات الحياة و معاركها المستمرة التي في داخلها ، لقد احتملت الكثير و الكثير و لا زالت تحتمل ، لم تعد تبكي على السرير قبل نومها فلقد أيقنت بأن الدموع لن تُريحها و أن البكاء مجرد ضعف مما جعلها تكف على أن تكون رقيقة الطباع و الاحساس ، لقد وضعت عائق كبير و حاجز منيع بينها و بين الاحساس و الشعور ، لقد اكتفت بالصمت و الكتابة..
توجهت في سيارتها الى تلك القمة العالية في باريس ، لقد كانت ميرا دائما ما تتردد في الذهاب الى هناك ، لكي تعود الى آخر ذكرى جمعتها مع سعد ، لقد كانت تقف و يعود شريط الذكرى لها ، آخر نظرة جمعتها مع سعد ، لقد كانت تنظر الى عينيه و كأن هناك شيء ما خفي ، لقد لاحظت و رأت بأم عينيها دموع سعد المعلقة في عينيه و التي لم يسمح لها في النزول ، لكن لماذا ؟ لماذا أطلق عليها ، لقد كان يريد موتها ، لقد كان يريد التخلص منها ، اذاً لماذا تلك الدموع ، ثم يعود عقلها الى التفكير مجدداً في غيابات الأمر ..
لقد كانت كل تلك الأسئلة تتردد اليها و تسكن عقلها و تفكير و تشغل بالها و تعود للوم الحياة و عتابها ، لماذا هي بالذات ، لماذا كل تلك الآلام ، لماذا خُذلت من أقرب الأشخاص اليها و الى قلبها و الى روحها ، لماذا هي من احتملت ما سببوه لها من ألم و معاناة ، لماذا هي التي كان نصيبها من الألم و الحزن و الأسى أكبر من نصيبها من السعادة و الفرح ، لماذا أصابوها في نصف قلبها و رموها ، لماذا أقرب الأشخاص اليها ظهروا على انهم مجرد أعداء و حاسدين و طامعين بالمال و الثروة و الأملاك ، لماذا اضطرت ميرا لمواجهة كل ذلك ، لماذا تلك القسمة و النصيب جمعتها في مثل تلك المراحل المؤلمة و الطاغية ، لماذا هي من تعاني ، لماذا خسرت الطيبون في حياتها ، لماذا تخلّت الحياة عنها و السعاد عنها ، لماذا كل الأشياء السعيدة قد تخلّت عنها..
عاد شريط الذكرى لها بعد تلك الحادثة..
قبل عام و نصف :
استيقظت و بدأت تنظر الى المكان الذي هي فيه ، لم تستطع النهوض ، تحسست وجهها ثم تحسست يدها الموضوع عليها جبرة طبية ثم عادت تلتمس رأسها و اذ كان قد تم لفّه في الشاش الطبية ، ارادت النهوض بعد أن رأت نفسها في غرفة ناصعة البياض و لقد كانت مستلقية على السرير بين الأجهزة الطبية و المعدّات ، ثم قررت ان تنزع قناع الاوكسجين عن وجهها ، و اذ بأحد ما يدخل الى الغرفة ، لقد كان الطبيب في رفقة شخص آخر ، لم تستطع أن تستمع جيداً ، لكن بدا و كأن صوت ذلك الشخص مألوف ، ارادت النهوض لكن اقترب منعا الطبيب حالاً ليزف بخبر استفاقتها لمن كان موجود ، لم تستطع الوعي او الادراك فلقد كانت تشعر و كأن رأسها ثقيل و ذلك بسبب التخدير الذي كانت تأخذه في المستشفى ، و عادت لتغط في نوم عميق من جديد ، لكنها لم تدرك بالفعل اين هي و من اولئك الأشخاص و لم تتمعن في ذلك الصوت المألوف ..
و هكذا ظلّت طوال مدة عدة أسابيع تعود للوعي قليلاً ثم تعود و تغط في نومها العميق ..
و بعد مرور شهر ، كانت نائمة كعادتها بين الأجهزة و المعدّات الطبية لكن كابوس ما تردد اليها ، لقد كان يوم الحادثة الفاجعة ، بدأت تعود و ترى موت شمس و حصار أمير و قتلها على يد معشوقها ، ثم استيقظت فجأة و بدأت تتمتم و تنادي بإسم أمير ، لقد كانت تكرره مراراً و تكراراً ثم يعود الطبيب و يعطيها ابرة مهدّئ لتعود الى النوم من جديد و هكذا بقيت على نفس الحالة ، و في يوم ما بعد ما يقارب الخمس أيام ، بدأت حالتها تتحسن أكثر فأكثر ثم نهضت من فراشها و بدأت تعي قليلاً ، و عندما دخل الطبيب بدأ في سؤالها
الطبيب : هل تشعرين أفضل الآن
ميرا : نعم يا حضرة الطبيب ، لكن هل يمكنني معرفة التاريخ و متى تم نقلي الى هنا و من الذي اسعفني الى هنا
الطبيب : انتِ الآن في باريس ، لقد سعفك شخص ما الى هنا ، ربما تم احضارك من مستشفى اخرى الى هنا ، فعندما اتيتِ كان معك عدة تقارير طبية ، أما وجودك هنا فلقد بقيتي هنا لمدة ثلاثة شهور
ميرا : هل يمكنني الاتطلاع على التقارير الطبية يا حضرة الطبيب
الطبيب : بالطبع
ميرا : لكن أين الشخص الذي اسعفني
الطبيب : لقد رحل قبل يومان ، بعد ان علم و أدرك بأن حالتك أصبحت في تحسن ملحوظ و جيد و لذلك لم يأتي بعدها
ثم ناولها الطبيب تقاريها الطبية السابقة ، و عندما بدأ في القراءة و جدت ان المستشفى التي كانت بها سابقاً في دمشق ، فمن الذي اسعفها الى هناك و كيف ذلك ، لقد ظنّت بأنها سوف تموت بعد اصابتها بالاطلاق الناري من قِبَل سعد و بعد ان ارتمت من ذلك الارتفاع الشاهق فكيف لها ان تعيش الى الآن ، و من ذلك المسعف الذي نقلها الى باريس حصراً و لماذا
لغز جديد يشتعل في رأس ميرا ، فمن هذا الذي اسعف ميرا و احضرها الى المكان الأصلي و الذي يعود اليها
ثم وجهت في سؤالها الى الطبيب قائلةً له :
ميرا : متى يمكنني التخرّج من هنا يا حضرة الطبيب
الطبيب : بعد ثلاث أيام من الآن
ميرا : شكراً لك ، هل يمكنني استخدام الهاتف لكي أتكلم مع ذوي
الطبيب : بالطبع
ثم أعطاها هاتفه المحمول و بدأت تتصل في رقم والدتها ميلا و جدها برهان ، ثم فُتح الخط
بدأ ميلا ترد على المكالمة باللغة الفرنسية بعد ان ظهرت لها بأن المكالمة من باريس
ميلا : مرحباً ، هل يمكنني أعرف من المتصل
ميرا : أمي هذه أنا ميرا
بدأت تصرخ ميلا و تبكي و تقول :
ميلا : اين انتِ ، لماذا حدث كل هذا ، لقد وصلتني عدة أخبار ، أين انتِ الآن يا صغيرتي
ميرا : في مستشفى ما في باريس ، لقد سعفني احدهم و نقلني الى هنا
ثم سألت الطبيب عن اسم المشفى التي تتعالج بها الآن فأجابها الطبيب في مستشفى سانت لويس
ثم عادت ميرا و أخبرت والدتها ميلا باسم المستشفى
و قالت ميلا بأنها سوف تأتي اليها حالاً فالمستشفى قريب من منزلها حيث تسكن
و بعد مرور نصف ساعة تقريباً وصلت ميلا في رفقة الجد برهان الى المستشفى و بدأوا في التوجه نحو مكتب السكرتيرة الطبية و بدأوا في سؤالها عن رقم غرفة ميرا ، ثم أعطتهم رقم الغرفة و قامت في ارشادهم نحو الطريق الى الطوابق العلوية ..
دخلت والدتها بعد أن وصلت الى غرفة ميرا الخاصة ، و عندما وجدت ميرا على السرير ركضت اليها بينما ميرا كانت تحاول النهوض ، أخذت تساعدها والدتها ميلا من أجل أن تنهض ، ثم ضمتها الى صدرها و عانقتها و بدأت ميلا في البكاء على وضع ميرا ، فهي لم تحتمل ان ترى ابنتها مريضة و في تلك الحالة ، لقد كانت تخاف إن خُدش اطفالها الصغار بخدوش بسيطة حتى ، فكيف لها أن ترى طفلتها ميرا في المستشفى مع كم هائل من المعانات ، ثم بدأت ميلا تسأل ميرا :
ميلا : ماذا حدث بالضبط ، اخبريني
و بدأت ميرا تقص و تروي كل ما حدث بالتفصيل الممل
ميلا : و ماذا عن أمير
ميرا : لا اعلم يا أمي ربما لا يزال أسير لدى سعد و روزاليا ، لكن لا تقلقي بمجرد خروجي سوف أبدأ في البحث عنه و سآخذ بانتقامي و ثأري منهم ..
ميلا : لا تفكري في أي شيء الآن ، اهتمي في صحتك ، و انا مُدركة بأن أمير سوف يكون بخير ، فلا تقلقي يا عزيزتي
و بعد مرور ثلاثة ايام خرجت ميرا من المستشفى و تلاشى شريط الذكرى من أمام ميرا
نعود الى ميرا بعد عامان حيث تقف الآن على حافة القمة بعد ان تذكرت كل ما حدث لها من معانة و ألم ، و اذ بأحد ما يركن سيارته في القرب من سيارة ميرا ، تلتف بوجهها و اذ ذاك الشاب نفسه التي اصطدمت سيارتها في سيارته أمام بوابة الشركة ، تفاجئت كثيراً من وجوده في نفس المكان ، ثم أقبل اليها و بدأ في الحديث موجهاً به نحو ميرا
يتبع
خرجت ميرا بغضب بعد أن توعدت للمجميع بخصم كبير من رواتبهم و ذلك بسبب ما قاموا به ، ثم لحق بها آلبرت بغضب و أثناء ذهابها مسرعة قام في لحاقها و أمسك في يدها مانعاً لها من الذهاب ، أفلتت يدها و خلصتها من يده و بدأت تنفض يدها مدّعيةً تنظيفها من لمسة آلبرت ثم قالت في غضب و وجهت في كلامها اليه
ميرا : ألم أقل لك بأن لا تقترب مني او تلمسني ؟ لماذا لا تفهم
آلبرت : اعتذر لكنني أردتُ ايقافك
ميرا : و ما شأنك أنت ؟ و من أنت لتوقفني ؟ ام نسيت مكانتك ..
آلبرت : ارجوكِ لا تخطئي في كلامك ، انا لا أريد التسبب لكِ بأي من الألم لكنني أعبر لكِ عن اعجابي بك
ميرا : أخبرتك في السابق و سوف أخبرك الآن مجدداً
انا لست معجبة بك ، و لا أريدك ، ارجوك أبقى في عملك فقط ، يكفي أرجوك افهم
آلبرت : أعتذر إن سببت لكِ الازعاج
ثم أكملت طريقها في غضب و أخذت بمفتاح سيارتها و صعدت اليها و بدأت في القيادة لتسير في دربها وحيدة ، كانت تقود سيارتها ببطئ و هدوء شديدان و كأنها تقود نحو وجهة عالم الشتات و الضياع ، و كأنها تذهب نحو المتاهة و الوهم ، تسير بين نسمات الهواء الهادئة و أفكارها المترنحة في جميع الجهات ، لقد كانت تقود سيارتها و الحرب التي في داخلها في آن واحد ، لقد كانت تفر هاربة من صُداع رأسها و الأسئلة التي تدور في رأسها ، كانت هاربة من تلك الحروب القائمة بين روحها و عقلها و كأنها كانت تهرب الى عام اللاشيء بعيداً عن الضجيج و زحام الأفكار في رأسها ، لقد كانت تحاول اطفاء عقلها و قلبها و ايقافهما عن التفكير و الكلام ، و كأنها تريد أن ترمي بنفسها نحو بنابيع من السلام الداخلي ، لكي ترتاح من كل ما تشعر به و تنزعج منه ، لقد كانت ميرا تريد فقط الرحيل عن هذه الحياة التي لم تعطيها سوى الألم و الأسى ، التي لم تعطيها سوى الجروح اللئيمة و المعاناة ، لقد كان قلبها ينزف أفكاراً غريبة و كأنه مرهق من كل الخذلان لكن مع ذلك و كأن قلبها يريد ان يبرر كل ما حدث مع ميرا من خذلان و ألم و معاناة ، و كأن قلبها يريد اختراع حجج و براهين ليغفر و يُنهي القصة لكي يرتاح من خضم كل هذه الآلام و الجروح ، لكن مجدداً عقلها لا يتوعب و يكاد أن ينفجر من ضغط قلبها عليها ، عقلها الراجح و المتّزن لا يريد سوى تحقيق اهدافه بعيداً عن كلام القلب و مواساته ، و هكذا كانت تدور الحرب الفاجعة بين قلبها و عقلها ، و هكذا كانت تضطر ميرا لاستماع نقاشاتهم معاً طوال الوقت ، في داخل ميرا هناك براكين من الحروب و اختلاف الأفكار ، كانت تظهر من الخارج على أنها هادئة الطباع ، فهي أصبحت قليلة الكلام ربما لأنها سئمت من التحدث او القاء الكلمات هي تسمح لعنانها بأن يُشرح في كتاب او قصة او رواية ، لقد جعلت ميرا من معاناتها ابداع ، في مرة من المرات في كتابٍ ما من كتاباتها كالعادة ، كتبت ميرا عبارة ترافق فصل من الفصول التي كتبتها فقالت في ذلك الاقتباس
" الكلمات على السطور قد يكون بينها ألف قصة و قصة "
ميرا لا تكتب من أجل النجاح أو المال أو من أجل تحقيق شهرة ما ، ميرا لطالما كانت تعبر عن كل شيء في داخلها عبر الكتابة و القاء الكلمات على السطور و النقاط على الحروف ، تلك هي ميرا ، تلك المتفائلة و التي لطالما كانت تحيا مع الأمل ، أصبحت لا تُغري قلبها الفاتن مجرد ابتسامات و لا يخدعها اهتمام مزيف و كاذب و لا تغرّها المظاهر ، أصبحت هادئة و صامتة طوال الوقت ، لا تبوح بأي شيء سوى في كتبها بين السطور و عبر الكلمات ، لقد أصبحت ناضجة أكثر عن السابق فلم تعد تنخدع بالناس ، أصبحت شديدة الانتباه و التركيز ، تحتمل و تصبر على ضغوطات الحياة و معاركها المستمرة التي في داخلها ، لقد احتملت الكثير و الكثير و لا زالت تحتمل ، لم تعد تبكي على السرير قبل نومها فلقد أيقنت بأن الدموع لن تُريحها و أن البكاء مجرد ضعف مما جعلها تكف على أن تكون رقيقة الطباع و الاحساس ، لقد وضعت عائق كبير و حاجز منيع بينها و بين الاحساس و الشعور ، لقد اكتفت بالصمت و الكتابة..
توجهت في سيارتها الى تلك القمة العالية في باريس ، لقد كانت ميرا دائما ما تتردد في الذهاب الى هناك ، لكي تعود الى آخر ذكرى جمعتها مع سعد ، لقد كانت تقف و يعود شريط الذكرى لها ، آخر نظرة جمعتها مع سعد ، لقد كانت تنظر الى عينيه و كأن هناك شيء ما خفي ، لقد لاحظت و رأت بأم عينيها دموع سعد المعلقة في عينيه و التي لم يسمح لها في النزول ، لكن لماذا ؟ لماذا أطلق عليها ، لقد كان يريد موتها ، لقد كان يريد التخلص منها ، اذاً لماذا تلك الدموع ، ثم يعود عقلها الى التفكير مجدداً في غيابات الأمر ..
لقد كانت كل تلك الأسئلة تتردد اليها و تسكن عقلها و تفكير و تشغل بالها و تعود للوم الحياة و عتابها ، لماذا هي بالذات ، لماذا كل تلك الآلام ، لماذا خُذلت من أقرب الأشخاص اليها و الى قلبها و الى روحها ، لماذا هي من احتملت ما سببوه لها من ألم و معاناة ، لماذا هي التي كان نصيبها من الألم و الحزن و الأسى أكبر من نصيبها من السعادة و الفرح ، لماذا أصابوها في نصف قلبها و رموها ، لماذا أقرب الأشخاص اليها ظهروا على انهم مجرد أعداء و حاسدين و طامعين بالمال و الثروة و الأملاك ، لماذا اضطرت ميرا لمواجهة كل ذلك ، لماذا تلك القسمة و النصيب جمعتها في مثل تلك المراحل المؤلمة و الطاغية ، لماذا هي من تعاني ، لماذا خسرت الطيبون في حياتها ، لماذا تخلّت الحياة عنها و السعاد عنها ، لماذا كل الأشياء السعيدة قد تخلّت عنها..
عاد شريط الذكرى لها بعد تلك الحادثة..
قبل عام و نصف :
استيقظت و بدأت تنظر الى المكان الذي هي فيه ، لم تستطع النهوض ، تحسست وجهها ثم تحسست يدها الموضوع عليها جبرة طبية ثم عادت تلتمس رأسها و اذ كان قد تم لفّه في الشاش الطبية ، ارادت النهوض بعد أن رأت نفسها في غرفة ناصعة البياض و لقد كانت مستلقية على السرير بين الأجهزة الطبية و المعدّات ، ثم قررت ان تنزع قناع الاوكسجين عن وجهها ، و اذ بأحد ما يدخل الى الغرفة ، لقد كان الطبيب في رفقة شخص آخر ، لم تستطع أن تستمع جيداً ، لكن بدا و كأن صوت ذلك الشخص مألوف ، ارادت النهوض لكن اقترب منعا الطبيب حالاً ليزف بخبر استفاقتها لمن كان موجود ، لم تستطع الوعي او الادراك فلقد كانت تشعر و كأن رأسها ثقيل و ذلك بسبب التخدير الذي كانت تأخذه في المستشفى ، و عادت لتغط في نوم عميق من جديد ، لكنها لم تدرك بالفعل اين هي و من اولئك الأشخاص و لم تتمعن في ذلك الصوت المألوف ..
و هكذا ظلّت طوال مدة عدة أسابيع تعود للوعي قليلاً ثم تعود و تغط في نومها العميق ..
و بعد مرور شهر ، كانت نائمة كعادتها بين الأجهزة و المعدّات الطبية لكن كابوس ما تردد اليها ، لقد كان يوم الحادثة الفاجعة ، بدأت تعود و ترى موت شمس و حصار أمير و قتلها على يد معشوقها ، ثم استيقظت فجأة و بدأت تتمتم و تنادي بإسم أمير ، لقد كانت تكرره مراراً و تكراراً ثم يعود الطبيب و يعطيها ابرة مهدّئ لتعود الى النوم من جديد و هكذا بقيت على نفس الحالة ، و في يوم ما بعد ما يقارب الخمس أيام ، بدأت حالتها تتحسن أكثر فأكثر ثم نهضت من فراشها و بدأت تعي قليلاً ، و عندما دخل الطبيب بدأ في سؤالها
الطبيب : هل تشعرين أفضل الآن
ميرا : نعم يا حضرة الطبيب ، لكن هل يمكنني معرفة التاريخ و متى تم نقلي الى هنا و من الذي اسعفني الى هنا
الطبيب : انتِ الآن في باريس ، لقد سعفك شخص ما الى هنا ، ربما تم احضارك من مستشفى اخرى الى هنا ، فعندما اتيتِ كان معك عدة تقارير طبية ، أما وجودك هنا فلقد بقيتي هنا لمدة ثلاثة شهور
ميرا : هل يمكنني الاتطلاع على التقارير الطبية يا حضرة الطبيب
الطبيب : بالطبع
ميرا : لكن أين الشخص الذي اسعفني
الطبيب : لقد رحل قبل يومان ، بعد ان علم و أدرك بأن حالتك أصبحت في تحسن ملحوظ و جيد و لذلك لم يأتي بعدها
ثم ناولها الطبيب تقاريها الطبية السابقة ، و عندما بدأ في القراءة و جدت ان المستشفى التي كانت بها سابقاً في دمشق ، فمن الذي اسعفها الى هناك و كيف ذلك ، لقد ظنّت بأنها سوف تموت بعد اصابتها بالاطلاق الناري من قِبَل سعد و بعد ان ارتمت من ذلك الارتفاع الشاهق فكيف لها ان تعيش الى الآن ، و من ذلك المسعف الذي نقلها الى باريس حصراً و لماذا
لغز جديد يشتعل في رأس ميرا ، فمن هذا الذي اسعف ميرا و احضرها الى المكان الأصلي و الذي يعود اليها
ثم وجهت في سؤالها الى الطبيب قائلةً له :
ميرا : متى يمكنني التخرّج من هنا يا حضرة الطبيب
الطبيب : بعد ثلاث أيام من الآن
ميرا : شكراً لك ، هل يمكنني استخدام الهاتف لكي أتكلم مع ذوي
الطبيب : بالطبع
ثم أعطاها هاتفه المحمول و بدأت تتصل في رقم والدتها ميلا و جدها برهان ، ثم فُتح الخط
بدأ ميلا ترد على المكالمة باللغة الفرنسية بعد ان ظهرت لها بأن المكالمة من باريس
ميلا : مرحباً ، هل يمكنني أعرف من المتصل
ميرا : أمي هذه أنا ميرا
بدأت تصرخ ميلا و تبكي و تقول :
ميلا : اين انتِ ، لماذا حدث كل هذا ، لقد وصلتني عدة أخبار ، أين انتِ الآن يا صغيرتي
ميرا : في مستشفى ما في باريس ، لقد سعفني احدهم و نقلني الى هنا
ثم سألت الطبيب عن اسم المشفى التي تتعالج بها الآن فأجابها الطبيب في مستشفى سانت لويس
ثم عادت ميرا و أخبرت والدتها ميلا باسم المستشفى
و قالت ميلا بأنها سوف تأتي اليها حالاً فالمستشفى قريب من منزلها حيث تسكن
و بعد مرور نصف ساعة تقريباً وصلت ميلا في رفقة الجد برهان الى المستشفى و بدأوا في التوجه نحو مكتب السكرتيرة الطبية و بدأوا في سؤالها عن رقم غرفة ميرا ، ثم أعطتهم رقم الغرفة و قامت في ارشادهم نحو الطريق الى الطوابق العلوية ..
دخلت والدتها بعد أن وصلت الى غرفة ميرا الخاصة ، و عندما وجدت ميرا على السرير ركضت اليها بينما ميرا كانت تحاول النهوض ، أخذت تساعدها والدتها ميلا من أجل أن تنهض ، ثم ضمتها الى صدرها و عانقتها و بدأت ميلا في البكاء على وضع ميرا ، فهي لم تحتمل ان ترى ابنتها مريضة و في تلك الحالة ، لقد كانت تخاف إن خُدش اطفالها الصغار بخدوش بسيطة حتى ، فكيف لها أن ترى طفلتها ميرا في المستشفى مع كم هائل من المعانات ، ثم بدأت ميلا تسأل ميرا :
ميلا : ماذا حدث بالضبط ، اخبريني
و بدأت ميرا تقص و تروي كل ما حدث بالتفصيل الممل
ميلا : و ماذا عن أمير
ميرا : لا اعلم يا أمي ربما لا يزال أسير لدى سعد و روزاليا ، لكن لا تقلقي بمجرد خروجي سوف أبدأ في البحث عنه و سآخذ بانتقامي و ثأري منهم ..
ميلا : لا تفكري في أي شيء الآن ، اهتمي في صحتك ، و انا مُدركة بأن أمير سوف يكون بخير ، فلا تقلقي يا عزيزتي
و بعد مرور ثلاثة ايام خرجت ميرا من المستشفى و تلاشى شريط الذكرى من أمام ميرا
نعود الى ميرا بعد عامان حيث تقف الآن على حافة القمة بعد ان تذكرت كل ما حدث لها من معانة و ألم ، و اذ بأحد ما يركن سيارته في القرب من سيارة ميرا ، تلتف بوجهها و اذ ذاك الشاب نفسه التي اصطدمت سيارتها في سيارته أمام بوابة الشركة ، تفاجئت كثيراً من وجوده في نفس المكان ، ثم أقبل اليها و بدأ في الحديث موجهاً به نحو ميرا
يتبع