الفصل الرابع

في المساء، انتهت تقوى من صفّ سيارتها بالجراج قبل أن تترجّل عنها ثم تسير إلى الباب الداخلي للفيلا ، ما أن أغلقت الباب حتى وجدت والداها وإبراهيم جالسين يتحدثون ، اقتربت منهم بينما تقول ببعض الإشراق:
مساء الخير.
سرعان ما سكنت ملامحهم واعتلاها الغضب دون النطق بكلمة حيث ينظرون إليها باتّهام ، بادلتهم بنظرات متعجّبة قبل أن تنطق بشكّ:
بتبصولي كدة ليه؟
هنا تولّى علاء الحديث بلا مقدمات:
إيه اللي عملتيه مع بدر ده يا تقوى؟
لَوَت ثغرها بتهكّم قبل أن تنطق بسخرية:
هو لِحِق يقولكم؟
أجابها إبراهيم من بين أسنانه بغضب مكتوم:
عايزة بعد ما تتعصّبي عليه وتخرجيه عن شعوره يعمل إيه يعني؟ ، مش يقولنا أحسن ما يقولك كلمة تزعلك؟!
صاحت تقوى بنزق:
وهو يجرؤ؟!
هَدَرَ علاء وهو يكزّ على أسنانه بانفعال:
سيبك من الكلام ده وردي عليا يا بنت! ، أنا سيبتك على هواكي كتير وعمال اقول بنتي وبتتدلع بنتي وبتتدلع ، لكن تيجي بعد ما وافقتي على الجوازة تقفي قصادها كدة ، ده معناه إيه فهميني؟!
انتاب الحزن ملامح وجهها بينما تلألأت عيناها بالدمع بعدما فقد علاء السيطرة على أعصابه ونهرها بهذه الطريقة التي لم تألفها يوما ، فنطقت بصوت مختنق بالعبرات:
هو عشان انا مش مستعدة للجواز دلوقتي ابقى بتدلع!
لم ترقّ قلوبهم لهذه الدموع التي انسابت على وجنتيْ ابنتهم الصغيرة بل أجابتها خيريّة بعقلانيّة:
الكلام ده تقوله بنت 18 سنة ، مش دكتورة فاهمة أد المسؤولية!
ألقت حقيبتها والأوراق أرضا ثم عادت للنظر إليهم هاتفة بثورة ممزوجة بالحزن:
خلاص كلكم بقيتوا عليا! موافقة قولوله ييجي بكرة عشان يكتب الكتاب.
ثم أسرعت إلى الهروب وهي تدبّ الأرض بقدمَيها احتجاجا على ما تريده هذه العائلة ، التفت إبراهيم إلى والدَيْه المذهولَيْن من طريقتها الطفوليّة في الحديث ثم نطق متعجّبا:
هي مالها زعلانة كدة ليه؟
نطقت خيرية من بين ألمها برجاء:
روح شوفها يا ابراهيم ، أكيد هتقولك اللي مزعّلها.
أجابها مع إيماءة من رأسه بطاعة:
حاضر يا أمي.
ثم انصرف تاركا علاء الذي سكن البهوت بملامحه وكذلك خيرية التي ذرفت بعض العبرات التي تعبّر عن مدى ألمها على مدلَّلتها الصغيرة والتي تقسو عليها للمرة الأولى في حياتها ، وقف إبراهيم بجانب باب الغرفة ليرى تقوى تدفن رأسها بالوسادة بينما تبكي وشهقاتها تطبق على أنفاسها المتقطّعة ، شعر بقلبه يكاد يخرج من مكانه بسبب الانكسار الذي يرافق أخته الآن ولكنه تمالك نفسه حين طرق مرّتين قبل أن يقول:
ممكن ادخل؟
رفعت رأسها عن الوسادة ثم أخذت تمسح عبراتها عن وجنتَيْها بسرعة بينما تقول بجمود ظاهريّ:
اتفضل.
تقدّم منها حتى جلس على السرير بجانبها ثم أمسك بذقنها كي يدير رأسها إليه ، ليجد الاحمرار يُغلّف حدقتَيْها فيقول بنبرة مطمْئنة:
تقوى يا حبيبتي انا عارفك كويس ، وعارف ان في سبب كبير مانعك ، قوليلي إيه هو؟
أخفضت بصرها بينما تقول بشكوى:
كل اللي حاساه انكم لغيتوا شخصيتي فــ لحظة وحددتوا الجواز وده ضايقني جدا.
يعلم جيدا أنها حجّة واهية تواري بها أمرا أعظم بكثير ولكن سيقوم بمُجاراة هذه الحجّة ليعلم السبب الحقيقيّ وراء نفور تقوى عن الزواج ، أردف يقول بلؤم:
على كدة عمي يونس وبدر لغوا شخصية شذا لما حدّدوا الجواز في غيابها!
أجابته بتثاقل:
الموضوع يختلف مع شذا أصل،.
قاطعها يقول بريْبة:
إنتي خايفة أحسن يعرف انك كنتي مريضة ورم من تلات سنين؟!
أجابته بالصمت بينما تهرب بعينيها عن مرأى نظره ليقول إبراهيم بنبرة انتصار:
أحب اقولك ان بدر عارف كدة من زمان.
اتّسعت عيناها بقوّة بينما ترمق أخيها هاتفة بدهشة:
إيـــه؟!
أجابها موضّحا بأريحية:
آه والله ، قلت له لإنه كان متابعك علطول وعرف انك بتروحي المستشفى كتير ، سألني وعرّفته بصراحة ان كان في ورم ليفي في الرحم واستأصلناه وبقيت بتابع معاكي في الموضوع ده بانتظام ومارجعش تاني الحمد لله.
وضعت يدها على فمها تكمّمه ثم نطقت من بين ذهولها بألم:
يا الله!
أكمل إبراهيم مفاجأتها بقوله:
وحلّفني ماعرفكيش أنه عرف عشان ما تحسّيش بالنقص أدامه أو إنه اتفضّل عليكي مثلا.
ثم ربت على وجنتها قائلا بحنو:
حبيبتي بدر والله بيحبك بس ناقص انتي كمان تحبيه.
رمقته بتيْه ليقف عن السرير ثم يتجه إلى الباب وقبل أن يخرج أكمل بهدوء:
ولو مش هتقدري على ده عرفيني وانا هلغي الموضوع خالص.
ثم أردف قبل أن يخطو نحو الخارج:
تصبحي على خير.
وأغلق الباب خلفه تاركا إياها تتخبّط بين أمواج الصدمة الغير متوقّعة والتي جعلتها تشعر بقلبها يبكي هو الآخر ، حيث آل إلى ذاكرتها مشهد لا يزال يسبّب انكسارا لأنوثتها وكرامتها تتذكّره وكأنّه صار بالبارحة ،

إسمعي يا تقوى أنا بحبك جدا ، بس موضوع الورم ده هيسبّب لنا مشكلة.
أردف بها بينما يحدّق بتقوى التي أسبلت جفونها ببهوت قبل أن تردف بحزن:
بس إبراهيم ودكتور راضي بيأكدولي إن الورم هيتشال علطول من الرحم وهقدر أخلف عادي ، الموضوع هيبقى سهل يا رامز بس محتاجاك جنبي.
قالت الأخيرة بشيء من الرجاء ليجيبها بهدوء:
أنا مسافر للكويت عشان الوظيفة ، ومش هقدر اكون جنبك في العمليّة.
عَلَا الوجوم ملامحها بينما تقول بامتعاض:
شكرا لمساعدتك يا دكتور ، فعلا الحب مش بالكلام!
يا تقوى،.
أسرعت للذهاب دون أن تطيق الاستماع إلى المزيد وقد رأت بعينيه ما لم يستطع قوله ، فقد تخلّى عنها بأقسى وقت تختبره ، وحين عرف لم يقم باحتوائها كما أجزمت بل أسرع للهروب تاركا قلبها ينزف من قسوة الألم والانكسار ، فما عادت تثق بالحب كما في السابق حتى أتى بدر وقام بقطع كل السبل للوصول إلى قلبها ، ولكن كيف قابلت حبه؟!

ما تتصوريش انا فرحتي النهاردة عاملة ازاي!
فتئ بها تامر من بين سعادته برقّة لتقابله وتين بقولها متسائلة بتعجّب:
إشمعنا!
أجابها بلهفة يخالجها السرور:
عشان وافقتي على طلبي حبيبتي ، معروف مش هنساه.
أسرعت وتين بالحديث ناهية:
ما تقولش كدة يا تامر ، أنا المفروض هكون شريكة حياتك ، يعني لازم اقدّر ظروفك زي ما انت كمان تقدّر ظروفي وتنسى عصبيّتي في اليوم ده!
نطق بدفء وسماحة:
أكيد طبعا نسيت ، ربنا يجمعنا على خير.
قال الأخيرة مبتهلا لتجيبه بذات النبرة الراجية:
يا رب.
أنهت المحادثة ثم ألقت الهاتف على سطح الكومود ، اقتربت من التسريحة ثم التقطت المشط وبدأت بتسريح شعرها ، في هذ الأثناء أتت وتين التي طرقت الباب قبل دخولها مستأذنة فمنحتها الإذن ، جلست ريم على السرير ثم أخذت تترقّب أختها بينما تتساءل:
خلاص كدة اتفقتوا الخطوبة آخر الأسبوع!
أجابتها وتين بينما ترمق انعكاسها عبر المرآة قائلة:
آه يا ريم خلاص.
أماءت ريم برأسها بهدوء قبل أن تعود ببصرها إلى أختها ثم تقول مستأذنة:
وتين ممكن اسألك سؤال؟
اتفضلي.
بس من غير ما تتعصّبي عليّا.
قالتها بلؤم لتتنهّد وتين بتعب حيث تعلم جيّدا ماهيّة أسئلة أختها المتميّزة ولكن فضّلت أن تسير معها إلى النهاية حيث أردفت:
اسألي يا أبلة.
نطقت ريم بتساؤل:
هو لو كان الرائد بدر اتقدم لك كنتي وافقتي؟!
توقّفت وتين عن التمشيط ثم التفّت بجسدها لتنظر إلى أختها عن كثب فتقول بدهشة:
إيه السؤال الغريب ده؟!
تحدثت ريم مازحة:
اعتبريها هلاوس آخر الليل.
لم تتنحنح عن مكانها أو يحيد بصرها عن أختها وقد اعتلى الشكّ بنظراتها فقالت ريم موضحة بنبرة أكثر جديّة:
أصل بشوفه دايما قريب منك ومن بابا أكتر من خطيبته وأكتر من تامر بالنسبة لك ، فَيَا ترى لو كان اتقدم لك قبل تامر كنتي وافقتي؟
تناولت وتين شهيقا عميقا زفرته ببطء قبل أن تعود لرؤية انعكاسها بالمرآة حيث تردف بهدوء:
بدر ده إنسان محترم جدا ، مجتهد وكل همّه رضا أهله عنه ومنهم خطيبته طبعا ، واحد زيّ ده لما حب حب بجد ، ما سابش حاجة توقفه لحد ما وصل لقلبها وربنا يكرمه بيها.
نطقت ريم مخمّنة:
يعني قصدك،.
قاطعتها وتين بتأكيد:
أيوة يا ريم ، لو كان جالي كنت هوافق.
ثم تغيّرت نبرتها حيث تكلمت باكتفاء:
وقولي لهلاوس آخر الليل تحلّ عني شويّة ، ممكن؟
كتمت ريم ضحكاتها قائلة بخفوت:
ممكن.
وعلى الجانب الآخر كانت وتين شاردة مع سؤال ريم المُباغت والذي يُفضِي إلى أن يربطهما الحب محلّ الصداقة ، فلطالما كانت تعرفه منذ أيام الطفولة وازدادت له قربا مع عملها بالمكتب قبل أربع سنوات لتعلم بموضوع تقوى وكيف شغفها حبا ويسير بدرب الأمل بمبادلته هذا الحب من جانبها ، ولم ييأس حتى نال الموافقة قبل شهور وكأنها أخيرا أفاقت من هذا الصّمم الذي يمنعها من قبول رجل كبدر! بقلب صافٍ يعكس جديّته التي تظهر مع الملابس الرسميّة ، أحبها وما عاد يفصله عنها سوى القليل ، وعسى أن يصل إلى مراده ويعيش معها في سعادة إلى الأبد.

في معرض الرسوم ، كان حمزة يجلس بغرفة الرسم بينما يفحص أرواق المُتقدِّمين للاختبار بتأنّي قبل عرض النتائج بعد غد ، وضع أحد الأوراق بعدما أعطى صاحبها العلامة المناسبة ثم أمسك بالورقة التالية ليتوقف للحظات بينما يترقّب معالم اللوحة ، ليس كأستاذ بل كمُشاهد يعشق الفنّ بالألوان ، فقد كان المطلوب هو تطويع الفرشاة والألوان لعنوان أشواك عشقكِ ، وكانت تلك اللوحة المُذهلة أكثر تعبيرا عن ذلك ، فقد كانت تصوّر شابا مُبعثر الهيئة والغبار يغلف وجهه وملابسه ، يقف أمام فتاة بينما يقدّم لها وردة حمراء يعلو الذبول بأوراقها ، جميلة هذه الفتاة ذات شعر أسود طويل ، ويظهر منتصف قرص الشمس الأحمر المدفون بقيّته إشارة إلى وقت الشّفق ، يبتسم بصعوبة بالغة إثر قدمه الدامية بسبب وقوفه بطريق مليء بالأشواك التي تركت دماؤه آثارها عليها ، وفي أقصى اليمين وضّحت جزء صغير من طريق صحراويّ قاحل ، وكأنّه عبر مسافة بعيدة ابتداء من الصحراء واحتمال الظمأ تحت الشمس الحارقة ، وسار بطريق الأشواك دون أن يأبه للجروح التي أصابت قدميه ، وكل ذلك لأجل الوصول لمحبوبته صعبة المنال ، تلك اللوحة لا تختلف عن مثيلاتها من الصور التي أعجبته ولكن ما استوقفه حقا النظرة التي يتبادلها هذَين إلى بعضهما ، حيث كان يرمقها بسعادة وبسمة واسعة تغلّف ثغره على الرغم من الألم الذي يسكن بجسده ، ولكن النعيم الذي يتلذّذ به القلب في هذه اللحظة كان كفيلا بإغلاق مراكز الإحساس الجسديّة لديه ، فلا يعكّر صفو هذا اللقاء أعتى الآلام ، في حين تنظر هي إلى الوردة الذابلة تتأملها بعدما عانت في رحلتها من اجتياز الصحراء والأيام العصيبة حتى تصل إليها ، فكان من الرائع أن تصمد وتحتفظ بلونها الأحمر ، مزيج من السعادة والامتنان عالقين بنظرتها لهذه الوردة بعدما تحمّل المحبوب الكثير حتى اجتاز الأشواك واستطاع نيْل عشقها ، وما كتب حمزة ذلك العنوان إلا لاقتناعه التامّ بالمشقّة المنصوبة أمام كل عاشق حقيقي يرجو الوصول إلى قلب محبوبته مخترقا الظروف وما يعادلها ، نطق حمزة دون أن يحيد ببصره عن تفصيلات اللوحة بإعجاب:
جميل جدا ، مشاعر اللوحة تستاهل ان صاحبها يكون موجود معانا.
ثم بحث بعينيْه عن توقيع الفنّان ليجده بالأسفل أقصى اليسار
(رغد حسّان)

أمال رغد فين؟ ، مش النهاردة أجازة من الكلية برضه؟!
نطق بها وليد شقيق رغد بينما ينظر إلى زوجته نهلة التي تتناول طعام العشاء لتجيبه بهدوء:
مش عارفة.
ثم صمتت للحظات قبل أن تهتف متذكّرة:
لا لا افتكرت ، راحت تطمّن على نتيجتها فــ كورس الرسم.
ضيّق حدقتيْه باستنكار قبل أن يتكلم بخشونة:
وليه ما عرّفتينيش انها رايحة كورس؟!
أجابته بتبرير:
هي قالت لعمو أنور و،.
بترت كلمتها مع صياحه المفاجئ ناهرا:
مش كفاية ، ياريت تعرفيني كل حاجة تخصّها وتخصّك عشان اكلم البودي جارد.
تحدثت بحزن معتذرة:
خلاص معلش ما تزعلش.
وما هي إلا دقائق معدودات حتى دلفت رغد بغرفة الطعام هاتفة والسرور يبدو بملامحها:
أنا جيـــت.
نظر وليد باتّجاهها قبل أن ينطق بابتسامة واسعة:
أهلا بالقمر.
تكلمت رغد بدلال:
وحشتكم؟!
وهنا ارتدى وليد قناع الصلابة والجمود من جديد بعدما تذكّر سبب قلقه حيث تحدّث بغضب:
ليه ما قلتيش إنك رايحة كورس يا رغد؟
جلست على الكرسي بجانبه ثم ألقت الحقيبة وقالت موضّحة:
لإن لسة مقدمة وكنت بعمل الاختبار الأول لإن كان ممكن ماتقبلش.
ثم أكملت ببعض الحماس:
لكن الحمد لله اتقبلت.
تكلم وليد بغرور:
ومين ده اللي يجرؤ ما يقبلكيش؟!
ضحكت بخفوت على نبرة أخيها المُستعلية لتكمل بنبرة جادّة:
الحمد لله أثبتّ موهبتي وهبدأ في الكورس كمان أسبوع.
تكلم وليد بابتسامة:
على خير حبيبتي ، ابقى عرفيني مواعيد الكورس عشان اكلم البودي جارد.
زفرت بغضب قبل أن تجيبه بهدوء:
طيب.
ثم شرعت في تناول العشاء بعدما انتهت أخيرا من الاطمئنان على نتيجتها وفي عقلها يتردّد صدى سؤال فحواه (حمزة عمران) فلقد أتت إلى المعرض للاستعلام عن نتيجتها وفور معرفتها بادرت تسأل عن حمزة عمران الذي خلق تساؤلا كبيرا برأسها خاصة ولم تجده للمرة الثانية بالمعرض ويخبرها نفس الموظف الغبي بكونه غير موجود الآن ، وعليها الانتظار أسبوعا كاملا حتى رؤيته بأول محاضرة ، لا تعلم ما تريد قوله له أو كيف ترتّب مناقشتها ولكن كل ما تعرفه أنها تودّ حقّا الظفر ولو بخمس دقائق للحديث معه عن كيفيّة رؤية الروح الكامنة بكل صورة يتم رسمها حتى لو لم تكن بفرشاته!

عاد فهد إلى المنزل مُتعبا حيث كان هناك الكثير من العمل اليوم خاصة وأن ميعاد العمليّة اقترب ، بينما يصعد الدّرج استوقفه صوت شذا عند بداية السلم:
رايح فين يا فهد؟
التفت إليها فهد بينما يقول بإنهاك:
رايح انام يا شذا في حاجة ولا إيه؟
أجابته ببساطة:
لأ بس كنا عايزينك تاكل من الحلويات في الجنينة.
فرك جبهته بتعب قبل أن يقول معتذرا:
مش هقدر خالص لو تقّلت مش هعرف انام.
وهمّ ليصعد من جديد ولكن عادت تجادله برجاء:
يا عم يالا بقى ما تكسرش بخاطرنا ده أنا ونيروز اللي عاملين كل حاجة!
تنهّد بتعب قبل أن يردف ممازحا:
طالما انتو اللي عاملينه يبقى أدوق واجرّب واتتّريق شويّة.
طب يالا يا باشا.
عاد فهد أدراجه حتى وصلوا إلى الحديقة وبالتحديد في ركن اللوحات الخاصّة بحمزة ، والذي تمّ إعداده لأجل اجتماع أبناء العائلة في أمسية تزيّنها نسمات الهواء العليل ، وإبداعات حمزة على الأوراق والصلصال ، جلس فهد مع طبق من الكيك بجانب حمزة الذي ابتلع الطعام من بين أسنانه قائلا بتلذّذ:
همممم ، جميل يا بنات ، تسلم إيديكم.
تبعه فهد بتناول قطعة من الكيك ثم سرعان ما اتّسعت عيناه وأردف بإعجاب:
روعة ، برافو عليكم.
ابتسمت نيروز بسعادة بعد أن نال إعجاب فهد ما صنعت ، فأرادت فتح باب للنقاش أكثر حيث تناولت قطعة من الحلوى واقتربت بها نحوه قائلة:
دوق بقى الزلابية دي ، عملتها لوحدي.
نظر باتّجاه الزلابية ثم عاد ينظر إلى نيروز القادمة ليجدها تنظر إليه بلهفة تنتظر رأيه ، همّ ليخبرها بأنه ما عاد يستطيع المزيد ولكن علا رنين هاتفه لينقذه من هذه الورطة حيث وقف سريعا هاتفا:
أيوة يا زياد.
نظر إليهم متمتما ببعض كلمات الاستئذان تاركا إياهم كي يعودوا للضحك عدا نيروز التي احتقنت الدماء بوجهها حتى تحوّل لونها للاحمرار من شدّة الغضب بعدما فشل مخطّطها كالعادة في إثارة انتباهه أو إعجابه ، فحين أردف بمديح الطعام كان الكلام موجّها لها وشذا على السواء ، أما هي فتريد أن يتحدث عنها فقط ولا ينطق سوى باسمها فقط ، تماما كما يفعل بدر مع وتين ، ولكن لحظة ، يقوم بدر بذلك مع وتين أكثر من تقوى! ، فهل من الطبيعي أن يحب المرء أنثى ولا يختصّها بالمديح طويلا؟!

في اليوم التالي ، انتهى تامر من إلباس وتين الشبكة في محل الصائغ كما تم الاتفاق ، تحت أنظار أسرة وتين الصغيرة ووالدة تامر ، أخذت وتين تتأمّل الخاتم الذهبيّ والأسورة اللذَين يغلّفان يديها بإعجاب حتى نطق تامر بسرور:
مبروك يا وتين.
أجابته التهنئة بابتسامة:
الله يبارك فيك يا تامر.
عاد يتحدث بابتهال:
عقبال فرحنا ياااارب.
بإذن الله قريّب.
ما أن انتهت من التلفّظ بها حتى أتت الفاتورة ليقف تامر كي يسدّدها ، بينما انهالت المباركات على وتين من والدها ووالدتها وأختها وبالطبع حماتها المستقبليّة.

كان يجلس خلف مكتبه بينما يهزّ قدميه بتوتر بالغ ، يقف ثم يسير قليلا حتى يشعر بالتعب فيعود للجلوس من جديد والقلق صار مجانبا له ، وكلّما مرّ الوقت تضاعف خوفه حتى شعر بقلبه كالمضخة التي تدفع الدماء بقوّة كبيرة ، مجازفة يعلم أنه وافق عليها على مضض والآن يدفع الثمن بالقلق هنا! ، ارتدّ برأسه مع صوت رنين هاتفه ليمسك به سريعا ثم يسحب زرّ الإجابة هاتفا:
ألو.
أتاه صوت فهد ناطقا بثقة:
معاك النقيب فهد يا سيادة اللوا.
تناول شهيقا طويلا زفره بقوّة قبل أن يهتف بانفعال:
عملتوا إيه؟
مش هتصدق كميّة الهيروين اللي ظبطناها على طريق اسكندريّة الصحراوي!
تكلم بها فهد والسعادة تُكلّل نبرته بينما هتف يونس بدهشة:
بجد؟! قبضتوا عليهم؟!
أجابه فهد بتأكيد:
طبعا يا فندم ، بس على ما وصلنا ما لقيناش غير المستورِد اللي اسمه صابر حوّاس.
أطلق يونس تنهيدة حارّة حتى نَسِيَ مكانته كلواء ناطقا:
وانتو عاملين إيه ياولاد؟!
تكلم فهد بابتسامة:
تمام جدا مافيش غير عسكري جاتله إصابة كتف لكن سليمة ان شاء الله ، إستنونا.
أغلق الهاتف ثم عاد بظهره إلى الكرسيّ الجلدي متمتما براحة:
الحمد لله ، الحمد لله.

في مكان آخر ، يضجّ بالإضاءة المُبهرجة والموسيقى الصاخبة ، حيث يتمايل عدد من الراقصات على المنصّة كسبيل لإمتاع الموجودين أصحاب الكؤوس في جوّ يمتلئ بالفسق والفجور ، وكان أحدهم يقف جانبا بينما يتلمّس ذراع الواقفة أمامه بأنامله هامسا بأذنها:
بقولك ايه يا أنيسة!
نطقت بدلال:
نعم يا سي طارق.
تكلم غامزا بعبث:
إبقى استنيني هنا عشان في شغل هنقفّله.
على الفور فهمت مقصده فضحكت بخلاعة قائلة:
من عنيّا يا عنيّا.
ثم انصرفت من أمامه حتى وصلت إلى خشبة المسرح كي تؤدّي نمرتها بالرقص تاركة العيون تأكل من جسدها بشراهة حتى أشار إليها وليد موجّها حديثه إلى طارق:
مين دي؟
امتعضت معالم طارق بينما ينظر إلى نظرات رئيسه التي تشتهي عشيقته ، فازدرد ريقه قائلا بتثاقل:
دي دي ، رقاصة هنا.
احجز معاها.
كزّ طارق على أسنانه بغضب داخلي حيث ذهب سريعا كي يؤدّي أمر هذا المتعجرف الذي أكمل وهو يحكّ ذقنه باستمتاع:
النهاردة ليلتها.
أجل إنه وليد أنور حسّان شقيق رغد وزوج نهلة ، الذي يرفض قاطعا خروج إحدى نساء بيته بلا الحراسة ويراقب خطواتهم في كل حين بينما يلهو هو هنا ويقترف العديد من الكبائر دون رادع! ، يسمح لنفسه برؤية ما لا يحلّ له في حين يمنع العيون عن فتيات البيت! ، جائز له ومحرّم على غيره!
التفت إلى اهتزاز هاتفه بجيبه معلنا اتصال جديد فهتف بضجر وقد عرف مسبقا لمن هذا الاتصال ، فبالتأكيد زوجته تتصل للاطمئنان على سبب تأخره ، قبل أن يغلق الخطّ باغته رؤية اسم المتّصل ليسرع بالإجابة ناطقا:
ألو.
انتفض عن مكانه واقفا وكأن لدغته صعقة كهربيّة حيث هتف بصراخ:
إيــــه؟! يعني إيه شحنة الهيروين اتقبض عليها؟!
صمت للحظات يستكع فيهم للطرف الآخر فنطق بامتقاع:
طيب طيب ، اقفل دلوقتي.
أبعد الهاتف عن أذنه ثم أسرع نحو طارق مناديا:
طارق.
زفر طارق بنفاذ صبر قبل أن يلتفّ كي ينظر إلى وليد قائلا:
أيوة يا باشا!
تكلم وليد بامتعاض:
أبوك اتمسك بشحنة الهيروين.

دي كمية ما كناش نتخيّلها أبدا قالبة الصحافة والإعلام ياولاد!
أردف بها يونس بفخر بينما ينظر إلى ابنه وابن أخيه بسعادة بدت بثغره وعينيه بينما تكلّم بدر بابتسامة:
شفت بقى يا بابا إننا كنا قد المسؤولية وانك ما ندمتش لما اديتنا إذن التحقيق؟!
أجابه يونس مؤيّدا:
شفت يا سيدي ، وأحب ابشّركم بإن الترقية قرّبت جدا.
نطق فهد مبتهلا:
على خير ان شاء الله.
ثم وقف بدر وفهد الذي قال:
تصبح على خير يا عمي.
وانتو من أهله.
وانطلق الاثنان نحو غرفهم بينما يتحدثون بسعادة حول نجاح المهمّة اليوم رغم ما تحدّاها من صعاب ، كانت مخاطرة ولكن استطاعوا خوض المغامرة بإتمامها ، وهو يوم سعيد استطاع التخفيف من الثقل الذي يحمله بدر طيلة الأيام الماضية حتى أنساه ما كان يزعجه! ، ولكن صدقت مقولة ما بعد وقت الضيق إلا الفرج ، وما ينام العبد على غمّة حتى يصبح على فرح ، فقط الصبر وطلب الراحة من الله وعليه التنفيذ.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي