الفصل الحادي عشر 11
التفكر في نتيجة قراراتك و مدى صعوبة تقبلها شيئ مؤلم حقاً, فالحيرة السرمدية حينما تضع أوزارها يصير كل شيئ ضيق و خانق لدرجة تدفعك للرغبة في الفرار و ترك كل شيئ, أو ربما تبحث عن أسهل الطرق للتخلص من الألم فتجد الموت سبيلك الوحيد فتعدل عن الفكرة بعد أن وجدتها مغرية للغاية....
في هذه الأفكار السوداوية قضيت ليلتي في الشارع أسفل الأمطار التي جعلت من ملابسي خرقة بالية و ألصقتها بجسدي كقطٍ بعد حمامٍ عسير.....
عند أذان الفجر دخلت إلى المسجد لأشعر ببعض الأمان الإلهي و أيضاً كوني برفقة عددٍ من الناس لهو شيئ مريح حقاً.....
ظللت ماكثاً في المسجد حتى أشرقت الشمس فحسمت أمري و قطعت طريقي عائداً إلى شقتي.....
كان الشارع هادئاً كعادة و كذلك كان الدرج الذي شعرت بثقل ظلامه رغم شروق الشمس....
إحتسبت خطواتي و تأهبت للقتال في أي لحظة حتى تفصد عرق التوتر من جبيني.....
كان باب شقتي موارباً فتبخرت شجاعتي و تراخت قوتي من فكرة أنها تنتظرني بالداخل, و داعبت ذهني فكرة النزول و الفرار بحياتي لكن لا ليس بعد أن وصلت إلى هنا, حتماً سأدخل الآن و إن وجدتها أمامي سألكمها أو سأركلها, سأفعل أي شيئ لأدافع عن نفسي فلن أموت بلا قتال.....
دفعت الباب ووثبت للداخل لأكسب عنصر المفاجئة.....
فوجدت الشقة فارغة تماماً, بل و مرتبة و نظيفة و بها إفطارٌ جاهز على المنضدة رفقة رسالة مكتوبة بخط مريم المنمق عليها مفتاح شقتي الذي نسيته حينما هرعت للفرار مع طارق.....
إبتسمت بسخرية و إرهاق, فكيف لمن شردني و قتلني خوفاً أن ينظف المنزل و يعد لي الافطار بل و يترك لي رسالة لطيفة بها شيئ من الاعتذار الذي لم أفهم منه شيئاً....
فنص الرسالة كالأتي: أشكرك لإنقاذك حياتي من رفيقك الذي حاول دفعي, تعلم أنني دوماً ما تمنيت أن أعتني بك و لكن هذا لن يحدث مالم نتزوج و يبدوا أننا لن ننال الزواج أبداً, لهذا أعذرني إن تطفلت عليك ونظفت لك كومة القمامة التي تسميها منزل, فلتسامحني ياعزيزي يوسف سأتي لزيارتك في الصباح لأطمئن عليك.
و في النهاية رسمة لوجه يعطي قبلة.....
إنقبض قلبي مع نهاية رسالته فلن تتركني لأستريح ولو لساعاتٍ معدودة ستأتيني مرة أخرى لتحاول قتلي....
ثم جولت بعيني في هذه الشقة النظيفة و الطعام الشهي المعد بإتقان كما أحبه و أنا أقول بسخرية مريرة: أتريد هذه الحمقاء أن تقتلني في شقة نظيفة, ستعاود تنظيفها مرة أخرى حينما تلوثها دمائي.
أغلقت باب الشقة و أعددت لنفسي كوباً آخر من القهوة فيبدو أنني لن أخلد للنوم حتى ينتهي هذا الأمر بطريقة ما, إما أن تقتلني أنا أو أحسم أمري و أقتلها هي.
تناولت الطعام المسموم على الأغلب, ثم تناولت قهوتي بهدوء و أنا أحاول إستشفاف أي شيئ من كلماتها هذه و من الموقف ككل؛ فقد غبت عدة ساعات عن هنا و تنظيف الشقة و إعداد هذا الطعام قد يستغرق ساعة و نصف الساعة على أكثر تقدير, ماذا فعلت فيما تبقى لها من الوقت, أظلت تلمع سكينها لتعدها لقتل الغد, لا أظن ذلك, في الأغلب قتلت بعض المشردين الآخرين أو الأسوء......
لمعت فكرة سوداوية مشؤومة في ذهني في هذه اللحظة و أنا أعيد مطالعة هذا الجزء من رسالتها: شكراً لإنقاذك حياتي من رفيقك الذي حاول دفعي.
طارق في خطر....
هرعت أبحث عن هاتفي ثم شرعت أنقب عن رقمه و إتصلت به لكنه بالطبع وضعني في القائمة السوداء, و إن كان حياً سيلقي بهاتفه من النافذة فور رؤيته لرقمي.....
أرسلت له عديد الرسائل, لكنه لم يجب أيضاً, ماذا أفعل الآن أأذهب إليه؟
إن ظل حياً سيستقبلني إستقبال المتسولين الذين ينصبون على الناس في الصدقات, لكن سحقاً أنا السبب في كل ما حدث له, لن يرحمني ضميري إن لم أذهب إليه الآن.....
غيرت ملابسي العطنة و إصطحبت سترة ثقيلة و هرعت إلى منزله على الفور....
لم أستغرق أكثر من دقائق معدودة حتى وجدت نفسي أقف أمام تجمع لرجال الشرطة و سيارات الاسعاف, و السرير النقال يحمل طارق الغارق في دمائه, تتبعه والدته و هي في حالة إنهيارٍ شديد ووالده يخبط كفٍ بكف و يفرك رأسه في حيرة و حزنٍ ضاري مما حل في ولده الوحيد...
اللعنة لقد أعدته مريم واحداً ممن شرع في إذائها فانتقمت منه, و هذا يبرهن نظرية أن القتل صار حلاً مطروحاً لها في كل شيئ و سينتقل إلى مرحلة الادمان و السادية.....
سحقاً أنا من أقحمته في هذا و أنا المسؤول عن موته, أنا من قتلت صديقي بيدي و منعته من التخلص منها فعادت لقتله....
لم أجرؤ أن أري وجهي لأم طارق أو والده, بل وليتهم ظهري مبتعداً و بداخلي غل وحقد و كراهية متقدة تكفي لحرق بلدٍ بأكملها.....
لم يعد الأمر متعلقاً بالخوف منها أو الهرب الآن بل سأواجهها و أحاربها بذات السلاح, قد أموت لكنني لن أندم على ذلك بل سأكون مرتاحاً لأنني سأفر من هذا الذنب الوبيل الذي سيحطم أكتافي من ثقله, و قد أقتلها و حينها لن أشعر بالشفقة إتجاهها بل سأكون أخذت بثأر صديقي الذي قتلته بجهلٍ مني, إذاً موعدنا في الصباح كما طلبت و سأنتظر زيارتك على أحر من الجمر بل و سأكون على أتم الاستعداد لإستقبالٍ حافل يليق بمعزتكِ و حبي لكِ.
***
كان صباحاً غائماً عدت به إلى شقتي مرهقاً ناقماً ضجراً على كل شيئ....
لم يمضي الكثير من الوقت حتى طرق الرعد و عاودت الهطول مرة أخرى لكن هذه المرة لم تغرقني أمطارها فقد كنت عازماً على أن تكون المواجهة القادمة في شقتي دون أن أفر....
أجريت إتصالاً سريعا بدكتور مراد, ثم نقبت في الشوارع بحثاً عن هراوة ثقيلة فلا أجيد الطعن بالسكاكين ولا إستخدام الأسلحة البيضاء عامة.....
وضعت المنضدة على الطاولة و شرعت أعد لنفسي كوباً من القهوة و جلست أطالع بعض المقالات التي أرسلها دكتور مراد إلى هاتفي....
تفحصت هذه المقالات بأعين ضبابية مشتتة تحيط بها الهالات السوداء, و قد بدأ أثر الافراط في إحتساء القهوة يعطي بصمته في تنميل الرأس و الجسد, لقد كانت حالة مزرية لو دخلت بها معركة مع برص لخسرتها لكن لقد عزمت أمري بالفعل....
كان بحث دكتور مراد عن عددٍ من السفاحين التاريخين في بريطانيا و بالأخص لندن, لا أقصد جاك السفاح بالأخص لكن هذه الحقبة كان بها العديد من السفاحين المنفلتين من بين أصابع أجهزة الشرطة.....
منهم الممرضة إلين التي كانت تعتني بمرضاها إعتناءاً شديداً و تسهر بجوارهم و تعمل جل ما بيدها لتراهم يتحسنون حتى قيل أن خبرتها تكافئ خبرة طبيب متخصص, إلى أن يمثل مرضاها إلى الشفاء و يصيرون جاهزين لمغادرة المشفى, فكانت تتهمهم بالخيانة لتركها وحيدة بعد أن إعتنت بهم فتعود إلى منازلهم في المساء لتقتلهم واحداً واحداً, طوال خمس سنوات لم يكتشف أحد أنها الفاعلة, و في الواقع لم يكتشف أحد على الاطلاق بل سقطت متلبسة في قبضة أحد مرضاها و الذي كان ضابطاً في البحرية و صادف أنه كان مصاباً بالأرق لعدم إعتياده على النوم في البر و في منزلة, فما إن أنهى خدمته حتى ذهب إلى المشفى لتلقي العلاج النفسي, فكان لعودته إلى منزله بعد عقودٍ قضاها بين الملح و الماء غير مريحة و لا تساعده على النوم, فحاول تناول مختلف أنواع المنومات التي كُتبت له, و ما إن كاد يغلق جفونه حتى رآها تحضر محقنتها و تعبئها بالهواء لتدسها بأوردتها, فإستطاع القبض عليها و إخضاعها في آخر لحظة.....
قارنت حالة إلين بمريم لكنني لم أجد هذا الشبه البالغ الذي يجعلني أخوض في البروتوكول العلاجي الذي خضعت له إلين كما أنني لست ضابط بحرية, لننتقل إلى السفاح الثاني على القائمة.....
الفتاة كيلان فاسكيز أو فاسكيز الفاتنة كما سماها ضحاياها, كانت واقعة في غرام شابٍ من أصولٍ أيرلندية لكنه خذلها خذلاناً كبيراً من وجهة نظرها, فقد نسى في عامٍ واحد كل المناسبات الخاصة بها مثل عيد ميلادها و أول لقاء و تاريخ أو قبلة و أشياء من هذا القبيل....
لم تُذكِّره فاسكيز بهذه المناسبات بل تركته ينسى, حتى مر هذا العام و كان أفضل عام في علاقة الثنائي كما كان يقول أصدقائهم و المحيطين بهم, لكن نهايته لم تكن مثالية كما كانت علاقتهم بل نسى عيد مولدها للمرة الثانية فتقبلت فاسكيز الأمر بصدر رحب و ذكرته و تقبلت أعذاره و دعت جميع المقربين له و بالطبع عائلته, ثم قدمت لهم طعاماً شهياً متبلاً بأكثر أنواع السم ضراوة و فتكاً, و لم تكتفي فاسكيز بقتلهم جميعاً بل مثلت بجثثهم ووضعتها في طرود هدايا و كبلت جثة صديقتها في المقعد و تابعت الاحتفال كأن لم يحدث شيئ....
ما أوقع بفاسكيز هو الرائحة؛ فتعفن جثة صديقها الذي كانت تعتزم إبقائها حتى تحتفل برفقتها بكل المناسبات التي نسيها تضوعت بنتنها و لفتت الأنظار إليها و في النهاية وقعت في الأسر....
فارنت بين حالة فاسكيز و مريم فلم أجد أي تشابه سوى أن الاثنين يسعون لقتل أحبائهم و أنا في ذلك شبيه للغاية مع صديق فاسكيز, هل ستتذكر لي مريم كل مرة أغلقت بها هاتفي لأكسب دقائق اضافية للنوم لتجعلها سبب في قتلي؟
مولي برينتون تعرضت للاختطاف في التاسعة من عمرها, هنا برقت عيناي و شعرت أنني على وشك الامساك بأول خيط من نسيج فهم رأس مريم.....
أُختطفت مولي أثناء خروجها من مدرستها من قِبل عصابة تعمل في الاتجار بالبشر في رومانيا, و لم تترك رسالة إلى أهلها طلباً للفدية أو أي شيئ فقط أُخذت مولي و تم شحنها لعدة بلدان حتى بلغت الثانية عشر من عمرها, و في تاريخ ميلادها الثاني عشر وصل إلى والديها فيديو مخل للفتاة الصغيرة في أحد المواقع الاباحية مدفوعة الثمن, هرع والدها إلى الشرطة و هناك تحركت كل الاجهزة للتحقيق في الامر و إعادة مولي في غضون ثلاثة أسابيع, لتعود مولي و هي في حالة منكسرة مشوهة مشدوهة و غائبة على الدوام, تظهر أمارات الجحيم الذي أُغمست به على كل قطعة من جسدها.....
خضعت مولي للعلاج و إعادة التهيئة لعدة سنوات, و لم يكتفي العلاج النفسي فقط بل أيضاً الكميائي و المهدئات و العمليات الجراحية و كل شيئ لإستئصال البشاعة التي حلت بها من ذاكرتها المدمرة, و بالفعل إستجابت مولي و عادت لحياتها الطبيعية و عملت في مجال التهيئة النفسية بتوصية من الأطباء الذي أشرفوا على علاجها كونها مرت بهذه التجارب من قبل.....
صارت مولي في الثلاثين من عمرها و قد حان الوقت ليعجب بها أحد الأشخاص و يتقدم لخطبتها من والدها, توقع والدها أن ترفض الأمر و تلفظه لكن على العكس قبلت مولي بصدر رحب بل و سارعت لإتمام الزواج, سعد كلا والديها بتعافي إبنتهم التام و قد بشرهم الأطباء بذلك فلا يُقدم على الزواج إلا من زالت عنه كل آثار هذه الصدمة النفسية المروعة, لكن الأطباء غفلو عن أهم جزء من الأمر وهو إما أن يكون المرء متعافياً أو مشتاقاً للماضي و لإعادة إحياء رغبات الانتقام مرة أخرى....
تزوجت مولي من هذا الشاب المتحمس و أجبرته على جلدها و تعنيفها و فعل أشياء شنعاء لها فقط لتشبع رغبة خفية بداخلها, ثم تستعيد مقداراً لا بأس به من الغل و الكراهية المكبوتتان داخلها و تجد أمامها من توجه له هذه الكراهية الجارفة, فمزقت جسده إرباً و أغرقته في مياة النهر و إدعت أن زوجها هجرها و هرب بعيداً و لم يشكك أحد بذلك فقد كان مهاجراً لا أهل له في رومانيا.....
تزوجت مولي ثلاثة مرات أخرى و كررت كل شيئ بحزافيره حتى بدا الأمر ملفتاً للنظر و تم إلقاء القبض على مولي و إستجوابها إلا أن أحداً لم يستطع تكذيبها أو إستشفاف الحقيقة منها فقد كانت كشخصين متناقضين رغم أنه لم يتم إثبات أي حالة إنفصام أو إزدواجية في شخصيتها.....
رشفت بعضاً من القهوة التي غفلت عنها حتى بردت, و قد وجدت حالة أقرب ما يكون من مريم, أو يمكن أن تقول انها أقرب الحالات التي عرضها علي دكتور مراد, و قد حان الوقت للبحث في العلاج.....
لم يكن العلاج سهلاً بل كان مرعباً مظلماً غير انساني بالمرة, فلجهل الأطباء بحالة مولي أجرو عليها عشرات التجارب المفجعة, بداية من التكبيل و تجربة مس مستشعرات الألم و تحفيزها لمحاولة الوصول إلى درجة الألم التي تتبدل بها شخصية مولي و تصير قاتلة سادية تهوى الانتقام, ثم عرض عليها العشرات من عمليات التعذيب و القتل لرؤية ردود فعلها عليها و هل صارت مندرجة تحت تصنيف السفاحين أم لا, لكن ردود أفعالها كانت هلوعة و منزعجة و طبيعية تماماً....
ثم جربو جرحها و محاكاة التعذيب الشنيع الذي تعرضت له ليجدوها تتبدل و تختفي لتحل محلها أخرى فوصلو إلى نظرية أنها ليست بالقاتلة المتسلسلة, فهي لا تشتهي القتل بل فقط تشتهي الانتقام لهذا لن تقتل أحداً حتى تجعله يذيقها من الويلات التي مرت بها و هذا ما يسمى بالقتل المشروط...
ببساطة العلاج لا وجود له, فقط تركوها سجينة المصحة العقلية لتتعفن إلى الأبد, بل كان هناك هامشاً جانبياً تركه دكتور مراد في دراسته يقول: رغم كون النظرة العامة لها أنها مجرد قاتلة إلى أنها تعرضت لظلمٍ بين, فلا يوجد ما هو أشد حيفاً من أن تضع عاقلاً في المصحة حتى يجن, حتماً كان هناك علاجاً لمولي لكن لم يتوصل له أحد إلى الآن.
فركت عيني و قد وجدت أنني أعود لنقطة البداية مرة أخرى بل لما هو خلف نقطة البداية, فقد توصلت الآن أنه لا علاج لهذا النوع من الحالات بل تترك في المصحات بينما هم محتفظين بعقولهم حتى نستطيع أن نطلق عليهم لقب الجانين و نريح ضمائرناً, إنها جريمة مكتملة الأركان, و بحق من؟
الفتاة الوحيدة التي أحببتها بل و شاورت عقلي للزواج بها.
الآن مالخطة التالية بعد أن أدركت أن لا علاج لها, أأقتلها قبل أن تقتلني أم أنصب لها كمينا و أستدعي الشرطة ليلقونها في المصحة حتى تجن و أكون أنا المجرم في هذه الرواية؟
لما لا أسأل من عاصر هذه التجارب اللعينة؟
إتصلت بدكتور مراد فأجابني على عجل: كيف حالك يايوسف, دعني أخبرك كم أنا سعيد لطلبك لهذه المقالات فأنا أرى بك بذرة مشرقة لمعالج نفسي سيرهز جميع الأوساط العلمية.
إبتسمت بسخرية فكيف أخبره أنني كرهت هذا الوسط على كل شخصٍ فيه بداية منه هو, لكنني تمالكت أعصابي و أنا أسأله: أعاصرت حالة مثل حالة مولي؟
تمهل دكتور مراد في الاجابة لهنية من الوقت, ثم قال: مولي كانت الحالة الوحيدة التي حدثت في التاريخ الحديث فهي ليست من حقبة جاك السفاح.
أصدرت همهمة جهل قبل أن أتساءل: و هذا يعني؟
أجابني على الفور قائلاً: هذا يعني أن الأمر لم يكن في السابق حينما كان العلاج النفسي ضعيفاً بل هي معاصرة لنا حيث العلاج النفسي في أوج عطائه, و لم يوجد لها علاج إلى الآن.
تنهدت بخيبة أمل فقد أكد ما كان يدور في رأسي, ثم سألته: ماذا ستفعل إن وجدت حالة مشابهة لحالة مولي؟
تمهل برهة قبل أن يقول ضاحكاً: سألوذ بالفرار.
كانت إجابته تندرج تحت خانة الكوميديا السوداء, فما تراه مضحكاً قد يكون مؤلماً لشخص يحدثك على الهاتف دون أن تعي ذلك.....
هكذا وجدت نفسي أجيبه بضجر: حسناً, إن لم يكن الهروب خياراً مطروحاً, مالعمل؟
كعادته إستغرق في التفكير كأنه منهمكاً في شيئ آخر أثناء حديثه معي, ثم أجاب قائلاً: سأحاول مماطلته إلى أن تصل الشرطة, و إن لم أستطيع أن أفعل ذلك فالمرض النفسي كأي مرضٍ آخر له مسكنات مع فارق أن الكلمات هي مسكناته الأولى, لهذا سأبذل ما بوسعي لتسكين المريض و طمأنته إلى أن ينصرف عني أو يقتنع أنه ليس بحاجة لقتلي.
لم تكن كلماته مفيدة إطلاقاً لي لكن يمكن أن أقول أنها نظمت أفكاري و وضعتني على بداية الطريق الذي سأسلكه مع مريم, لهذا ودعته قائلاً: حسناً, أعتذر للاثقال عليك دكتور مراد, لكن إن قتلت مريضاً نفسياً سأدخل إلى السجن و إن كان سفاحاً طليق؟
همهم مفكراً ثم قال: في أغلب الحالات أجل إلا إن إستطعت إثبات أنك كنت تدافع عن نفسك.
ثم بدا عليه أنه تذكر شيئاً ما وهو يقول: فلتدعني أصطحبك إلى مولي فيما بعد فقد صادف أنني أحد الأطباء المشرفين على علاجها, لا تزال شابة جميلة خفيفة الظل ستستلطفها أعدك.
وددت لو سببته بأفظع الشتائم لكن عوضاً عن ذلك أغلقت الهاتف في وجهه و أنا أرغي و أزبد نقماً عليه.
***
في هذه الأفكار السوداوية قضيت ليلتي في الشارع أسفل الأمطار التي جعلت من ملابسي خرقة بالية و ألصقتها بجسدي كقطٍ بعد حمامٍ عسير.....
عند أذان الفجر دخلت إلى المسجد لأشعر ببعض الأمان الإلهي و أيضاً كوني برفقة عددٍ من الناس لهو شيئ مريح حقاً.....
ظللت ماكثاً في المسجد حتى أشرقت الشمس فحسمت أمري و قطعت طريقي عائداً إلى شقتي.....
كان الشارع هادئاً كعادة و كذلك كان الدرج الذي شعرت بثقل ظلامه رغم شروق الشمس....
إحتسبت خطواتي و تأهبت للقتال في أي لحظة حتى تفصد عرق التوتر من جبيني.....
كان باب شقتي موارباً فتبخرت شجاعتي و تراخت قوتي من فكرة أنها تنتظرني بالداخل, و داعبت ذهني فكرة النزول و الفرار بحياتي لكن لا ليس بعد أن وصلت إلى هنا, حتماً سأدخل الآن و إن وجدتها أمامي سألكمها أو سأركلها, سأفعل أي شيئ لأدافع عن نفسي فلن أموت بلا قتال.....
دفعت الباب ووثبت للداخل لأكسب عنصر المفاجئة.....
فوجدت الشقة فارغة تماماً, بل و مرتبة و نظيفة و بها إفطارٌ جاهز على المنضدة رفقة رسالة مكتوبة بخط مريم المنمق عليها مفتاح شقتي الذي نسيته حينما هرعت للفرار مع طارق.....
إبتسمت بسخرية و إرهاق, فكيف لمن شردني و قتلني خوفاً أن ينظف المنزل و يعد لي الافطار بل و يترك لي رسالة لطيفة بها شيئ من الاعتذار الذي لم أفهم منه شيئاً....
فنص الرسالة كالأتي: أشكرك لإنقاذك حياتي من رفيقك الذي حاول دفعي, تعلم أنني دوماً ما تمنيت أن أعتني بك و لكن هذا لن يحدث مالم نتزوج و يبدوا أننا لن ننال الزواج أبداً, لهذا أعذرني إن تطفلت عليك ونظفت لك كومة القمامة التي تسميها منزل, فلتسامحني ياعزيزي يوسف سأتي لزيارتك في الصباح لأطمئن عليك.
و في النهاية رسمة لوجه يعطي قبلة.....
إنقبض قلبي مع نهاية رسالته فلن تتركني لأستريح ولو لساعاتٍ معدودة ستأتيني مرة أخرى لتحاول قتلي....
ثم جولت بعيني في هذه الشقة النظيفة و الطعام الشهي المعد بإتقان كما أحبه و أنا أقول بسخرية مريرة: أتريد هذه الحمقاء أن تقتلني في شقة نظيفة, ستعاود تنظيفها مرة أخرى حينما تلوثها دمائي.
أغلقت باب الشقة و أعددت لنفسي كوباً آخر من القهوة فيبدو أنني لن أخلد للنوم حتى ينتهي هذا الأمر بطريقة ما, إما أن تقتلني أنا أو أحسم أمري و أقتلها هي.
تناولت الطعام المسموم على الأغلب, ثم تناولت قهوتي بهدوء و أنا أحاول إستشفاف أي شيئ من كلماتها هذه و من الموقف ككل؛ فقد غبت عدة ساعات عن هنا و تنظيف الشقة و إعداد هذا الطعام قد يستغرق ساعة و نصف الساعة على أكثر تقدير, ماذا فعلت فيما تبقى لها من الوقت, أظلت تلمع سكينها لتعدها لقتل الغد, لا أظن ذلك, في الأغلب قتلت بعض المشردين الآخرين أو الأسوء......
لمعت فكرة سوداوية مشؤومة في ذهني في هذه اللحظة و أنا أعيد مطالعة هذا الجزء من رسالتها: شكراً لإنقاذك حياتي من رفيقك الذي حاول دفعي.
طارق في خطر....
هرعت أبحث عن هاتفي ثم شرعت أنقب عن رقمه و إتصلت به لكنه بالطبع وضعني في القائمة السوداء, و إن كان حياً سيلقي بهاتفه من النافذة فور رؤيته لرقمي.....
أرسلت له عديد الرسائل, لكنه لم يجب أيضاً, ماذا أفعل الآن أأذهب إليه؟
إن ظل حياً سيستقبلني إستقبال المتسولين الذين ينصبون على الناس في الصدقات, لكن سحقاً أنا السبب في كل ما حدث له, لن يرحمني ضميري إن لم أذهب إليه الآن.....
غيرت ملابسي العطنة و إصطحبت سترة ثقيلة و هرعت إلى منزله على الفور....
لم أستغرق أكثر من دقائق معدودة حتى وجدت نفسي أقف أمام تجمع لرجال الشرطة و سيارات الاسعاف, و السرير النقال يحمل طارق الغارق في دمائه, تتبعه والدته و هي في حالة إنهيارٍ شديد ووالده يخبط كفٍ بكف و يفرك رأسه في حيرة و حزنٍ ضاري مما حل في ولده الوحيد...
اللعنة لقد أعدته مريم واحداً ممن شرع في إذائها فانتقمت منه, و هذا يبرهن نظرية أن القتل صار حلاً مطروحاً لها في كل شيئ و سينتقل إلى مرحلة الادمان و السادية.....
سحقاً أنا من أقحمته في هذا و أنا المسؤول عن موته, أنا من قتلت صديقي بيدي و منعته من التخلص منها فعادت لقتله....
لم أجرؤ أن أري وجهي لأم طارق أو والده, بل وليتهم ظهري مبتعداً و بداخلي غل وحقد و كراهية متقدة تكفي لحرق بلدٍ بأكملها.....
لم يعد الأمر متعلقاً بالخوف منها أو الهرب الآن بل سأواجهها و أحاربها بذات السلاح, قد أموت لكنني لن أندم على ذلك بل سأكون مرتاحاً لأنني سأفر من هذا الذنب الوبيل الذي سيحطم أكتافي من ثقله, و قد أقتلها و حينها لن أشعر بالشفقة إتجاهها بل سأكون أخذت بثأر صديقي الذي قتلته بجهلٍ مني, إذاً موعدنا في الصباح كما طلبت و سأنتظر زيارتك على أحر من الجمر بل و سأكون على أتم الاستعداد لإستقبالٍ حافل يليق بمعزتكِ و حبي لكِ.
***
كان صباحاً غائماً عدت به إلى شقتي مرهقاً ناقماً ضجراً على كل شيئ....
لم يمضي الكثير من الوقت حتى طرق الرعد و عاودت الهطول مرة أخرى لكن هذه المرة لم تغرقني أمطارها فقد كنت عازماً على أن تكون المواجهة القادمة في شقتي دون أن أفر....
أجريت إتصالاً سريعا بدكتور مراد, ثم نقبت في الشوارع بحثاً عن هراوة ثقيلة فلا أجيد الطعن بالسكاكين ولا إستخدام الأسلحة البيضاء عامة.....
وضعت المنضدة على الطاولة و شرعت أعد لنفسي كوباً من القهوة و جلست أطالع بعض المقالات التي أرسلها دكتور مراد إلى هاتفي....
تفحصت هذه المقالات بأعين ضبابية مشتتة تحيط بها الهالات السوداء, و قد بدأ أثر الافراط في إحتساء القهوة يعطي بصمته في تنميل الرأس و الجسد, لقد كانت حالة مزرية لو دخلت بها معركة مع برص لخسرتها لكن لقد عزمت أمري بالفعل....
كان بحث دكتور مراد عن عددٍ من السفاحين التاريخين في بريطانيا و بالأخص لندن, لا أقصد جاك السفاح بالأخص لكن هذه الحقبة كان بها العديد من السفاحين المنفلتين من بين أصابع أجهزة الشرطة.....
منهم الممرضة إلين التي كانت تعتني بمرضاها إعتناءاً شديداً و تسهر بجوارهم و تعمل جل ما بيدها لتراهم يتحسنون حتى قيل أن خبرتها تكافئ خبرة طبيب متخصص, إلى أن يمثل مرضاها إلى الشفاء و يصيرون جاهزين لمغادرة المشفى, فكانت تتهمهم بالخيانة لتركها وحيدة بعد أن إعتنت بهم فتعود إلى منازلهم في المساء لتقتلهم واحداً واحداً, طوال خمس سنوات لم يكتشف أحد أنها الفاعلة, و في الواقع لم يكتشف أحد على الاطلاق بل سقطت متلبسة في قبضة أحد مرضاها و الذي كان ضابطاً في البحرية و صادف أنه كان مصاباً بالأرق لعدم إعتياده على النوم في البر و في منزلة, فما إن أنهى خدمته حتى ذهب إلى المشفى لتلقي العلاج النفسي, فكان لعودته إلى منزله بعد عقودٍ قضاها بين الملح و الماء غير مريحة و لا تساعده على النوم, فحاول تناول مختلف أنواع المنومات التي كُتبت له, و ما إن كاد يغلق جفونه حتى رآها تحضر محقنتها و تعبئها بالهواء لتدسها بأوردتها, فإستطاع القبض عليها و إخضاعها في آخر لحظة.....
قارنت حالة إلين بمريم لكنني لم أجد هذا الشبه البالغ الذي يجعلني أخوض في البروتوكول العلاجي الذي خضعت له إلين كما أنني لست ضابط بحرية, لننتقل إلى السفاح الثاني على القائمة.....
الفتاة كيلان فاسكيز أو فاسكيز الفاتنة كما سماها ضحاياها, كانت واقعة في غرام شابٍ من أصولٍ أيرلندية لكنه خذلها خذلاناً كبيراً من وجهة نظرها, فقد نسى في عامٍ واحد كل المناسبات الخاصة بها مثل عيد ميلادها و أول لقاء و تاريخ أو قبلة و أشياء من هذا القبيل....
لم تُذكِّره فاسكيز بهذه المناسبات بل تركته ينسى, حتى مر هذا العام و كان أفضل عام في علاقة الثنائي كما كان يقول أصدقائهم و المحيطين بهم, لكن نهايته لم تكن مثالية كما كانت علاقتهم بل نسى عيد مولدها للمرة الثانية فتقبلت فاسكيز الأمر بصدر رحب و ذكرته و تقبلت أعذاره و دعت جميع المقربين له و بالطبع عائلته, ثم قدمت لهم طعاماً شهياً متبلاً بأكثر أنواع السم ضراوة و فتكاً, و لم تكتفي فاسكيز بقتلهم جميعاً بل مثلت بجثثهم ووضعتها في طرود هدايا و كبلت جثة صديقتها في المقعد و تابعت الاحتفال كأن لم يحدث شيئ....
ما أوقع بفاسكيز هو الرائحة؛ فتعفن جثة صديقها الذي كانت تعتزم إبقائها حتى تحتفل برفقتها بكل المناسبات التي نسيها تضوعت بنتنها و لفتت الأنظار إليها و في النهاية وقعت في الأسر....
فارنت بين حالة فاسكيز و مريم فلم أجد أي تشابه سوى أن الاثنين يسعون لقتل أحبائهم و أنا في ذلك شبيه للغاية مع صديق فاسكيز, هل ستتذكر لي مريم كل مرة أغلقت بها هاتفي لأكسب دقائق اضافية للنوم لتجعلها سبب في قتلي؟
مولي برينتون تعرضت للاختطاف في التاسعة من عمرها, هنا برقت عيناي و شعرت أنني على وشك الامساك بأول خيط من نسيج فهم رأس مريم.....
أُختطفت مولي أثناء خروجها من مدرستها من قِبل عصابة تعمل في الاتجار بالبشر في رومانيا, و لم تترك رسالة إلى أهلها طلباً للفدية أو أي شيئ فقط أُخذت مولي و تم شحنها لعدة بلدان حتى بلغت الثانية عشر من عمرها, و في تاريخ ميلادها الثاني عشر وصل إلى والديها فيديو مخل للفتاة الصغيرة في أحد المواقع الاباحية مدفوعة الثمن, هرع والدها إلى الشرطة و هناك تحركت كل الاجهزة للتحقيق في الامر و إعادة مولي في غضون ثلاثة أسابيع, لتعود مولي و هي في حالة منكسرة مشوهة مشدوهة و غائبة على الدوام, تظهر أمارات الجحيم الذي أُغمست به على كل قطعة من جسدها.....
خضعت مولي للعلاج و إعادة التهيئة لعدة سنوات, و لم يكتفي العلاج النفسي فقط بل أيضاً الكميائي و المهدئات و العمليات الجراحية و كل شيئ لإستئصال البشاعة التي حلت بها من ذاكرتها المدمرة, و بالفعل إستجابت مولي و عادت لحياتها الطبيعية و عملت في مجال التهيئة النفسية بتوصية من الأطباء الذي أشرفوا على علاجها كونها مرت بهذه التجارب من قبل.....
صارت مولي في الثلاثين من عمرها و قد حان الوقت ليعجب بها أحد الأشخاص و يتقدم لخطبتها من والدها, توقع والدها أن ترفض الأمر و تلفظه لكن على العكس قبلت مولي بصدر رحب بل و سارعت لإتمام الزواج, سعد كلا والديها بتعافي إبنتهم التام و قد بشرهم الأطباء بذلك فلا يُقدم على الزواج إلا من زالت عنه كل آثار هذه الصدمة النفسية المروعة, لكن الأطباء غفلو عن أهم جزء من الأمر وهو إما أن يكون المرء متعافياً أو مشتاقاً للماضي و لإعادة إحياء رغبات الانتقام مرة أخرى....
تزوجت مولي من هذا الشاب المتحمس و أجبرته على جلدها و تعنيفها و فعل أشياء شنعاء لها فقط لتشبع رغبة خفية بداخلها, ثم تستعيد مقداراً لا بأس به من الغل و الكراهية المكبوتتان داخلها و تجد أمامها من توجه له هذه الكراهية الجارفة, فمزقت جسده إرباً و أغرقته في مياة النهر و إدعت أن زوجها هجرها و هرب بعيداً و لم يشكك أحد بذلك فقد كان مهاجراً لا أهل له في رومانيا.....
تزوجت مولي ثلاثة مرات أخرى و كررت كل شيئ بحزافيره حتى بدا الأمر ملفتاً للنظر و تم إلقاء القبض على مولي و إستجوابها إلا أن أحداً لم يستطع تكذيبها أو إستشفاف الحقيقة منها فقد كانت كشخصين متناقضين رغم أنه لم يتم إثبات أي حالة إنفصام أو إزدواجية في شخصيتها.....
رشفت بعضاً من القهوة التي غفلت عنها حتى بردت, و قد وجدت حالة أقرب ما يكون من مريم, أو يمكن أن تقول انها أقرب الحالات التي عرضها علي دكتور مراد, و قد حان الوقت للبحث في العلاج.....
لم يكن العلاج سهلاً بل كان مرعباً مظلماً غير انساني بالمرة, فلجهل الأطباء بحالة مولي أجرو عليها عشرات التجارب المفجعة, بداية من التكبيل و تجربة مس مستشعرات الألم و تحفيزها لمحاولة الوصول إلى درجة الألم التي تتبدل بها شخصية مولي و تصير قاتلة سادية تهوى الانتقام, ثم عرض عليها العشرات من عمليات التعذيب و القتل لرؤية ردود فعلها عليها و هل صارت مندرجة تحت تصنيف السفاحين أم لا, لكن ردود أفعالها كانت هلوعة و منزعجة و طبيعية تماماً....
ثم جربو جرحها و محاكاة التعذيب الشنيع الذي تعرضت له ليجدوها تتبدل و تختفي لتحل محلها أخرى فوصلو إلى نظرية أنها ليست بالقاتلة المتسلسلة, فهي لا تشتهي القتل بل فقط تشتهي الانتقام لهذا لن تقتل أحداً حتى تجعله يذيقها من الويلات التي مرت بها و هذا ما يسمى بالقتل المشروط...
ببساطة العلاج لا وجود له, فقط تركوها سجينة المصحة العقلية لتتعفن إلى الأبد, بل كان هناك هامشاً جانبياً تركه دكتور مراد في دراسته يقول: رغم كون النظرة العامة لها أنها مجرد قاتلة إلى أنها تعرضت لظلمٍ بين, فلا يوجد ما هو أشد حيفاً من أن تضع عاقلاً في المصحة حتى يجن, حتماً كان هناك علاجاً لمولي لكن لم يتوصل له أحد إلى الآن.
فركت عيني و قد وجدت أنني أعود لنقطة البداية مرة أخرى بل لما هو خلف نقطة البداية, فقد توصلت الآن أنه لا علاج لهذا النوع من الحالات بل تترك في المصحات بينما هم محتفظين بعقولهم حتى نستطيع أن نطلق عليهم لقب الجانين و نريح ضمائرناً, إنها جريمة مكتملة الأركان, و بحق من؟
الفتاة الوحيدة التي أحببتها بل و شاورت عقلي للزواج بها.
الآن مالخطة التالية بعد أن أدركت أن لا علاج لها, أأقتلها قبل أن تقتلني أم أنصب لها كمينا و أستدعي الشرطة ليلقونها في المصحة حتى تجن و أكون أنا المجرم في هذه الرواية؟
لما لا أسأل من عاصر هذه التجارب اللعينة؟
إتصلت بدكتور مراد فأجابني على عجل: كيف حالك يايوسف, دعني أخبرك كم أنا سعيد لطلبك لهذه المقالات فأنا أرى بك بذرة مشرقة لمعالج نفسي سيرهز جميع الأوساط العلمية.
إبتسمت بسخرية فكيف أخبره أنني كرهت هذا الوسط على كل شخصٍ فيه بداية منه هو, لكنني تمالكت أعصابي و أنا أسأله: أعاصرت حالة مثل حالة مولي؟
تمهل دكتور مراد في الاجابة لهنية من الوقت, ثم قال: مولي كانت الحالة الوحيدة التي حدثت في التاريخ الحديث فهي ليست من حقبة جاك السفاح.
أصدرت همهمة جهل قبل أن أتساءل: و هذا يعني؟
أجابني على الفور قائلاً: هذا يعني أن الأمر لم يكن في السابق حينما كان العلاج النفسي ضعيفاً بل هي معاصرة لنا حيث العلاج النفسي في أوج عطائه, و لم يوجد لها علاج إلى الآن.
تنهدت بخيبة أمل فقد أكد ما كان يدور في رأسي, ثم سألته: ماذا ستفعل إن وجدت حالة مشابهة لحالة مولي؟
تمهل برهة قبل أن يقول ضاحكاً: سألوذ بالفرار.
كانت إجابته تندرج تحت خانة الكوميديا السوداء, فما تراه مضحكاً قد يكون مؤلماً لشخص يحدثك على الهاتف دون أن تعي ذلك.....
هكذا وجدت نفسي أجيبه بضجر: حسناً, إن لم يكن الهروب خياراً مطروحاً, مالعمل؟
كعادته إستغرق في التفكير كأنه منهمكاً في شيئ آخر أثناء حديثه معي, ثم أجاب قائلاً: سأحاول مماطلته إلى أن تصل الشرطة, و إن لم أستطيع أن أفعل ذلك فالمرض النفسي كأي مرضٍ آخر له مسكنات مع فارق أن الكلمات هي مسكناته الأولى, لهذا سأبذل ما بوسعي لتسكين المريض و طمأنته إلى أن ينصرف عني أو يقتنع أنه ليس بحاجة لقتلي.
لم تكن كلماته مفيدة إطلاقاً لي لكن يمكن أن أقول أنها نظمت أفكاري و وضعتني على بداية الطريق الذي سأسلكه مع مريم, لهذا ودعته قائلاً: حسناً, أعتذر للاثقال عليك دكتور مراد, لكن إن قتلت مريضاً نفسياً سأدخل إلى السجن و إن كان سفاحاً طليق؟
همهم مفكراً ثم قال: في أغلب الحالات أجل إلا إن إستطعت إثبات أنك كنت تدافع عن نفسك.
ثم بدا عليه أنه تذكر شيئاً ما وهو يقول: فلتدعني أصطحبك إلى مولي فيما بعد فقد صادف أنني أحد الأطباء المشرفين على علاجها, لا تزال شابة جميلة خفيفة الظل ستستلطفها أعدك.
وددت لو سببته بأفظع الشتائم لكن عوضاً عن ذلك أغلقت الهاتف في وجهه و أنا أرغي و أزبد نقماً عليه.
***