ما بعد الألم

Manala`بقلم

  • أعمال الترجمة

    النوع
  • 2022-07-25ضع على الرف
  • 65.7K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الثالث

كيف نكون السبب في وجع أحدهم وقلوبنا تنبض
بالأوجاع

*

*

لو تحكي الوسائد والأسِرّة والأغطية السميكة
ما يحدث

وما يقال في حضنها لبكى البشر على أوجاع غيرهم

ونسي كل واحد منهم وجعه فكم يحمل هذا السرير

من أسرار أرسلته إليه في دمعاتها اليتيمة وعبراتها

المكتومة التي لا تملك غيرها ولا أحد غيره يحتويها

( لما أحكام البشر ظالمه )

هذه كانت أول بعثره لحروفها تحت سواد هذا اللحاف

بعد يوم مرهق للمشاعر والقلوب وبعد جرح نازف

انفتح من جديد

* * *




لففت نفسي في اللحاف أكثر وكأنه سيخفي عن قلبي

وجع روحي وعن روحي أوجاع أحشائي , تمسكت
بطرفه

بقوة ولازالت كلماته عند اللقاء ما قبل الأخير بيننا في منزل

والدته تحفر مخيلتي وقلبي وهوا يكمل جلده لي بكلماته مغادرا

" لا أحد يحزن على الماضي فلا شيء
فيه يستحق العودة "

لتزداد عبراتي فوق هذه الوسادة كلما استرجعت تلك الكلمات

من سرق مني تلك السعادة من ؟! والدي أم قدره أم قدري

هل هي رحمتي بأبي أم بعائلتي ؟ من هوا القاضي
ومن

الجلاد ومن المحكوم عليه فكيف أكون جلاداً حُكم عليه

بالجلد ! كيف أكون مجرما ارتكبوا في حقه أبشع الجرائم

ليث الغفران صفة ليست لله وحده خص بها نفسه وأكرم

من تمتع بها فقط , ليثها كانت فرضاً على البشر لكان

نواس أول من تمسك بها ولو كرهت نفسه ولكنت

وجدت عنده العذر لأني أعرفه جيداً حينما يتعلق

الأمر بكلمة ... الله فرض هذا

من سيرجع لي ما سرقته الحياة من !!

حضنت الوسادة بقوة أكتم فيها دموعي وعبراتي

حتى نمت على وجع أحشائي المعتاد

*

*
تساندت بمرفقي على السرير لأعدل من جلستي بمساعدة

الممرضة المرافقة لي طوال الوقت ثم تنهدت بألم وقلت

" هل عاد نواس "

ليجيب الجالس بالمقربة مني يقلب الجريدة الصباحية

" لا .. اتصل بي وقال لن يأتي هذا الأسبوع لقد غادر

بالأمس فقط يا أمي آن لك أن تشتاقي إليه "

ابتسمت بحب وقلت " ومتى تتوقف الأم عن الاشتياق "

ثم تابعت " ها .. ما الأخبار لديك فأنت

تقرأ بانسجام منذ وقت "

رمى بالجريدة على الطاولة وقال بضجر

" هل تصدقي إن قلت لك لم أقرأ منها شيئا "

ضحكت بتعب وقلت " ماذا كنت تفعل إذا , هل تشاهد

صور النساء ؟؟ أين أنتي يا فرح لتريه "

تأفف وهز رأسه يمينا ويسارا وقال

" كادت تحرقني البارحة بنيران غضبها ما ذنبي أنا

فيما يحدث بين شقيقتها ونواس , حتى متى

سنبقى نناقش تلك القضية "

تنهدت بحزن وقلت " لو أعلم لما قرر هذا القرار المجنون

أقسم وهوا ابني أنه يتنفسها في الهواء الذي يدخل رئتيه

رغم جرحه الغائر منها , لكن أن يتزوج بأخرى هذا ما

لم أجد له تفسيراً طوال ليلة البارحة ولم أنم بسببه "

قال بغضب " جنون ليس إلا فما من شيء يجبره على الزواج "

اكتفيت بالتنهد بحزن أرثي حال ابني المكسور وحال ابنة

شقيقتي المتوفاة , أين كان المال عن نواس منذ عامان

لما لم يتساقط عليه كأوراق الشجر إلا بعد تلك الصفعة

العنيفة التي تلقاها يوم اكتشف أن خطيبته وحبيبته خبر

خطبتها من غيره يملأ الصحف والمجلات وبدون علمه

لما كانت وسن ضحية لتهور والدها ولما كان نواس ثمنا

لتضحيتها , أخرجني من شرودي الحزين صوت ابني

وهوا يقول " على ابنك أن يقتنع برأيي , أنا من سيتكفل

بعائلتهم وحاجياتها , لقد أصبحت زوج ابنتهم وهوا ابن

خالة وسن ليس إلا فأنا الأولى بهم منه "

قلت ببرود وأنا أعدل وشاح كتفاي

" لا تدخل في مشاكل مع شقيقك تعلم رأيه جيدا في

الأمر ويوم تصير فرح في منزلك تكفل بها وحدها "

لوح بيده بضيق " ولما أنا كالطفل أمامه وأمامهم ولا

نفع مني سوى في إيصالهما للجامعة , حتى حاجاتهم

اليومية كلف بها من يوصلها إليهم وفي النهاية سيتزوج

بغيرها ... يد ترحم ويد تصفع في ذات الجسد "

قاطعته بضيق " جواد تعلم كما أعلم جيدا قوانين البلاد وأن

نواس ولي وسن بحكم القانون وبحكم أنها بلا زوج ولا والد

ولا شقيق ولا عم ولا خال ولا رجل تربطها به القرابة غيركما

وهوا الأكبر فسيبقى وليها وكفيلها حتى تتزوج وبموافقته طبعا "

تأفف وعقب " هذه فهمناها .. فرح ووالدتها ما علاقته بهم "

تمتمت بضيق " ما هذا اليوم الجالب للتعب فوق

تعبي ومنذ الصباح "

قال بضيق وحنق " أمي على هذه المهزلة أن تتوقف

فلا أريد أن يصل الأمر بي وبه للخصومة "

وضعت يدي على رأسي وقلت بضيق

" سوزي ناوليني حبوب الضغط "

*

*

اقتربت من غرفة شقيقتي أمسك هاتفي في يدي

بعدما جهزته على رقم جواد لأتصل به لنجدتنا سريعاً

لا أريد أن أكون من ينقل لها كهذا الخبر ولكن هذا

أرحم عندها من أن تسمعه من غيرنا فيكفينا شماتة في

حالنا , فتحت الباب ببطء وابتسمت للجالسة على سريرها

تحاول لملمة شعرها الحالك السواد وجمعه بمشبك

الشعر وقلت بهدوء " صباح الخير "

أجابتني بابتسامة حب

" صباح النور ما كل هذا النشاط في يوم الإجازة "

اقتربت وجلست بجوارها أتأمل ملامحها الجميلة التي

تنهار ليلا لتعود وتبتسم لنا في الصباح , قوية رغم حزنها

كما عرفتها دائماً , ابتسمت وأنا أتأمل الابتسامة اليتيمة

الشاردة للبعيد ثم لوحت بيدها أمام وجهها وقالت

" وسن أين رحلتي بابتسامتك "

ابتسمت بحزن وشرود وقالت " هي من

رحلت بي وليس أنا "

ثم نظرت لوجهي بتفحص واستفسار " لديك كلام

في جعبتك أليس كذلك ؟! "

ابتسمت بألم وقلت " ليثه كان كلاماً "

نظرت لي بحيرة فتابعت بحزن " وسن إن كان لدي

غرض عندك ومننت به عليك وقلت أنك لا تستحقينه

واسترجعته منك ما سيكون رد فعلك "

قالت بابتسامة صغيرة " أقول بكل بساطة

خذيه يمكنني العيش من دونه "

ابتسمت وقلت " وحب نواس كذلك أعطاه لك يوماً

ومن ثم استرجعه وفي نظره أنك لا تستحقينه فقولي

بكل بساطة ليأخذه يمكنني العيش بدونه "

قالت بابتسامة متألمة والدموع تترقرق في سواد عينيها

الواسعة " لم تخبريني أن ذاك الغرض يخرج مع الروح "

تنهدت بحزن وصمت لتتابع " لا عليك يا فرح لكل

محنة فترة ولكل علاج مضاعفات "

عقبت عليها بحسرة " عامان يا وسن ولا شفاء ولا

انتهاء لتلك المحنة لما لا تكوني مثله "

نظرت لي بتوجس وقالت " ما لديك يا فرح ... ماذا حدث ؟! "

تنهدت باستسلام فهي تقرأ بسهولة كل موضوع يخصه

في عينا كل من يريد التحدث عنه ثم قلت هاربة من مواجهة

عينيها " سيتزوج يا وسن قرر قتلك بأخرى فلا تفرحيه فيك "

ساد صمتٌ مخيف فرفعت عيناي أبحث في الأرض عن

جسد شقيقتي المغمى عليها من وقع الخبر فلم أجدها هناك

رفعت نظري لها فكانت جامدة كالتمثال , هل هي الصدمة

هل هي ألامبالاة بالتأكيد ليست الثانية , وسن حبيبتي

تحدثي اصرخي باكية انهاري افعلي أي شيء , مددت يدي

لها ببطء وهزت كتفها وقلت بتوجس " وسن هل أنتي بخير "

لا رد ولا شيء ولا همهمات أو آنين ولا حتى دمعة متدحرجة

أمسكت ذراعاها وبدأت بهزها بقوة " وسن ما بك وسن "

أجابت بجمود " كنت أعلم ذلك "

أبعدت يداي عنها وقلت بصدمة

" تعلمين كيف وهوا لم يتحدث معك !! هل أخبرك ؟! "

أجابت بذات الجمود وعيناها في الفراغ

" نعم أخبرني ولكن ليس بلسانه "

لتتابع وقد سقطت الدمعة الأولى من عينيها

" لم يسألني حتى عن دراستي ككل مرة , لم يسألني

عنك ووالدتك وإن كان ينقصنا شيء , لم يرفع نظره

عن التحف الموجودة على الطاولة أمامه أبداً , قالها

يا فرح نعم قرأتها في ملامحه ... أصبحت لأخرى "

لينهار حينها الجسد الثابت معانقاً الأرض ولأصرخ

مستنجدة بوالدتي وسط تخبط أصابعي لأمسك هاتفي بتوتر

وخوف وأتصل بالرقم الثاني في قائمة الأسماء بدل الأول

*

*
يقف عند نافذة غرفة مكتبه الواسعة وتراقب عيناه العسليتان

كل حركة تصدر في الخارج ولا يغيب عن ناظره مما

يفعلون شيئا فماضيه علمه أن لا يثق في العمال , صفقة

الخيل السابقة كانت مربحة لقد خدمه ذاك الرجل خدمة

العمر رغم تأخرها ليقلب له حاله منذ عامان وكأنه خرج

له من عمق انهياره تلك اللحظة , كان كقبس من نور

أضاء وسط ظلام ليلته تلك , الليلة التي سرقت منه حبيبته

الليلة التي نظر فيها لنفسه للمرة الأولى نظرة ازدراء

وأنه أقل من غيره ورأى فيها نفسه لأول مرة منذ عودته

من تلك البلاد أنه يرتدي ملابس العمال , لأول مرة يشعر

أنه في نظر الجميع لا يستحق تلك الحبيبة ... الحبيبة التي

يوم أنجبتها والدتها عتبت قدماه أول يوم له في الثانوية

العامة , الحبيبة التي حين سافر كانت طفلة في الرابعة

ليرجع ويجدها تحولت لصبية بل شابة سبقت جيلها وعمرها

ومن هم في سنها ليجد غزالا بشعر أسود يراه بالمصادفة

عند والدته , هي كانت أول ما رأته عيناه يوم عودته دون

علم الجميع , الابن الغائب المنتظر الذي لا تصلهم منه

سوى الرسائل والنقود التي يجنيها من عمله هناك , يوم

ضحى بكل شيء وحتى دراسته كي لا تحتاج والدته وتمد

يدها للناس بعد وفاة زوجها ولكي يدرس شقيقه ويتعلم

وينال شهادته التي حلم بها ولا يئول لما آل هوا إليه

يدخل بهدوء ليفاجِئ والدته بقدومه فتسقط عيناه على الريم

الشارد هناك على عينان لا ينافسها فيهم إلا الغزلان فيقف

متسمرا مخاطبا نفسه بذهول ( من هذه الضيفة التي تأخذ

من الحرية هنا أن تدخل غرف النوم وبدون حجاب , لمن هذه

الابتسامة الرقيقة والوجه الدائري لمن أنتي وأقسم أن تكوني

لي ) غرق ذاك اليوم في حب من لم يعلم أنها الطفلة التي سماها

هوا بنفسه واختار اسمها مشتقا من حروف اسمه وكأنها قطعة

منه وستؤول إليه , من ركض بساقيه لمحل والدها ليخبره أن

خالته ستلد وعليه أخذها للمستشفى , من لعبت أصابعه بأناملها

الصغيرة وهي جالسة على فخذه ابنة العامان , كيف كبرت هكذا

وتحولت لفتاة بل لأنثى تموت النساء عند أعتاب عينيها , ليعيش

منذ ذاك اليوم يهيم بها ويزورهم لحاجة ولدونها ليراها ولو

عند الباب وليقرأ في عينيها وابتسامتها استجابتها لمشاعره

المتدفقة دون رادع , يراها الأعمى قبل البصير تتدفق في

عينيه وكلماته , كل ذلك قبل أن تسلب تلك الليلة السوداء أحلامه

وتسرق غزالته منه ليس لأنه لا يستحقها ولكن لأنه ليس كما

هوا اليوم , بل لأنه فقط لا يملك سوى حبه لها , شيء بالنسبة

له لا يقدر بالمال وبالنسبة لهم لا يأتي بالمال الذي ستجلبه هي

كسلعة تباع في السوق , ابتسم بسخرية وغادر بنظره للسماء

كعادته حين يحاول الهرب من أفكاره فهوا عكس البشر في كل

شيء حتى في سفرهم بأعينهم للسماء حين تستهويهم الأفكار

ويريدون السفر إليها وليس الهرب منها

* * *

أخرجني من شرودي ذاك الصوت الهادئ العميق

" سينهي اليوم عمال البناء من الإسطبلات الجديدة

وستكون جاهزة بعد الغد لكننا سنواجه مشكلة "

قلت ببحة لا أعلم من أين دخت على صوتي اليوم ونظري

لازال عند تلك الغيمة السوداء " أي مشكلة ؟! "

سكت لفترة قصيرة ثم قال " إحدى الخيول الجديدة جامحة

وغير مروضة لا يمكننا ضمها مع غيرها في الإسطبل حتى

ننهي الإسطبلات الجديدة ولا حل سوى عزلها لوحدها ومع

هذا الجو الغائم لن نتمكن من وضعها في ساحة التدريب

ولا مكان شاغر سوى ..... "

قاطعته بصرامة " إسطبل الوسن لن توضع

فيه أي واحدة أخرى "

عقب برجاء " سوف تسبب لنا مشكلة وذاك الإسطبل

شاغر حتى تعود الفرس إليه فلما ... "

صرخت بغضب وأنا الذي لا أغضب إلا نادرا

" إن دخلت ذاك الإسطبل سجنتك معها فيه تفهم "

قال بهدوء " نواس هي فرس ليست إلا "

قلت بأسى وقد عدت لهدوئي " اتركوا لي ولو الفرس

لا يشاركني أحد في شيء يخصها "

تنهد وقال " كما تريد , أعلم أن ليلتنا ستكون سيئة بسبب

تلك الفرس , سأقضي الليلة هناك وإن اطر الأمر

سنخدرها ولو لساعتين "

فتحت شفتاي لأتحدث فقاطعني صوت رنين هاتفي

نظرت للمتصل ففاجئني الاسم الظاهر على الشاشة

غريب فرح قد تستخدم حتى رقم الطوارئ عند أشد

حالاتها ولن تفكر أن تلجأ للاتصال بي , أجبت فورا

بتوجس وصمت لتصرخ تلك ما أن فتحت لها الخط

" جواد الحق وسن إلحقنا بسرعة يا جواد لقد

قتلها .... شقيقك قتلها "

تحركت دون شعور وأنا أصرخ راكضاً

" لا تغب عينك عن العمال هنا يا وليد حتى ارجع "

لحق بي يجاري خطواتي وهوا يقول " أخبرتك أني

لا أستطيع ترك الإسطبلات الليلة وقد تتأخر "
ركبت وقلت ضارباً لباب سيارتي

" ضع الفرس في الإسطبل الشاغر إذاً "

وغادرت مسرعا وعيناه تتبعاني بذهول واستغراب

مؤكد سيستغرب من أن أسمح لفرس أخرى أن تعتب

حوافرها إسطبل الوسن وهوا يعلم أنه لن يشغلني عن

تلك الفرس إلا سميتها بالتأكيد
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي