الفصل الثاني عشر 12 و الأخير

لا أدري متى ولا كيف غطت في النوم وسط هذا التوتر الجارف, حتى أستيقظ على هذه الطرقات اللطيفة المهذبة.
لكن رغم هدوئها و رقتها إلا أنها أرعبتني و جعلتني أنتفض واقفاً و أنا أتشبث بالهراوة التي أحضرتها.
ذهبت على أطراف أصابعي إلى الباب و تساءلت عن من بالخارج لتجيبني مريم بخجل: إنها أنا, الطفلة المشاغبة.
درت بعيني في الشقة مفكراً, أيجب أن أقابلها هكذا بالهراوة أم سأجرح مشاعرها و سأجعلها تتسرع في شحذ سكينها لتقتلني.....
أأنت هنا؟
جاءني تساؤلها مفاجئاً فأجبتها على الفور: إنني عارٍ تماماً, سأستر نفسي ببعض الملابس و أتيكي على الفور.
يمكنني أن أتخير وجنتيها تتوردان الآن خجلاً فأصبح حائراً؛ كيف لهذه الفتاة الرقيقة الناعمة أن تصير هذه السفاحة التي لا ترحم؟
هرعت على الفور إلى المنضدة ووضعت الهراوة أسفل منها بحيث ألجأ إليها إن احتجت لذلك, و عدت أدراجي لأفتح الباب بإبتسامة بشوشة و ملامح مرهقة و أنا أشير لها للدخول.
حسناً لا بد أن سمعتي قد صارت في الوحل و أنا أعزب يسمح لفتاة بدخول شقته, لكن جيراني الحمقى لا يدركون أن هذا مجرد موعد قتل عادي وليس شيئاً آخر لاسامح الله.
كان أول شيئ وقعت عينيها عليه هي الأطباق الفارغة التي تركتها بإهمال, فتبرم وجهها و مصمصت شفتيها قائلة بغضب: لقد تركت كل شيئ نظيفاً و مرتباً في أخر مرة جئت بها إلى هنا, لماذا لا تحافظ على نظافة شقتك؟
هرعت للملمة الاطباق سريعا و شرعت في تنظيفها قائلاً بودٍ ممزوج بالكثير من الخوف: أعتذر, كل شيئ سيصير أنظف من ذي قبل الآن, أنا فقط لم أنم جيداً.
إتسعت عيناها بدهشة و حيرة و هي تسألني ببراءة: لماذا أطرأ خطب ما؟
إبتسمت ببله و أنا أجيبها: لا كنت أفكر في موعدنا فقط, فكما تعلمين الشوق يحرقني للقائك.
أنهيت تنظيف الأطباق و أعددت كأس القهوة المليون لهذا اليوم, ووضعت أمامها كوباً و أمامي الآخر, و جلست قبالتها قائلاً: ها نحن ذا.
هزت رأسها و هي تقول بعمق: أجل ها نحن ذا.
خيم الصمت علينا لعدة دقائق أنهينا بهما كوبين القهوة, ثم سألتها مازحاً: أيوجد حقاً مريم أخرى أم أنتِ مدخنة شرهة؟
إبتسمت قائلة: لا أحب التبغ صدقني, فدخانه يجعلني أسعل بشدة, لكنها تفضل ذلك فلا أمنعها.
داعبت كوب القهوة متأملاً بقايا البن و أنا أسألها: لماذا لا تمنعينها؟
أطرقت رأسها و تحاشت النظر إلي و كأنها محرجة من كونها تدخن رغم أني لا أفضل المدخنين سواء من الذكور أو الاناث أو الذكور خاصة إن كنت أهتم بهذه الأنثى....
لقد منعتها ذات مرة فلم ترغمني على شيئ بل أرتني ما تتحمله و ما يحرق ذاكرتها فودت لو أسحب سكيناً و أطعنها برأسي لأخرس ذهني و نبضاته اللعينة هذه.
إغرورقت عيناها و فرت الدمعات من أجفانها و هي تتابع: لقد كان شيئاً فظيعاً, لا أزال أشعر بأيديهم القذرة و أشم رائحتهم النتنة إلى الآن.
رفعت حاجباي بأسف لما حل بها, بل و بحزنٍ حقيقي و غضبٍ دفين يُشك أن يثور و يعطيها كامل الشرعية لقتل هؤلاء الأوغاد الشهوانيون متحجري القلب, لكنني للأسف أعلم أنني بذلك أوافق على أن تكون قاتلة متسلسلة أو سفاحة مطلوبة للعدالة, و بنظر الجميع هي القاتلة التي طعنت المشردين المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة, سحقاً كم هذا الأمر لعين حقاً.
لكن رغم ذلك لم أنسى صديقي طارق, فحاولت التظاهر بالهدوء رغم أن نبرتي كانت صارمة أكثر من المعتاد و أنا أسألها: لماذا قتلتي طارق إن كنتِ تريدين الانتقام من هؤلاء الأوغاد فحسب؟
إعتدلت في مقعدها و هي تجيبني بثقة كأن ما فعلته هو عين الصواب: لقد حاول قتلي ودفعي من النافذة لولا أنك منعته.
أجل لقد حاول أن يدفعك حتى لا تصلي إلينا, ألم تنظري إلى نفسك و تدركين كيف كان شكلك حينها؟
نطقت بهذه الجملة و قد إنفلتت أعصابي و نفد صبري عند هذه النقطة, فتيبس وجهها و برقت عيناها و هي تقول بشيئ من الصياح: لقد كان عقبة في إنتقامي يا يوسف, لم يكن هناك حلاً آخر سوى التخلص منه.
إبتسمت بسخرية و أنا أقول بتهكم: أجل لقد كان عقبة في وصولك إلي, فأنا السد اللعين الذي يقف أمام نهر إنتقامك أليس كذلك؟
بدى على وجهها الامتعاض من حديثي و هي تقول: أياً يكن ما بيني و بينك لا يحق لأي مخلوق أنا يتدخل بيننا فلا أحد يفهم أي شيئ, أنظر لنفسك, لقد تسترت على قاتلة و حميتها و عطلت عمل الشرطة في خطواتٍ إجرامية من العيار الرفيع, أنت مجرم في نظر الجميع لكن أنا أعرف أنك فعلت هذا لتحميني, مثلما تعرف أنت أنني لست بقاتلة أو سفاحة أنا فقط أنتقم من هؤلاء الأوغاد حتى أستطيع أن أكمل حياتي.
لم يعد الأمر مجرد إنتقام يامريم.
نطقت بهذه العبارة و أنا أدنو منها متجرداً من الخوف موصلاً: لقد أنقذتك لأن هؤلاء أوغاد يستحقون الموت, أما طارق فلا, لقد كان صديقي المقرب, و رغم ذلك قتلته, لأنه عقبة في طريقك!!, سحقاً هكذا يتحدث القتلة و السفاحون, أي مسألة تواجهكِ الآن سيصير القتل خياراً حاضراً بها.
هزت رأسها بنكران و هي تصيح: لا يا يوسف, أنا لست قاتلة, أن ناجية, و أي عقبة ستقف في طريق انتقامي سأزيلها.
هممت واقفاً و أنا أبسط ذراعي قائلاً: هيا انطلقي, هذا ما جئت من أجله.
جزت على أسنانها بعصبية و هي تقول ضاغطة على كلماتها: لا تستفزني يا يوسف, أنا لست قاتلة.
رفعت حاجبي متظاهراً بالدهشة و أنا أقول: حقاً!!, لماذا أتيتِ الأمس من النافذة و أنتِ تحملين سكينك لقتلي, و لما أنتِ هنا الآن؟
بدت على وجهها أمارات خيبة الأمل و هي تقول: لم أكن أنا أقسم لك.
عاودت الجلوس قائلاً بعصبية: أجل إنها مريم الأخرى الشريرة التي تدعينها تفعل ما تريد, لقد كنتِ ستتركينها لتقوم بقتلي.
هزت رأسها نفياً و هي تجيبني قائلة: لا, لقد كنت أريد أن أتحدث إليك أمامها و أريها أنك لست عقبة في طريقنا.
ثم تبدلت ملامحها فجأة و هي تقول بنبرة أكثر غلظة و شراسة من ذي قبل: لكني رأيت ما يكفي بالفعل.
ثم جذبت سكين كبيرة الحجم من حقيبتها و همت بطعني بها, لولا أنني تراجعت للخلف مزعوراً حتى وقعت عن ظهر المقعد....
سمعت خطواتها و هي تهم بالوقوف لتعاود الهجوم فمددت يدي لأتناول العصا الغليظة, لكنني لم أكن بالسرعة الكافية فقد باتت فوقي الآن, على وجهها هذه الابتسامة المتلذذة الخبيثة التي تذيب الأرواح, و سكينها التي لم تُنظف من أثار الدماء حاضرة بقبضتها, و على الفور همت بطعني و إنهاء كل شيئ....
فأغلقت عيني منتظراً أن أشعر بهذا الألم يخترقني و يسيل دمائي, لكن لم يحدث شيئ, فجسدي لازال سليماً ولا زال قلبي ينبض, ففتحت عيناي لأستفهم الأمر فوجتها في حالة شلل و قد تبدلت عينيها إلى عيني مريم التي أعرفها, دامعة خائفة وجلة تنتظرني أن أنقذها من غمها, لكن ماذا أفعل يا الله ماذا أفعل.
بدأ جزءها الآخر يستعيد السيطرة و قد إرتجف جسدها بعنف فأدركت أن أي ثانية من التردد تعني الموت الزعاف؛ فجذبت الهراوة و نهرتها بضربة قوية أزاحتها عني....
فتنفست الصعداء و أنا أحاول النهوض, لكن ضربتي لم تكن الضربة القاضية التي تنهي كل شيئ, فقد عاودت النهوض مرة أخرى و الركض بجنون ثم الوثب بسكينها فوق, لكن للمرة الثانية شل جسدها و عادت ملامح مريم لوهلة سمحت لي بلي ذراعها و طرحها أرضاً و تجريدها من سلاحها....
كانت مريم ضعيفة رقيقة كأي فتاة زهرية لطيفة لكن نصفها الآخر كان متوحشاً ضارياً فلم أستطع أن أخضعها سوى بضربة على مؤخرة عنقها أفقدتها و عيها, ثم هرعت إلى هاتفي و اتصلت بالدكتور مراد لينجدني فلا سبيل لي غيره الآن.....
و كما لم أتوقع كان متعاوناً للغاية و حضر برفقة فريقٍ طبي متخصص لإصطحابها.....
***
مضت عدة أسابيع منذ أصطحب دكتور مراد مريم إلى عيادة منفصلة عن بقية مرضاة لإعادة تأهيلها وفقاً لعلاج حددته له.
طوال هذه الأسابيع لم أغفل يوماً واحداً عن زيارة مريم من خلف الجدار الزجاجي, فتارة تقابلني بالبكاء و الترحاب و تارة بالوعيد و الشتائم, لكن بمضي الوقت غلب الجانب الطبيعي من مريم و صارت لها أكبر قدر من السيطرة رغم أنها لم تشفى تماماً و لن تشفى مطلقاً, فقط هي محاولات لتسكين حالتها و عدم تفاقهما.....
في آخر زيارة لدكتور مراد قبل أن يسافر إلى رومانيا أخبرته أن يشكر مولي نيابة عني, فسألني بتعجب: لماذا؟
ربت على كتفه و شبح إبتسامة فاترة على ثغري و أنا أجيبه: لم تكن سفاحة بل تقتل حينما يوجد سبب للقتل, لذلك كانت تخلق السبب من خلال الزواج بأشخاص تجبرهم على ممارسة الفظائع معها ليتوفر لها السبب لقتلهم, لكن ببساطة إن منعها أحدهم و نأى بنفسه عن ما تطلبه منه فلن تجرؤ على قتله, هكذا هي مريم, حينما يتعلق الأمر بهؤلاء الأوغاد الذي أذوها تنقلب إلى وحشٍ ضارٍ, غير ذلك هي فتاة وديعة.
إبتسم لفهمي الأمر و صافحني مودعاً وهو يقول: أنا سعيد لأنني ساعدتك ولو بالقليل, عسى أن تكون جائزتي الكبرى لك هي زيارة إلى رومانيا لمقابلة مولي ذات يوم.
صافحته بدوري, ثم راقبته و هو يغادر ليلحق بطائرته, ثم عدت إلى شقتي و فقاعتي المملة و أنا أصارع هذا الهاجس بداخلي لأمنع الفضول من السيطرة علي و ألبي هذه الدعوة المشؤومة إلى رومانيا و التي لن يأتي منها سوى المصائب, أو ستكون الأمور على ما يرام إلى أن أصل إلى هناك فينقلب الأمر رأساً على عقب و يخرج مصاصو الدماء من باطن الأمر....
ربما أنا المنحوس ولا ذنب لهؤلاء المساكين فيما يحدث؟!
تمت بحمد الله
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي