الموؤودات

منال عبدالحميد`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-06-30ضع على الرف
  • 70.2K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

(1)

إلي جوار الباب جلس منتظرا نهاية المخاض ..
كانت الزوجة ترقد في الداخل وبجوارها أمها وحماتها وقابلة مدربة ( حكيمة ) .. الزوجة تعاني الآلام وعذاب المخاض ، وسائرهن ، عدا الحكيمة ، التي لم يكن الأمر يعنيها في شيء ، سوي أن تقوم بتوليد المرأة الماخض وتحصل على أجرتها ، يعانين القلق الموجع ومرارة الانتظار الذي يعرفن أنه انتظار عقيم بلا طائل ..
فقد أعلنها الطبيب منذ أشهر بدون رحمة :
" مبارك .. بنت ! "
" بنت ؟! "
إذن فليس مباركا على الإطلاق .. إنها البنت الرابعة آتية لتزيد الدنيا سوادا في عيني الأم المسكينة !
إنها بنت أخري .. والزوج لن يسكت هذه المرة ولن يصبر أكثر من ذلك !

حمي الطلق وأشتد المخاض ودفعت الطفلة ، المحاصرة بالداخل ، العوائق بيديها العاجزتين الصغيرتين محاولة أن تثبت للعالم جدارتها بأن تخرج له .. بل لعلها أحست أن الأب غير راض عن مجيئها إلي العالم ، ويراها فائض بشري لا قيمة له ، فأرادت أن تثبت له جدارتها وهي لا تزال في منتصف الطريق بين أن تكون أو لا تكون !
أطلقت الأم الصرخة المدوية الأخيرة . صرخة الميلاد .. وانزلقت الطفلة إلي العالم مغطاة بأوزار المعركة التي لم تخضها بعد !
أطلقت الجدة الأولي زغرودة قصيرة مختنقة .. لم تلبث أن قطعتها عندما زغرت لها الجدة الثانية ورمقتها من طرف عينها بنظرة حادة مسنونة وكأنها تقول لها بصمت كامل مزدري :
" بتزغرتي على أيه يا ولية ؟ على خيبة بنتك ؟! "
وبالفعل فقد وئدت الزغرودة في مهدها .. كما وئدت فرحة الميلاد في صدري الأم والطفلة على السواء ..
" هتسموها أيه ؟! "
" سموها زي ما تحبوا .. مش هتفرق .. كنا عايزين واد .. لا حول ولا قوة إلا بالله ! "
وكأنهم يتقبلون العزاء في مأتم .. ظل الأب جالسا أمام الباب والسجائر المستهلكة تتكوم تحت رجليه ، حتى أمست تلا صغيرا من الأعقاب التي ينطلق من بعضها خيوطا واهنة من الدخان .. كانت السجائر تنفث الدخان بالنيابة عن الأب ، الذي يمتلأ فراغ صدره العريض بأدخنة الغضب واللوم والمرارة واليأس والأمل المفقود .. والرغبة في الانتقام !
*****

مرت أشهر ثلاثة على مولد " أسماء " وكأنها لم تمر أساسا .. أمسي الأب أكثر صمتا وانعزالا وبات لونه أكثر بؤسا وقتامة .. وفي المساء حين يجلسون جميعا ، لأول وآخر مرة ، ليتناولوا وجبتهم معا كان الأب يرمي الكلام دون مواربة :
" فلانة ولدت النهاردة وجابت واد ! "
" طيب ! "
هكذا ترد الزوجة ، المشغولة بإطعام الطفلتين اللتين تكبران " أسماء " بسنوات قليلة ومنعهما من اللعب بما تحتويه صينية العشاء من أطباق وأرغفة خبز ..
طيب أيها الزوج ، حسنا يا " شهريار " .. وماذا تريد الآن ؟!
وهل هي تختار نوع الجنين بحسب مزاجها .. أليس تلك البنات لك النصف فيهن .. ألسن يحملن نصف كروماسوماتهن منك قبل أن يحملن نصفها الآخر مني ؟!
طبعا لم تكن الزوجة تفكر بمثل هذا الكلام ، تلك الردود القاسية ، ولم تكن تعرفها أصلا .. لكن غيظا مكبوتا وحزنا قديما ، كأطلال بيت مهدم تثير الحزن أكثر مما تثير الخوف ، كانا ينخران في صدرها المثقل ..
إنها لم تكن تحلم بذلك ، كانت ذات يوم طالبة متفوقة وذكية ، وينتظرها مستقبل مشرق ، إن تركها أحد تصل إليه .. لكنها لم تحصل على فرصتها قط ، فالعريس المنتظر قد جاء يدق الباب ورده أمر غير وارد إطلاقا :
" ده ولد عمتك يا بتي .. وغلبان وعلى قد أيدينا وفوق ده وده شاريكي ومستنيكي من زمان ! "
ينتظرها منذ زمن وهي لا تزال في سادسة عشرتها من العمر القصير الجميل !
في الصف الثاني الثانوي يا ناس .. فكيف ينتظرها منذ زمن يا من تلعقون الكذب كما تلعق الكلاب عظمة شهية المنظر !
ولكن أليس بوسعها أن تقاوم .. أليس مسموح لها بالاعتراض ؟!
لا ليس بوسعها ولا مسموح لها .. وحتى إن فعلت فمن هذا الذي سيستمع لها !
الجدة المتصرفة قد تحجرت رأسها ، المتحجرة من الأساس ، وأصرت على إتمام الزيجة .. الأم الأمية ، التي لا تقرأ ولا تكتب ، قد أنفتح فمها وأنشق من الأذن حتى الأذن فرحة بأن ابنتها الوحيدة ، الفتاة الوحيدة وسط أولادها ، ستتزوج وستصبح عروسا .. ستساق إلي بيت العريس ، الذي لا تريده ولا تريد الزواج نفسه ، كما تساق ذبيحة إلي يدي القصاب لينحرها !
ماذا ينتظرون إذن ؟!
ينتظرون دمها ليلطخوا به الجدران ويرسموا خمسة دموية على الجدران .. ليدرؤوا بها عين الحاسد والحاقد والذي له عين تفلق الحجر نفسه !
وهكذا استسلمت لقضائها ورضيت بقدرها .. لا لم ترضي يوما لكنها استسلمت وفارق بين اللفظتين ، لو تعلمون ، عظيم .. استسلمت إذن .. وبعد أن رفعت الراية البيضاء ودخلت حياتها الجديدة راجية دون كبير أمل أن تلقي فيها السعادة التي خلفتها وراءها بين صفحات كتبها ، التي أٌغلقت للأبد الآن ، وبين ثنيات جلباب المدرسة الأزرق الفضفاض ، وتركت بقاياها متناثرة كرماد حريق فوق مقاعد المدرسة الكالحة المحببة إلي قلبها .. ولكن الدنيا كلما جابهتها بخنوع واستسلام كلما طلبت منك المزيد والمزيد !
وبعد الزواج بدأت المشاكل .. فالعروس لم تحمل لعدة أشهر بعد الزواج وبدأت الحماة تئن بخبث والزوج يتساءل بلا مواربة :
" مفيش حاجة ولا كده ؟! "
" لا مفيش ! "
ردت عليه بحزم وأوقفته .. لكن السؤال ما لبث أن سؤل ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وبدأ لسان الحماة يستطيل :
" عارفة فلانة .. بنت فلان .. اللي دخلت معاكي في ليلة واحدة ؟! "
طبعا كانت تعرف " فلانة " وتعرف أباها " فلان " وأمها " فلانة " جيدا .. فماذا تبغين إذن أيتها الحيزبون ؟!
" آه .. عارفاها ! "
" حامل وعلى وش ولادة .. عقبالك يا بتي يا رب ! "
ولحسن الحظ فإن العقبى لها أستجيب لها قريبا ، ولعل تلك الحماة الخبيثة مستجابة الدعاء رغم كل شيء .. وأحست العروس ببشائر الحمل ! "
" مبروك مبروك يا أمي .. إن شاء الله يجي واد ! "
آه .. لقد جفت الأقلام والصحف إذن بضربة واحدة .. الولد وما أدراك ما الولد !
*****
ولكن الولد لم يأتي في المرة الأولي .. لوت الحماة شفتيها ، وإن لم تفه بكلمة تحرق الدم ، وتظاهر الزوج ، الذي صار أبا الآن للمرة الأولي ، بالسعادة والرضا بما أعطاه الله .. ربما كان راضيا ، محتسبا ، في المرة الأولي .. ولذلك حظيت " شيماء " ،البنت الأولي ، بسبوع * جميل وبكثير من الحلوى ومن الرقص والتصفيق .. وحُملت الطفلة على أيدي أباها وأمها وجدتيها ، وجدها من هنا وجدها من هناك وأعمامها وأخوالها ، والٌتقطت لها الصور في أحضان الجميع .. ابتسم الجميع سعداء ، أو تظاهروا بهذا على الأقل ، ومر اليوم على خير ..
ولكن لم تنقضي أشهر حتى بدأت الحماة تنق كالدجاجة .. كانت " شيماء " في حجر أمها تبكي وتتلوي من المغص حينما فتحت الجدة الموضوع :
" مش تشدي حيلك بقي يا ست الناس .. عشان ربنا يعوض عليكي وتخاويها ! "
يعوض عليك وتعني أن يعوضك الله عن الخسارة التي ابتليت بها حينما رزقت بالبنت .. وكيف تعوض تلك الخسارة الفادحة إلا بالإتيان بالولد !
لكن الزوجة والأم الشابة التي لم تكد تلتقط أنفاسها من بعد أول حمل وولادة لها .. والطفلة التي لم يتعدي عمرها أشهرا معدودة ، التي تحرمها النوم والراحة طيلة الليل كثيرا ، ردت على حماتها بجملة واحدة نهائية :
" إن شاء الله يا ماما .. بس " شيماء " تكبر بس وتشد حيلها ونفطمها ! "
الفطام هو المرحلة التي كانت الزوجة الشابة تصر على ألا تحمل ثانية قبل أن يصلوا إليها .. لكن الزوج وأمه المتلهفان للحصول على الولد المنتظر هل يصبران ؟!
لا لن يصبرا مهما حدث ..ورغم أنفها ، وبالذوق أو بالعافية ، يتحتم على الزوجة أن تحمل وتضع من جديد لتأتي بالولد ..
لكن ، فيما يبدو ، فإنه لا أولاد فوق رأس " شيماء " .. لأن الحمل الثاني ، الذي كان شاقا وثقيلا على الأم المرضعة ، جاء بطفلة ثانية .. بنت أخري فيالشقاء الوالدة والمولودة والمولود له !
أتت " مروة " لتحيل العالم ، الذي كان سيئا بالفعل ، إلي ما هو أسوأ .. حزن الزوج حزنا حقيقيا هذه المرة وأظهر ذلك بجلاء .. الحماة تلون وجهها بلون الحزن والحنق على الزوجة التي ليس لها من الأمر شيء .. ووالدة الأم امتقع وجهها وأخذت تدعو لابنتها من قلبها :
" يا رب .. يا رب أكرمها وأرزقها الولد يا رب يا كريم يا رحيم ! "
كانت حربا تلك وليست عملية إنجاب وإعمار للأرض !
*****

وتلك المرة ومن نفسها هي ، وبدون حاجة إلي زق ودفع وإجبار ، بادرت " نعمة " إلي البحث عن حمل جديد ، مع أن " مروة " لم تكد تكمل شهرها الرابع بعد .. لكن الزوجة كانت قد سئمت ، سئمت النظرات التي يحدجها بها الجميع .. نظرات الزوج وأمه وأبوه وأخوته وأخواته ، حتى أمها كانت ترمقها بنظرات خاصة متحسرة وكأنها تراها راقدة تنازع الموت أمامها .. أهي مريضة ، أهي سقيمة عليلة تستحق الشفقة ؟!
إنها لا تعرف ما إذا كانت قد أقبلت على خوض تجربة الحمل من جديد ، الحمل الثالث ، فعلا لتتلافى ما يحيط بها من نكد وهم .. أم أنها هي نفسها صارت تشتهي الحصول على الولد مثلما يشتهون !
ذلك لغز سيبقي كامنا في أعماقها مدي طويلا ولن تعرف له حلا ولا تريد ذلك .. فكل ما تريده أن ترقد بين يدي الطبيب في العيادة المجهزة ، ويسلط أشعة السونار على بطنها ويقول لها مرحا سعيدا ، فهو معها منذ أول حمل ويعرف كم معاناتها :
" مبروك يا ست الكل .. ولد ! "
آه .. لكنه لن يقلها فيما يبدو ولزمن طويلقادم ، وربما للأبد .. فالطبيب لم يبتسم حينما زارته تلك المرة ولم يمرح أو يبدي السعادة .. تلعثم محاولا تبرير موقفه :
" آه .. ده مش باين للأسف ! "
كانت الحماة واقفة كالصقر بجوار فراش زوجة ابنها .. فهتفت مستنكرة وهي تري تفاصيل الجنين واضحة أمامها على الشاشة :
" مش باين إزاي يا دكتور .. ما هو معدول وكويس أهوه ! "
حك الطبيب ما تبقي من شعره وقال رادا بلطف :
" مش كل العيال بتبان بدري يا ستي .. أسبوعين كده ولا حاجة وإن شاء الله نعرف ! "
زمت الحماة شفتيها وتلونتا بالسواد وقالت مستنكرة قاطعة :
" ولا أسبوعين ولا حاجة .. على أية ما كل حاجة باينة أهي .. مدور ومكعور .. تبقي بنية ! آه يا غلبك يا ولدي .. يلا يا بت ! "
قالتها بقسوة ورائحة الازدراء والكراهية تفوح منها كرائحة النشادر !
*****
عادتا إلي البيت .. كان الزوج غائبا في عمله والطفلتين تلعبان على الأرض التي لوثتاها كلها ببقايا البيض المسلوق ، الذي أطعمتهما جدتهما الأخرى إياه .. كانت أم الزوجة هناك ترعي حفيدتيها لحين عودة أمهما المنكوبة .. ولم تكد تراهم يهلون حتى هرعت إليها منتظرة البشارة :
" ها يا أمي .. طمنيني ! "
مصمصت الحماة شفتيها وقالت محتقرة :
" ولا نطمنك ولا تطمنينا .. اللي مكتوب عليه الشقا مكتوب ! "
ثم دخلت إلي غرفتها ورزعت الباب خلفها بغل .. ذعرت الأم ونظرت إلي ابنتها مستفسرة .. هزت " نعمة " رأسها ثم أسندت رأسها إلي صدر أمها .. وانفتحت في البكاء والعويل !
*****
كانت تلك أول مرة تبكي منذ أن أرغموها على ترك المدرسة لتتزوج .. لم تبكي حين زفوها بالقسر الجميل إلي ابن عمتها ، ولم تبكي حين كانت تعاني متاعب المخاض مرة واثنتين .. ولم تبكي حين كان زوجها ، وحماتها وأخوات زوجها ، يعايرونها جهرا أو تلميحا بإنجاب البنات .. لكنها بكت الساعة !
لا ليس لأنها عرفت أنها تحمل بنتا ثالثة .. بل لأنها أحست أنها لا قيمة لها في هذه الدنيا .. ليست لحما ودما ، ولا عقلا ، ولا قلبا ، ولا إنسانا له مشاعر وجب احترامها ، ولا أما تحمل في داخلها قدسية الأمومة وجمالها وروعتها الفريدة .. بل هي مجرد وعاء !
معون2 ، مثل الحلة أو الطبق ، ما عليها سوي أن تحمل وتضع ، وليس أي حمل أو أي وضع .. بل يجب أن تحمل وتضع الولد ، وإلا فلا قيمة لها ولا شأن .. ليست أغلي عندهم من طبق من الصفيح أو حلة من الألمونيوم .. ولا حتى عند زوجها المتظاهر بحبه لها .. هل يحبها فعلا ؟!
تشك الآن في كون أي أحد يحبها على الإطلاق .. فهل سمعتم بأحد يحب حلة أو طبق ؟!
وكأنها قد بشرت على نفسها كما يقولون .. فما إن استسلمت للبكاء أول مرة حتى لازمها البكاء دوما بعد ذلك .. صارت تبكي ليلا ونهارا ، وتبكي وهي نائمة ، حتى أحلامها كانت تري نفسها فيها جالسة تبكي .. فقد صارت حياتها كلها آلام !
لم يرضي الزوج عما سمعه ولم يفتح فمه بكلمة معترضا أو محتجا أو مسلما قدره لربه ، أو حتى معزيا لزوجته الحزينة الصموت .. بل سمع الخبر ببساطة ثم ذهب ليغلق بابه على نفسه .. ويظل هناك بقية اليوم يدخن سجائره بلا انقطاع وينفخ من صدره غيوما سوداء حارقة !
لكن ماذا بوسع العناد أن يجدي .. وهل الله عز وجل يُعاند معه ؟!
استسلمت " نعمة " لما هو مقدور ومكتوب عليها منذ أن كانت جنينا في بطن أمها .. ولعل أباها هو الآخر ، أستقبل مولدها الحزين بالجلوس أمام البيت وتدخين السجائر ليفرغ فيها غليله ..
غريب أمر هؤلاء القوم .. هم أكثر من يطنطنون بالإيمان بالله وبقضائه وقدره .. وهم أيضا أكثر من يضجون بقضائه وقدره هذا ولا يتقبلونه إلا مرغمين ساخطين !
مرت شهور الحمل سريعا وأصرت الطفلة الثالثة على أن تأتي إلي العالم في أسرع وقت فجاءت مبكرة عن موعدها الطبيعي شهرين كاملين .. ولأن ( عيال الفقري تيجي بدري )3 فقد هرولت " أسماء" إلي العالم غير عالمة بما ينتظرها هناك ..
أرتدي الزوج جلبابه البلدي الأبيض ، وذهب إلي السوق ليجلس مع رفاقه من البائعين والمتسببين4 هناك .. كانت تلك مجرد حجة فالحقيقة أنه خرج لأنه لا يريد أن يشهد مولد البنت الثالثة له .. كان راغبا في خنق زوجته ، أو خنق الطفلة الجديدة فور مولدها ، أو حتى خنق الثلاث بنات دفعة واحدة ..
وتجبنا للمشاكل وليمر اليوم الأسود على خير قضي بقية ساعات النهار خارجا .. وعاد في المغرب شاحبا واهنا مصفر الوجه بسبب تدخينه كومة من السجائر على الريق بدون قضمة خبز أو شربة لبن ..
أشفقت عليه أمه حين رأته ، ولمعت عيناها بالإصرار الذي يلمع في عيون المرأة العربية القوية حين تقرر أنها هي وحدها المخول لها حل المشكلة المستعصية والإجهاز عليها .. وقد كانت الحماة بالفعل قد قررت أن وقت الحل والإجهاز قد جاء ..
بدون مقدمات قالت لولدها :
" أتجوز عليها يا أمي5 ! "
رمقها ولدها المرتعش ، من فرط الجوع والحزن والتدخين الثقيل ، بعينان متفاجئتان من قولها ولم يجد ردا يقوله :
" مالك بتبحلقلي6 كده ليه ؟ مش عايز يجيلك واد يشيل أسمك ويكون في ضهرك ؟! "
لم تكن الأم في الحقيقة تسأل بل كانت تقرر حقيقة تعرفها جيدا .. نعم يا أمي إنني أريد الولد الذي يحمل اسمي ويكون سندا لي في ظهري .. لكن كيف يمكنني الحصول عليه ؟!
تبادلا نظرات متواطئة وردت الأم على نفسها :
" الفقرية النقرية 7 دي مفيش في عنقودها غير البنتة8 ولا عمرها هتجيبلك واد .. لا دلوقتي ولا بعدين ! يبقي أيه يا أمي .. "
قطعت الأم كلامها بذكاء راجع إلي المكر والدهاء ، وليس إلي العقل والمعرفة والعلم ، منتظرة أن يلتقط ولدها طرف الخيط ليشده بنفسه :
" طاب هي هترضي ؟!
كان يتحدث عن " نعمة " لكن الحماة مصمصت بشفتيها معلنة استهانتها وقلة اكتراثها بتلك الكنه الخائبة :
" ما ترضي ولا مترضاش .. عنها ما أتزفتت رضيت هي هيبقي ليها عين تفتح بوقها بعد ما بلتك وبلتنا بتلات بنات .. قال ترضي قال .. مستنيين رضاها أصلك إحنا ! "
كانت كلمات الحماة قاسية كحد سيف مسنون وخالية تماما من الرحمة ، لكنها نزلت على قلب ولدها المكلوم بردا وسلاما .. وفتحت عيناه على شيء جديد لم يفكر فيه من قبل .. إنه يستطيع الحصول على الولد الذي يريده من زوجة أخري ، ما دامت الأولي ( الفقرية النقرية ) لا تعرف كيف تأتي به !
فكر " عبد الرحيم " قليلا وأدار الأمر في رأسه ، بدأ يفعل على الأقل ، ثم قال معلنا تردده :
" طيب ما يمكن ربنا يكرمها ويكرمنا وتجيبه ( يقصد الولد ) المرة الجاية ولا اللي بعدها !"
لطمت الحماة خدها الأيمن وقال بصوت مرتفع متحسر :
" والله ما هتجيبه ولا هتشوف منها ولاد .. دي فقرية وعنقودها مفيهوش غير البنات .. خليك وراها لما تبليك بست سبع بنات يتعلقوا في رقبتك متلاقيش حتى واحدة تانية ترضي بيك ! "
كانت تهدده بلباقة في صورة تحذير من المستقبل .. نخ قليلا وبدا أن الكلام مناسب لهواه تماما :
" طاب ودي مين اللي هترضي بواحد متجوز وعنده تلات بنات ومرة9 في رقبته ؟! "
" يا أمي الدنيا مليانة .. النسوان مفيش أكتر منها ! "
داعبته صورة عروس أخري تزف إليه وقال مستمتعا :
" بس أنا ماخدش إلا واحدة بيضا10 متروحيش تجيبلي واحدة عازبة11 ولا أرملة !"
لقد راقه الأمر وبدأ يفرض شروطه :
" يا ولدي قول بس ربنا يسهل .. وبعدين البيضا دي عايزالها واحد ولد زيها .. وأنت لسه قايلها بلسانك أنت راجل متجوز ومعاك تلات بنات ومرة يعني لازم توطيها 12 شوية عشان ربنا يكرمك بالواد اللي نفسنا فيه يا ولدي ! "
كان ثمة اتفاق قد اختمر إذن ونتائجه ستظهر حالا في الطريق .. نتائج قاسية وليس بها ذرة واحدة من الرحمة !
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي