الفصل الاول

كم حملنا من جراح حمّلنا الغير إثم وجودها على وجه الأرض

وهم لا يعلمون أنها خرجت من عمق أوجاعنا

*

*

فتَحْتُ الباب بهدوء ونظرت نظرة حب وحزن ورحمة

للجسد المختبئ تحت طيات اللحاف ليخفي وجهاً وقلباً أشد

منه حزناً وبرودة وعذاب , ابتسمت بألم ثم قلت

" وسن هل أنتي نائمة "







خرج لي صوتها المتحشرج يحكي ما تخبئه في

عتمة سريرها قائلة " لا ... سأنام الآن "

زاد صوت صرير الباب دالا على تحركي قليلا للأمام




لتوقفني كلماتها الهادئة " أنا بخير أريد النوم فقط "







تنهدت بضيق ألعن في قلبي ما آلت له شقيقتي بل ما آل له

حالنا جميعاً ثم قلت بهدوء " وسن لا تقتلي نفسك بما تفعليه

أخرجي للسهر معي ووالدتي , لما تفعلين بنفسك






هكذا كلما عدتِ من هناك "







لم تجبني ولم أنتظر منها جواباً لتتراجع خطواتي
خارجه

وكل مناي أن لا أسمع منها تلك العبارة التي تقتل
بها قلبي كلما قالتها في مثل هذا الموقف , خرجت هرباً من أحرف ليس إلا




لكنها تفعل ما يفعله السيف حين ينزل على عنق أحدهم بقوة

حاولت الهرب مسرعه ولكن تلك الحروف سبقتني للباب

لترتمي في أذني بصوت شقيقتي الوحيدة وهي تقول من

بين حزنها وتعبها وهمومها " ليثني أموت يا فرح "

أغمضت عيناي بحزن أكتم ألمي وقلت بثبات " لو كل من

طلب الموت أدركه لما بقي على وجه الأرض أحد
يا وسن "



وقفت بعدها عند الباب وقلت بتوجس وخوف من

الجواب " هل تحدثتِ معه مجدداً ؟ "

أجابت هامسة باختصار " لا "

قلت وأنا أغلق الباب بهدوء

" جيد يبدوا لي تقدمتِ خطوة للأمام "

*

*

" كيف هي الآن , ألن تخرج "

جلست بجوار والدتي وقلت ببؤس " لا بالتأكيد فكما تعلمي

لن تفارق سريرها قبل الصباح , تلك عادتها كلما زارتهم

لا أفهم لما لا يختفي ذاك الرجل من الخليقة حين

يعلم أنها ذاهبة هناك "

اكتفت بالتنهد في حزن فتابعت بحرقة " لا أعلم لما لا

يرحمها من رؤيته مادام غروره لن يفارقه ولن يتفهم

أسبابها , كم صرت أكرهه وأتمنى من الله أنـــ .... "

قاطعتني بحدة " فرح اصمتي ولا تدعي على أحد

لا ينقصنا مصائب يكفينا ما نحن فيه "

قلت بتذمر " وما الذي لم يحدث لنا لنخشاه .. ماذا يا

أمي ؟! فمنذ تلك السنة التي فقدنا فيها والدي وشقيقي في

نفس اليوم فترملتِ أنتي وفقدتِ ابنك الوحيد وفقدت أنا

شقيقي ووالدي وتيتمت وسن لتصبح بلا أب
ولا أم , بل من قبل ذاك اليوم حين أصبح والدي
مديوناً ومهدداً

بالسجن وتقهقر حال كل واحد فينا وأولنا وسن التي

بدأت خساراتها تتوالى منذ ذاك الحين , أخبريني ما

سنخسر أيضا قولي يا أمي "









قالت وهي تغادر " استغفر الله اللهم لا تؤاخذنا

إن نسينا أو أخطأنا "

وقفت أتأفف متجهة لغرفتي ليغير مجرى سير خطواتي

رنين الهاتف , اقتربت ونظرت للرقم في شاشته لأجد من

سيكون متنفساً لغضبي وما أكبته من حسرة , جلست بجوار

الطاولة ورفعت السماعة وقلت من فوري " لا مرحباً بكم











من عائلة , أخبرني متى سيموت شقيقك ذاك أو يُسجن

أو يقوم رئيس الدولة بنفيه من البلاد "

جاءني صوته مصدوماً " فرح حبيبتي كم مرة ستُحملينني

إثم غيري ما ذنبي أنا إن كانت أكثر مشاكل البشرية تعقيداً

بين شقيقي وابنة خالتي وما ذنبي إن أحببت شقيقتها من

بين كل البشر وخطبتها وكنت سأموت إن لم أتزوجها "

قلت بضيق " ذنبك أنك شقيقه , ذاك المغرور المتحجر

الذي ثبرت منه الإنسانية , متى سترأفون بحال شقيقتي أي

عائلة خالة أنتم أقسم أن لكم نزعة عرق في اليهود "

تنهد وقال " وهل بيدي شيء ولم أفعله , لا تلقي بكل اللوم

عليه فلم أنسى يوما حين قال لي بوجع ( ليثها فقط أخبرتني

كنت حرثت الأرض بأظافري وأخرجت المال وما تركتها

تهورت وفعلت ما فعلته ) هوا موجوع أكثر منها وأنــ .... "

قاطعته بحدة " موجوع !! ليثه يموت بأوجاعه لا بارك

الله في اليوم الذي عاد فيه "

قاطعني بضيق " فرح .. نواس شقيقي في كل الأحوال

ولا تنسي ما فعل ويفعل من أجل الجميع "

قلت بغضب " نعم مُنّ علينا بأفضاله فهوا المنقذ

الحامي الذي انتشلنا من ديوننا ولولاه لضعنا

ولمتنا جوعاً أبو الشهامة "

قال بغضب مماثل " فرح كم مرة سنكون في

مشكلة بسبب أمر لا يد لنا فيه "

نزلت دموعي تحكي عجزي وعجزه الذي أعلمه

أكثر منه وقلت بعبرة مخنوقة " شقيقتي يا جواد إنها

تضيع منا لما لا تشعر بي , متى سيرحمها ذاك الجلمود

ويترك المنزل على الأقل حين يعلم بذهابها لخالتها "

تنهد وقال " لا أعلم لما يفعل ذلك هل ليعذب
نفسه أم ليعاقبها هي أم لينتقم منهما معاً , حتى
أنه لا يغادر مكانه حتى تغادر هي أولا "




قلت بحزن " ما الذي حدث هذه المرة "

قال بهدوء " لا شيء ولا جديد "

سألته من فوري " قالت لم تتكلم معه هل صحيح حدث ذلك "

قال من فوره " نعم لم يتحدثا مطلقا بل لم تنبس شفتاه

بحرف لا معها ولا مع غيرها وبعد مغادرتها وقف من

فوره ألقى علينا قنبلته وغادر لمزرعته "

قلت بحيرة " قنبلة ماذا !! "

تنفس بقوة حتى كاد نفسه يخرج لي من ثقوب السماعة

ثم قال " قال سيخطب قريبة صديقه "

ألقى عليا الخبر كالقذيفة لترتجف يدي وتسقط سماعة

الهاتف مني وأنا أهمس بشفاه ترتعش

" يا ويل قلبي عليك يا وسن "

*

*




سمعت الطرقات المتتالية على باب غرفتي لأتوجه له

فزعة فانا اعلم أن هذه التقوس لا تحمل إلا النكبات

فتحته انظر لابنتي بتوجس وهي تلطم خداها في صمت

وتكتم صرخاتها من الخروج فأمسكت معصمها وجررتها

معي لداخل غرفتي وأغلقت الباب خلفها ناهرة لها

" توقفي عن لطم وجهك أي مصيبة تحملين معك "

أطلقت حينها العنان لصراخها ودموعها المكبوتة لتصرخ

بوجع " سيتزوج يا أمي سيدمرها نهائيا جهزي كفناً أبيض

جديد لنلبسه لجثة أخرى من بقايا عائلتنا المتبقية "

لتتابع وهي تضرب صدرها بكفها

" شيع الجثمان يا أمي وسيكون من المعزين فيه "

كتمت صرخاتها بكفي وقلت " لا بارك الله في

أخبارك السوداء أخفضي صوتك لا تسمعك "

أبعدت كفي عنها وقالت ببكاء " ستعلم إن اليوم أو

في الغد وإن منا أو من غيرنا فعن ماذا سنتستر "

ضربت كف بالآخر وقلت بحسرة " لا سامح الله ذاك المتجبر

خالد ولا اليوم الذي عرفناه فيه , كيف يتحول حالها من عروس لنواس تكاد تزف إليه ليتيمة تبكي ماضيهما "





ثم تابعت بحزن وأنا أجلس على السرير

" ما الذي يريد الوصول إليه بما يفعل .... ماذا ؟! "

عقبت فرح بغيض " ينتقم منها ويحرق قلبها أحرق

الله قلبه حتى يتحول لرماد "

قاطعتها بغضب " فرح لا بارك الله في لسانك ما

ستجنينه إن استجاب الله لك , لا ليس نواس من ينتقم ويكسر

القلوب لن يكون هوا ليس لمن غمرنا بفضله لليوم أن يفعل هذا "

قالت معاتبة بلوم " أمي توقفي عن رفع أفضاله
فوق رأسك




كم مرة ستذكريننا بأنه صاحب المن والفضل "

قلت بحدة " اعترفتِ بذلك أم نكرته فهي الحقيقة فحتى

الخبز الذي نأكله هوا من يدفع ثمنه علم من علم وجهل

من جهل واعترفتِ أو لا تلك هي الحقيقة فلولاه بعد الله

لكنا الآن في الشارع نتسول على الطرقات وترمينا الناس

بأقدامها من تحت أحديثهم ولكانت شقيقتك في السجن "

جلست بجانبي وقالت بحزن " وها هوا يسترجع الدَّين يا

أمي , ها هوا يأخذ ثمن أفضاله علينا "






إن وجدت حلا لهذه كيف سأخرج من تلك
ولو طلبوا إحضاره

من أين سأجد واحدا , لما يحدث معي كل هذا وكيف سأتصرف

وماذا إن وجدوني , خالة عفراء كم أحتاجك الآن كله بسببه

" سما "

أيقضني الصوت الذي يردده صدى المكان الواسع

فقلت بتوتر " نعم آنسة "

صرخت بأمر " لمكتب المصلحة حالا "

وقفت بهدوء بين تمتمات وضحكات زميلاتي المنخفضة

وقلت بحزن وعيناي على طاولة مقعدي

" فقط هذه المرة آنسة لن أسرح في الحصة مجددا أقسم لك "

ضربت بمقدمة قدمها على الأرض تنظر لي بنفاذ صبر فخرجت

من مقعدي ومن فصلي متوجهة لمكتب المصلحة الاجتماعية

المكتب الذي بت أحفظ معالمه كاسمي من كثرة ما زرته , كنت

أسير بحزن لا أرى سوى الأرض تحتي وخطواتي عليها

طرقت الباب ودخلت ورأسي أرضا لتتحدث تلك من فورها

" هذه أنتي مجددا , إن كنتي ستتكلمين اجلسي أو

غادري لغرفة المدير حالا "

نظرت لها وقلت برجاء " إلا مكتب المدير آنسة أرجوك "

تنهدت وقالت بهدوء " سما أنا أريد مساعدتك فإن كانت لديك

مشكلة فتحدثي أو سأقدم طلبا بولي أمرك ليحظر "

قلت فزعة " لا آنسة خديجة إلا ولي أمري "

تأففت وقالت " ولما لا هل سنعيد دائما نفس الاسطوانة "

يا إلهي كيف سأخرج من هذه المصيبة كيف سأتصرف يا رب

ساعدني , ضربت على طاولتها بقلمها مستاءة وقالت

" لمكتب المدير يا سما أو الاستدعاء ولك أن تختاري "

خرجت من هناك وأموري اليوم لا تزداد إلا تعقيدا

تنهدت بحزن فلا خيار أمامي عليا الذهاب إليه

كي لا تستدعي المصلحة الاجتماعية ولي أمري

فوحدها يحق لها استدعاءه في هذه الحالة

تنفست عند الباب بقوة ثم طرقت ودخلت

*

*
نظر لي بنصف عين وقال " ها كما اتفقنا لا تترك لي

المنهج في نصف الفصل الدراسي يا نزار "

ابتسمت بعفوية وقلت " وهل تعرفني من متقلبي المزاج

أنا أحتاجها مؤقتا وأنت تعرف ظروفي وإلا ما كنت اخترت

التدريس وخصوصا فتيات الثانوية ولا تخف فتحت

كل الظروف سأنهي معك العام "

قال بابتسامة " إذا على بركة الله وفصلاك جاهزان

أعانك الله على الأطفال الكبار "

ضحكت وأنا أقف قائلا " مررت بهذه المرحلة

وأعلم جيدا عقول من هم فيها "

قال من فوره " أين ستذهب ابق قليلا سأخرج معك "

عدت لجلستي على صوت طرقات خفيفة على الباب

نظرنا كلينا هناك حيث فتاة بعينين زرقاء واسعة وملامح

هادئة وحزينة وشعر كستنائي اللون مجموع كله للخلف

نظرت للأرض في صمت فقال " أدخلي يا سما "

هذا ليس وقت الفسحة ولا بين الحصص , نظرت له

وهمست " وها هي المشاكل سأحضر معك إحداها "

ضحك دون تعليق ثم نظر ناحيتها وقال " ما المشكلة يا سما "

قالت بشبه همس " الآنسة ليلى أخرجتني من الحصة "

قال مباشرة " و السبب "

رفعت نظرها إليه ثم لي ثم أعادته أرضا وقالت

" المصلحة الاجتماعية أرسلتني إليك "

تنهد وقال " سما أنتي تعلمي كم وصلت مكتب

المصلحة شكاوى بسبب سرحانك في الحصص

وكم طلب وصلني منها بشأنك "

هزت رأسها بنعم دون كلام فقال " إن كان ثمة مشكلة

لديك فأخبريها لتساعدك هي امرأة مثلك وأنتي تعلمي

جيدا أنها إن قدمت لي طلبا باستدعاء ولي أمرك

ستحضرينه أو فصلناك من المدرسة "

رفعت رأسها إليه بعينان تمتلئان دموعا وقالت

" لا لن يتكرر الأمر أقسم لك "

قال بحدة " لا أعلم كيف يكونان والداك مهملان هكذا

لا أحد منهم يُقيم مستوى ابنته أو يزورنا , صديقة

والدتك لا أعرف قريبتها أو من تكون من يوم سجلتك

لدينا لم تزرنا سوى مرة واحدة وقالت أن والداك

مسافران , هذه مدرسة خاصة لها قوانينها وإن

استدعى الأمر إحضار أحدهما فعليك جلبه

أو قريبتك تلك مفهوم "

نظرت للأرض لتسقط دمعتها على الأرضية الرخامية

وقالت بصوت مخنوق " مفهوم "

تنفس بقوة مهدئاً نفسه وقال " عودي لفصلك الآن "

غادرت من فورها وقال بضيق " مهما حاولت

أن لا تقسوا على الطالبات يخرجنك من طورك "

قلت مبتسما " اخترت أن تكون مديرا لأسوأ مكان "

وقف وقال " إذا أبشرك تلك إحدى طالباتك "

ضحكت وقلت وأنا أشاركه السير خارجان

" يالها من بشرى هذه أول الطلبة الفاشلين إذا "

قال بضحكة " لا فهي متفوقة فوق ما تتصور

فقط مشكلتها أن لها أمرا لا تفصح عنه "

كنت سأقول شيئا حين رن هاتفي ونظرت للمتصل وأجبت

ونحن نستقل سيارتينا " مرحبا جابر أين أنت يا رجل "

تأفف وقال " زوجتي أنت ولا أعلم "

ضحكت وقلت وأنا أشغل سيارتي " مهلك عليا

قليلا ما الجديد لديكم "

تأفف مجددا وقال " أتركنا من ذلك سنلتقي اليوم حسننا "

انطلقت خلف السيد منصور قائلا

" عند الخامسة مناسب لأنه عليا الذهاب للمنزل

بعد قليل كي لا أتأخر عن علاج والدتي "

قال " جيد وأنا أيضا عليا المغادرة قليلا لمدينتي

نلتقي عند الخامسة لو تأخرت سأقتلع عيناك "

ضحكت وقلت " رحم الله من يقع تحت يديك "

قال " نلتقي فيما بعد وداعا "

أنهيت الاتصال منه على رنين هاتفي نظرت للمتصل

وأجبت من فوري قائلا " نعم يا دعاء "

قالت بهدوء " خرجت للتو من المستشفى وأسمر بها "

أدرت المقود لألف يسارا وقلت " لا داعي لذلك

سأعود للمنزل الآن وأكون معها شكرا لك "

قالت من فورها " لا تشكرني على واجبي وسأكون

معها في غيابك الأيام القادمة .... وداعا "
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي