الفصل الرابع
نظر بحب لملامحها المتماسكة رغم تعبها من كثرة
حركتها اليوم , والدته التي كسر ظهره قلة حيلته لدفع
تكاليف عملية ستسترجع بها ثلثي عافيتها وتسير على
قدميها بثبات ومن جديد , مبلغ عجز عن جمع أكثر من
ربعه حتى الآن رغم كل هذه السنين , ناصف الرابعة
والثلاثين من العمر وأضاع فرصة سفره لإكمال دراسته
لأنه وحيد والدته ولأن من اعتمد عليها ذاك الحين لترفعها
معه تركته من أجل آخر في أوج احتياجه لها
* * *
قربتْ أناملها من وجهي وقالت بحنان
" نزار بني غادر ستتأخر عن حصتك في أول يوم لك "
تنهدت وأمسكت يدها قبلتها وقلت
" للجحيم كل الحصص لن أذهب وأنتي لستِ
بخير , كم مرة نبهتك عن مغادرة السرير "
اتكأت على الوسائد خلفها وقالت
" أنا بخير لا تقلق علي اذهب هيا لا تضع صديقك
في موقف محرج مع عمه الذي وظفك في مدرسته "
وقفت لأني أعلم عنادها إن تعلق الأمر بتركي
لشيء من أجل البقاء بجانبها , قبلت رأسها وقلت
" اتصلي بي إن تعبتِ أكثر , اتفقت و دعاء بأن
تتكفل منذ اليوم برعايتك حتى أعود "
قالت بعتب " ولما تفعل ذلك هي ممرضة وتلتزم
بعملها كيف ستغادر المستشفى وتأتي "
وقفت عند الباب وقلت " هي من عرضت المساعدة
وأصرت أيضا , إن لم يعجبها الوضع ستعتذر وسنتفهمها
اقترح عليا عوني أن تأتي زوجته لك وقت ذهابي ولكنها
أم لأبناء سيتعبونك ويتعبونها "
تنهدت وقالت بأسى " سبحان الله كيف يموت الشباب
الأصحاء ويطول عمر المعلولين المتْعَبين "
التفتت لها وقلت بضيق
" أمي لما تقولين ذلك , من لي ترحلي وتتركيني "
قالت بلامبالاة " في رعاية الله يا نزار أعلم أنك
تحبني لأني أمك لكني كرهت كوني عبئاً عليك "
تنهدت وخرجت لأني أعلم أنه لا جدوى من مناقشتي لها في
هذا الأمر , ركبت سيارتي وغادرت متجها لعملي الجديد لأوفر
قدر أكبر من المال , أعلم أني لا أستطيع تقديم شيء لوالدتي
كوني رجل وهي امرأة ولن تساعدها إلا واحدة مثلها ولكن كيف
أتزوج وأضيف حملا جديدا سيحتاج للمال أكثر , أبناء
وعائلة وزوجة لن تتوقف عن الطلبات , ثم نفسي عافت
الارتباط منذ سنين , وإن كنت سأفعلها من أجل والدتي
فقط فلن أحلم بإجراء عملية لها ما حييت
وصلت المدرسة مثقل بهمومي وبالي مع والدتي المتعبة
اليوم , عبرت الممرات حتى وصلت للفصل المطلوب
نظرت للافتة ( أول علمي أ )
رائع نهاية لم أحلم بها مدرس لفتيات الثانوية بشهادة هندسة
بامتياز وتوسط من صديق لي عند عمه صاحب المدرسة
الخاصة لأدرس فيها مع وضيفة أخرى مضحكة أكثر من
كونها مقنعة أو مربحة , تنهدت بهدوء وطرقت الباب
طرقتين ودخلت , ألقيت التحية وجلت بنظري بين
الطالبات وأنا أدخل لتقع عيناي من فورهما على الفتاة
الجالسة بثاني مقعد جهة النوافذ , الطالبة التي صادفتها
بالأمس في مكتب المدير , كان الفصل مكون من ثلاث
صفوف للمقاعد الفردية وكل صف به ثلاث مقاعد أي
تسع طالبات , أفضل ما في المدارس الخاصة أن عدد
طلبتها قليل , توجهت من فوري للطاولة المخصصة
لي وضعت مذكرة التحضير عليها وسحبت
الكرسي وجلست
*
*
كانت الطالبات اليوم في حوار سخيف لم ينتهي أبدا
عن كيف سيكون مدرسنا الجديد ... شاب عجوز وسيم
بارد عصبي مغازل , ولم يتوقف حديثهم الكريه إلا
بطرقتين خفيفتين على الباب ودخوله لأفتح عيناي على
اتساعهما من الصدمة , لا يا إلهي ليس ذاك الشاب
الذي كان في مكتب المدير وسخر من قدومي لمكتبه
وأضحكه مني وشهد على كل ذاك التوبيخ والمسرحية
المؤسفة أي انطباع أخذه عني حينها مؤكد طالبة مستهترة
وتسرح في الحصص , نظر لنا نظرة شاملة وسط تمتمات
زميلاتي المبهورات به بطوله وأكتافه العريض وشعره
الأسود الناعم المسرح بإتقان , شارب ولحية خفيفة وعينان
رماديتان واسعتان , وقع نظره علي للحظات فسافرت
بنظري للأرض ألعن الحظ الذي لم يبتسم لي يوما
مؤكد عرفني فالأمر لم يكن إلا بالأمس , أخفضت
رأسي أكثر ولم أسمع سوى صرير الكرسي وهوا يحركه
ليجلس عليه ثم وصلنا صوته العميق الذي غزى سكون
الفصل قائلا بجدية " مؤكد تعلمون أني من سيدرسكم مادة
الهندسة التحليلية .... اسمي نزار وسألتزم معكم باقي هذا
العام حتى نهايته لذلك سنتفاهم على أمور تكون ركيزة كي
لا تعرفوا وجهي الحقيقي لأني سأتعامل معكم بغيره "
كنت أسمع صوته فقط وعيناي على الطاولة تحتي ولم
أتجرأ أن أرفعهما , لقد عشت كل حياتي والدي يسجننا
في قوقعة يخاف علينا من كل شيء بحكم أننا عشنا في
الهند فلم أعرف غير الخدم أراهم من بعيد وأصدقاء
والدي الذين لم أتحدث أو أحتك بأحدهم لأجد نفسي في
دوامة هنا وأول رجل أكتشفه في حياتي كان زوج الخالة
عفراء الذي أسكنني الرعب من ماذا لا أعلم ولا أفهم
سوى تحذيرها لي أنه خطر وعليا أن لا أتركه يقترب
مني خصوصا في الليل وهوا يهدي ويغني ولا أعلم لما
لم يُعلمني والداي كيف أعيش في عالم الرجال أو من هم
وما وضيفتهم في الحياة وأي علاقة يجب أن تربطني بهم
عشت كل حياتي وكأني لازلت في رحم والدتي ولم
أخرج للحياة بعد , كل ما بث أعلمه أن عليا أن لا أثق
بهم وأن أهرب من كل من يريد معرفة سري ويقترب
مني أكثر من متر واحد , هذا فقط ما شرحته لي تلك
السيدة عفراء التي عشت معها أشهر قليلة قبل أن تطلب
مني الهرب من منزلها لأي مكان لا يمد له بصلة وأن لا
أعود إليه أبدا , أعادني من شرودي صوته قائلا
" لذلك عليكم أن تعلموا جيدا أن أبغض ما لدي الهمس
والوشوشة كما حدث عند دخولي , كلام دون إذني لا أريد
حتى كلمة عفوا يا أستاذ ستعاقبون عليها , تتركونني
حتى أنتهي وألتفت إليكم , والأهم سرحان في
الحصة يعني نزار لم تعرفوه بعد "
رفعت نظري له من فوري ووجدته ينظر لي ليؤكد
لي أني المعنية بذلك وأني سألقى منه مالا أحب
وقف بعدها وأمسك القلم وتوجه للسبورة قسمها لنصفين
بحكم أنها صغيرة تكاد تكون مربعة الشكل ثم كتب معادلة
عليها وعاد مكانه وقال " من تبرهن لي هذه بالخطوة "
لم أرفع يدي حسب القوانين الصارمة التي تضعانها
المتجبرتان هنا , إما نحن نجيب أو لا أحد ... رفعت إحداهما
يدها فأشار لها بالقلم فوقفت وأخذته منه وبدأت بحل المعادلة
حتى ملئت نصف السبورة ثم وقفت عند نقطة ولم تتقدم
بقيَتْ تنظر لها بحيرة وتعود وتراجع خطواتها حتى
قال " أجلسي "
جلست في مقعدها فنظر باتجاهنا وقال
" ما رأيكم في هذا هل توجد خطوة خاطئة أوقفت الاستنتاج "
بقينا جميعنا نحدق فيه بصمت لأنه إن قالت إحدانا أنها
أخطأت تعلم ما مصيرها وستكون تهمة بالطبع تُطرد
فيها من المدرسة , نظرت تلك البغيضة لي مباشرة
وكأنها تحذرني أنا تحديداً , جال بنظره بيننا وتبث نظره
عليها وهي تنظر لي ثم نظر للطاولة أمامه وطرق عليها
بالقلم عدة طرقات ثم قال دون أن يرفع نظره
" سما "
ارتجف كل جسدي من وقع اسمي على أذناي خارجا
من شفتيه , لم أتصور أن يكون حفظه من الأمس ولما
أنا تحديدا من اختارها هل فهم ما عنته نظرات
وجدان لي أم ماذا !!
نظر جهة السبورة دون أن ينظر لي وتابع
" هل هناك خطأ في هذه الخطوات "
تنفست بقوة ثم قلت بصوت منخفض " نعم "
نظر لي ليزيد ارتجافي وخوفي وقال " أين "
قلت بارتباك " فـ في المعادلة التكاملية الثالثة "
أشار لي بالقلم أن آخذه منه ونظره على السبورة
فوقفت ببطء وتوجهت نحوه أمسكت منه القلم فنظر
لي فارتجفت يدي ووقع مني على الأرض فالتقطته
منها بسرعة وتوجهت ناحيتها وقلت ووجهي ملتصق
بها " هل أمسح وأعيد أم أوضح الخطأ أولا "
وصلني صوته قائلا " حددي الخطأ بدائرة حوله لتعرفه
زميلاتك وأعيدي استنتاجها في النصف الآخر من اللوحة "
وضعت علامة دائرية على الخطأ في المعادلة دون تعليق
منه , لما يبدوا واثقا أني لن أخطئ أيضا ! كل ما أخشاه أن
يسخر مني نهاية الأمر لأن استنتاجي سيكون خاطئ مثلها
ومنذ البداية , تقدمت بخطوتين نحو الجزء الآخر من اللوح
وبدأت بفك رموز المبرهنة حتى أنهيتها دون توقف أو التفاتة
ناحيته أو تعليق منه , تنفست بعدها براحة حتى كدت احتضن
السبورة حين وصلت في النهاية للاستنتاج النهائي وهي
معادلة مطابقة للمعادلة الأصلية التي كتبها
ابتعدت حينها عن اللوح ونظري لازال أرضا فوقف
واقترب مني فابتعدت خطوتين وأنا أرى خطواته تقترب
وبقيت أتراجع حتى وصلت نهاية لوح السبورة ثم وقف
رفعت نظري إليه فوجدت يده ممدودة لي فنظرت لها
باستغراب ثم لعينيه فأشار بإصبع يده للقلم في يدي
آه يالي من حمقاء من ارتباكي نسيت أنه يريد القلم مني
ونسيت أنه في يدي , مددته له وما أن مد يده وأمسكه
حتى هربت بيدي تاركه إياه فنظر ليدي باستغراب ثم
لعيناي فسافرت بنظري للأرض وتراجعت خطوة أخرى
لا إراديا , التفت حينها للسبورة وقال " ممتاز ... أجلسي "
توجهت لمقعدي بخطوات شبه راكضة من سرعتي
لأصل إليه وشرح هوا لنا المبرهنة وسط صمت الجميع
وهوا يحدد بالقلم على استنتاجي ويقول بين كل حين
والآخر ( كما كتبت زميلتكم هنا )
وبعد أن انتهى منها عاد لكرسيه وقال ونظره
على الأوراق أمامه " لتقف واحدة من الصف
الأمامي وتمسح اللوح "
كن الجالسات في الأمام طبعا ثلاثي الشر وجدان وشريكتها
ومعاونتهم وهن طبعا يترفعن عن مسح اللوح والمهمة مكلفة
وحدي بها من وجدان فهي تبغضني ولا تريد من يتفوق عليها
رغم أن نصف من الفصل مستواهم أفضل منها بكثير
بقوا جالسات مكانهم ينظرن لبعض باستغراب فوقفت من
فوري بنظرة من إحداهن لأني لا أريد خسارة دراستي
يكفيني ما خسرت , اقتربت من اللوح فرفع رأسه
ونظر جهتي وقال " قلت من الأمام ما أخرجك أنتي "
نظرت له بصمت فقال بحدة " لما غادرتِ مقعدك "
قالت بصوت مخنوق " لأن ... لأنـيـ ... "
قال بضيق " لأنك ماذا تكلمي "
نظرت للأرض وقلت " لأني أنا من تمسح اللوح "
قلتها وليحدث ما يحدث وجدان أرحم لي منه ومن حدته
نظر لي مطولا باستغراب وصمت ثم قال
" عودي لمقعدك "
عدت من فوري لمقعدي وسمعت صوته يقول
" أنتي امسحي اللوح "
التفتت للخلف فكانت وجدان واقفة ومن صدمتي كدت
ابتسم أو أضحك عليها كما تفعل بي , مؤكد لم يفعل
ذلك قصدا ولا يعلم ما تفعله لكنه انتقم لي منها ولو
لمرة وبالخطأ , مرت باقي الحصة شرح لنا فيها بعض
المفاهيم الهندسية بإيجاز وتبسيط وطلب منا نقلها معه
وفي كل مرة كانت وجدان طبعا من تمسح اللوح , لا
أحب الأساتذة الذين يكلفون الطلبة بمسح اللوح وفتح
الباب لأنها أعمالهم ويترفعون عن القيام بها لكني
اليوم لم أشعر إلا ببهجة الانتصار
ضرب جرس نهاية الحصة فتوجه للطاولة يجمع
أوراقه في مذكرته وهوا يقول " في كل حصة سيكون
هناك سؤال في بدايتها كاليوم فلا أريد استهتار , الواجب
عليا الشرح وعليكم الفهم والإجابة "
ثم نظر لنا وقال " هذا وقت الفسحة أليس كذلك "
أجابت سلمى " نعم "
وضع مذكرته على الطاولة من جديد وقال
" يمكنكم المغادرة باستثناء .... سما "
تيبست حينها في مكاني وأنا أهم بالوقوف لأغادر
مع البقية , ما يريد مني بعد ؟! وكيف أكون أنا وهوا
وحدنا في الفصل ! وزاد الأمر سوءً جملته التي قالها
لآخر طالبة تخرج " أغلقي الباب خلفك "
************************************************
******************************************
" بيسان هيا لا تتعبيني معك ستأتي الحافلة قريبا "
قالت وهي تلف خصلات من أحدى جديلتيها بأناملها
الصغيرة في محاولة للفها " ماما لما لا تصبح ملفوفة
مثل الكونتيسات لقد تعبت يداي "
اقتربت منها أبعدت يديها من جديلتها وقبلت خدها وقلت
ونظري على عينيها في المرآة " لأن شعرك حريري
وذاك الزمان كانوا يضعون شعرا اصطناعيا فيستحيل
للشعر الطبيعي أن يكون بتلك اللفافات المتناسقة "
التفتت ونظرت لي وقالت بعبوس
" أريد واحدة مثلهم إذا "
ابتسمت وقلت وأنا أرفعها من الكرسي
وأوقفها " طلبك لا وجود له في الأسواق
هيا بسرعة انزلي لتتناولي فطورك "
خرجت من الغرفة متضايقة تنفض فستانها الطويل
كم تتعبني هذه الصغيرة بحالميتها حتى أنها سببت
لي مشكلة كبيرة مع مديرة مدرستها ليسمحوا لها بارتداء
فساتينها هذه في المدرسة تحت الزي المدرسي ولم
أقنعهم إلا بصعوبة , نزلت للأسفل بعدما مشطت لأمجد
شعره ككل يوم وجهزت ترف لأخذها في طريقي لروضة
الأطفال لأن حافلتهم تأتي متأخرة بعد ذهابي , وصلت
طاولة الطعام ورفعت ترف لأجلسها على الكرسي
رغم أنها في الخامسة طولها لا يزداد أبدا
جلست على صوت أمجد وهوا يقول
" ماما انظري كيف تأكل المربى "
نظرت لها وقلت بضيق " ترف كم مرة سنشرح
أنها مربى للأكل وليست ملمع شفاه "
قالت وهي تدير إصبعها الصغير المليء بالمربى
على شفتيها الممدودة " سآكله ماما ألحسه من شفتاي "
وقفت وتوجهت نحوها أبعدت يدها ومسحت شفاهها
بالمنديل وقلت بحدة " ترف لا تطريني لضربك
على يدك هذه المرة , اليوم لن تأخذي حصتك
من الحلوى عقاب لك "
رفعت نظرها لي وقالت بعبوس " لا الحلوى لا "
قلت وأنا أعود مكاني " انتهى الموضوع
وأعيديها مرة أخرى وسأضربك "
نظرت للجالسة بصمت تقطع حتى الخبز بالشوكة
والسكين ثم قلت بابتسامة " تعلمي من الكونتيسة
بيسان كيف تأكل بلباقة "
نظرت لي بابتسامة واسعة وقالت " نعم لا ألمس الطعام
بيدي وأمسح فمي بالمنديل بعد الانتهاء مثلهم تماما "
ابتسمت وقلت " جيد ولكن الخبز لا بأس
تمسكيه بيدك لقد عذبته "
هزت رأسها بالرفض دون كلام على صوت منبه
حافلة مدرستهم فوقفت قائلة " هيا بسرعة لتخرجوا
للحافلة لقد وضعت لكم الطعام في حقائبكم
في حال لم تعجبكم وجبة المدرسة "
ثم قلت وأنا أعدل لهما ملابسهما " أمجد اهتم
بشقيقتك ولا تغب عن ناظريك في الفسحة حسننا "
حضنني وقبل خدي وقال " أجل ماما حفظتها "
ابتسمت له على شعوري بشفاه بيسان وهي تقبلني
برفق وتقول " وداعا إمبراطورة "
ابتسمت وعدلت لها جدائلها الذهبية وأنا أقول
" وداعا يا ملكة الإمبراطورية اعتني بنفسك حبيبتي "
خرجا من المنزل وقد أوصلتهما حتى صعدا الحافلة ثم
عدت للداخل ورفعت الصغيرة المشاغبة من الكرسي
لأنها لن تغادر الطاولة قبل أن تعبث بكل الأطباق
أخذتها معي للأعلى لأغير لها ثيابها من جديد وخرجت
أنا وهي من المنزل على صوتها الطفولي وهي تتحدث
عن كل ما نمر به في الطريق ونراه حتى أوصلتها
لداخل الروضة وغادرت لعملي
*
*
" نعم سيدي كل شيء جاهز "
نظرت للمكان نظرة تفحصيه ثم قلت " لا تسمحوا لأحد
بالاقتراب وخذوا صور للموقع من جميع جهاته , على هذه
المهزلة أن تنتهي ونجد المسئول عن كل هذا "
" سيد جابر مكالمة من مدير قسم الشرطة "
أخذت منه الهاتف دون أن أنظر اتجاهه وأجبت
من فوري " نعم يا أسعد "
قال بهدوء " هل وصل الفريق للموقع "
قلت بجدية " منذ نصف ساعة ولحقت بهم وأنا
معهم هناك هل من جديد لديك "
قال من فوره " الشرطيان اللذان كانا يراقبان المكان
حددوا خمس أشخاص دخلوا هناك ونحن في طريقنا
للقبض عليهم وسنحيلهم لك للتحقيق "
قلت بضيق " شريكهم السابق لم ينطق حتى الآن وهؤلاء
فلن يكونوا أيسر منه , سأعرف بطريقتي من سيكون منهم
ولن يرحمه مني هذه المرة إلا الموت .... وداعا "
أعطيت جهاز ألا سلكي للواقف بجواري وأخرجت هاتفي
واتصلت من فوري بنزار , هذه المرة سيحدد لي من منهم
وسأنهي هذه المسرحية الدموية , اتصلت به مرارا ولكنه لم
يجيب , آه كيف نسيت اليوم بدأ دوامه في المدرسة
أرسلت له رسالة لنتقابل وغادرت المكان قائلا
" لا تغادروا المبنى حتى أعود إن وجدتم شيئا اتصلوا بي "
خرجت من هناك متوجها للمصنع الذي تعمل به تلك الفتاة
عليا أن انهي هذا الأمر سريعا وأريح دماغي من إصرار
والدتي , أتمنى أن لا تنفخ لي تلك الفتاة رأسي بنحيبها
وبكائها وتطرني لاستخدام أسلوب لن يعجبنني ولن يعجبها
وصلت المبنى ودخلت بخطوات ثابتة وتوجهت من فوري
لمكتب مديرهم الذي استقبلني بترحاب عكس الأمس وهمس
لي مجددا " سيدي إن كان للفتاة سوابق أو جرائم
أخبرني لأصرفها من العمل "
ضربت بيدي على الطاولة وقلت بحزم " أخبرتك بالأمس
أن ملفها نظيف فلا تقطع رزقها لأقطع لسانك "
ارتبك بشدة ثم قال " آسف ويمكنك مقابلتها هي تعمل
في قسم التطريز , القسم الذي زرته بالأمس "
وضعت ساق على الأخرى وقلت
" أطلبها للمكتب هنا واتركنا وحدنا "
بلع ريقه ثم وقف وخرج دون تعليق
حركتها اليوم , والدته التي كسر ظهره قلة حيلته لدفع
تكاليف عملية ستسترجع بها ثلثي عافيتها وتسير على
قدميها بثبات ومن جديد , مبلغ عجز عن جمع أكثر من
ربعه حتى الآن رغم كل هذه السنين , ناصف الرابعة
والثلاثين من العمر وأضاع فرصة سفره لإكمال دراسته
لأنه وحيد والدته ولأن من اعتمد عليها ذاك الحين لترفعها
معه تركته من أجل آخر في أوج احتياجه لها
* * *
قربتْ أناملها من وجهي وقالت بحنان
" نزار بني غادر ستتأخر عن حصتك في أول يوم لك "
تنهدت وأمسكت يدها قبلتها وقلت
" للجحيم كل الحصص لن أذهب وأنتي لستِ
بخير , كم مرة نبهتك عن مغادرة السرير "
اتكأت على الوسائد خلفها وقالت
" أنا بخير لا تقلق علي اذهب هيا لا تضع صديقك
في موقف محرج مع عمه الذي وظفك في مدرسته "
وقفت لأني أعلم عنادها إن تعلق الأمر بتركي
لشيء من أجل البقاء بجانبها , قبلت رأسها وقلت
" اتصلي بي إن تعبتِ أكثر , اتفقت و دعاء بأن
تتكفل منذ اليوم برعايتك حتى أعود "
قالت بعتب " ولما تفعل ذلك هي ممرضة وتلتزم
بعملها كيف ستغادر المستشفى وتأتي "
وقفت عند الباب وقلت " هي من عرضت المساعدة
وأصرت أيضا , إن لم يعجبها الوضع ستعتذر وسنتفهمها
اقترح عليا عوني أن تأتي زوجته لك وقت ذهابي ولكنها
أم لأبناء سيتعبونك ويتعبونها "
تنهدت وقالت بأسى " سبحان الله كيف يموت الشباب
الأصحاء ويطول عمر المعلولين المتْعَبين "
التفتت لها وقلت بضيق
" أمي لما تقولين ذلك , من لي ترحلي وتتركيني "
قالت بلامبالاة " في رعاية الله يا نزار أعلم أنك
تحبني لأني أمك لكني كرهت كوني عبئاً عليك "
تنهدت وخرجت لأني أعلم أنه لا جدوى من مناقشتي لها في
هذا الأمر , ركبت سيارتي وغادرت متجها لعملي الجديد لأوفر
قدر أكبر من المال , أعلم أني لا أستطيع تقديم شيء لوالدتي
كوني رجل وهي امرأة ولن تساعدها إلا واحدة مثلها ولكن كيف
أتزوج وأضيف حملا جديدا سيحتاج للمال أكثر , أبناء
وعائلة وزوجة لن تتوقف عن الطلبات , ثم نفسي عافت
الارتباط منذ سنين , وإن كنت سأفعلها من أجل والدتي
فقط فلن أحلم بإجراء عملية لها ما حييت
وصلت المدرسة مثقل بهمومي وبالي مع والدتي المتعبة
اليوم , عبرت الممرات حتى وصلت للفصل المطلوب
نظرت للافتة ( أول علمي أ )
رائع نهاية لم أحلم بها مدرس لفتيات الثانوية بشهادة هندسة
بامتياز وتوسط من صديق لي عند عمه صاحب المدرسة
الخاصة لأدرس فيها مع وضيفة أخرى مضحكة أكثر من
كونها مقنعة أو مربحة , تنهدت بهدوء وطرقت الباب
طرقتين ودخلت , ألقيت التحية وجلت بنظري بين
الطالبات وأنا أدخل لتقع عيناي من فورهما على الفتاة
الجالسة بثاني مقعد جهة النوافذ , الطالبة التي صادفتها
بالأمس في مكتب المدير , كان الفصل مكون من ثلاث
صفوف للمقاعد الفردية وكل صف به ثلاث مقاعد أي
تسع طالبات , أفضل ما في المدارس الخاصة أن عدد
طلبتها قليل , توجهت من فوري للطاولة المخصصة
لي وضعت مذكرة التحضير عليها وسحبت
الكرسي وجلست
*
*
كانت الطالبات اليوم في حوار سخيف لم ينتهي أبدا
عن كيف سيكون مدرسنا الجديد ... شاب عجوز وسيم
بارد عصبي مغازل , ولم يتوقف حديثهم الكريه إلا
بطرقتين خفيفتين على الباب ودخوله لأفتح عيناي على
اتساعهما من الصدمة , لا يا إلهي ليس ذاك الشاب
الذي كان في مكتب المدير وسخر من قدومي لمكتبه
وأضحكه مني وشهد على كل ذاك التوبيخ والمسرحية
المؤسفة أي انطباع أخذه عني حينها مؤكد طالبة مستهترة
وتسرح في الحصص , نظر لنا نظرة شاملة وسط تمتمات
زميلاتي المبهورات به بطوله وأكتافه العريض وشعره
الأسود الناعم المسرح بإتقان , شارب ولحية خفيفة وعينان
رماديتان واسعتان , وقع نظره علي للحظات فسافرت
بنظري للأرض ألعن الحظ الذي لم يبتسم لي يوما
مؤكد عرفني فالأمر لم يكن إلا بالأمس , أخفضت
رأسي أكثر ولم أسمع سوى صرير الكرسي وهوا يحركه
ليجلس عليه ثم وصلنا صوته العميق الذي غزى سكون
الفصل قائلا بجدية " مؤكد تعلمون أني من سيدرسكم مادة
الهندسة التحليلية .... اسمي نزار وسألتزم معكم باقي هذا
العام حتى نهايته لذلك سنتفاهم على أمور تكون ركيزة كي
لا تعرفوا وجهي الحقيقي لأني سأتعامل معكم بغيره "
كنت أسمع صوته فقط وعيناي على الطاولة تحتي ولم
أتجرأ أن أرفعهما , لقد عشت كل حياتي والدي يسجننا
في قوقعة يخاف علينا من كل شيء بحكم أننا عشنا في
الهند فلم أعرف غير الخدم أراهم من بعيد وأصدقاء
والدي الذين لم أتحدث أو أحتك بأحدهم لأجد نفسي في
دوامة هنا وأول رجل أكتشفه في حياتي كان زوج الخالة
عفراء الذي أسكنني الرعب من ماذا لا أعلم ولا أفهم
سوى تحذيرها لي أنه خطر وعليا أن لا أتركه يقترب
مني خصوصا في الليل وهوا يهدي ويغني ولا أعلم لما
لم يُعلمني والداي كيف أعيش في عالم الرجال أو من هم
وما وضيفتهم في الحياة وأي علاقة يجب أن تربطني بهم
عشت كل حياتي وكأني لازلت في رحم والدتي ولم
أخرج للحياة بعد , كل ما بث أعلمه أن عليا أن لا أثق
بهم وأن أهرب من كل من يريد معرفة سري ويقترب
مني أكثر من متر واحد , هذا فقط ما شرحته لي تلك
السيدة عفراء التي عشت معها أشهر قليلة قبل أن تطلب
مني الهرب من منزلها لأي مكان لا يمد له بصلة وأن لا
أعود إليه أبدا , أعادني من شرودي صوته قائلا
" لذلك عليكم أن تعلموا جيدا أن أبغض ما لدي الهمس
والوشوشة كما حدث عند دخولي , كلام دون إذني لا أريد
حتى كلمة عفوا يا أستاذ ستعاقبون عليها , تتركونني
حتى أنتهي وألتفت إليكم , والأهم سرحان في
الحصة يعني نزار لم تعرفوه بعد "
رفعت نظري له من فوري ووجدته ينظر لي ليؤكد
لي أني المعنية بذلك وأني سألقى منه مالا أحب
وقف بعدها وأمسك القلم وتوجه للسبورة قسمها لنصفين
بحكم أنها صغيرة تكاد تكون مربعة الشكل ثم كتب معادلة
عليها وعاد مكانه وقال " من تبرهن لي هذه بالخطوة "
لم أرفع يدي حسب القوانين الصارمة التي تضعانها
المتجبرتان هنا , إما نحن نجيب أو لا أحد ... رفعت إحداهما
يدها فأشار لها بالقلم فوقفت وأخذته منه وبدأت بحل المعادلة
حتى ملئت نصف السبورة ثم وقفت عند نقطة ولم تتقدم
بقيَتْ تنظر لها بحيرة وتعود وتراجع خطواتها حتى
قال " أجلسي "
جلست في مقعدها فنظر باتجاهنا وقال
" ما رأيكم في هذا هل توجد خطوة خاطئة أوقفت الاستنتاج "
بقينا جميعنا نحدق فيه بصمت لأنه إن قالت إحدانا أنها
أخطأت تعلم ما مصيرها وستكون تهمة بالطبع تُطرد
فيها من المدرسة , نظرت تلك البغيضة لي مباشرة
وكأنها تحذرني أنا تحديداً , جال بنظره بيننا وتبث نظره
عليها وهي تنظر لي ثم نظر للطاولة أمامه وطرق عليها
بالقلم عدة طرقات ثم قال دون أن يرفع نظره
" سما "
ارتجف كل جسدي من وقع اسمي على أذناي خارجا
من شفتيه , لم أتصور أن يكون حفظه من الأمس ولما
أنا تحديدا من اختارها هل فهم ما عنته نظرات
وجدان لي أم ماذا !!
نظر جهة السبورة دون أن ينظر لي وتابع
" هل هناك خطأ في هذه الخطوات "
تنفست بقوة ثم قلت بصوت منخفض " نعم "
نظر لي ليزيد ارتجافي وخوفي وقال " أين "
قلت بارتباك " فـ في المعادلة التكاملية الثالثة "
أشار لي بالقلم أن آخذه منه ونظره على السبورة
فوقفت ببطء وتوجهت نحوه أمسكت منه القلم فنظر
لي فارتجفت يدي ووقع مني على الأرض فالتقطته
منها بسرعة وتوجهت ناحيتها وقلت ووجهي ملتصق
بها " هل أمسح وأعيد أم أوضح الخطأ أولا "
وصلني صوته قائلا " حددي الخطأ بدائرة حوله لتعرفه
زميلاتك وأعيدي استنتاجها في النصف الآخر من اللوحة "
وضعت علامة دائرية على الخطأ في المعادلة دون تعليق
منه , لما يبدوا واثقا أني لن أخطئ أيضا ! كل ما أخشاه أن
يسخر مني نهاية الأمر لأن استنتاجي سيكون خاطئ مثلها
ومنذ البداية , تقدمت بخطوتين نحو الجزء الآخر من اللوح
وبدأت بفك رموز المبرهنة حتى أنهيتها دون توقف أو التفاتة
ناحيته أو تعليق منه , تنفست بعدها براحة حتى كدت احتضن
السبورة حين وصلت في النهاية للاستنتاج النهائي وهي
معادلة مطابقة للمعادلة الأصلية التي كتبها
ابتعدت حينها عن اللوح ونظري لازال أرضا فوقف
واقترب مني فابتعدت خطوتين وأنا أرى خطواته تقترب
وبقيت أتراجع حتى وصلت نهاية لوح السبورة ثم وقف
رفعت نظري إليه فوجدت يده ممدودة لي فنظرت لها
باستغراب ثم لعينيه فأشار بإصبع يده للقلم في يدي
آه يالي من حمقاء من ارتباكي نسيت أنه يريد القلم مني
ونسيت أنه في يدي , مددته له وما أن مد يده وأمسكه
حتى هربت بيدي تاركه إياه فنظر ليدي باستغراب ثم
لعيناي فسافرت بنظري للأرض وتراجعت خطوة أخرى
لا إراديا , التفت حينها للسبورة وقال " ممتاز ... أجلسي "
توجهت لمقعدي بخطوات شبه راكضة من سرعتي
لأصل إليه وشرح هوا لنا المبرهنة وسط صمت الجميع
وهوا يحدد بالقلم على استنتاجي ويقول بين كل حين
والآخر ( كما كتبت زميلتكم هنا )
وبعد أن انتهى منها عاد لكرسيه وقال ونظره
على الأوراق أمامه " لتقف واحدة من الصف
الأمامي وتمسح اللوح "
كن الجالسات في الأمام طبعا ثلاثي الشر وجدان وشريكتها
ومعاونتهم وهن طبعا يترفعن عن مسح اللوح والمهمة مكلفة
وحدي بها من وجدان فهي تبغضني ولا تريد من يتفوق عليها
رغم أن نصف من الفصل مستواهم أفضل منها بكثير
بقوا جالسات مكانهم ينظرن لبعض باستغراب فوقفت من
فوري بنظرة من إحداهن لأني لا أريد خسارة دراستي
يكفيني ما خسرت , اقتربت من اللوح فرفع رأسه
ونظر جهتي وقال " قلت من الأمام ما أخرجك أنتي "
نظرت له بصمت فقال بحدة " لما غادرتِ مقعدك "
قالت بصوت مخنوق " لأن ... لأنـيـ ... "
قال بضيق " لأنك ماذا تكلمي "
نظرت للأرض وقلت " لأني أنا من تمسح اللوح "
قلتها وليحدث ما يحدث وجدان أرحم لي منه ومن حدته
نظر لي مطولا باستغراب وصمت ثم قال
" عودي لمقعدك "
عدت من فوري لمقعدي وسمعت صوته يقول
" أنتي امسحي اللوح "
التفتت للخلف فكانت وجدان واقفة ومن صدمتي كدت
ابتسم أو أضحك عليها كما تفعل بي , مؤكد لم يفعل
ذلك قصدا ولا يعلم ما تفعله لكنه انتقم لي منها ولو
لمرة وبالخطأ , مرت باقي الحصة شرح لنا فيها بعض
المفاهيم الهندسية بإيجاز وتبسيط وطلب منا نقلها معه
وفي كل مرة كانت وجدان طبعا من تمسح اللوح , لا
أحب الأساتذة الذين يكلفون الطلبة بمسح اللوح وفتح
الباب لأنها أعمالهم ويترفعون عن القيام بها لكني
اليوم لم أشعر إلا ببهجة الانتصار
ضرب جرس نهاية الحصة فتوجه للطاولة يجمع
أوراقه في مذكرته وهوا يقول " في كل حصة سيكون
هناك سؤال في بدايتها كاليوم فلا أريد استهتار , الواجب
عليا الشرح وعليكم الفهم والإجابة "
ثم نظر لنا وقال " هذا وقت الفسحة أليس كذلك "
أجابت سلمى " نعم "
وضع مذكرته على الطاولة من جديد وقال
" يمكنكم المغادرة باستثناء .... سما "
تيبست حينها في مكاني وأنا أهم بالوقوف لأغادر
مع البقية , ما يريد مني بعد ؟! وكيف أكون أنا وهوا
وحدنا في الفصل ! وزاد الأمر سوءً جملته التي قالها
لآخر طالبة تخرج " أغلقي الباب خلفك "
************************************************
******************************************
" بيسان هيا لا تتعبيني معك ستأتي الحافلة قريبا "
قالت وهي تلف خصلات من أحدى جديلتيها بأناملها
الصغيرة في محاولة للفها " ماما لما لا تصبح ملفوفة
مثل الكونتيسات لقد تعبت يداي "
اقتربت منها أبعدت يديها من جديلتها وقبلت خدها وقلت
ونظري على عينيها في المرآة " لأن شعرك حريري
وذاك الزمان كانوا يضعون شعرا اصطناعيا فيستحيل
للشعر الطبيعي أن يكون بتلك اللفافات المتناسقة "
التفتت ونظرت لي وقالت بعبوس
" أريد واحدة مثلهم إذا "
ابتسمت وقلت وأنا أرفعها من الكرسي
وأوقفها " طلبك لا وجود له في الأسواق
هيا بسرعة انزلي لتتناولي فطورك "
خرجت من الغرفة متضايقة تنفض فستانها الطويل
كم تتعبني هذه الصغيرة بحالميتها حتى أنها سببت
لي مشكلة كبيرة مع مديرة مدرستها ليسمحوا لها بارتداء
فساتينها هذه في المدرسة تحت الزي المدرسي ولم
أقنعهم إلا بصعوبة , نزلت للأسفل بعدما مشطت لأمجد
شعره ككل يوم وجهزت ترف لأخذها في طريقي لروضة
الأطفال لأن حافلتهم تأتي متأخرة بعد ذهابي , وصلت
طاولة الطعام ورفعت ترف لأجلسها على الكرسي
رغم أنها في الخامسة طولها لا يزداد أبدا
جلست على صوت أمجد وهوا يقول
" ماما انظري كيف تأكل المربى "
نظرت لها وقلت بضيق " ترف كم مرة سنشرح
أنها مربى للأكل وليست ملمع شفاه "
قالت وهي تدير إصبعها الصغير المليء بالمربى
على شفتيها الممدودة " سآكله ماما ألحسه من شفتاي "
وقفت وتوجهت نحوها أبعدت يدها ومسحت شفاهها
بالمنديل وقلت بحدة " ترف لا تطريني لضربك
على يدك هذه المرة , اليوم لن تأخذي حصتك
من الحلوى عقاب لك "
رفعت نظرها لي وقالت بعبوس " لا الحلوى لا "
قلت وأنا أعود مكاني " انتهى الموضوع
وأعيديها مرة أخرى وسأضربك "
نظرت للجالسة بصمت تقطع حتى الخبز بالشوكة
والسكين ثم قلت بابتسامة " تعلمي من الكونتيسة
بيسان كيف تأكل بلباقة "
نظرت لي بابتسامة واسعة وقالت " نعم لا ألمس الطعام
بيدي وأمسح فمي بالمنديل بعد الانتهاء مثلهم تماما "
ابتسمت وقلت " جيد ولكن الخبز لا بأس
تمسكيه بيدك لقد عذبته "
هزت رأسها بالرفض دون كلام على صوت منبه
حافلة مدرستهم فوقفت قائلة " هيا بسرعة لتخرجوا
للحافلة لقد وضعت لكم الطعام في حقائبكم
في حال لم تعجبكم وجبة المدرسة "
ثم قلت وأنا أعدل لهما ملابسهما " أمجد اهتم
بشقيقتك ولا تغب عن ناظريك في الفسحة حسننا "
حضنني وقبل خدي وقال " أجل ماما حفظتها "
ابتسمت له على شعوري بشفاه بيسان وهي تقبلني
برفق وتقول " وداعا إمبراطورة "
ابتسمت وعدلت لها جدائلها الذهبية وأنا أقول
" وداعا يا ملكة الإمبراطورية اعتني بنفسك حبيبتي "
خرجا من المنزل وقد أوصلتهما حتى صعدا الحافلة ثم
عدت للداخل ورفعت الصغيرة المشاغبة من الكرسي
لأنها لن تغادر الطاولة قبل أن تعبث بكل الأطباق
أخذتها معي للأعلى لأغير لها ثيابها من جديد وخرجت
أنا وهي من المنزل على صوتها الطفولي وهي تتحدث
عن كل ما نمر به في الطريق ونراه حتى أوصلتها
لداخل الروضة وغادرت لعملي
*
*
" نعم سيدي كل شيء جاهز "
نظرت للمكان نظرة تفحصيه ثم قلت " لا تسمحوا لأحد
بالاقتراب وخذوا صور للموقع من جميع جهاته , على هذه
المهزلة أن تنتهي ونجد المسئول عن كل هذا "
" سيد جابر مكالمة من مدير قسم الشرطة "
أخذت منه الهاتف دون أن أنظر اتجاهه وأجبت
من فوري " نعم يا أسعد "
قال بهدوء " هل وصل الفريق للموقع "
قلت بجدية " منذ نصف ساعة ولحقت بهم وأنا
معهم هناك هل من جديد لديك "
قال من فوره " الشرطيان اللذان كانا يراقبان المكان
حددوا خمس أشخاص دخلوا هناك ونحن في طريقنا
للقبض عليهم وسنحيلهم لك للتحقيق "
قلت بضيق " شريكهم السابق لم ينطق حتى الآن وهؤلاء
فلن يكونوا أيسر منه , سأعرف بطريقتي من سيكون منهم
ولن يرحمه مني هذه المرة إلا الموت .... وداعا "
أعطيت جهاز ألا سلكي للواقف بجواري وأخرجت هاتفي
واتصلت من فوري بنزار , هذه المرة سيحدد لي من منهم
وسأنهي هذه المسرحية الدموية , اتصلت به مرارا ولكنه لم
يجيب , آه كيف نسيت اليوم بدأ دوامه في المدرسة
أرسلت له رسالة لنتقابل وغادرت المكان قائلا
" لا تغادروا المبنى حتى أعود إن وجدتم شيئا اتصلوا بي "
خرجت من هناك متوجها للمصنع الذي تعمل به تلك الفتاة
عليا أن انهي هذا الأمر سريعا وأريح دماغي من إصرار
والدتي , أتمنى أن لا تنفخ لي تلك الفتاة رأسي بنحيبها
وبكائها وتطرني لاستخدام أسلوب لن يعجبنني ولن يعجبها
وصلت المبنى ودخلت بخطوات ثابتة وتوجهت من فوري
لمكتب مديرهم الذي استقبلني بترحاب عكس الأمس وهمس
لي مجددا " سيدي إن كان للفتاة سوابق أو جرائم
أخبرني لأصرفها من العمل "
ضربت بيدي على الطاولة وقلت بحزم " أخبرتك بالأمس
أن ملفها نظيف فلا تقطع رزقها لأقطع لسانك "
ارتبك بشدة ثم قال " آسف ويمكنك مقابلتها هي تعمل
في قسم التطريز , القسم الذي زرته بالأمس "
وضعت ساق على الأخرى وقلت
" أطلبها للمكتب هنا واتركنا وحدنا "
بلع ريقه ثم وقف وخرج دون تعليق