اغتصاب لرد الاعتبار

إسراءالوزير`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-08-05ضع على الرف
  • 181.2K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

في الصباح الباكر.. وضعت جيهان آخر طبقَين على المائدة التي تضم أصنافا من طعام الإفطار ثم جلست على يمين رياض الذي يترأس المائدة بينما يقرأ في جريدته.. التفت إليها بطرف عينه قائلا بتساؤل:
_"هي وتين اتأخرت كدة ليه؟"
قبل ان تجيبه أتاه صوت محبوبته الغالية من نهاية البهو قائلة بنبرة متفائلة:
_ "أنا هنا يا بابا."
تقدّمت منهما حتى قبّلت يد أبيها ومن بعده أمها ثم جلست جانبها بينما يقول رياض بدلال:
_ "صباح الخير يا وتيني."
_ "صباح النور يا بابا."
قالتها بابتسامة واسعة كامتنان لدلاله ثم أردفت:
_ "اطّمنت على ريم قبل ما اجي.. ما كانتش راضية تاكل خالص لولا أصريت عليها."
مطّت جيهان شفتيها بحزن بينما تقول بقلة حيلة:
_ "البنت دي لسة تعبانة والدوا ما جابش فايدة معاها!"
ربتت وتين على ساعد والدتها كي تبثها بالطمأنينة قائلة:
_ "كلنا عارفين مناعة ريم أد إيه ضعيفة .. عشان كدة بتاخد وقت على ما يروح البرد منها غير أي بني آدم طبيعي."
تناول رياض فنجان الشاي من فوق المنضدة ثم قال قبل أن يرتشف منه بحنو:
_ "ربنا يشفيها .. هبقى ابعت الدكتور عشان يطمننا عليها."
تحدثت جيهان مبتهلة:
_ "إن شاء الله."
التفت رياض إلى وتين التي كانت تضع شريحة الجبن الرومي بين شريحتيْ توست، ثم قال بجديّة:
_ "اعملي حسابك .. هنخلص الشغل بدري النهاردة عشان نحضر خطوبة الرائد بدر."
تركت الخبز والجبن من بين أناملها ثم نظرت إلى والدها بعينين واسعتين قائلة بدهشة:
_ "يا ربي! .. دانا كنت هنسى خالص!"
ثم فتئت بنبرة هادئة:
_ "هبقى اجيب هدية لتقوى بعد ما اقفل المكتب."
أكملت جيهان ملفوف الخبز والجبن لابنتها ثم ناولتها إياه متسائلة بشيء من الاستنكار:
_ "طب ما تلغي الروحة للمكتب النهاردة يا وتين .. كل البنات بيفضوا نفسهم عشان المناسبات دي."
ابتلعت مضغة الطعام التي كانت تلوكها بين أسنانها ثم التفتت إلى والدتها قائلة بنفي:
_ "ماقدرش يا ماما.. وبعدين التأخير في دراسة القضايا هيجيب مشكلة لمكتب رياض تمّام المشهور."
قالت الأخيرة بشئ من المداعبة لتجيبها جيهان بنبرة طبيعية:
_ "ابعتي الملفات لمحامي تاني."
وهنا تناول رياض زمام الحديث عن ابنته قائلا بشيء من التصميم:
_ "لا يا جيهان.. مش معنى ان أبوها صاحب المكتب يبقى تقدر تتخلى عن مسؤولياتها!"
حاولت إثناءه بقولها بتعجب:
_ "لكن..."
قاطعتها وتين ببساطة:
_ "ما تخافيش يا جوجو.. هاجي بدري والله .. المهم خلي بالك انتي من ريم."
أطلقت تنهيدة خفيضة الصوت قبل أن تقول مُستسلمة:
_ "دماغك ناشفة زي ابوكي!"
أماءت لها بقوّة إشارة إلى الإيجاب تزامنا مع الضحكات التي أطلقها ثلاثتهم .. فهذه البكريّة ورثت العديد من والدها بالفعل .. التصميم أساس تكوينها .. وإثبات الذات من أهم غاياتها .. ومبادئها فوق الجميع .. حب جيهان لرياض أنجب ثمرتهما الأولى "وتين" التي صارت تشبهه بكل شيء حتى في ميوله العلميّة .. فأصبحت محامية بمكتب والدها مولعة بالقانون مثله .. وأساس استخدام هذا السلاح لإخراج الأبرياء وزجّ المجرمين بالسجون.

ننتقل إلى حيٍّ آخر بذات المحافظة حيث توجد فيلا عمران
طالعت انعكاسها أمام المرآة كي تتأكّد من هندمة ملابسها .. التفّت بجسدها لتلتقط حقيبتها وتضعها حول كتفها وتمسك بين أناملها مستندا به بعض الأوراق ثم خرجت من غرفتها لتقابل ابنة عمها قادمة من الجهة الأخرى فهتفت بابتسامة:
_ "صباح الخير يا شذا."
أجابتها الثانية بينما تقترب:
_ "صباح النور يا نيروز."
حانت منها التفاتة إلى المستند الذي تمسك به مع ملابسها التي تتكوّن من كنزة حمراء مُزيّنة بكلمات إنجليزيّة مع بنطال جينز أسود اللون .. فعادت ببصرها إلى نيروز قائلة بشك:
_ "إنتي رايحة فين؟"
أجابتها نيروز بنبرة عابسة طفولية:
_ "ماقدرش اغيب خالص وإلا رئيس التحرير هيفصلني .. هسلمه المقال واروح علطول."
صاحت شذا بنزق:
_ "دي مش بس خطوبة اخويا .. كمان أكبر حفيد للعيلة وسيادتك هتروحي الشغل واخوكي كمان سبقك من بدري! .. ابعتي المقال على النت يا ستي."
تحدثت نيروز بنبرة واجمة:
_ "مش هيرضى خالص .. لازم أسلمه المقال ويقراه ونتناقش فيه ويمضي بموافقته عليه."
أومأت الثانية برأسها باستسلام بينما تقول بشفقة:
_ "إذا كان العريس نفسه مش هيقدر يغيب! .. يبقى ماقدرش اقولك حاجة!"
تكلمت نيروز بحزن:
_ "معلش يا شذا ده شغله برضه."
عادت تومئ برأسها ولكن دون كلام هذه المرة لتنطق نيروز مغيّرة مجرى الحديث بنبرة متحمسة:
_ "علفكرة .. حمزة قالي انه أخد مفاتيح الشقة من بابا وهياخد بدر والبدلة هناك عشان العريس يجهز .. بدل ما ييجي هنا والقسم بعيد عن هنا."
عادت شذا إلى الابتسام مُردفة بإشراقة:
_ "ربنا يبارك فيه .. وانا هروح بيت خالي عشان اساعد تقوى وطنط خيرية قبل ما نيجي."
قالت نيروز بينما تبتعد مُودّعة إياها:
_ "تمام .. بالتوفيق."
_ "سلام."
ثم خرجت كل منهما إلى حيث توجد وجهتها .. فمن جهة ذهبت نيروز إلى مقرّ الجريدة التي تسلّمت العمل فيها مؤخرا لتسليم مقالها .. بينما ذهبت شذا إلى منزل خالها حيث ستساعد زوجة أخيها المستقبلية في الاستعداد للحفل .. فور خروج شذا وصلت سيارة أجرة ترجّل عنها صاحبها ثم أخرج حقيبته السوداء الكبيرة بعض الشيء من السيارة .. أعطى للسائق ورقة نقدية لينصرف الأخير بسيارته وقد انتهى عمله هنا .. بينما اتّجه صاحب الحقيبة مُتجاوزا الباب الخارجي للفيلا .. أكمل سيره بينما يرى بعض العُمّال المنتشرين بأرجاء الحديقة لتجهيزها لاحتفال الليلة السعيد .. توقّف عندما لَمَحَ امرأة في منتصف العقد الخامس تُصدر أوامرها إلى العامل .. لم يُطِق الثبات بل ألقى الحقيبة أرضا ثم أسرع إليها بخطوات أقرب إلى العدو في سرعتها هاتفا بفرحة:
_ "أمي!"
التفتت إلى مصدر الصوت لتجده فلذة كبدها قادم من بعيد .. فاتسعت ابتسامتها حتى وصلت أذنَيها بينما تفتح ذراعيها ناطقة بسعادة:
_ "نائل حبيبي!"
ارتمى بين ذراعيها لتضمّه بقوّة وقد افتقدته كثيرا بعد طول غياب .. ابتعدا بعد دقائق لتقول والدته وهي تنظر إليه بسرور:
_ "فرحانة أوي عشان عرفت تيجي النهاردة."
أجابها نائل بحماس:
_ "ما تقوليش كدة يا ماما .. بدر اخويا الكبير .. ومش كتير عليه يومين أجازة عشان احضر خطوبته."
_ "ربنا يبارك فيك يا حبيبي."
ما أن لَفِظَت بها حتى حضرت سيدة أخرى مماثلة لها في السن تقول مُرحّبة:
_ "ازيك يا نائل؟ عامل إيه؟"
التفت إليها نائل قائلا بابتسامة:
_ "أنا بخير يا طنط سلوى."
ثم استطرد بشيء من اللهفة:
_ "عاملين إيه حمزة ونيروز؟"
_ "بخير الحمد لله .. هييجوا قريب."
أجابها بابتسامة هادئة تشعّ من البهجة ألوانا بينما تحدثت سلوى إلى صاحبتها بجديّة:
_ "الطباخين وصلوا يا نجلاء .. تعالي وسيبي نائل يرتاح من السفر عشان يفوق في الحفلة."
أجابتها بإيماءة من رأسها ثم انتقلت ببصرها إلى ابنها وقالت:
_ "إطلع لأوضتك يا نائل."
تحدّث نائل مُبتعدا:
_ "طيب .. مع السلامة."

ألقت القلم من بين أناملها اليمنى ثم أغلقت الملف بيسراها .. أراحت ظهرها إلى الخلف كي تحلّ انقباض عضلاتها لأكثر من أربع ساعات متواصلة .. تدرس القضايا وتشرف على أعمال الزملاء من المحامين بشكل مكثّف كي تستطيعالعودة باكرا قبل الحفل .. فلابد من الاستعدادات من شراء هدية لتقوى والاغتسال ونيْل قسط من الراحة قبل الخروج .. التقطت هاتفها من سطح المكتب ثم ضغطت به عدة مرات قبل أن تلاصق مقدمته بأذنها .. انتظرت قليلا حتى استشعرت إجابة الطرف الآخر لتهتف بحبور:
_ "إزيك يا تامر .. عامل إيه؟"
وضع القلم الأحمر على المنضدة أمامه ثم وقف وخرج من الغرفة التي تضمّ عددا من المدرسين .. بينما ينتقل إلى الخارج قائلا باختصار:
_ "بخير الحمد لله .. وانتي أخبارك؟"
_ "الحمد لله تمام."
ثم استطردت تقول بنبرة شبه معتذرة:
_ "آسفة اني اتصلت وانت في المدرسة."
أجابها بنبرة مُطمئنة:
_ "مافيش مشكلة خالص .. في حاجة ولا إيه؟"
سأل الأخيرة باهتمام لتجيبه نافية:
_ "لا لا .. بس كنت عايزة اقولك تيجي معانا عشان تحضر خطوبة الرائد بدر ابن اللوا يونس صاحب بابا القديم."
بَدَت خيبة الأمل جليّة بصوته بينما يقول آسفا:
_ "للأسف مش هقدر اجي خالص يا وتين .. عندي شغل كتير النهاردة."
عقدت حاجبيها بتعجب بينما تقول مستنكرة:
_ "أنا كنت عايزاك تتعرف على بدر! .. مش هتقدر تحضر ساعة حتى؟!"
أجابها بذات الأسف:
_ "للأسف مش هقدر .. عندي شغل مع تلات مجموعات ثانوية."
ثم استطرد يقول بتلقائية:
_ "وان كان يا ستي على موضوع التعارف .. كدة كدة خطوبتنا جاية وتقدري تعزميه واتعرف عليه."
رفعت منكبيها إلى الأعلى وقد وجدت صعوبة قدومه اليوم فنطقت بهدوء:
_ "معاك حق .. سلام."
تنهد براحة لتفهّمها السريع ثم أجاب بحنو:
_ "مع السلامة حبيبتي."

خرجت مجموعة الفتيات المسؤولات عن الزينة من الغرفة بعدما أنهيْن ما قدمن لأجله من تزيين تقوى وإبرازها في أبهى صورة .. ولم تبقَ سوى شذا التي وقفت خلف الكرسي تطالع انعكاس ابنة خالها بالمرآة .. جميلة هي ذات معالم هادئة زادتها لمسات الزينة رقّة حتى صارت ملائكيّة .. شعرها البنيّ المعقود عن طريق "الدبابيس" البراقة بشكل يخطف الأبصار .. فستانها الفضّيّ اللون مع مجموعة من حبات اللؤلؤ تزيّنه بشكل احترافي أظهرها كواحدة من أميرات الحكايات الأسطورية .. قبلت شذا وجْنة تقوى ثم عادت ترمق انعكاسها قائلة بإعجاب:
_ "ما شاء الله .. قمر يا ناس! .. ربنا يحفظك من العين."
أجابتها تقوى بينما تنظر إلى انعكاسها:
_ "شكرا يا شذا .. عُقبالك يا قلبي."
_ "إن شاء الله."
ثم فتئت تقول مُداعبة:
_ "بس نخلص منك الأول بعد كدة كل حاجة سهلة."
أجابتها الثانية بمزاح:
_ "الصراحة كدة صعب عليا اخويا وقلت اوافق عـالخطوبة بسرعة أحسن يقتلني!"
لم تُجب مزاحها سوى بالصمت المُطبق وقد سَرَت حمرة الخجل بوجنتيها بينما تهرب بنظراتها بعيدا لتنطق تقوى ضاحكة:
_ "يا ربي! فورا العروسة اتكسفت يا ناس!"
همّت لتنطق ولكن أنقذها الباب حيث دلفت خيرية قائلة:
_ "ازيكم يا بنات؟"
أسرعت إليها شذا وقد وجدت بدخول زوجة خالها النجدة حيث تقول بتخبّط:
_ "الحمد لله يا طنط."
وجّهت إليها خيرية الحديث قائلة:
_ "إبراهيم عايزك تحت في الجنينة."
اتسعت عيناها بقوّة وقد عادت إلى مأزق إبراهيم من جديد .. فماذا يريد منها هذا وسوف تقابله بعد ساعتين؟ لمّا عادت إلى نوبة الصمت والصدمة تُكلِّل ملامحها تكلّمت تقوى بهيام يعلوه المُزاح:
_ "لا يقوَ العاشق الولهان الانتظار فارحميه باللقاء يا أميرة الهوى."
احتدّت عيناها بقوّة بينما تنظر إلى تقوى قائلة بغضب طفولي:
_ "ليكي حساب تاني بعد الحفلة يا تقوى."
ثم أسرعت إلى الخارج هاربة من ضحكات تقوى وهمساتها المليئة بالتلميحات الصريحة .. بينما اقتربت خيرية حتى وقفت خلف كرسيّ ابنتها .. ترمق صورتها البهيّة بالمرآة والرضا مرتسم على ملامحها حيث ترى جوهرتها ببداية الطريق إلى بيتها المستقبلي .. أجل ستُخلِّف فراغا بتركها لهذا المنزل وسيصبح بعدها كاللوحة بدون ألوان .. ولكن ستكون بمكانة أفضل مع زوج يعشقها ولن يتأخر ثانية في إحضار النجوم لو طلبتها .. انحنت بجذعها العلويّ لتقبل رأس ابنتها ثم عادت تنظر إليها قائلة بحنو:
_ "ربنا يتم لكِ أمورك على خير يا حبيبتي."
وقفت تقوى عن الكرسي ثم استدارت لتبقى مقابل والدتها .. ارتمت بين ذراعيها قائلة بسعادة:
_ "آمين يا ماما."

وعلى الجانب الآخر تجاوزت شذا الباب الداخلي للفيلا مُتّجهة إلى الحديقة حيث ينتظرها إبراهيم .. توقفت أمام إحدى الأشجار بينما تتلفّت حولها كي تراه ولكن لم يظهر بعد .. نادته بهُتاف:
_ "إبراهيم."
أتاها صوته من خلف الشجرة ناطقا بلهفة غمرت صوته الأجش:
_ "وحشتيني أوي."
أجفلت مع كلمته لتستدير سريعا كي تراه يقف خلفها بعدما فارق ظل الشجرة .. يمسك بعلبة مستطيلة الشكل مُغَلَّفة بشكل يخطف الأنظار .. انتقلت ببصرها إلى وجهه لترى ملامحه الرجوليّة المُغلّفة بسمار طَمْيِ النيل مما ضاعف من وسامته .. يرمقها بنظرات ولهانة زادت من خجلها لتبعد عينيها عن خاصتيه الآسرتين بينما تُجيبه بنبرة خفيضة الصوت:
_ "وانت كمان."
ثم استطردت مُغيّرة مجرى الحديث ببعض التردد:
_ "إنت .. إنت طلبتني هنا ليه؟"
ابتسم بعذوبة على خجلها الكامن في بعثرة حروفها ليجيبها دون أن يحيد ببصره عنها:
_ "لسببين .. أولا هكلم عمو يونس في موضوع جوازنا بعد الخطوبة علطول .. كدة كدة انتي خلاص في آخر سنة في الجامعة."
اتّسعت ابتسامتها بينما تكمل وبصرها مُعلّقا بنجيلة الأرض حتى كادت تحفظ تفاصيلها:
_ "وثانيًا؟"
مدّ إليها بالعُلبة مكملا:
_ "تتفضلي ده."
نقلت بصرها بينه وبين العُلبة ثم قالت بتساؤل:
_ "إي ده؟"
_ "افتحي وشوفي."
أمسكت بها ثم أخذت تُزيح الجلاد المُلوّن عنها وأزاحت الغطاء تحت نظراته المُرتقبة قلقا من رد فعلها .. اتّسعت حدقتاها بقوّة بينما تقول هاتفة بإعجاب:
_ "جميل أوي .. الفستان ده لمين؟"
عادت الراحة إلى معالمه من جديد بينما يُجيبها بحب:
_ "لسمو الأميرة التي هتنور خطوبة أخوها النهاردة."
عقدت جبينها بشكّ فسألته بعدم تصديق:
_ "إيه؟!"
أجابها مؤكدا بذات النبرة الدافئة:
_ "أيوة جبته ليكي إنتي يا أميرتي."
جادلته قائلة بجديّة:
_ "بس انا معايا فستان..."
قاطعها بتلقائية:
_ "وانا عايزك تلبسي حاجة على ذوقي."
ضيّقت عيناها بينما تقول بمشاغبة:
_ "وعرفت مقاسي منين يا سيادة الدكتور؟!"
نطق مُداعبا:
_ "بمساعدة الدكتورة تقوى طبعا."
ثم انحنى قليلا كي يقترب منها مُقاطعا فارق الطول بينهما ونطق بنبرة متسائلة:
_ "ممكن تقبليه يا أميرتي؟!"
أمسكت بالفستان الفضّيّ المُرَصَّع بالكثير من اللآلئ البيضاء اللامعة وأجابته موافقة:
_ "أكيد .. شكرا يا ابراهيم."
نطق بحماس:
_ "مافيش وقت للشكر .. يالا اجهزي عشان بدر كلمني وهيوصل كمان نص ساعة."
ابتعدت إلى الداخل قائلة بعجلة:
_ "حاضر .. سلام."

تعالى صوت التصفيق من الحضور تزامنا مع صوت الموسيقى العالية التي تتحدث كلماتها عن مدح دبلة الخطوبة .. فقد وضع بدر خاتم الخِطبة ببنصر عزيزته ومعشوقة عمره تقوى .. وقد أعلن جزئيّا عن امتلاكه لها وما عاد يفصله عن صكّ ملكيّته سوى بضع خطوات أخرى .. بادلته الخاتم الفضّيّ ببنصره ليتأمّل ملامحها الهادئة الرقيقة المُخَضَّبة بالقليل من مساحيق الزينة التي ضاعفت جمالها حتى صار يأسر الناظرين .. انتهت مراسم الخِطبة ليترك الضيوف مجالا للعروسين بالحديث .. فالتفتت تقوى إلى يمينها لتجد بدر مسلطا بصره بوجهها فتخفض رأسها بخجل بينما تهمس متسائلة:
_ "بتبص لي كدة ليه؟"
أجابها دون أن يُزيح عينيه عنها:
_ "بتمنّى ماكونش بحلم."
رفعت رأسها كي تواجه نظراته الهائمة بينما تقول بشيء من الضحك:
_ "حلم؟! ماتخافش .. أنا خلاص هبقى ليك علطول."
ثم رفعت يمينها أمام مستوى وجهه وأشارت إلى بنصرها المُزيّن بالخاتم الذهبيّ مكملة:
_ "واسأل الخاتم ده."
أمسك بيدها ثم قبلها برقّة ثم عاد ينظر إليها قائلا ببعض العتاب:
_ "بس أخدتي وقت لحد ما وافقتي يا تقوى لدرجة حسيت من المستحيل تتجوزيني."
رفّت رموشها مرتين قبل أن تنطق بهمس يسكنه السرور:
_ "إنت بتحبني للدرجة دي يا بدر؟"
أجابها مؤكدا سؤالها بصدق بدا بثنايا نبرته العاشقة:
_ "وأكتر .. إنتي زي النجمة المنورة في قلبي .. دخلتي حياتي ونورتيها برقّتِكِ .. كنتي وهتفضلي أمنية بتمناها .. وقريب أوي هتبقي ليا يا أمنيتي."
كادت تدمع عيناها من فرط سعادتها على ما تسمع من كلمات إطراء بحقها .. يفيض بها من نبع عشقه .. لا يترك أقل فرصة للتعبير عن هيامه بها إلا واغتنمها .. حتى باتت تشعر حقا بكونها ملكة على عرش النساء أو نجمة وحيدة بسماء ظلام دامس .. فتئت من بين سعادتها برقّة يتخلّلها التوتّر:
_ "وأنا بحبك أوي يا بدر...."
بتر كلمتها صوت حمزة الذي أتاهم من الخلف هاتفا وهو يربت على كتف ابن عمه بجديّة:
_ "يا بدر سيب عروستك وتعالى اقعد معانا شوية يا أخي! .. ده نائل جه ولسة ماسلمتش عليه لحد دلوقتي!"
سرعان ما انقلبت معالمه من الابتسامة والسرور إلى الغضب والاحتجاج حيث أتى ذلك بوقت غير مناسب بالمرة حين كانت تُفصح تقوى أخيرا عن حبها بشكل صريح .. عاد ينظر إلى تقوى ليجدها تحثه على الذهاب قائلة بشيء من الضحك:
_ "يالا روح معاهم."
تمتم في نفسه بامتعاض:
_ "كانت بتقول بحبك يا حيوااان!"
ثم وقف عن مجلسه ملتفّا إلى حمزة ودفعه إلى الأمام قائلا بغضب مكتوم:
_ "أدامي يا حمزة يا حبيبي."
ثم انصرفا تحت نظرات تقوى التي تحاول كتم ضحكاتها بقوّة بسبب الحظ العثر المُلازم بدر كلما أراد الانفراد معها.

وعلى الجانب الآخر .. اقترب يونس -والد بدر- من رياض ووتين حتى قال مُرحّبا:
_ "أهلا بيك يا رياض .. نورت المكان يا صاحبي."
بادله رياض الترحيب معانقا إياه تحت نظرات وتين التي ترقُبهما بابتسامة واسعة حتى ابتعدا ليقول رياض مُهنّئا:
_ "مبروك لابنك الرائد يا سيادة اللوا."
وتبعته وتين بأن مدّت يدها ليونس قائلة باحترام:
_ "أهلا بيك يا عمو."
بادلها المصافحة وهو يقول بنبرة تُشعّ فخرا:
_ "أهلا بحضرة المحامية وتين .. بدر ما بيبطلش كلام عنك وعن حبك للقانون."
أجابت كلماته بابتسامة هادئة بينما تكمل شاكرة:
_ "أشكرك جدا .. بس بدر بيبالغ علفكرة .. أصلي مش بنفس قوة بابا."
ترك يدها ثم تحدث مُستنتجا بإعجاب:
_ "متواضعة جدا زي ابوكي."
أخفضت بصرها أرضا دون تعقيب ليلتفت يونس إلى صديقه قائلا:
_ "اسمح لي بقى أعرفك على رجالة العيلة."
وانصرف سريعا لإحضار بقيّة أفراد عائلة عمران العريقة وقد وجدها فرصة مناسبة ليتعرّف رياض إلى بقيّة الشباب اليافعين عدا بدر الذي يزوره باستمرار حتى بات مقرّبا إليه كيونس تماما .. التفتت وتين إلى أبيها مُستأذنة:
_ "هروح اسلم على البنات يا بابا."
أعطاها موافقته باختصار:
_ "تمام .. روحي."
ابتعدت وتين مع الهديّة المُغَلّفة التي تمسكها بين يديها كي تقدّمها إلى تقوى كنوع من خلق الودّ بينهما .. خاصة وهي خطيبة صديقها بدر الذي لا يترك فرصة للقيام بالواجب إلا وأداه .. في حين أتى يونس ومعه رجل يقاربه في السن .. يبدو من ملامحه أنه على مشارف الخمسين .. شعر رأسه ولحيته أسود قاتم يتخلّله الشّيْب في الكثير من جنباته .. وخلفه يسير مجموعة من الشباب .. ما أن توقف جميعهم حتى بادر يونس بتعريف أخيه قائلا:
_ "ده أخويا حسين أصغر مني .. شغال في العقارات."
صافحه حسين بابتسامة وقار:
_ "اتشرفت بمعرفتك يا أستاذ رياض."
_ "الشرف ليا طبعا."
ثم أشار يونس إلى أول من تقدّم من الشباب قائلا:
_ "وده حمزة ابنه البكري .. رسّام كبير بمعرض رسوم علاء خال أولادي وحماهم قريّب بإذن الله."
ثم أشار إلى التالي قائلا:
_ "وده فهد ابن أخويا الصغير سمير -ربنا يرحمه- .. نقيب بشرطة التهريب زي بدر."
بادر بمصافحته وتبعه إبراهيم حيث أكمل يونس:
_ "وده إبراهيم ابن علاء وخطيب بنتي الصغيرة .. دكتور في مستشفى (.....) في الشيخ زايد."
وهنا حان دور نائل ليقترب منهم بتثاقل أصاب جسده وملامحه .. حيث أردف يونس وهو يربت على منكبه قائلا:
_ "أما ده الباشمهندس نائل ابن مراتي .. وأكتر من ابن بالنسبة لي .. بيشتغل في موقع في المدينة الصناعية الجديدة."
تحدث نائل بسرور ظاهريّ يخفي وجوما بثناياه:
_ "أهلا بحضرتك أستاذ رياض .. شرفت المكان."
أجابه رياض بجديّة:
_ "الشرف الكبير هو إني أشوفكم النهاردة يا ابني."
وهنا أكمل يونس حديثه بنبرة هادئة:
_ "وكنت عايز اعرفك على علاء لكن مشغول دلوقتي مع بدر."

_"مبروك الخطوبة يا تقوى."
أردفت بها وتين بحبور بينما تمدّ بالهديّة إلى تقوى لتقول الأخيرة بابتسامة بينما تمسك بالهدية شاكرة:
_ "شكرا جدا حبيبتي."
نطقت وتين مُخمّنة:
_ "إنتي لسة ماعرفتينيش؟"
حمحمت تقوى بحرج قبل أن تنطق بخفوت:
_ "في الحقيقة لأ."
تحدثت وتين بحماس:
_ "أنا وتين رياض."
وقبل أن تنطق الثانية سبقتها شذا بالقول بحماس:
_ "إي ده! .. إنتي المحاميّة وتين!"
التفتت إليها وتين بنظرات سعيدة بعدما وجدت أخيرا من يعرفها من معشر الموجودين بهذا البيت .. فقالت بحبور:
_ "أيوة أنا."
أسرعت شذا بمصافحتها تحت مرأى تقوى ونيروز المتعجبتيْن بينما تقول شذا مُرحبة:
_ "أنا شذا .. أخت بدر الصغيرة .. فرحانة جدا اني قابلتك."
أجابتها وتين بامتنان:
_ "عارفاكي طبعا .. ده انا اللي فرحانة اني قابلتك."
لكزت نيروز كتف ابنة عمها لتستثير انتباهها فتقول بتساؤل:
_ "إنتي تعرفيها منين يا شذا؟"
أجابتها شذا بحماس:
_ "بدر بيتكلم كتير عن وتين وأستاذ رياض .. ومُعجب جدا بقوَّتهم في القانون .. ده بيقول كمان ان وتين هتبقى حاجة كبيرة في المستقبل زي باباها تمام."
ابتسمت تقوى بإعجاب بينما تلتفت إلى وتين مُرحّبة:
_ "أهلا بيكي يا وتين .. نورتي المكان حبيبتي."
فتئت نيروز بينما تجذب يد شذا قائلة:
_ "طب يا جماعة هروح أنا وشذا نجيب شوكلاتة وجايين تاني .. إوعي تمشي يا وتين."
لفظت بالأخيرة راجية لتجيبها الثانية بإيماءة من رأسها وتعود للحديث مع تقوى التي تبدّلت معالمها تدريجيا إلى الضيق الكامن بنبرتها الودودة .. بينما أسرعت نيروز وبصحبتها شذا التي كانت ترمق ابنة عمها بتعجب من اتخاذ الحلوى كحجّة للهروب من الاجتماع مع وتين للمرة الأولى .. توقفت عند إحدى الزوايا ثم التفّت بجسدها لتواجه شذا التي ترمقها باستفهام أزاحته نيروز بقولها مستنكرة:
_ "إي اللي انتي قلتيه أدام تقوى ده؟!"
جعّدت جبينها وضيّقت حدقتاها تعجبا من إطلاق هذا السؤال الذي زاد من تساؤلها .. فنطقت بتساؤل مُماثل:
_ "أنا قلت إيه؟!"
أجابتها نيروز مباشرة مع نبرة تعلوها القتامة:
_ "إنتي قلتي ان بدر بيمدح في وتين أدام خطيبته؟! .. أكيد تقوى هتزعل دلوقتي من بدر!"
رفعت منكبيها إلى الأعلى إشارة إلى الجهل وهي تمطّ شفتيها باستنكار على ما تفوّهت به ابنة عمها .. فتشدقت ببعض السخرية:
_ "إنتي بتقولي إي؟ بنت خالي الدكتورة كبيرة وفاهمة قصد اخويا من مدح وتين .. دول مجرد زمايل مش أكتر."
هزّت الثانية رأسها نفيا ثم أردفت موضحة مقصدها ببعض الإصرار:
_ "لكن الدكتورة الكبيرة واللي فاهمة بنت برضه .. وما يزعلش البنت أد اهتمام حبيبها بواحدة غيرها حتى لو زمايل بس .. هو انتي مابتشوفيش أفلام عربي ولا إيه؟!"
همّت لتجيبها ولكن قاطعهما صوت نجلاء الآتي من قريب حيث تهتف بتعب:
_ "إنتي هنا يا شذا وانا بدور عليكي فــ كل حتة؟"
أسرعت إليها شذا قائلة:
"في إيه يا ماما؟"
وبالفعل انصرفت مع نجلاء مُغادرة المكان وبطريقة غير مباشرة أعلنت إغلاق صفحة الكلام بهذا الشأن .. فلا يمكن مُطلقا تخيّل أن تنزعج تقوى من موضوع عادي كهذا .. إن علاقة بدر مع رياض منذ أعوام حتى خرجت وتين إلى مكتب أبيها للعمل فيه فصارت من أعز أصدقائه .. كما أن وتين -وحسب ما توصّلت إليه- مرتبطة بقراءة الفاتحة مع مدرس ثانوية يُدعَى تامر .. فليس هناك ما يدعو للقلق من هذا الشأن إطلاقا .. وما تريد نيروز إيضاحه ليس له أساس من الصحة.

انتهى الحفل وانصرف المدعوون تباعا مع خالص التهانئ والدعوات بالخير لصاحب الحفل والابن الكبير لعائلة عمران .. بدر الذي كان الكبير بالسن والعقل على السواء .. فعلى خلاف البقيّة من أبناء العائلة يكمن رُشده في تحمل المسؤولية أثناء الصعاب .. صمته الذي دام لسنوات ولم يُفصح عن حبه لتقوى بتاتا .. حتى أفصح له ابن خاله إبراهيم عن حبه لشذا قبل ثلاث سنوات وسأله المساعدة في هذا الأمر .. وبحكمته استطاع إتمام خِطبة الطبيب إبراهيم لشذا الصغيرة .. حيث كانت العائلتَين في انقسام دام لأعوام منذ وفاة وفاء والدة بدر وشذا وأخت علاء .. وحين تزوّج يونس بنجلاء وأحضرها وابنها الصغير إلى المنزل لتصير ملكته لم يحتمل علاء وجود أخرى محل أخته وأصر على الانقطاع .. فكان من الشاقّ على بدر إعادة الاتحاد من جديد .. ولكن حدث وكانت خِطبة إبراهيم وشذا بمثابة فرمان لعودة أواصر المحبة من جديد وإحياء الأمل بقلب بدر الولهان لينطق بحبه لابنة خاله العزيزة تقوى .. ولكن على خلاف شقيقها أجابته بالرفض القاطع وقد كان موقف والدها غامرا على عقلها بحيث نفرت عن عرض النقيب بدر .. ولكن لم ييْأس وبرزانة صَبَرَ حتى أعطته موافقتها قبل شهرين ليتمّ حفل الخِطبة الليلة .. الليلة فقط شعر بدر وكأنه طائر يرفرف في عنان السعادة بحرية .. فحصل أخيرا على مراده وما عاد يرجو شيئا آخر من الدنيا .. ولكن هل يوجد من يكتفي من الأماني في هذه الحياة؟!

في منتصف الليل .. استلقى يونس على السرير ثم أغمض عينيه ببطء والتعب مرتسم على معالمه بوضوح .. في حين أتت نجلاء وبيمينها حبة دواء ويسراها كأس من الماء .. مدّت إليه حبّة الدواء أولا فتناولها وأتبعها بابتلاع جرعة الماء .. ثم ناولها الكأس وأطلق زفيرا طويلا مع آهة تفصح عن الألم والإنهاك .. وضعت كأس الماء على الكومود ثم التفتت إلى زوجها ونطقت بعتاب:
_ "أكلت حلويات كتير النهاردة والنتيجة ان الضغط يعلى وتدوخ يا سيادة اللوا!"
تكلم مع ابتسامة خافتة بَدَت بجانب ثغره مبررا:
_ "النهاردة حفلة جميلة ولازم نفرح فيها."
لفّت حول السرير حتى جلست جانبه ثم قالت بسعادة مُتناسية غضبها من إهماله لصحته:
_ "ليك الحق تفرح يا حبيبي .. أخيرا اطّمنت على أكبر حفيد في عيلة عمران."
سلّط عينيه إليها قائلا بابتسامة واسعة:
_ "وفرحان برضه من اللي عملتيه النهاردة عشان بدر ومن قبله شذا .. إنتي فعلا بتتعبي عشان الولاد ولا كأنهم...."
بتر كلمته بفعل صوتها حيث قاطعته ناهية:
_ "ماتقولش كأنهم دول دولادي فعلا يا يونس .. إنت عارف كويس اني شايفة بدر وشذا زي نائل بالظبط وعمري ما فرّقت بينهم في المعاملة .. وبلاش بقى تشكرني."
أمسك بيدها محتضنا إياها بين أنامله قائلا:
_ "أحسن حاجة عملتها لما اتجوزتك حبيبتي."
ثم رفع كفّها ولثّمه بقبلة حانية أتبعها بقوله متضرعا برقة:
_ "ربنا يحفظك ليا."
اتّسعت ابتسامتها حتى بَدَت ببريق عينيها لتُردف بابتهال:
_ "ويحفظك ليا يا قلبي"
شاع كثيرا إقران مصطلح زوجة الأب بالغدر والطمع .. وقد أجزلت الأفلام والروايات وصف زوجة الأب أو زوج الأم كالوحوش التي تنهش بالصغار حتى تُحطّم كل أمانيهم الصغيرة التي نسجوها ليصبحوا مجرد حُطام .. ولكن في الواقع يوجد الكثير شذّوا عن هذا المنطق .. فليس كل زوجات الآباء عقارب .. وليس كل أزواج الأمهات ذئاب .. بل كما نرى دوما أن لكل حالة ما يُناقضها .. وكما يوجد الخير يوجد الشر بصورة مماثلة.. ولكن لا ينبغي تعميم السيّئة وتخصيص الحسنة.. وفي هذه الحالة في الآونة الأخيرة صارت الحسنة أقوى وأكثر ظهورا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي