الفصل الرابع 4

بروده ، ألم ، ضعف ، يأس ، مشاعر متضاربه ، الخوف ، القيد ..........
كل هذه المشاعر اجتاحتني بمجرد ان أفقت من الأغماء .........
ظللت ساكنا في مكاني احاول استيعاب الامر ، ثم استندت على أحد المقاعد القريبه مني ، و أعتدلت
واقفا ، و تقدمت عدة خطوات لأطالع وجهي في المرأه لأجد الدموع التي انحبست بداخلي تتدفق
أخيرا ........
لفت نظري هذا المظروف الصغير الساكن على الأرض بهدوء ، جحظت عيناي و كأن كل شيئ يتكرر
امامي بسرعة فائقه ........
لعنت حياتي البائسه مره اخرى ، ثم ارتديت سترتي السوداء و لففت وجهي بكوفيه سوداء حتى
لا يتضح من ملامحي شيئ ، و كدت انطلق لولا ان استوقفتني هذه الحقيره المتلئلئه .........
هذه السكين لم استخدمها من قبل ، لا اعلم مالسبب ، لكنني و ضعتها في جيب سترتي الداخلي ،
و انطلقت بعجل لكن قدماي لازالتا في حالة جمود ، لم اتوقف و تابعت الركض محاولا الهبوط بأقصى
سرعه و كانت النتيجه الطبيعيه ؛ انني هبطت بسرعه فائقه حقا لكن ليس على قدماي .
حاولت النهوض بأيد مرتعشه ........
(( مالذي تفعله ؟ ))
رفعت رأسي محاولا التعرف على من يتحدث إلي ، لاجده صديقي طارق ، و بدون مقدمات سألته :
عربتك معك ؟
هز طارق رأسه و هو يقول : نعم ، لكن رخصتي منتهيه لهذا قصدتك في هذا الوقت ال......
يوسف: جيد جدا سننطلق بها الان .
طارق بدهشة: إلى اين ؟!
يوسف بغضب: لا أعرف ، لكن فلتقلني إلى تلك السياره اللعينه .
أعانني على النهوض و هو يكرر تسائلاته بإلحاح ، لا أعلم لماذا يتسائل الناس عندما نستخدم اشيائهم
لقد كثرت التدخلات في شئوننا بالفعل .
لكن فلنفكر بهدوء ، صاعق و سكين و نوم كالجثه في هذا الطقس الثليج ، إذا هذا الرجل المشرد الذي
قتلته لم يكن نائما ، ثم من اللذي سيتلقى مثل هذه الطعنات و يكتفي بالتشبث بذراعها بيأس فقط ،
إذا على الأغلب انها تصعق ضحاياها قبل قتلهم ......
مالذي ستفيدني به هذه المعلومه ، فكر ، فكر .......
يوسف: كم الساعة الأن ؟
رمق طارق ساعته اليدويه و هو ينطلق بسيارته بعصبيه : الحادية عشر و النصف ، كما انه وقت انتشار
كمائن الشرطه في هذه المنطقه .
هذا متأخر عن وقت جريمتها التي حاولت ايقاعي بها بساعه و نصف كامله ، كما ان الجرائم الثلاثه
وقعن في تسلسل على مقربة من الطريق الرأيسي .......
يوسف: المتسولين الذين يعرضون منتجاتهم في الحافلات ، في الأغلب يكونون جماعه منظمه أليس كذلك ؟
طارق بوجل: و ما علاقة هذا بعربتي ؟
يوسف: فلتقد بمحازاة الطريق الرأيسي من وسط المساكن .
طارق بعدم فهم: مالذي يجري بالضبط ؟!
يوسف: سأخبرك بكل شيئ لاحقا .
هذا هو التفسير المنطقي ، لابد ان جماعة من هؤلاء المتسولين فعلن لها شيئا ما ، و هذه الجماعه تحتل
الطريق الرأيسي لتبيع أشيائها و تتسول في الحافلات ، و مقتل ثلاثه منهم في محطات متتاليه نهايه
بالمحطه التي استقل منها الحافله يؤكد انها ستكون في المحطه التاليه ، لكن ليس على الطريق
الرئيسي بسبب التشديدات الأمنيه ، ستقوم بصعقه و قتله في أحد الزقاق قرب الطريق الرئيسي ،
تقريبا غبت عن الوعي لمدة ساعه من الزمن ، لكن هذا ليس بشيئ فلحافلات عادة ماتتوقف في الحادية
عشر وبالتالي المتسولون يعودون إلى زقاقهم في هذا الوقت ، كل شيئ سيسير على ما يرام ، مريم
لا تجعليهم يقبضون عليك ارجوكي .
ظللت اتفرس الزقاق واحده تلو الاخرى بحثا عن اي شيئ يدل على مكانها .......
الأمطار كثيفة جدا اليوم لدرجه تصعب الرؤيه من نوافذ السياره المغلقه ........
لكنها لم تكن كافيه لتخفي هذا التجمع الغفير من الماره .....
خرجت من السياره سريعا ، اقتحمت الصفوف لأجد هذه المرأه التي لونت الدماء ملابسها ، و احد
الماره يحاول ايقاف النزيف بيديه ......
لم اهتم بتاتا بل تجمدت المشاعر بداخلي و انا اتفرس الوجوه الجامده المرتعده الذاهله بحثا عن
وجه واحد فقط أعرفه جيدا .........
لكنني استدرت في خيبه أمل عائدا إلى السياره .......
طارق بقلق من يرى تجمهر الناس على شيئ ما: مالذي حدث ؟
يوسف ببلادة: لا شيئ امرأه تفترش الأرض تغطيها الدماء .
رمقني بعينين متسعتين و هو يقول : كيف لك ان تتحدث بهذه الطريق البارده في هذا الموقف .
أطرقت راسي للامام بهدوء وانا اقول : أقلاء هم من اهتم لشئنهم على هذا الكوكب ، وانا على وشك
ان افقد اهمهم ، فليذهب الجميع إلى الجحيم في هذه اللحظه .
اطلق زفيرا حارا ، و امسك بعجلة القياده و هو يقول : إلى اين ؟
يوسف: إلى محطة الحافلات التاليه بأقصى سرعه .
ادار سيارته ، وانطلق بكل سرعته و هو يقول : ألن تخبرني بما يحدث هنا ؟
يوسف: لا .
ابتلع ردي البارد و هو يقاوم إلقائي خارج السياره بصعوبه ، و استمر في متابعة طريقه بصمت .
في هذه الاثناء كنت احسب في رأسي الزمن التقديري لهذه الجريمه لأقدر مقدار ما يبعدنا عنها ،
كما ذكر فرويد في احد كتبه عن التحليل النفسي للسفاحين ، فإن أغلبهم يفضل السير بهدوء قبل
ارتكاب جريمته ، إذا فقد استغرقت ١٥ دقيقه من منزلي إلى هنا سيرا على قدميها ، و عدم قدوم
الشرطه يعني ان الجريمه طازجه لم يمر عليها نصف ساعه ، و الساعة الان تقترب من الثانية عشر ،
إذا هي على بعد محطه او اثنتين من هنا ......
كم اتمنى ان تحلق هذه العربه عاليا و تهبط امامها ، لاخذها و نبتعد عن هذا الكوكب الحقير سويا ........
قاطع أوهامي صوت صفارات الشرطه تقترب بسرعه فائقه على الطريق الرئيسي .........
شعرت في هذه اللحظه ان الحياة تنسحب مني ببطء .........
يوسف: فلتسرع قليلا .
طارق بانفعال: لا يوجد اسرع من هذا ؛ نحن وسط المساكن هنا و تحيطنا المباني من كل جانب .
لا لا ، لا اريد حدوث هذا ، ألن أرى ابتسامتها الطفولية ثانية ، ألن تجادلني بعناد مره أخرى ، لا يا إلهي
ساعدني ارجوك ، فلتكن حياتي جحيما بعد ذلك لكن اريدها معي ..........
(( حسنا ، فلتخرج بنا إلى الطريق الرئيسي ))
نظر إلي بتسائل ، فتابعت قائلا : لن توجد مباني كثيره هناك و بالتالي سيكون وصولنا أسرع .
اطلق زفره حاره و هو يتمتم بسخط : لما لم تقل هذا من قبل .
و بالفعل لم تمضي ثوان معدوده حتى تخللنا العربات على الطريق الرئيسي .........
رفعت الكوفيه إلى وجهي ليختفي نصفه السفلي ، ثم وضعت غطاء الرأس المتصل بالستره على
راسي و انا انظر إلى مرآة السياره لأراقب سيارات الشرطه و هي تقترب .......
(( لما تخفي وجهك ، لا تخبرني انك ستقوم بعمل إرهابي ))
ضحكت لمزحته ، ثم قولت بمرح : لم ارتقي بعد إلى هذه الدرجه من الجنون ، لكن فلتتقبل أعتذاري ،
انت أفضل صديق حقا .
و بمجرد ان انهيت عبارتي أمسكت بعجلة القياده و جذبتها ناحيتي بقوه ، لتصدر العربه صريرا عاليا
وتصطدم بأقرب السيارات جوارها بعنف ، ثم تلتف مره ثانيه للجهه الاخرى إثر مقاومته لي و جذبه
عجلة القياده بقوه مصحوبه بسباب للأهل و الأقارب لكن لا يوجد سباب مسني شخصيا ........
صطدمت العربه مره اخرى و في هذه اللحظه دفعت بابها و ألقيت بجسدي خارجا ليصطدم جسدي
بالارض بعنف و يتمزق جزء من ملابسي و تسيل بعض من دمائي لتلطخ أرضية الطريق .......
شعرت بإرتجاج شديد في رأسي ، لكن الطريق توقف و هذا ما كنت اريده بالضبط ، على الفور هممت
واقفا ، و ركضت بعيدا وسط أحد الزقاق المجاوره للطريق ........
شعرت بكل خلايا جسدي تستغيث من الألم ، لكنني أعلم جيدا مقدار الألم الذي سيلحق بي إذا فقدت
هذه الفتاة الحمقاء ........
صرت اتفقد الزقاق كالمجنون ، و بريق الأمل ينطفئ بداخلي رويدا رويدا ، كل شيئ يناجيني لأفقد
الوعي و أستريح من هذا الواقع اللعين ، لكنني مجبر على المواجهه ، مجبر ان اظل بوعيي لاتلقى
الصدمات واحدة تلي الأخرى .........
و إذا بهذا الصوت المقيت الذي كان اخر ما تردد على مسامعي قبل ان افقد الوعي ، ينشر صداه في
الافاق مرة اخرى .
توقفت وانا احاول تحديد الجهه التي أتى منها صوت الصاعق الكهربائي الذي مثل إلي نداء الملائكه
حينها .........
ركضت ناحية الصوت بكل سرعتي لكنني لم اكن اول الحاضرين ........
(( أنت مالذي تفعلينه ، القي هذه السكين ولترينا و جهك و سنتفهم الامر ))
خرجت هذه العباره من فم هذا الرجل العجوز الذي اقترب من مريم التي اثقلتها الدماء و هي تشهر
السكين في وجه الرجل و تهدده بالقتل إذا اقترب منها قيد انمله .........
لا أعلم مالذي فعلته حينها ، لكنها كانت من المرات القليله في حياتي التي يتحرك بها جسدي دون ان
يتلقى الاشارات من عقلي ........
ركضت بكل سرعتي حتى انني تجاوزت الرجل بسرعة البرق ، و احتضنتها بشوق و حنان بالغين و انا
اتمنى ان اخبرها بكل ما يكنه قلبي اتجاهها ، اريد ان اقص عليها كيف حاربت الجميع حتى لا يمسها أي
أذى ، اريد ان اخبرها عن مدى الخوف و الرعب الذي اجتاحني بمجرد ان خلت انها ستبتعد عني يوما
ما ، اريد ان اخبرها فقط انني احبها .........
لم ينطق لساني بكلمه واحده و انا اراقب هذه السكين المتلونه بحمرة الدماء تخترق جسدي في جزء
من الثانيه ..........
تجمد العالم لثوان ، و توقفت قطرات المطر عن الهطول و انا اراقب عيناها الدامعتين و شفتاها التي
تتحرك ببطئ لتنطق بعبارة الأسف ........
مسحت الدمع عن عينيها ، ثم ازحت خصلات شعرها المنسابه على وجهها ، و تحسست و جهها برفق
و هدوء ، ثم ضممتها إلى بشده لأضفي إليها الحنان و الدعم الذي تحتاجه في هذه اللحظه ......
(( لقد جئت من اجلك يا حبيبتي ))
برقت عيناها بذهول و هي تسكن داخلي بوهن و قد خارت قواها و اوشكت على الاستسلام بعد ان
انهت مهمتها ..........
رفعت راسها لأرى و جهها بوضوح و ابعد ناظراها عن الجرح الذي حل بجسدي ........
يوسف: لن يبعدني احد عنك مهما حدث ، فلتتشبثي بي جيدا فأنا هنا لاخوض معركة حتى النفس الأخير .
لم تستوعب شيئ و انا امسك بيها بقوه ، ثم اهم واقفا و أخرج السكين التي احتفظت بها داخل
سترتي و ألوح بها بقوه صوب الاعداد القليله التي تجمعت إثر نداء العجوز ، ثم جذبتها من ذراعها و
انطلقت معها تاركا خلفي كل شيئ ، حياتي ، اهدافي ، مستقبلي ، كل شيئ .........
لا أعلم كم المده التي قضيتها في الركض إلى ان تصببت عرقا و بدأت البروده تشتد و تشوشت الرؤيه
في ناظري فسقطت أرضا و انا التقط انفاسي بصعوبه ........
(( يوسف ، انا اسفه ، صدقني لم اقصد فعل هذا اقسم لك ))
مسحت دمعاتها التي اضفت الدفئ بداخلي و هي تنساب على وجهي .........
يوسف لا تعتذري ايتها الحمقاء ، فلتنقذي حياتي .
مريم بحيرة مرتجفة: كيف ؟!
يوسف بوهن: اتصلي بالإسعاف و خذي هذه الستره و هذا الوشاح و أنتظريني في شقة شقيقتي إلى ان أتي إليك .
اتصلت بالطوارء بالفعل و اخبرتهم عن حالتي و صرخت بهم بتألم لتحثهم على الاسراع ، ثم نزعت
عني الستره السوداء وسط تأوهات خفيفه بسبب الألم ، ثم نزعت عني الوشاح بتلعثم و ظلت ترمقني
بأعين دامعه و هي تقول : لا تمت ارجوك ، لن اسامح نفسي على هذا ابدا ، ارجوك .
يوسف: دائما ما يموت الطيبون مبكرا ولست منهم فلا تقلقي .
مريم بانهيار: لماذا فعلت هذا ، انا قاتله استحق الموت ، وعلى أتم الاستعداد لملاقاته ، لماذا أقحمت نفسك بالأمر ؟!
يوسف: لتعيشي من اجلي ، ربما لن تصدقي لكنني لا اكترث لكونك قاتله من عدمه ، انا اناني للغاية ولم
تدمع لي عين لموت هؤلاء الاشخاص ، كل ما كنت افكر به هو ان اراكي مره اخرى فقط ، لهذا انا قاتل
مثلك .
فاضت الدموع من عيناها بشده لتختلط بقطرات الأمطار و الدماء الذان انسابا من و جهها ليتساقطان
على وجهي مباشرة ..........
(( فلتفعلي ما أخبرتك به الأن ، ستصل عربة الاسعاف قريبا ))
مريم: ألا يجب ان أسلم نفسي للقضاء ؟!
يوسف: أفعلي هذا و سأقتلك بيدي هاتين .
مريم: لماذا ؟!
يوسف: لانني لم اذهب لأعماق الجحيم لتخبرينني انك ستستسلمين في النهايه ، انت لم تخطئي بشيئ هم
يستحقون الموت ولو استمرو في الحياة لقتلتهم بنفسي ذأت يوم .......
ثقل لساني لدرجه كبيره ، و بدأ احساسي بالحياة يتلاشى شيئا فشيئا ، و قلقي من ان تراني في هذه
الحاله فتظل بجانبي بعد ان اغيب عن الوعي فينتهي كل شيئ سداً ......
(( هيا ، إذهبي الان وسألحق بك قريبا ))
مريم: لا اريد تركك في هذه الحاله .
يوسف بمشقة: ارجوك نفذي رغباتي ولا تزيدي من ألامي ، سألحق بك قريبا فأنا لا احتقر حياتي لهذه الدرجه التي
أموت بها دون قتال .
مسحت الدماء عن وجهي و ظلت متشبثه به عدة ثوان كأنها تحفر ملامحي في عقلها ، ثم همت واقفه
و هي تردد : هذا وعد بيننا ، سوف انتظرك مهما طال الزمان .
رسمت على وجهي ابتسامه زائفه و انا اتابعها و هي تبتعد عني رويدا رويدا ، تاركة اياي لاصارع
الظلام الذي يتسرب إلى عيناي وحيدا ، تائها وسط ألحان المطر
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي