الفصل العاشر

وبينما كل هذا الكلام يدور بين الأم وابنها كانت " نعمة " تسمع كل حرف يقال وتعيه جيدا .. فقد كانت تقف أمام باب غرفة الحماة وتلصق أذنها به متسمعة لكل ما يدور بالداخل !
كانت " نعمة " قد تغيرت كثيرا بعد مولد طفلتها الرابعة !
فارقها الإحساس بالأمن والطمأنينة نهائيا .. وجدت نفسها كمن يضعونها فوق سطح ساخن فإذا صرخت لم يعجب أحدا ، وإن سكتت لم يعجب أيضا .. إنها الأم الموصومة رسميا بأنها ( أم البنات ) ويقال في حضورها وبلا خجل أن عنقودها ليس به سوي البنات .. وزوجها صار يُنظر إليه كبطل وضحية لبطنها التي لا تحمل ولا تضع إلا البنات .. كانت فكرة الزواج التي طرحت لأول مرة عقب ولادة البنت الثالثة " أسماء" ووئدت مؤقتا بعد تصالحها المشهود مع زوجها ، قد عادت تطفو على السطح من جديد .. بتؤدة هذه المرة ودونما ضجيج .. لم تعد الحماة تواجهها مهددة بتزويج " عبد الرحيم " مثلما فعلت سابقا .. تعلمت الحماة الأريبة الدرس ووعته جيدا !
إن أي خصام وتطاحن علني بينها وبين " نعمة " يهدد قلب ولدها العاشق الرخو الطري بالميل ناحية زوجته التي أخذها على حب ، ووقوفه في صفها لتخرج هي ، الحماة ، خاسرة وتجد باب غرفة ابنها قد أغلق في وجهها ، ليرزق ابنها ، بعد بضع شهور ، ببنت خامسة وسادسة وهكذا .. إذن فمن الحكمة أن تفعل كل شيء في السر وتجعل الأمر محصور بينها وبين ولدها .. تبحث له عن عروس سرا ، وتجس نبض أهلها في الخفاء ، وحين يتم المراد ويصبح كل شيء رسميا وعلى عينك يا تاجر يخبرون أم البنات بكل شيء .. حينها لا يستطع الولد التراجع ولا النكوص ولا يكون أمام زوجته إلا أن تضرب رأسها في أتخن حائط أمامها أو تشرب من البحر !
لكن أحاسيس المرأة القططية التي تشتم الخطر وتستشعره وهو آت من بعيد جعلت " نعمة " تحس بكل ما يدور حولها .. شعرت أنها أصبحت عدوة وعذول في البيت وأن الجميع يناصبونها العداء دون سبب ويتمنون أن يؤذوها ويجرحوها قدر ما يستطيعون .. وجدت المرأة نفسها تتغير تغيرا غريبا في تلك الأيام !
كانت حتى اللحظة راضية خاضعة لتقاليد مجتمعها وفروضه الثقيلة وتعتبر نفسها أحسن حظا من غيرها .. لكن حين وجدت نفسها مهددة بضياع زوجها وتحطيم أسرتها ، وتسويد عيشها بضرة تأتي لتكايدها وتحيل حياتها وحياة بناتها الصغيرات جحيما .. حينما وجدت نفسها يفرض عليها الشعور بالذنب ، والخجل من نفسها لمجرد أن رحمها لا تخرج منه سوي بنات في بنات ، حينها بدأت تتغير .. أنتابها إحساس دائم بالذعر والخوف والقلق .. أنقلب بدوره إلي ألم عميق يغزو لحمها ولا تعرف له سببا ولم يستطع طبيبها العثور على سبب له .. ثم أنتهي الحال بها إلي أن أنقلب خوفها وألمها إلي سخط وبغض وحقد وكراهية !
سخط على من أوردوها هذا المورد الشؤم وحكموا عليها أن تعيش أسيرة لما ينتجه رحمها ..
ألم تكن طالبة مجدة في المدرسة .. ألم تكن ذكية ومجتهدة .. أليس من الممكن لو أنهم تركوها تكمل تعليمها أن تكون الآن طبيبة ، تعرف الكرات البيضاء من الكرات السوداء وتعرف حاصل جمعهما وطرحهما .. أو مهندسة أو مدرسة أو موظفة ؟!
هل كانت ستشعر بكل هذا الفزع والقلق لو أنها متعلمة ومتزوجة بمتعلم وموظف ورزقها الله بالبنات ؟!
لا ريب أن حالها سيكون مختلفا .. لا ريب أنها لم تكن ستعاني كل هذا الجزع والألم الذي يقطع لحمها !
على الأقل كانت ستملك دخلا خاصا تنفق منه على نفسها وعلى بناتها لو تركها زوجها .. ولن تعاني الذل والمهانة من أجل أن تشحذ منه نقودا لتقيم أودها وأود بناتها لو أنه تركها وتزوج بأخرى لتنجب له الولد ..
تنامي السخط والغضب داخلها وتعاظم شعورها بالظلم والغدر .. حتى بدأت بوادر الانفجار !
وكانت أمها هي أول من انفجرت بوجهه .. قالت لها بالأمس وهي تجمع الفتات بعد أن أكلت البنات ونثرن بقايا الخبز في كل مكان :
" ما أهو أنا لو متعلمة وسبتوني أكمل زي بقية زمايلي واشتغلت وأتوظفت كان زماني بقبض مرتب أصرف منه على بناتي بدل ما أفضل مذلولة له ولأمه طول العمر .. منكم لله حسبي الله ونعم الوكيل ! "
كانت تلك أول مرة تدعوا فيها " نعمة " على أحد من أهلها في وجهه أو خلف ظهره ، فشعرت أمها بدهشة شديدة :
" أنت بتدعي وتتحسبني علينا يا بت .. يعني إحنا كنا نعرف أنك فقرية وخلفتك كلها بنات ! "
لم تطفر دموع من عيني " نعمة " فقد تعلمت ألا تبكي ولا تسمح لنفسها بأن تبدو ضعيفة أمام أحد حتى أمام أمها نفسها .. بل ردت عليها بقسوة وحقد :
" ما أنتوا مسبتنونيش في حالي .. لازم تطلعي وتتجوزي .. لازم تتنيلي وأديني أتربربت وأتنيلت وطلع حظي هباب .. كان على بأيه ده كله .. ما كنتوا سبتوني أكمل علامي زي بقية خلق الله ! "
مصمصت الأم بشفتيها وقالت بلهجة غاضبة ولكن لطيفة غير مؤذية :
" كل حي بياخد نصيبه يا بتي ومين عارف يمكن ربنا يطعمك ويديكي الواد وتزيني بناتك بيه ! "
بإصرار أجابتها " نعمة " الناقمة :
" ولا واد ولا بت تاني .. خلاص أنا جسمي تعب وأتهديت ومفياش نفس أحبل ولا أولد تاني .. بلا هم .. لو عايز الواد يبقي يولده هو ولا يجيب اللي تولدهوله .. أنا خلاص كده جبت آخري قطيعة تقطع الولاد على البنات على الخلفة على اللي عايزينها ! "
تعجبت الأم من تغير حال ابنتها ، وتغير حتى لهجتها وطريقتها المعهودة في الكلام .. فقالت لها راغبة في تطمينها وتهدئة مخاوفها :
" إن شاء الله بعدين كده بعد سنة ولا أتنين لما تكبري " حسناء " وتفطميها يبقي ربنا يديكي وتحليهم بالواد .. أنا حاسة إنك إن شاء الله إذا ربنا أراد هتجيبي الواد ، وتفرحي بيه وتفرحينا كلنا معاكي .. بس أنت متحرقيش في دمك عشان البت مترضعش لبن الحزن منك وتطلع عصبية وتتعبك ! "
لم ترد " نعمة " على أمها .. لأن خاطرها كان منصرفا الآن لفكرة غريبة طرأت على ذهنها .. فكرة فيها طوق نجاة ، وربما حياة أخري لها .. لكن هل تستطيع تنفيذها .. هل تملك الجرأة الكافية والعزيمة للإقدام عليها ؟!
تلاشي " عبد الرحيم " وعروسه المنتظرة والحمل والولادة والولد وحتى بناتها من ذهنها للحظة .. والفكرة الجديدة السعيدة تتقدم لتحل محل كل ما سبق وتمحو ذكراهم مؤقتا .. آه لو أنها كانت تملك الجرأة الكافية ؟!
*****

شعرت " ثومة " بشيء يدور حولها لكنها لم تستطيع أن تفهم ماذا يكون بالضبط .. وجدت محادثات مغلقة تحدث بعيدا عنها بين أخوتها وأمها ، أو بين أمها وزوجات أخوتها ، ولا يدعوها أحد للاشتراك فيها ، بل يبدون أنهم لا يريدون لها أن تسمعها ، لأنهم كانوا يبادرون بقص أحاديثهم وقطعها فور ظهورها أمامهم .. كانوا يغيرون مجري الحديث فورا ويطرقون موضوعا آخر لكنهم كانوا يفعلون ذلك بفجاجة وبطريقة غير محترفة تجعلها تدرك فورا أن الحديث المقطوع يخصها هي بالتحديد :
" هو فيه أيه ؟! "
كانت تسأل أمها كثيرا حينما تنفرد بها لكن الأم ترد عليها فورا بطيبتها المعهودة :
" ولا حاجة يا أمي .. سلامتك يا بتي ! "
لكن بعد بضع أسابيع بدأت الحقيقة تظهر للعيان تماما حتى دون أن تبذل جهدا في البحث والتنقيب عنها .. إنها يريدون تزويجها من " عبد الرحيم " المتزوج فعلا وأبو الأربع بنات !
فتحت معها أمها الموضوع أولا .. أخذتها في غرفتها وسردت على مسامعها محاضرة طويلة مملة امتلأت بالأكليشيهات المحفوظة حول البنت التي ليس لها سوي بيت زوجها ، والأخوة الذين لا أمان لهم ، وزوجات الأخوة اللائي يمكن أن يتحكمن فيها ويذللنها بعد وفاة أمها .. وكيف أنها تتمني أن تفرح بها وتضع ولدها على حجرها قبل أن تموت ، واختتمت الأم فورة الحكم المعلبة بالرجل الذي لا يعيبه شيء .. فأدركت الفتاة على الفور أن ثمة عريس في الأفق .. عريس معيوب طبعا طالما أن الأم أكدت على أن الرجل لا يعيبه شيء !
وهنا أفصحت لها الأم عن أن الست " أم عبد الرحيم " جاءتها وحدثتها عن رغبة ابنها في الزواج من " اسم النبي حارسها وصاينها " .. طبعا كان من الواضح تماما من تكون " اسم النبي حارسها وصاينها " هذه .. لكن السؤال هو عن أي ابن لأم " عبد الرحيم " تتحدث أمها ؟!
ردت الأم فورا :
" الواد الكبير .. " عبد الرحيم " ! "
أرتفع حاجبا " ثومة " بدهشة حقيقية وهتفت غير مصدقة :
" جوز " نعمة " أبو البنات ؟! "
زمت الأم شفتها للحظة ، وأخذت تفكر باحثة عن أفضل كلام يمكن أن يقال يلطف الجو ويغري ابنتها بالموافقة على هذه الزيجة التي لا تسر العين ولا الخاطر :
" يا بتي الراجل ربنا حلله أربع نسوان .. وهو مسكين وغلبان وطيب والله وملوش نصيب في العَدل .. أتجوز وربنا ما رزقهوش بالواد اللي يفتح عينه 46ويوقف في ضهره .. والراجل مغلطش لما قال يا جواز تاني ده حقه وشرع ربنا ولا عيب ولا حرام .. وإحنا ناس نعرف الأصول ومنقولش على الحلال عيب ولا حرام ! "
غضبت " ثومة " وقالت لأمها ساخطة :
" مسكين وغلبان أيه ؟! هو جاي يشحت .. أنا أيه اللي يغصبني على كده .. راجل متجوز وفي رقبته أربع بنات .. مالي أنا ربنا رزقه بالواد ولا ما رزقهوش .. كنت شغالة في الشئون الاجتماعية أنا ولا مطيباتية ليه وللي خلفوه .. ما يتحرق في داهية ! "
طبعا كان من الواضح أن البنت الثلاثينية لن تقبل بهذا العريس المعلق في رقبته أسرة كاملة بسهولة .. كانت الفتاة تحرن كما تحرن سمكة معلقة من طرف سنارة ولابد من معالجتها بحكمة وصبر قبل إقناعها بالرضوخ لهذا النصيب الزفت .. لذلك طلبت الأم أن تتولي هي فتح الموضوع مع ابنتها لأنها ستعالجها بالحكمة وستأخذها بالحكمة واللين حتى يهديها الله وتقبل بالأمر :
" طيب بالهداوة بس يا بتي .. الكلام أخد وعطا وإحنا مع بعضينا أهوه . محدش هيطير ويسيب التاني ولا حد هيغصبك على حاجة يا ضنا أمك .. خلينا كده نحكي زي الأصحاب مع بعض وبالراحة ! "
لكن " ثومة " لم تكن مستعدة لسماع حرف واحد آخر بشأن الأخ " عبد الرحيم " :
" ولا بالهداوة ولا بتاع .. أنا مش هتجوز الراجل ده يعني مش هتجوزه .. يعني أنت توقفي جنبي في حكاية الراجل قريب الست " هناء " وتقولي مش مستغنية عنها ومش بايعينها .. ودلوقتي جاية تجيبيلي اللي اسخم منه ؟! "
بالفعل كان هذا تناقضا صارخا في مواقف الأم يثير الحيرة .. لكن الأم كانت واضحة مع نفسها ..
( اللي ميرضاش بالخوخ يرضي بشرابه ، واللي منرضاش بيه النهاردة مش هنلاقيه بكره ! )
" يا بتي يا حبيبتي .. العمر بيجري يا أمي والأيام بتعدي .. وأنت معتديش صغيرة .. شوفي أختك اللي أصغر منك عندها كام عيل وقاعدة متسترة في حما راجل .. أنا لو مت هسيبك لمين .. هتتحامي في مين ؟! "
كان هذا هو خوف الأم الأكبر ، وهو الذي حملها على التراجع عن مواقفها القديمة ، والتنازل عن مطالبها في عريس ابنتها المتبقية .. إنها تخشي أن تتعرض للذل والمهانة على أيدي أخوتها وزوجاتهم بعد وفاتها هي ولا تجد نصيرا ولا حاميا يدافع عنها !
" هتحامي في نفسي يا أما .. وربنا يخليلي أخواتي مش قاسيين ولا عفشين زي أخوات تانية .. وبعدين لو جالي الراجل الزين المناسب مش هقول لأ ! "
" يا بتي يا حبيبتي .. محدش بينفع حد الأيام السودة دي .. لا أخوكي ولا أختك هينفعوكي .. الواحدة بعد أبوها وأمها ملهاش غير جوزها وعيلها .. طاب هو كان جه الراجل المناسب وحد قال لأ .. ما هو على أيدك كل اللي بيجي يا عجوز وعيان ، يا صايع ، يا متجوز .. يبقي نعمل أيه أحنا بقي ؟! "
نهضت " ثومة " التي سئمت هذه المناقشة العقيمة .. فاهتز الفراش الذي كانت تجلس بجوار أمها فوقه ، وسقطت فردة من قرطها الذي كان مفتوحا ، فتناولتها ووضعتها في أذنها .. راقبتها أمها بقلق وهي تفعل ذلك .. تكلمت الفتاة أخيرا بغيظ وقالت منهية الأمر :
" يبقي بلاش منه يا أم " حسن " .. قعدة الخزانة ولا جيزة الندامة .. أروح أتجوزلي واحد متجوز وعنده كوم لحم في رقبته وأتبلي لي بعيل ولا عيلين منه وفي الآخر تحلا القديمة في عينه ويرميني .. على أيه ؟! ما أديني قاعدة في بيت أبويا كافية خيري شري .. ولا أنتوا عايزين تزقوني وتخلصوا مني ولا اللقمة اللي باكلها تقيلة عليكم ! "
أربد وجه الأم حين نطقت ابنتها بالكلمات الأخيرة .. شعرت بشيء يضربها في قلبها ، فقالت فورا مدافعة عن نفسها وعن أولادها ضد هذه التهمة الخطيرة :
" لا حول ولا قوة إلا بالله .. بقي إحنا يا بت مستتقليين اللقمة اللي بتاكليها .. عيب عليكي ده أنتي أبوكي سايبالك فلوس مسبهاش لحد غير ليكي .. قال قرشها ينفعها لو مجالهاش ابن الحلال .. وأخواتك بيعزوكي ويحبوكي .. ليه بس كده يا أمي .. ده إحنا خايفين على مصلحتك وعايزينك تتهني وتفرحي زي الشباب .. هو حد له حاجة عندك يا بت .. ده أنتي قاعدة في ملك أبوكي يا بت مش قاعدة في ملك حد ! "
ردت عليها " ثومة " فورا بغيظ وبصوت أرتفع فجأة من فرط ما بها من كرب وألم :
" ما تقولي لنفسك يا حجة .. وده عريس برضه يتهنوا بيه .. ده عامل زي المحش 47 ميتباعش غير بعد السوق ما يتفض .. بلا هم بقي ! "
تركت " ثومة " حجرة أمها غير ملقية بالا لنداءات أمها المتكررة عليها .. تركتها وذهبت .. لكن في نفس اليوم عصرا ، ودون أن تكون أرملة الحاج " عطا " قد حسمت الأمر مع ابنتها ، أتت الدلعدي " أم عبد الرحيم" لتسمع الرد على طلبها !
مع أنه كان من الخير لها ، في الحقيقة ، لو أنها لم تأتي مطلقا !
*****

لم تقبل " ثومة " بفكرة الزواج من رجل متزوج بالفعل وله من البنات أربعة .. انتهت مناقشتها مع أمها مفتوحة دون حسم لكنها أبت أن تعطيها الفرصة لمزيد من الحوار والكلام .. لا يعني لا !
هكذا قالتها في وجه أمها وفي وجوههم جميعا حينما اجتمعوا عليها يحاولون إقناعها بالعدول عن رأيها وقبول هذه الزيجة .. فشلوا كلهم في الضغط عليها لشدة تمسكها برأيها من ناحية ، ولمؤازرة أخاها " السيد " الذي ساندها أمام بقية الأخوة وأمام الأم بقوة .. قال لهم غاضبا :
" جري أيه يا عم الحاج منك له .. هي بتنا وقيعة ولا بايرة ولا مش لاقين لها اللقمة ولا أيه ؟! "
رد عليه أخاه الأكبر بعنف ، فقد سئم هذه البنت العنيدة وأوشك أن يكرهها ، قائلا :
" ليه يا عم .. ده جواز على سنة الله ورسوله .. إحنا هنرميها في الشارع ولا أيه ؟! "
أجابه " السيد " بحنق :
" لا يا أخويا هترموها لراجل متجوز وعنده عيال .. وعايز بهيمة تخلف له الواد .. فرضنا ما جابتلوش الزفت الواد هيرميها ويتجوز عليها التالتة ؟! وعلى أيه ده كله .. ده مقشف وجعان هو نقضة ولا لقطة قوي ؟! "
كان اعتراض " السيد " وجيها خاصة لأن " عبد الرحيم " وأسرته يعتبرون فعلا أقل في المستوي المادي والاجتماعي من عائلة الحاج " عطا " لكن الأخ الأصغر تدخل قائلا :
" يا عم وهو جيه غيره وقولنا لأ .. ما أنت شايف أهوه بعنيك ! هو ده اللي موجود نمسك فيه ولا نتعنطز ونتمنظر لما البت تعنس وتبور وتبقي زي البضاعة اللي بتنش مش لاقيه حد يشتريها ! "
غضبت الأم لتشبيه ابنتها بالبضاعة البائرة .. بينما أغمضت " هناء " عينيها وفتحتهما بخبث وهتفت كحية تنفث سمها :
" والله عندك حق يا أبو أحمد .. البت من دول تعمل نفسها بت أبو على وتمد رجليها 48 ولما يسيبوها تقول يا ريت اللي جرا ما كان .. ربنا يهديها على نفسها ! "
زعق فيها " السيد " غاضبا :
" بس يا حرباية يا سوسة محدش طلب رأيك يا بت .. متتدخليش بين الخوات ! "
كان " السيد " متحفزا دائما ضد زوجة أخيه الأكبر ، وعلى استعداد دائم للدخول فيها شمال في أية لحظة تتجرأ فيها على حشر انفها في شئونه أو شئون أخته :
" جرا أيه يا " سيد " .. هو اللي يقول كلمة الحق في البيت ده يبقي جربة ؟! "
كانت " هناء " تعاتبه بلهجة أنثوية خبيثة من أجل استدرار رجولة زوجها ليتدخل دفاعا عنها .. لكن الأخير كان منصرفا تماما عن تلك الصغائر ومهتما بمشكلة " ثومة " وعقدتها التي لا تريد أن تنفك :
" ما تنخرسوا شوية خلينا نعرف نميل دماغ البت أم دماغ ناشفة دي .. تعالي يا ثومة ! "
كانت الفتاة قد عادت من المدرسة ودلفت إلي المنزل ورأوها وهي تمر هاربة إلي غرفتها .. لكنهم أمسكوا بها في نقطة محايدة وجروها جرا ليصدعوا رأسها ب" عبد الرحيم " وأمه والذي منه :
" تعالي يا أختي تعالي .. تعالي هنا أقعدي جنبي ربنا يهديكي يا رب ! "
كان الأخ الكبير يتبع نظام الحنان والطبطبة مع أخته ، علها تلين وتسمع الكلام وتتزوج العريس ، الذي ليس هناك غيره ، حتى تنزاح بعيدا عنه وعن البيت .. فخوفه الأكبر أن تموت أمه وتترك له فتاة عانسا تقعد في قرابيزه كعقب الحزون 49 :
" تعالي يا ست البنات .. أقعدي هنا جار50 أخوكي الكبير ! "
مرغمة جلست " ثومة " بجوار أخيها الأكبر الذي وضع على وجهه قناعا من الحنان والرقة غريب عليه وعلى طبعه تماما .. جلست طاعة لرجاء أمها الحار .. لكنها كانت عازمة على ألا تدع أحدا مهما يكن يستدرجها ويجر رجلها لتلك الزيجة المهببة التي تعلم أنها لن تجلب عليها سوي النقار والمشاكل الدائمة والتعاسة بقية عمرها !
*****

حدثت مجادلة ومحادثة ساخنة ما لبثت أن انتهت بمشاجرة .. فعلوا كل ما يقدرون عليه .. الأم والولدين ، الأكبر والأصغر ، وزوجات الثلاثة أخوة لكنهم فشلوا فشلا ذريعا واضحا في إقناع " ثومة " أو إجبارها على الرضوخ لرأيهم .. ساعدها تأييد أخيها الأوسط لها وشجعتها تجربة مريرة حدثت قريبا أمام عينيها على أن تكون أصلب وأقوي عودا أمامهم .. لن تكرر تجربة زميلتها " إيمان " التي تعمل معها في نفس المدرسة أبدا ، ولن تسمح لهم أن يفعلوا بها كما فٌُعل ب" إيمان " المسكينة .. التي تزوجت رجلا متزوجا وله أطفال خوفا من العنوسة وسماعا لزن الأهل عليها .. وأنتهي الحال بها مطلقة بطفلين ومنهارة نفسيا وروحيا ومحطمة معنويا !
لن تكرر تلك التجربة .. وقفت أمامهم وحكت لهم عما حدث لزميلتها وأكدت أنها لن ترمي نفسها في النار التي ألقت غيرها نفسها فيها ، من أجل سواد عيونهم .. بل إنها ذهبت إلي أبعد من ذلك وعرضت عليهم أن تتولي الإنفاق كاملا على نفسها ، وألا تأكل لقمة واحدة من طعام البيت بل وهددتهم بتنفيذ ذلك إن هم واصلوا الضغط عليها ومحاولة سحرها بالزن المتواصل على أذنيها !
حزنت أمها لذلك الكلام الذي كان يؤلمها بحق ، ونهرها أخواها لتفوهها بتلك العبارات التي تعتبر انتقاصا من رجولتهم وكرامتهم .. مصمصت النساء بشفاههن وتظاهرن بالخوف على صالحها ، لكن رغبتهن في دفعها إلي أية زيجة ليتخلصن منها كانت واضحة جلية وفشلن هن في إخفاءه .. أخيرا انتهت الليلة بتسليم أخوتها لها وتركها لحال سبيلها داعين لها بالندامة والحسرة قريبا !
تركتهم مجتمعين وذهبت لتغير ثيابها وتغسل وجهها من غبار المعركة الحامية التي خاضتها لتوها .. المعركة التي خرجت فيها منتصرة لحسن الحظ بعد أن تعلمت أنه لا سلاح في مواجهة الدنيا أو في خوض معاركها أمضي من سلاح الصمود والإصرار !
ولم تكد الجلسة العائلية تنفض ، و"ثومة " الفرحة بنصرها الساحق تنزل إلي الصيدلية لتشتري شيئا خاصا لها ، حتى كانت " أم عبد الرحيم " تدق الباب .. استقبلتها أم " ثومة " في الصالة السفلية وقدمت لها شايا بنعناع وأخذت تلف وتدور حول الموضوع مكررة على أسماعها سلسلة من عبارات النصيب والحظ والمكتوب والأيام التي تغيرت ، وبنات هذه الأيام اللائي لم يعدن مثل بنات زمان .. سرعان ما فهمت المرأة أن طلبهم مرفوض ، فأحمر وجهها وسخن غضبا .. دفعت كوب الشاي بعيدا بحركة المقصود منها رد ضيافتهم لها وهتفت متعجبة :
" والله يا أختي إحنا كنا شاريين نسبكم وعايزين القرب منكم أكتر .. لكن طالما البنات بقي هي اللي كلامها ماشي يبقي ملوش عازة الكلام مع الرجالة ! "
كانت المرأة الماكرة تنتقص من قدر رجولة أبناء المرحوم ، وتقصد إظهارهم بمظهر الرجال الخانعين ، غير القادرين على فرض إرادتهم على أختهم ، وإجبارها على الزواج من ابنها المحروس !
قطبت الحاجة حاجبيها وتكونت عقدة صغيرة في منتصف جبهتها وقالت مؤنبة بذوق :
" والله كل شي نصيب يا بت أبويا .. وأنتوا محدش أداكم كلمة ده كان سمك في ميه وملكمش نصيب فيه .. نعملوا أيه إحنا بقي وبصراحة ولدك ميعتبرش عريس أصلا .. ده صاحب مرة وعيال يا بت عمي وبتي بيضا ومسبقلهاش جواز ولا فرحت زي البنتة .. هنغصبوها أول ما تدخل تدخل على مرة وعيال ؟! شوفيله واحدة من وئمه مش بت بنوت ! "
أبيض وجه " أم عبد الرحيم " وانفرجت أساريرها قائلة بسخرية دفينة :
" أهو بقي .. خليها قاعدة لما يجيلها الأبيض اللي زيها .. موت يا حمار لما يجيلك العليق ! "
ردت عليها أم العروس بغضب :
" ملوش عازة الكلام ده يا بت عمي .. أنت في بيتي ومش هينفع أرد عليكي .. خلينا حبايب أحسن زي ما كنا طول عمرنا ! "
نهضت " أم عبد الرحيم " دون أن ترد ، وتلفعت جيدا ببردتها 51 السوداء وغطت رأسها ، وخرجت وهي تردد غير مهتمة بما إذا كانت حرم المرحوم تسمعها أم لا :
" ولا حبايب بقي ولا حبايب الناس .. ما هي المحبة بانت أهي ! "
وهي خارجة كادت تصطدم ب" ثومة " التي عادت سريعا من الصيدلية القريبة .. فنظرت إليها باسمة متأملة وجهها غير الجميل وقالت بسخرية :
" أزيك يا عروسة أياكش تكوني بخير يا بت أختي ! "
لمحت " ثومة " نظرة السخرية مستقرة في أعماق عيني عدوتها فردت عليها فورا بلهجة مراوغة :
" إن شاء الله تسلمي يا مرت عمي .. ما أنت قاعدة شوية مونسانا .. دا أمي بتحبك وتحب قعدتك والله ! "
رفعت الأخرى حاجبها ومصمصت بشفتيها ، فواصلت " ثومة " فورا لتقطع عليها أية فرصة لفتح الموضوع ثانية :
" وأزي عيالك كده .. وأزي سي " عبد الرحيم " ومرته وبناته ؟ والله ولا ليكي على يمين يا مرت عمي " نعمة " دي زي أختي بالظبط ولا تستاهلش اللي بيجرا فيها ده أبدا ! "
نهرتها الأم بلطف لتسكتها :
" ثومة ! "
لكن " أم عبد الرحيم " أجابت فورا بغل :
" أيه بقي اللي بيجرا فيها يا بت الرجالة .. ده نصيب واحدة ملهاش في خلفة الولاد يبقي نجيب الأحسن منها .. ولا المسكين يقعد طول عمره كده من غير واد يقله يا أبايا52 ؟! "
ضحكت " ثومة " وقالت لها مستهزئة :
" وهما البنات مش بيقولوله يا أبايا .. ربنا يرزقه من عنده يا مرت عمي ! "
نظرت إليها الحماة بغيظ شديد لكنها زمت شفتيها وذهبت غاضبة .. أنتهي الأمر عند هذا الحد !
وبدأت اللفة الجديدة بحثا عن عروس يرضي " عبد الرحيم " الشملول بها .. أو ترضي هي به على الأصح !
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي