الفصل الخامس عشر

موجه جديد شغل منصبه قريبا لكنه يبدو مخضرما حقا .. بملامح صغيرة تعطيه سنا أصغر من سنه الحقيقي ، وبنظارة مستديرة العدسات بسلسلة ذهبية طويلة لامعة .. كان يرتدي بذلة صيفية نظيفة لكنها لم تكوي جيدا ، فقد كانت أطراف البنطلون متهدلة ومكرمشة كما أن الأكمام كانت مجعدة بشكل يوحي بأن من قام على كي تلك الملابس شخص إما أنه لا صبر له ولا يجيد فن إتقان العمل ، وإما أنه قام بكيها غصبا فركلها برجل كلب حتى يتخلص منها .. بالرغم من كل ذلك فقد منظر الموجه مقبولا لدرجة كبيرة .. بدا ل" سناء "رجلا طيبا لا يخشي شره ولا يُتوقع منه السوء من القول أو العمل وهو يجلس في مقعد جلدي مريح أمام مكتب المدير .. الذي جلس فاردا جذعه فتمدد كرشه العظيم أمامه كبالون منتفخ لا يحتاج إلا لشكة إبرة من طفل شقي لينفجر وتتناثر أحشائه ، التي خنقها الشحم وجثم الدهن على أنفاسها .. كانت تلك أول مرة تري فيها المدرسة الجديدة وجه موجهها ، الذي من المفترض أنه يتابعها ويتابع عملها بشكل دوري ومنتظم .. ويسجل تقدمها وملاحظاته حولها بشكل دائم مصدرا حكمه حول مدي كفاءتها للعمل .. لكن شيء من هذا لم يكن ليحدث !
فكل موجه في تلك الإدارة مكلف بمتابعة ما لا يقل عن أربعين مدرسة .. بعضها به أكثر من عشرة مدرسي فصول للصفوف من الأول وحتى الثالث الابتدائي ، مما يعني أن هناك تقريبا أربعمائة مدرس يقعون في عهدته ويكلف هو بالإشراف عليهم وتنظيم أمورهم ومتابعة أعمالهم .. فبأي عقل يفعل رجل في الخمسين أو الستين ذلك ومن أين يأتي بالقوة اللازمة للصمود في وجه كل ذلك ؟!
كانت " سناء " تعذره وتعذر عدم زيارته لها مرة واحدة ، لا هي ولا جميع مدرسي الفصل للصف الثالث الابتدائي كلهم ، منذ بداية العام الدراسي .. أضف إلي ذلك أن الرجل بدا مريضا واهنا حقا وربما كان مصابا بالسكر كما يظهر من شكله !
توافد مدرسوا الصف الثالث على مكتب المدير تلبية لطلباته ومراسيله التي أخذ يوفدها إلي كل منهم في فصله أو أينما أنحط في المدرسة ليأتي لمقابلة السيد المبجل الموجه .. كان المدرسون الآخرون على ما يرام !
دفاتر تحضير منسقة .. تواريخ مضبوطة .. دروسهم متماشية مع خطة العام الدراسي تماما .. قام الموجه بنظر دفاتر المدرسين وإلقاء بعض التعليمات والتعليقات بشأن طريقة التحضير والتهيئة وخلافه .. ثم بدأ يطلب من كل مدرس أن يحضر له بعض الكراسات الخاصة بتلاميذ فصله ليوقع عليها .. وبكذا تنتهي زيارته الموسمية ويظل الطابق مستورا !
زيارة الفصول ورؤية الأولاد عن قرب وسماعهم والنظر إليهم ومحادثتهم ، لم ترد بخاطر السيد الموجه أصلا .. فكم فصلا سيزور وكم تلميذا سيحادث ؟!
إنه ليس رائق البال لشيء من هذا فلديه ثلاث مدارس أخري المفروض أن يزورها زيارة روتينية اليوم تبعا لخطته السابقة .. فلو أنه قضي دقيقة واحدة في كل فصل وحادث تلميذا واحدا فسيضيع عليه بقية اليوم ويتعذر تنفيذ بقية خطة الزيارة !
لم تكن " سناء " تعرف شيئا من هذا .. لم تكن تعرف أن التعليم في مصر هو مجرد حبر على ورق ، وأن زيارات الموجهين لا تزيد عن مزيد من الحبر على مزيد من الورق .. كانت تظن أنها ستتعلم ممن يتولي مهمة توجيهها شيئا ، إلا أنها اكتشفت أنه ليس لديه ما يعلمه لها ، وإن كان لديه ذلك فلا وقت عنده ليعلمها إياه .. إنه سرعة البطء أو بطء السرعة .. الأوضاع المقلوبة التي تريد أن تقفز لتعتدل فيكون مآلها أن تنقلب على جذور رقبتها أكثر وأكثر !
ليس كل الموجهين هكذا .. لكن موجه " سناء " كان هكذا للأسف !
لذلك تجهم وجهه حينما جاءته بقليل من كراسات تلاميذ فصلها وكشاكيلهم النظيفة .. رأي أمامه خطوطا قلقة خائفة تخط على الورق صرخة صامتة هادرة ميتة تقول : إننا لا نعرف كيف نكتب .. إننا لم نتعلم الكتابة بعد !
محاولات إحياء وبوادر بعث لكنه يبحث عن المنهج وتوزيعته لا عن محاولات إحياء الميتات .. فأين دروس اللغة العربية والرياضيات والدين المقررة ؟!
أين يوم النجاح وأين الأطفال الذين هشموا المصابيح والزجاج في الطريق .. أين الحث على عدم قطف الزهور ، رغم أن النشيد نفسه كان باعثا قويا ليس على قطف الزهور وحدها بل على قطف كل ما يمكن نزعه وكسر رقبته ، وتحت حماية كلماته المعسولة تٌقطف زهور أولئك الصغار وتٌهرس هرسا .. أين جمع الأعداد المكونة من أربع وخمسة أرقام مع أن أغلب أولئك الصغار يخطئون في العد بعد رقم العشرين ، ولا يميزون بين الواحد والعشرين والإثني عشر .. أين دروس الله خالقنا والله خالق الكون التي يرددها الأطفال ثم يندفعون خارج الفصول ليسبوا الدين لبعضهم وينعتوا بعضهم بأقبح النعوت وأنكي الألفاظ ؟!
هل المهم هو ما يتعلمونه حقا أم ما هو مرقوم في كراساتهم ؟!
الأخيرة طبعا ولنكن صرحاء واضحين مباشرين في الوصول إلي الهدف حتى لو كان وقحا جبانا .. أعطني كراسات منظمة ودروس تامة ، ودفاتر تحضير سليمة أعطيك تقديرا عاليا حتى لو كنت لا تعطي تلاميذك في الفصل حرفا ولا تمنحهم من فضول رضاك كلمة بحق الله !
ذلك ما هو ما نبغي .. لذلك تجهمت ملامحه واعتراه الهم حينما وجد تلك الصرخة المضادة تنفجر في وجهه .. كراسات أولادها لا تعجبه مثلما أعجبته كراسات الآخرين رغم أنها أنظف وأكثر تنظيما .. لكن ما بال النظافة والنظام هنا وما جدواهما ؟!
إنه لأمر متشابك ومحاولة حله غير مجدية .. لكن الموجه الخبير يرمق الفتاة حديثة التعيين بعين حادة خضراء تلمع بالخوف والدهشة والانفعال !
" مش ماشية مع المنهج ليه يا أبلة ؟! "
سألها متحفزا وردت مستعدة لمجابهة الحجة بالحجة :
" عشان العيال مش بيعرفوا يكتبوا يا حضرة الموجه ! "
تجهم على تجهمه وهتف مستنكرا :
" حضرتك هنا مهمتك تدي المنهج وبس .. ملكيش دعوة بيعرفوا يكتبوا ولا مبيعرفوش ! "
هنا أنفتح المدير الذي وجدها فرصة سانحة لتبيان نشاطه في قنص المخالفين والإيقاع بهم في شر أعمالهم :
" والله لسه قايللها الكلام ده من كام يوم .. لكن الأبلة شباب بقي ومتحمسة ومش هاممها كلام الأكبر منها ! "
ضربة خسيسة تحت الحزام من يد الموجه الشبيه بالفيل أبو زلومة .. لكن " سناء " كانت تتوقعها على أي حال .. فذلك رجل لا يرجي منه ، ولا من مثله ، سوي ذلك !
صمتت للحظة لتجهز ردا كان جاهزا في رأسها أصلا لكنها كانت تبحث عن أفضل لهجة تنطق بها وتعرض حجتها فليس المهم أن تكون حجتك قوية المهم أن تجعلها تبدو كذلك حتى لو تكلمت عن الضفدعة أم ضفدعين !
بقليل من الخوف ردت " سناء " موضحة :
" حضرتك العيال مش بيفهموا حاجة من الكتب ولا من الدروس اللي بياخدوها .. فأنا مركزة معاهم في الكتابة والقراية وحفظ الأرقام وكده عشان يطلعوا سنة رابعة وهما بيعرفوا يقروا ويكتبوا على الأقل ! "
بغل نظرها المدير ، أما الموجه فقد أرتسمت في عيناه الخضراوان ابتسامة لها مغزى ما .. سرعان ما نزلت الابتسامة حتى وصلت إلي فمه وارتفعت شفتاه كاشفتان عن فم يشي بطيبة مختزنة واستعداد قديم للفهم والتجاوب .. إنه يشعر بالحزن من أجلها !
هذا الحزن القديم .. الحزن الذي يهاجمك عندما تري أحدهم يزحزح صخرة هائلة معتقدا أنه سيصل بها إلي أعلى الجبل ويعلن انتصاره .. إن المسكين لا يعرف أن الصخرة ستتزحزح من جديد وستسقط فوقه .. ومحتمل جدا إن تهشم رأسه وتسحقه .. إنه يعرف أنها على حق !
يعرف ذلك ولا ينكره بقلبه ، وإن أنكره عقله الصلد .. إن تلك الفتاة الشابة لا تعرف أنه هو ، حضرة الموجه ، وهي معه ، ليسا إلا ترسين في آلة عملاقة معطلة .. آلة تٌركت بلا صيانة ولا زيت أحقابا لا لشيء إلا لأن صاحبها لا يريد لها سوي أن تبقي معطلة !
كيف ترغب تلك البنت الغافلة الساذجة أن تحارب الآلة الهائلة بمفردها .. وصاحبها نفسه في نهاية المطاف ؟!
يالها من مستحقة للشفقة !
ترك الآخرين يذهبون واستبقاها وأجلسها إلي جواره .. فتح لها صدرا حنونا متجاوبا فوجدت فيه أبا ومعلما يرجي خيره :
" بصي يا بنتي .. أنت عندك حق مقدرش أغلطك ولا أقول إنك غلطانة ! "
فرحت " سناء " وابتسمت بسعادة لكن الموجه أستدرك فورا :
" لكن مش إحنا اللي بنحط نظام التعليم .. مش إحنا اللي بنخطط ولا بنحط المناهج ولا ده من صلاحياتنا .. إحنا بنفذ وبس ! "
أخفضت رأسها وغضت بصرها :
" فاهماني يا بنتي .. ننفذ وبس .. اللي أكبر مننا عايزين كده وعاجبهم كده ! "
المزيد من الإغضاء والمزيد من السخونة في وجهها وأطرافها :
" لكننا مش عاجزين قوي زي ما بتتخيلي .. برضه في أيدينا نصلح ! "
ابتسمت أخيرا ورفعت رأسها :
" بصي أنت صح مقدرش أقول غير كده .. لكن دينا علمنا إن المؤمن كيس فطن .. أحمدي ربنا أني أنا مش موجه ولا رئيس قطاع تاني اللي جالك النهاردة .. كانت هتتوقع عليكي عقوبة وتتحولي للتحقيق غالبا .. عايزة تصلحي ماشي .. بس في نفس الوقت متنسيش واجبك الأصلي اللي أتعينتي عشانه ! "
بدأت تفهمه وتتابعه بتركيز :
" أدي العيال الدروس عادي .. معاكي .. تسعة وتسعين في المية منهم مش هيفهموا حاجة ولا الدروس مناسبة لمستواهم العقلي أصلا .. مش هجادلك في دي ، ولا هاخد وادي معاكي .. بس في نفس الوقت لازم تديهالهم .. "
همت بطرح سؤال لكنه كان أسرع منها في الإجابة عليه قبل أن تطرحه :
" أدخلي حصصك عادي واديهم دروس العربي والحساب والدين .. وفي أي حصة فاضية خديهم في فصل فاضي .. أو حصة احتياطي مثلا وأديهم اللي تقدري عليه .. علميهم يكتبوا ويقروا ويحسبوا .. أنا عارف إنهم ميعرفوش حاجة من ده كله .. وأعتبريها لوجه الله .. لوجه الله يا بنتي مش لوجه حد تاني .. وصدقيني ربنا هيباركلك في قرشك وفي صحتك وفي الفلوس اللي بتاخديها أكتر من كل التنابلة زمايلك دول !
رجل جميل .. لماذا ليس كل رجال التعليم في مصر مثله ؟!

أنصرف الموجه بعد أن كتب ديباجة الزيارة التقليدية في دفتر الزيارات .. وقع المدرسون بالعلم ومنهم " سناء " .. كتب الموجه أسماء كل المدرسين وأمام اسم كل منهم الفصل القائم بالتدريس له ، وتقييمه لأدائه والتزامه بالمنهج وتوزيعته المعتمدة والانتظام في العملية التعليمية .. أعطاهم كلهم درجات متقاربة إن لم تكن متطابقة ، مرت عينا المدير سريعا على الأسماء حتى عثرتا على اسم " سناء " .. ساءه ما قرأ .. كتب الموجه الأسطر التالية أسفل اسمها :
" سناء عبد العال البدري " ..
معلم مساعد فصل
3/2
الالتزام : جيد جدا
السير في المنهج :
جيد جدا ومطابق للخطة الموضوعة !
ظهرت علامات خيبة الأمل على وجه المدير .. وشعر بأن الموجه قد خيب أمله وأيأس رجاءه !
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي