الفصل العاشر 10

لم تكن هناك ساعة حائط تُصدر هذا الصوت المزعج لمضي الثوان لكنني كنت أشعر بها رغم ذلك, يشعر كأن الوقت يُسارعه للإنقضاء.....
تفقدت ساعة هاتفي فوجدتها تُشير إلى الثانية عشر تمام منتصف الليل, تركت هاتفي يعمل على عكس المعتاد فقد بتُّ أنتظر أي إتصالٍ من مريم, أي رساله تعرب بها أنها ترفض ما يفعله نصفها الآخر أو ما تفعله هي متظاهرة بأن هناك نصف آخر لها, لا أعلم سُحقاً, لم أعد أفهم شيئاً مما يحدث....
لكن لما لم تقتلني على الفور و تنتهي من هذه العقبة اللعينة التي تقف في طريقها, أتستمتع بتعذيب روحي, أجل القتلة المتسلسلون يستمتعون بهذه الأشياء لكن مريم ليست قاتلة متسلسلة, أو هي كذلك لكنها تكذب على نفسها, فالأمر أشبه بغشاء أو بوابه لشيئ آخر تنهار بأول ضحية تقتلها ثم يصير الأمر عادياً و حلاً مشروعاً لأي مأذق يواجهك, إن تداينت لشخص و لم تستطع السداد ستداعب رأسك هذه الفكرة, لما لا أقتله فحسب و أعيش في أمان, إن رسبت في مادة دراسية لما لا أقتل معلمي و أنهي اليأس, إن نهرني زوجي لما لا أموقه إرباً و ألقي بجسده في أكياس القمامة و تنتهي المعاناة, هذه النقطة بالأخص لامستني و زجرت قلبي المغفل بقوة, فقد أكون أحببتها بالفعل لدرجة أنني تسترت على جرائمها أعترف لك, لكن للأسف لست من البلهاء الذين يموتون فداءاً للحب, بل سأقاتل لآخر رمق.....
هكذا هرعت إلى المطبخ بحثاً عن سلاح أو أي شيئ أدافع به عن نفسي.....
كنت أبحث بيدٍ مرتعشة و جلة لدرجة أنني جرحت إصبعي بسكينٍ لم أُعِدُّها سلاحاً مطلقاً بل لم أنتبه إليا بالأساس و أكملت طريقي في البحث إلى أن بُتر كل شيئ و توقف الزمان حينما إستمعت إلى هذه الطرقات الخشنة على الباب.....
على الفور قفزت على عصا المقشة و إحتضنتها كأنني أنتظر إمتطائها و الطيران بعيداً لها هرباً من الموت.....
ذهبت بخطواتٍ واهنة مترددة إلى الباب ولعنت اليوم الذي لم أركب به عيناً سرية لأرى من بالخارج, فرفعت العصا عالياً وفتحت الباب و بلا مقدمات هويت بها على الوجه الماثل أمامي.....
ماذا تفعل أيها اللعين؟
هذا الصوت المائع أعرفه جيداً, إنه صوت طارق, فتحت عيني وكنت قد أقفلتهما و أنا أضربه حتى لا أرى أثار الدماء التي ستخلفها هذه العصى النحيفة, لكن عوضاً عن ذلك إنكسرت و تركت كدمة بسيطة على صدغ طارق.....
تنهدت بإرتياح و قد إرتخت أعصابي و صارت العصا ثقيلة للغاية بين أصابعي فتركتها تهوى و أنا أشير له بالدخول.....
قبض عل من تلابيبي وهو يصح بي بغضب: أتهرب مني أيها الصعلوق القذر؟
لم يكن بي طاقة لمقاومته فسألته بغيظ دون أن أمسه: لماذا سأهرب منك أيها الأحمق, أتحولت إلى برص ينفض عنه الجميع؟
دفعني بغلظة قائلاً: إذاً لما لا تجيب على الهاتف و رسائلي الغزيرة إليك, أتظنني سأترك تفلت مما فعلته بسيارتي أقسم لكأنك ستدفع كل جنيه و.....
قاطعته بإشارة من يدي و إقتربت على أطراف أصابعي من الباب و أنا أسترق النظرات إلى الخارج مختبئاً به.....
هناك حركة على الدرج بالتأكيد, لا أعلم من صاحبها أو ماذا يريد لكن عادة تكون هناك حركة نادرة في الصباح فكيف يجب أن يكون الأمر بعد منتصف الليل......
أهناك غيري؟
إنتبهت إلى كلمة طارق فأغلقت باب الشقة و أنا أسأله: غيرك؟!
تنحنح قائلاً: غيري ممن لهم أموال عند, أصرت غارقاً في الديون لإدمانك على تعاطي شيئاً ما, يُمكنك أن تخبرني بكل شيئ فأنا صديقك.
ضحكت من سخرية القدر التي تحل بي فها قد صرت في أعين صديقي مدمناً يهرب من الدائنين و هذا يعني أنه قريباً سيراني أهلي كذلك و بقية أصدقائي و ربما الكوكب بأكمله, فلم أجد بداً سوى الذهاب إلى غرفتي و إحضار بعض الأموال و وضعها براحته و إخباره بالحقيقة.....
لا يمكن أن أصف لك السعادة الغامرة التي تملكته بمجرد رؤيته للأموال, لقد تبدل تماماً ولانت ملامحه و صار ينعتني بصديقه المقرب و يدعو لي و المزيد من سلوك التسول الذي سيطر عليه, حتى فررت من أمامه و أعددت كوبي قهوة و عدت إليه و قصصت له كل شيئ, بالطبع لم أعطه اسم مريم لكنني أخبرته بوضوح أن السفاح الشهير الذي يرهب المنطقة يطاردني على وجه الخصوص ووعدني بزيارتي هذه الليلة.
كان يتظاهر بالسخرية في البداية لكنه سرعان ما بهتت ملامحه و هو يقول: أهو فتاة؟
إتسعت عيني بذهول و أنا أومئ برأسي مؤكداً, فإنتفض مسرعاً و تأكد من إغلاق الباب جسدياً و تتريسه بكل المتاريس وهو يردف برعب: لقد رأيتها, تضع رقعة طبية على عينها و تُمسك بشيئٍ مدبب يلمع وسط ظلام الدرج, كانت تسبقني الدرج و أنا أصعد إليك لكنها إختفت بمجرد أن وصلت و طرقت بابك.
شعرت كأن مياها مثلجة سُكبت على رأسي لتصيبني بالتبلد و الشرود وقد تأكد لي أنها تسعى خلفي حقاً ولن تتوقف حتى تنال ما تريد....
اللعنة ماذا أفعل الآن, أأتصب بالشرطة ليأخذها و تُعدم تكفيراً لذنوبها أم تمكث خلف القضبان حتى تصير في الخمسين و ربما الستين عاماً, و حينما تخرج ستسعى خلفي أيضاً...
فركت رأسي من وطأة الحيرة و الرعب, و لعنت نفسي و حظي التعس فلما يظل قلبي صائماً لسنواتٍ و سنوات, ثم يُفطر على حب قاتلة؟
يجب أن نهرب من هنا و إلا ستأتي لتطرق بابك في أي وقت.
نطق طارق بهذه الكلمات الخرقاء, فصحت به بتوتر قائلاً: إنها تنتظرنا على الدرج أيها الغبي, خروجنا يعني مواجهتها وجهاً لوجه.
إنها هنا على الدرج تنتظر بفراغ صبر أن أخرج إليها لتصفي جسدي من الدماء و تمحي ملامحه من الوجود, لا أعلم كيف أقول ذلك لكن طارق الأخرق هذا هو من أنقذني و الآن بات يقف يرتعد كدجاجة على وشك القفز في المقلاة.....
لكن مرت الدقائق ولم يطرق أحدٌ الباب أو أستمع إلى أي حركة مريبة على الدرج, لقد جلسنا أنا و طارق حول المنضدة نفكر في طريقة للهرب دون أن نبلغ الشرطة, لقد ناشدني عدة مرات بالفعل لنتصل بالنجدة و نستريح لكن في كل مرة كنت أرفض بعنادٍ غير مبرر لا له ولا لي, فهي تحاول قتلي و هذا يعني أنها تخلت عني أليس كذلك؟
إذاً لما أحاول حمايتها الآن, ستقول أن هذا نصفها السيئ لكن مريم الحقيقية موجودة في مكانٍ ما و كانت لتمنعها لو أنها أرادت ذلك.....
حك طارق رأسه قائلاً بضيق: إذاً لا تريد أن نخبر الشرطة, ولا أن نركض كالجبناء على السلم, إذاً مالحل أيها العبقري, سنظل هنا إلى الأبد حتى تثقب الأرض و تأتينا من أسفل أقدامنا؟
صمت قليلاً ثم قلت: لماذا لا نحضر المزيد من الأشخاص إلى هنا و ننزل معهم دون أن نخبرهم بشيئ, لن تهاجمنا و نحن جماعة أليس كذلك؟
رمقني بتقزز و هو يقول: ستقدم المزيد من الضحايا لها, أأنت معاونها أم ماذا, أستدرجتني إلى هنا لتقدمني إليها؟
ضحكت بعصبية لأخفي توتري و أنا أقول: أنت من جئت إلى هنا أنا لم أستدعك من الأساس.
أطرق رأسه و تحاشى النظر إلي فقد بت مصدراً للمصائب بالنسبة له, و تمنى لو يبتعد عني للأبد لكن للأسف لا يستطيع قطع عدة أمتار هرباً من نحسي الخارق.
لكني تراجعت بذهني إلى هذه الجملة التي نطق بها طارق: سنظل هنا إلى الأبد حتى تثقب الأرض و تأتينا من أسفل أقدامنا.
لا هي لم تقل ذلك لقد أخبرتني أن أنتبه إلى.....
طرق البرق بعنف لينعكس على وجهي و أنا ألتفت إلى النافذة لأجدها هناك......
عين جاحظة ووجه مخضب بالدماء و رقعة باتت حمراء من صبغة السائل اللزج, تضع السكين بين شفتيها و تتعلق بإطار النافذة محاولة الدخول.....
شُل جسدي و عُقد لساني و أنا أرمق النافذة كمن رأى الشيطان بعينه يتطلع إليه من الخارج....
فسألني طارق بفزع: ماذا هناك؟
لم يتلقى جواباً مني فألح علي بالسؤال وهو ينظر إلى حيث أنظر, ليتصلب جسده هو الأخر من رؤية خصلاتها التي إلتصقت بوجهها بفعل الأمطار.....
كانت تطرق و تلكم لتكسر الزجاج و الشرار يتطاير من عينيها, فصرخ طارق قائلاً: يجب أن ندفعها قبل أن تأتي إلى هنا.
و إنطلق لتنفيذ قوله لولا أنني أمسكت بمعصمه بدون و عي, فإلتفت إلي وهو يصيح بعصبية: ماذا تريد, دعني أنتشلنا من هذا الكابوس.
تاهت الحجج عن ذهني, لكنني لن أدعه يدفعها لتسقط و تُدق عنقها, لن أدعه يقتلها مهما حدث....
هنا ألهمني الله بمخرج سحري من هذا المأذق اللعين, فوجدت نفسي أقول: إنها أمامنا أليس كذلك؟
دفعني بغضب وهو يقول بتهكمٍ مرير: هل جننت أم أصابك عمى, إنها أمامنا مباشرة.
هذا يعني أن الدرج صار متاح لنا للهروب.
بدى على طارق التردد للحظة و كأن هناك ما يناشده ليدفعها و ينهي الأمر و يريح العالم بأسره من هذه السفاحه لكنني لم أدعه لعقله كثيراً بل إنتشلته من ذراعه و إصطحبته للفرار من الدرج....
***
حينما هبطنا أسفل الدرج نظرنا إلى حيث كانت تتشبث بالنافذة كالرجل العنكبوت فلم نجد شيئاً لكن النافذة كانت مفتوحة على مصرعيها تدفعها الرياح العاتية, إذاً أغلب الظن أنها في شقتي الآن.
إستمرينا في الركض لما يقرب من نصف الساعة حتى أوقفنا التعب و ضيق النفس, فالركض أسفل الأمطار في الشوارع الموحلة صعباً للغاية.
إبتعدنا لمسافة آمنة و تفقدنا الطريق خلفنا عدة مرات لنتأكد من أنها لا تتبعنا ثم حان وقت الشجار, حيث قال طارق لاهثاً: هنا تنتهي معرفتي بك, سأضع رقمك في القائمة السوداء بهاتفي و لا أريد أن أتلقى أي رسائل منك, يكفي ما فعلته بي إلى هذه اللحظة.
إنه محق لو كنت مكانه لفعلت ذلك لكنه صديق عزيز علي مهما تفوه بما ليس بقلبه صراحة, هذا ما جعلني أقول: أعلم أنني دمرت سيارتك و أوقعتك في مشاكلٍ مع الشرطة, و أقحمتك في مطاردة مع سفاحة طليقة, لكنني لم أقصد كل هذا صدق.....
بتر عبارتي قائلاً: لقد باتت تعرف وجهي الآن يا يوسف, لقد رأتني بوضوح, و الآن ستسعى خلفي أنا الآخر و أنت منعتني من الدفاع عن نفسي و تخليصنا من هذه المصيبة.
إنه محق, لا أدري ما بي بالضبط, إنها تسعى خلفك يارجل أفق ولا تكن أحمقاً مكبلاً بالمشاعر الحمقاء هكذا....
فشلت بالطبع في الحيلولة دون ذهاب طارق, فقد تخلى عني هو الآخر, أو لكي لا أكون ظالماً لقد كان عاقلاً آثر النجاة بنفسه و النظر إلى سنوات حياته الثمينة و المستقبل الذي ينتظره.
بينما أنا صرت أسير بلا هدف و بلا مأوى في الشارع, حائر متخبط عاجز, أرى الصواب أمامي و أنفر منه, كمن يعرف خطر هذه السموم الإدمانية و رغم ذلك يستمر في تعاطيها لأنه ببساطة مدمن, أنا كذلك مدمناً لمريم ولا أستطيع التخلي عنها و إن كانت تنشد قتلي و تسن سكينها لسفك دمائي....
مالعمل الآن يا إلهي, أخرجني يارب من هذا المأزق.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي