الفصل الثاني والعشرين

كان هناك ألم غريب يداهمها كلما رأته .. نعم أقسمت على تجاهله ، ونعم أصرت على أن تتصرف وكأنها لا تراه ، وكأنه لا وجود له مطلقا .. لكن الألم الذي كانت تشعر كلما وقعت عيناها عليه كان مختلفا تماما عن أي شيء أحست به من قبل في حياتها .. كانت تحس أمام وجهه برغبة حارة في البكاء !
لم تكن تعرف لماذا .. لكن حزنا ووجعا غريبا كان يداهمها ويمسك بتلابيبها .. إحساس شبيه بما يحسه أي إنسان في حضور صديق عزيز ، كان عزيزا جدا يوما ما ، لكنه لفظه وتخلي عنه في أحلك لحظة في حياته .. يمكن جدا لهذا الإنسان أن يتجاهل وجود هذا الصديق ويعامله كأنه لم يكن بالنسبة له .. لكن ثمة ألم يحز قلبه دائما في حضوره ، ألم يرافقه سؤال دائم يتمني أن يطرحه على معذبه لا ليعرف إجابته ، بل لكي يلقيه عليه ويستريح :
" لماذا فعلت ذلك ؟! لماذا تخليت عني بينما كنت في حاجة إليك ؟! "
سؤال لا يحتاج إلي جواب .. وإنما يحتاج لكي يُلقي فقط كدمعة حبيسة في العين والصدر لا يشفيان إلا بطرحها وتركها تسيل !
لكنها لن تبكي أمامه ولن تسأله عن شيء .. ومع ذلك فما أكثر ما بكت على وسادتها وحدها !
كانت البنات الأربع ينمن برفقتها الآن في نفس غرفة زواجها القديمة ، وعلى نفس الفراش .. كانت تضعهن بجوارها وتدثرهن بالأغطية وتتدثر بهن وتضع رأسها على الوسادة .. حين ذاك فقط كانت تتذكر زوجها وتبكيه !
الحقيقة أنها كانت تبكي نفسها أكثر مما كانت تبكيه هو .. لكن وجوده على بعد أقدام فوقها لم يكن يقلل من حزنها بل كان يزيده حدة وضراوة !
ليته مات .. ليتها دفنته وتلقت فيه العزاء كان الأمر سيكون أهون عليها عندئذ فقضاء الله لا يُشتكي منه .. قضاء الله أرحم وأكثر عدلا بينما قضاء الناس لا رحمة ولا عدل فيه !
مضت أيامها الآن بحلوها ومرها .. ارتدعت " ثريا " بعد أن ملت محاولاتها المضنية وتعبت منها .. انثنت وتركت " نعمة " في حالها ، وبدأت تهتم بالموضوع الأهم .. الحمل والولد !
مرت شهور على دخولها إلي البيت ، ولم تحل ثمرة في رحمها بعد .. كان " عبد الرحيم " ذاهلا ضائعا ملتاعا حتى أنه كاد ينسي الشيء الذي جعله يتزوج من ثانية أصلا ، ويخسر حبيبته وزوجته .. أما الحماة فقد كانت تترقب كالصقر وتنتظر خبر حمل " ثريا " على أحر من الجمر .. وبالرغم من أن زوجة ابنها الأولي كانت حاملا بدورها لكن أم " عبد الرحيم " كانت لديها عقيدة تؤمن بها ، ولا شيء في العالم يقدر على زحزحتها عن الاعتقاد بها .. ف " نعمة " لا تحمل ولا تضع سوي البنات !
أنتهي الأمر بالنسبة لها ، لكن من قال أنها تملك مفاتيح الكون ومن قال أنها مطلعة على علم الله وغيبه .. ومن قال أن " نعمة " تبالي أصلا بنوع الجنين الذي تحمله في أحشائها ؟!

لقد رفضت طلبات أمها المتكررة بالذهاب إلي الطبيب لمتابعة الحمل والكشف بالسونار لمعرفة نوع الجنين .. كانت الأم ، والدة " نعمة " ، تأمل في أن تكون ابنتها حاملا بولد هذه المرة .. كان لدي المرأة العجوز حلم أو أمل أو وهم في أن إتيان ابنتها بالولد قد يحسم الأمر لصالحها ، ويجعل " عبد الرحيم " يعود لها صاغرا .. وربما ، بإذن الله ، ينهي زواجه الثاني ويطلق تلك المرأة الدخيلة لتعود ابنتها لتتربع على قلبه وفي بيته مرة أخري .. كانت هذه كل أحلام الأم وطموحاتها لكنها لم تدرك أن " نعمة " لا تريد ولا تحلم بشيء من هذا !
إنها لا تريد أن تعرف نوع الجنين الذي تحمله ، ولا تشعر بأي شغف لذلك لأنها أصلا لا تريده .. ولدا كان أم بنتا .. لا تريده ولا تريد " عبد الرحيم " نفسه .. فلم يعد هناك رجل يدعي " عبد الرحيم " لتريده !
لقد مات زوجها ليلة أن تزوج بامرأة غيرها ، وطعنها في قلبها .. مات ودفن وأهيل عليه التراب وما بقي الآن ليس إلا رجلا غريبا يشبهه .. يحمل نفس اسمه ونفس ملامحه ويأتي نفس حركاته وسكناته لكنه ليس هو .. ليس هو ولن يكون !
إذن كيف تحلم بأن تسترد رجلا غير زوجها الذي أنتهي فعليا بالنسبة لها .. إنها تعتبر هذا خيانة لنفسها وللصورة القديمة التي لا زالت تحتفظ بها !
لذلك رفضت كل محاولات تقربه لها .. رفضت أن يقربها أو يكون معها أو أن يجمعهما مكان واحد بمفردهما .. فهو لم يعد زوجها .. إنه رجل غريب لا تسمح لنفسها بمجرد التفكير في أن تمنحه حق تجاوز حدوده معها !
لذلك ما إن حن إليها ذات ليلة وآتي إلي غرفتها ، حتى كانت تطرده بعد دقائق قليلة .. لم تفعل ذلك بعقلها الواعي بل فعلته بلحمها ودمها .. فعلته بالضبط مثلما كانت ستفعله لو أن رجلا غريبا تسلل إلي غرفتها عارضا عليها نفسه !
كان الزوج يمر بأسوأ لحظات حياته في تلك الأشهر الثقيلة الصعبة .. داهمه الندم وألقاه أرضا ، ثم دهسه بقدم غليظة ليسحقه بلا رحمة .. لم يجد في " ثريا " ، الزوجة الجديدة ، مودة ولا سكنا ولا رحمة .. بل وجد قطة شرسة تخمشه بأظافرها مذكرة إياه كل لحظة بحقوقها .. حقوقها حقوقها ولا كلمة عن حقوقه هو ولا حقوق زوجته الأولي وبناته الصغيرات !
أرادت أن تهيمن على البيت وفشلت ..
أرادت أن تهيمن على " نعمة " وبناتها وتذلها وتذلهن وفشلت !
أرادت أن تعطيه الولد .. وفشلت في ذلك أيضا !
الغريب أنها كانت سريعة الحمل جدا في زيجتها السابقة التي انتهت بالترمل .. جاءت بالولدين في ثلاث سنوات فما الذي حدث لها هذه المرة ؟!
فكرت الزوجة الجديدة وأتعبت نفسها ، ودارت على الأطباء .. وقيل للزوج أدفع لتحصل على الولد .. أدفع لتحصل على السند .. فدفع ودفع ودفع ، بينما كان بطن " نعمة " يكبر ويكبر .. وأيامها تتقارب والدوامة تبتلعه في خضمها أكثر وأكثر كل يوم !
جزية الأطباء والعلاج ومرض القلب ووجعه ، وألم الفقد والهجران والموت بالحياة .. أهذا جو يعيش فيه أي إنسان عادي دون أن يٌصاب بالجنون أو يلحق به الموت ؟!


...

عندما كان شهر إبريل يزحف مبتعدا تاركا ( مايو ) يفرش عباءته الحارة الجافة على الأرض التي تضم فتاة صغيرة تدعي " مروة " بين جنباتها بدأت الرياح المحملة بالتراب والزوابع تضرب في كل مكان حولها .. كان هذا آخر شهر قبل الامتحان .. امتحانات المرحلة الأولي من الثانوية العامة المخيفة .. آخر شهر وآخر فرصة وآخر مهلة لتجمع أشتات نفسها وتعيد رص الطوب وتسوية الجدران في بيت عقلها الخرب المتهاوي !
كانت " مروة " قد قضت شهرين في الجحيم منذ أن أفاقت على صفعة ( مارس ) الباردة فوق وجهها .. صفعها الشهر الثالث على صفحة وجهها مذكرا إياها بأنها شارفت على دخول عرين الأسد بقدميها .. رحل الثالث ليأتي الرابع ويناولها بالصفعة الثانية .. ثم أتي ( مايو ) طروبا راقصا لينهال فوق رأسها بعصاه الغليظة !
أدركت الآن أي ورطة علقت فيها وأية أيام سوداء تنتظرها .. باءت كل محاولاتها لجمع شتات نفسها وروحها بالخسران المبين والجهد الضائع المسبب للإعياء !
أصيب الطلاب والمدرسون بما يشبه الحمى حين داهمتهم هبة ( مايو ) التي بدت للجميع وكأنها مفاجأة ، وكأنهم لم يكونوا يعرفون أن ثمة شهر يحمل اسم ( مايو ) ينذرهم باقترابهم رافعا خمسة ، درأ للحسد في وجوههم .. إن قدوم ( مايو ) لا يعني سوي شيئا واحدا .. أن الامتحانات صارت على الأبواب !
أخذت مجموعات الدروس الخصوصية تتزايد عليها الضغوط .. وكثف المدرسون حصص المراجعة وسارعوا بإنهاء الأجزاء التي لم تنتهي بعد من المنهج ، وبدأ الطلاب يكونون مجموعات مغلقة للاستذكار والمراجعة .. وأخذت البنات ينتظمن في ثنائيات أو ثلاثيات ويعكفن على الاستذكار بجد واجتهاد ورغبة مرهقة جنونية في التحصيل والحصول على أعلى الدرجات .. وفي بدايات شهر ( مايو ) أيضا بدأت " مروة " تعاني من أعراض غريبة !
كانت قد ألتزمت تماما بالوعد الذي بذلته ل" ماريان " المخلصة ، التي لم تألوا جهدا في متابعة البنت وموالاتها بالنصح والإرشاد ، وطمأنتها لوقوفها بجوارها .. فأخذت تتصل بها مرتين يوميا بشكل منتظم ، صباحا ومساء ، بعد أن أنقطع الطلاب عن الذهاب إلي المدرسة وخلت الفصول الدراسية من الطلبة والمدرسون جميعا .. كان مكالمات " ماريان " الهاتفية ولطفها الزائد تتنزل كلها بردا وسلاما على قلب " مروة " .. لكن تلك الدقائق القليلة التي تقضيها البنت في رحاب من تفهمها وتقدر ما تمر به كانت تنتهي فور أن تضع السماعة تلتفت لتجد أمها أو أبيها واقفين بقربها بابتسامة واسعة وبنظرة صريحة في العيون تقول :
" يلا بقي يا ست الدكتورة .. خلينا نفرح ! "
حين ذاك كانت أعراض المغص تداهم البنت على الفور .. لم يكن مغصا عاديا بل كانت تقلصات موجعة تهاجم معدتها ، وعانت أول نوباتها في ثاني ليلة من شهر مايو ذو السحنة الجافة .. كانت تذاكر دروسها حتى منتصف الليل .. بدأت باللغة العربية ووجدت نفسها في حالة مزاجية طيبة ، إلا أنها وبمجرد أن وجدت نفسها وجها لوجه أمام الرياضيات المعقدة الثقيلة حتى شعرت بحرقان وألم في فم معدتها .. لم تكن قد عانت شيئا مماثلا من قبل فلم تفهم ماذا يكون بالضبط .. نامت أخيرا تلبية لرجاء أمها لكنها ، بعد ساعة واحدة ، كانت تهب من مرقدها صارخة مولولة !
جزت على أسنانها ووجدت نفسها غارقة في العرق الذي نبت على جبهتها وسال على خديها .. خبرت " مروة " المغص وانتفاض الأحشاء من قبل ، لكن ليس بهذه الطريقة القمعية المفاجئة .. نهضت بصعوبة من فراشها ونزلت على السلم وهي تئن .. ذهبت إلي المطبخ وأشعلت البوتاجاز ووضعت ( كنكة ) متوسطة الحجم ملأتها حتى ثلثها بالماء .. انتظرت لحظة ثم ألقت في الماء بقبضة صغيرة من الحلبة الحصا والنعناع المجفف .. كانت تعتقد أنه مغص مرافق لعذرها النسائي الشهري ، وتعتقد أن مغلي الحلبة والنعناع كفيل بالقضاء عليه وتسكين آلام أحشائها القوية .. داخت واستندت إلي الحائط ، وفشلت في الاستمرار في الوقوف على قدميها ، اللتين بدأتا في الارتعاش بسبب قوة الألم والبرودة التي تسري في أعطافها .. فألقت بنفسها على كرسي خشبي صغير تستخدمه أمها عند تنظيف الطيور ونزع الريش عنها ، أو غسيل المواعين وهي جالسة أحيانا .. أغمضت عينيها مستسلمة لنوبة الألم الجارفة وشعرت بشبه غيبوبة لم تفق منها إلا على صوت فوران سائل وانطفاء شعلة البوتاجاز بعد أن فارت الحلبة وطفت خارج الكنكة وأطفأت النار المشتعلة تحتها .. قامت " مروة " مرة أخري بصعوبة وبدأت تصب السائل الأصفر الرائق في كوب يحوي ملعقة سكر ، مستخدمة مصفاة لحجر بذور الحلبة وثفل النعناع عن السقوط في الكوب .. حملت كوبها الساخن ، بعد أن أطفأت النار بعناية ، وخرجت إلي الصالة الواسعة المظلمة .. ألقت بنفسها على كنبة بلدي مغطاة بفرش من القماش الكتاني السميك ووضعت الكوب على منضدة قصيرة بجوارها ثم ذهبت في شبه غيبوبة .. مضت تحلم وتعرق وتتألم برهة .. ثم أفاقت لتحاول شرب الحلبة التي تعلق عليها أملا في التخلص من مغصها وآلامها .. ورغم أن نفسها كانت صادفة تماما وكانت تشعر بصخرة صغيرة تتحرك سائبة في بلعومها ورغبة قوية في القيء لكنها تحاملت على نفسها وشربت الحلبة الساخنة بالنعناع .. أنهت الكوب ووضعته جانبا فقط لتبدأ في التقيؤ على الفور !
تحركت الصخرة وسدت حلقها للحظة ثم شعرت بشيء كتيار بارد يندفع منتزعا حشوة كانت معلقة في معدتها وأندفع القيء من فمها قبل أن تتدارك الأمر وتسرع إلي الحمام ،تاركة خلفها بقعا وخطوطا من اللونين الأخضر والبني تلطخان أرضية الصالة وأماكن متناثرة من السجادة السمكية المفروشة هناك .. أكملت " مروة " إفراغ معدتها وشعرت بدوار قوي جدا وأحست بأنها ستسقط من فرط الوهن والضعف والدوخة .. تحاملت على نفسها وخرجت إلي الصالة !
كان القيء ، فيما يبدو ، مفيدا لها وقد بدأت تحس بأنها أحسن حالا قليلا .. خفت درجة الألم وبدأت معدتها تتوقف عن التقلص والانتفاض .. ألقت بنفسها مرة أخري على الكنبة في نفس اللحظة التي كانت أمها تقترب منها !
استيقظت الأم شاعرة بأن شيئا ألم بابنتها وقد صدقها قلبها .. فزعت لمنظر القيء على السجادة والأرضية ، وأفزعها أكثر منظر ابنتها بعينيها الغائمتين وشعرها المبتل المنكوش ووجها المصفر وصدرها الذي يعلو ويهبط .. نظرت إلي يدي ابنتها اللتين تعتصران معدتها وأسفل بطنها وهتفت وهي تخبط على صدرها متفجعة :
" مالك يا أمي كفا الله الشر ؟! "
بصعوبة خرج الصوت من " مروة " قائلة وهي لا تستطيع التحكم في أنفاسها المتلاحقة :
" بطني يا ماما .. بطني بتوجعني قوي ومعدتي هتموتني ! "
قالت الأم فورا وكأنها تملك العصا السحرية التي ستزيل آلام ابنتها بمجرد لمسها :
" اسم الله يا عين أمك ! هروح أغليلك شوية حلبة ونعناع وهتبقي زي الفل إن شاء الله ! "
استوقفتها " مروة " بيدها بصعوبة وقالت محاولة أن تخرج كلماتها واضحة ومفهومة :
" عملت دلوقتي .. عملت وشربت وبقيت أحسن ! "
لكنها لم تكد تنهي جملتها حتى أندفع القيء من فمها كإعصار جارف مرة أخري !
جرت إلي الحمام وجرت خلفها أمها التي أخذت تردد بخوف :
" كفا الله الشر .. كفا الله الشر يا أمي ! "
تقيأت " مروة " مرة أخري بعنف أكثر من المرة الأولي .. وساهم خلو معدتها تقريبا هذه المرة في جعل القيء أعنف وأكثر ألما ، وأحست بأن جذور روحها الطويلة ، لو كان هناك جذور للروح ، تُنتزع بوحشية من داخل أمعائها .. وكأن سيخ محمي يدخل جوفها ويخرج بعد أن يكوي أمعائها من أولها وحتى آخرها .. قضت الأم والابنة بقية ساعات الليل في كرب مقيم !
أخذت الفتاة تتقيأ مرارا وتكرارا .. والأم استدعت كل خبرتها الشعبية ووسائلها المحفوظة في محاولة التغلب على ما أصاب ابنتها .. فأعطتها حبوبا للمغص .. لم تجدي نفعا لأنها لفظتها من جوفها بعد ابتلاعها بدقيقة واحدة .. ثم صنعت لها نعناعا منفردا مخففا .. وأعطتها ملعقة من دواء تقلصات تستخدمه الأم على فترات متباعدة .. كل تلك الأشياء لم يصمد منها واحد في معدة الفتاة التي كادت تنفلق وتتمزق وتخرج من فمها !
أخيرا قرب الفجر بدأت البنت تهدأ قليلا بعد أن امتلأت الصالة حولها بالبقع الخضراء البنية ، وكادت تفقد الوعي من الدوار والدوخة الناجمان عن الألم وعن شدة الغثيان وعنف القيء .. مضت نصف ساعة هادئة ثم صحا الأب على صراخ ابنته !
كانت " مروة " تدفن رأسها في الوسادة تعضها بقوة وتمسك بطنها وتصرخ .. سمعها الأب فأستيقظ مفزوعا معتقدا أن هناك مصيبة تحدث في البيت .. صراخ ابنته روعه ، فهرع محاولا الاطمئنان عليها ولما رأي الحال بعينيه أتصل بطبيب باطني يعرفه جيدا في المركز المجاور فلم يرد عليه إذ كان الرجل نائما والدنيا ظلام لا زال لم يتبدد بعد :
" نوديها المستشفي ! "
قالت الأم وهي تضرب على صدرها فنهرها الأب بقوة قائلا :
" مستشفي أيه وزفت أيه .. هما دول بيسعفوا حد ولا بيرحموا حد .. أنا هروح أشوفلها حاجة في الصيدلية ! "
ولكن أي صيدلية مفتوحة في مثل تلك الساعة ؟!
أستقل الأب سيارته ، ولحسن الحظ أن لديه سيارة ، وهرع إلي أقرب مكان يمكن أن يعثر فيه على صيدلية مفتوحة في مثل هذا الوقت .. لف عدة شوارع كانت أغلبها صامتة ساكنة ، حتى عثر أخيرا على ثعبان منير يعلو صيدلية يبدو أنها تقدم خدماتها أربعا وعشرين ساعة على مدار اليوم .. أوقف السيارة بالقرب ودخل مسرعا حيث وجد في استقباله صيدلانيا شابا نحيلا تبدو عليه سيماء الجد والذكاء .. متسرعا ملهوفا طرح عليه الأعراض التي تعانيها ابنته ووصف له حالتها بدقة فقال الصيدلاني بفطنة :
" دي عندها تقلصات في معدتها وغالبا عندها ارتفاع في نسبة الحموضة كمان .. هدي لحضرتك حاجة تهدي الألم وتنيمها بس يا ريت تحاولوا تكشفوا لها عند طبيب باطني في أسرع وقت ! "
أخذ الأب الحبوب الصغيرة التي منحها له الصيدلاني وهرع خارجا ناسيا حتى أن يدفع ثمن الدواء من فرط اللخمة التي يعانيها .. ناداه الصيدلاني بلطف ورقة فعاد إليه بسرعة ونقده ثمن الدواء :
" متأخذنيش يا ولدي دماغي مقلوبة والله من ساعة ما شوفت البت بتتلوي وتصرخ ! "
ابتسم له الشاب متفهما وقال بكرم :
" لا ولا يهمك يا حاج .. ربنا يشفيها ويعافيها ! "
" اللهم آمين ! "
ردد الأب وهو يسرع نحو سيارته حاملا الدواء لابنته متصببا عرقا بسبب شدة جزعه وخوفه عليها !
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي