الفصل الاول
تسللت اشعة الشمس الساطعة بين قماش الستائر الخفيفة لتسقُط على ذلك الفراش الوثير الذي يشبهُ في هيئته فراش شهريار امير الحكاية الاسطورية، بقوائمه الأربعة الطويلة المذهّبة وغطائه السميك الذي برزت من جانبة كتلة من الشعر الكثيف، كتلك كثّة ملقاة بإهمال فوق وجهٍ لم تظهر ملامحه بعد..
لحظةً طويلة مرّت والرجُل الذي يبدوا في اواخر الشباب يقِفُ ناظرًا الى زوجته النائمة بسكون، تلك الصغيرة الهمجيّة التي القت بكُلّ وقاره واحترامه لذاته منذُ ان لمحها لأول مرّةٍ ونالها بعد عناءٍ طويل، اقترب وجلس بجانب الفراش ويداهُ الغليظتان تمتدان نحوها، يزيحُ الغطاء الذي يحجِبُها عنه، يُمررُ كفّه بحنانٍ على شعرها المجنون، يزيحُ خصلاته المتشابكة ليبرز وجهها الصغير المُستدير كشمسٍ حارقة.
فتحت عيناها النجلاء بنعاسٍ وسرعان ما مطّت يداها بدلال وابتسامةً خلّابة ترتسمُ على شفتيها.
- صباح الخير.
قالتها بنبرةٍ غارقة بالنوم تجعل من صوتها كخرير المياه، اتبعتها بقُبلةٍ صغيرة اسقطتها على خدّ ذلك العجوز الذي ابتسم اليها ببلاهة وكم ودّت ان تضحك عاليًا على انقياده المُخزي لنظرةٍ واحدةٍ منها الا انها حافظت على ابتسامتها العذِبة وهي تجلِسُ لينحسِر الغطاء عنها مُظهِرًا كتفين مرمريين ناعمين كالرخام لا يعلوهما سوى قميص نومٍ عاري، تنظُرُ الى نظراته المُفترسة بثبات ودون ادنى مقاومةٍ منها تستسلِمُ لقُبلته الصباحيةِ الثائرة التي تستنزِفُ كُلّ انوثتها، وتريقُ آخر ذرّات التحمُّل لديها، تودّ بعدها ان تغتسل الى ان تدمي فمها، ان تزيل قذارة مشاعره المشوّهة التي يفرغها بها كُلّ مرة، الّا انها لا تملك قدرةً على الأعتراض، تنظر اليه بصمت وانامله الخشنة تجرحُ بشرتها الرقيقة، انامله التي تُربّتُ على وجهها بتملُّكٍ سافر وكأنما يتركُ توقيعهُ عليها.
- ستذهبُ الى العمل؟
قالتها بعد وقتٍ قصيرٍ وهي تتململُ من لمساته.
- نعم، سأخرُج الآن، وانتِ عودي الى النوم، تبدين مُتعبة.
انهى حديثهُ بهمسةٍ ماكرة وانفاسه مُتحشرجة وبالرغم من الجرح الذي ظهر بعينيها جراّء حديثه إلّا انها همست بخفوت:
- سأنتظِرُك على الغداء.
- حسنٌ يا حلوتي.
غادر بهدوء الّا انّهُ التفت يتأملها ويده على مقبض الباب، يشملها بنظرةٍ عميقة تظللها مشاعر تملُّكيّة جامحة، وقال مشيرًا الى جانب الفراش:
- لا تنسي رؤية الهديّة التي جلبتها لكِ بالأمس.
اشاحت ببصرها نحو الصندوق الصغير المُغلّف بأشرطة الهدايا واومأت بصمت.
نظر اليه مرّةً أُخرى نظرةً اكثر عُمقًا الى ان شعرت بوميضٍ يخرُجُ من عينيه ليرسل قشعريرةً باردة الى اطرافها وقال بصوتٍ خافتٍ وكأنما يحادث نفسه:
- غيد
ردّت عليه بأستجابةٍ قلقة ليجيبها بنبرته القويّة الصارمة:
- لا شيء، انتبهي لنفسك.
وخرج مُسرِعًا، عادت لتندسّ بين اغطيتها بنعاس الى ان سمعت بعد فترةٍ قصيرة صوت سيارته المحتكّة مع الأسفلت تعلن انتهاء دورها كزوجة السيد آدم.
بعد عدّة ساعات كانت تدلفُ لغُرفتها حاملةً كوب قهوتها ترتشِفُ منه ببطء، وقفت طويلًا امام الهديّة الحمراء الى ان قررت ان تفتحها، ولم تتفاجأ بالعقد الماسيّ اللامع الذي يُعدّ ثروةً صغيرة امام ما يملكهُ زوجها من مال، زفرت بضيق وهي تشعُر للحظة قصيرة بإحساسٍ مُرّ كالحنظل، احساس قميء ومُقزز غمرها بالمهانة، فهدايا الصباح تلك تجعلها تبدوا كعاهرة تتقاضى ثمن ليلتها. أوليست هي كذلك؟
تسائلت بداخلها واخذت تبتسمُ باستهزاء ولكن سرعان ما انقضت تلك اللحظات لتعود الى تمثيل دور القوة، تنظُرُ امام المرآة بإستعلاء تتأمل جيدها الطويل المُزّين بعقدٍ ازداد جمالًا على بشرتها البيضاء النقية، ترفعُ يدها المُزيّنة بأساور ذهبيّة رنّانة لتقم بتمشيط خصلات شعرها وهي تشدوا بلحنٍ رتيب، تنظُرُ بشرود الى مرآتها التي لم تكذب عليها يومًا، فتخبرها بكُلّ ليلةٍ انها اكثرُ بنات حواءَ جمالًا واقلّهُن حظًّا.
.
.
التاسعة صباحًا، تنضحُ اشعة الشمس الحارقة بحرارةٍ لاسعة ولكن امام تلك البوابة كانت تلك الحرارةُ حياةً لتلك الأجساد التي هرعت للخروج بعد سنواتٍ من السجن، خرجت تجرجر قدميها بتعب، لا تشعر بأي سعادة في التحرر من سجنها الذي دام طويلا، تحمِلُ حقيبةً سوداء مهترئة وقلبًا معطوبًا وكُرهًا قد يحرق الكون.
لسعت الشمس وجهها فوضعت كفّها على جبينها بيأس وهي تلتفِتُ يمينًا ويسارًا غير قادرة على تحديد وجهتها، وبعد حيرةٍ دامت لثوانٍ اختارت الطريق الأسفلتي الأيمن فراحت تسير بمحاذاته بصمت، تتأمل الأماكن، الناس، والطرقات بدهشةٍ وشوق للحياة، للحرية التي أُغتصِبت منها منذُ وقتٍ طويل، ولم يكن لها وجهة معينة، فليس لها احدٌ في هذه الحياة وبعد الخروج من السجن سيتوجّبُ عليها البدء من جديد، كما وعدت نفسها مِرارًا وتكرارا، ستنسى كل شيء وتؤسس لنفسها حياةً كريمة خالية من الألم والعذاب والدموع.
تعبت من السير فجلست بجانب الطريق، راحت تنبِشُ بحقيبتها لتخرج النقود القليلة التي استطاعت تجميعها في الفترة الماضية، لم تكن كثيرةً بما يكفي ولكن على الأقل ستؤمن لها مسكنًا الى ان تجد عملًا مناسبا.
دسّت النقود بحرصٍ بين ثيابها وعدّلت فستانها بهدوء وعادت للتغرق في التفكير، كانت الذكريات تتدافع امامها بشدّة الى درجة انها شعرت بدوارٍ عنيف يغزو عقلها جاعِلًا منها فريسة سهلة ما ان تفقد وعيها في هذا الرصيف الخالي من البشر، دفعت هذه الفكرة الذعر الى قلبها وسرعان ما حاولت التماسك فلا بد ان تظلّ بوعيها لكي تستطيع العيش في هذه الحياة، منذ اليوم ستنامُ بأعيُنٍ مفتوحة والّا ضاعت الى الأبد.
ظلّت تسير وتسير بلا هُدى الى ان توقّفت امام متجر صغير لتبتاع بعض الماء والطعام، ووجدت ان قدماها قادتها الى البحر، حبيبها الأول والأخير، حملت حذائها وسمحت للرمال الدافئة بمعانقة قدماها المتعبتان، ومرّت ببالها آخر ذكرى لها بهذا المكان ولا تدري هل ارتجفت لمرارة الذكرى ام برودة الموج المفاجىء ولكنها قد اقنعت نفسها بأن كل شيءٍ قد انتهى، ولا سبيل للعودة للوراء.
اقتربت لتغسل وجهها بما البحر الذي بدى اشهى من العسل، داعبتها حينها ابتسامةً عميقة، دافئة، مالحة كماء البحر تمامًا واختفت كل سنوات السجن المُرّة والمهينة لتعود لتلك الفتاة التي فقدتها منذ عشر سنين، تلك الشابة التي كان اقصى احلامها ان تكمل دراستها الجامعية بنجاح.
زفرت بألم واضح وهي تستفيقُ على واقعٍ مرير فابتعدت خائرة القوى، منهكة الجسد والروح ولا زال امامها بحثًا طويلًا لتجد ملجأ زهيد الثمن لتنام براحة.
.
.
بدت اشعة الشمس كسوطٍ حار لسع وجهها فأستقامت متأففة، شعرت بأنها ستتقيأ من تلك الرائحة الكريهة المحيطة بها، ولكنها زمّت شفتيها بشدّة ونهضت من وراء حاوية القمامة التي اضطرت ان تقضي ليلتها خلفها، كان الخيار الأسهل والأكثر امانًا حيثُ اختبأت وراء حاوية كبيرة موضوعة بأحد الأزقّة الضيقة، ضمّت حقيبتها الى صدرها وهي تسير بضعة خطوات ولا زال النعاس يداعب ملامحها.
- يا الهي!
همست بتقزز وهي تنظر الى ثوبها المتسخ ورائحتها الكريهة.
- يجب ان اغتسل من هذه القذارة.
اتجهت بعزم نحو احد المراكز التجارية ولكنها لمحت من بعيد حارِسًا بالتأكيد لن يسمح لأمثالها بالدخول، ولكن يجب ان تحاول على الاقل، اقتربت بخطواتٍ سريعة وحاولت الاندماج مع فوج من الناس للدخول للمجمع التجاري ولكن رائحتها كشفتها، فقد التفتت اليها إحدى النساء وصرخت كم مسّه جان:
- يا إلهي! ما هذا القرف؟ اخرجوا هذه المجنونة من هنا.
وجدت نفسها فجأة مُحاطةً بجمعٍ من الاعين المُتقززة من مظهرها، تبدوا متسوّلة بائسة قد امتلأ ثوبها المهترئ بفضلات الطعام، وجدت كفًّا قويّة تسحبها لتلقي بها الى الخارج والحارس يهتف بوجهها بغضب:
- هيا اغربي عن وجهي يا معتوهة، والّا سأبلغ الشرطة ليأخذوكي الى مكانك المناسب.
نهضت بتعثُّر وسارعت بالركض غير آبهة بالأعيُن التي تطالعها؛ فآخر ما ترغب به هو العودة الى ذلك المكان القذِر، لن تعود الى السجن من جديد.
ظلّت تركض الى ان شعرت بأن قدماها قد تيبّستا من التعب وكانت قد وصلت الى البحر، كما غادرته منذ اقلّ من اربع وعشرين ساعة وكأنما كُلّ الطُرُق تعيدها الى ذات المكان، سارت بمحاذاته بشرود وكُلّ خليّةٍ بداخلها تنهار، ترغب بشدّة بأن تبكي وتصرُخ ولكنها مُنهكة، مُنهكة الى درجةٍ بات فيها الشعور بآلامها ميّتًا، وكأنما تجمّد قلبها الخافق بجنون بين اضلُعها وتحجّرت الدموع التي تحرقُ جفنيها.
فسقطت هامسة بعذاب:
- اغثني يا الله، اغثني!
.
.
انها التاسعة مساءً، خرج للتوّ من مكتبه المتاخم للشاطىء، حيثُ يملك عددًا من السُفُن البحرية التي تنقُل البضائع من والى البلاد، لم يكُن مُجرد رجل اعمال القت به الظروف في هذه المنطقة بل إن جذوره منذ جدوده الاوائل تأصلت في البحر، من صائدي اسماك الى بائعي قوارب واخيرًا مالكي سُفُن، يعرفه الصغير قبل الكبير ويكنّ لهُ الجميع احترامًا يفوق الوصف؛ فلسنواتٍ طويلة كانت اعماله تفتح بيوتًا ويعيش على إثرها الكثير من الناس.
خمس واربعين عامًا، قامةً طويلة، صلبةً ابيّةً كالنخيل، وجهًا يحمِلُ وقار الشيوخ وعينان غارقتان بالسفور، ذلك السفور الفطري الذي يكسوا الشباب، انهُ مزيجًا رجوليًّا جدًّا من الجاذبية والهيبة والوقار، ولكن يحكم ذلك المظهر الوسيم عقلًا مُتزِنًا مُثيرًا للإعجاب، الّا ان كُلّ تلك المحاسن تزول ما ان يتعلّق الأمر بغيد، زوجته الثانية التي يرى الجميع زواجه منها مُجرد وسيلة للرفاهية او المحاولة لجلب ابن يحمل اسمه بينما في الحقيقة ارتباطه بها ابعد ما يكون عن هذين الإحتمالين ولكنها لا تفهم ذلك، ولا يرغب هو بالتبرير لها، يكفي انها زوجته، مليكته وطوع امره، يشبعُ من النظر الى وجهها دون حرج.
.
.
بحر الجنوب، يمتدُ بطول الحي الشعبيّ ذو المباني ذات الطراز العتيق، تتراص العمارات ذات الطلاء الأبيض متشابهة التصميم على شكل دائري في تلك المساحة الشاسعة مكوّنة منطقة اشبه بالأحياء الايطالية القديمة، يجتاح الاجواء هواء البحر المنعش المشبّع بالمعادن والذي يبعد مئات الأمتار عن المنطقة، كان احد تلك العمارات القديمة مظهرًا اكثر رُقي او فلنقُل به القليل من التعديلات التي تجعل منها بناية مميزة، كانت واجهتها مطليّة بلونٍ ازرقٍ كلون البحر ويبدوا جليًّا الثراء على ساكنيها الذين هم ليسوا سوى عائلته.
اوقف آدم سيارته امام البوابة الحديدية القصيرة ودلف الى الداخل، كانت الأضواء تنير الردهة المؤدية الى الدرج الافعوانيّ الطويل الذي يصل ذاك البناء الطويل مع بعضه البعض، كانت الشقّة بالطابق الأول هي شقّة اخيه الوحيد الذي يعمل برفقته ويسكن هو وزوجته وابنيه بها بينما بالطابق الثاني تسكن ابنة اخته التي يعتني بها منذ طفولتها الى ان زوجها ابن احد اصدقائه بشرط ان تبقى برفقته بذات البيت، وصل الى الطابق الثالث ولم يتفاجأ بالباب الذي فُتِح على مصرعيه ليواجه زوجته الأولى التي اخذت تنظُر اليه بصمت الى ان قالت بنبرةٍ هازئة:
- تفضّل يا آدم، المنزل منزلك.
كانت امرأةً في مطلع الاربعينات، ترتدي ثوبًا حريريًّا ناعمًا يُظهرُ مفاتن قامتها الممشوقة ذات التقاسيم الأنثوية الفاتنة بالرغم سنوات عمرها التي جعلتها أُمًّا لثلاث فتيات، ازاحت خصلات شعرها الأسود الطويل عن وجهها بحركةٍ ساحرة وتحرّكت من امامه فدلف وهو يحدجها بإحدى نظراته الحادّة لتبتلع سخريتها وتتبعه بصمت حيث دلف الى غرفته مباشرةً ليبدل ثيابه وكانت هي تنظر اليه بثبات الى ان قال آمِرًا:
- حضري لي العشاء.
كانت نبرته في اوجّ احتدادها وهي تعلم ذلك لذا غادرت بهدوء لكي تتجنّب ما يغضبه وتُدرك انّهُ يفعل ذلك مُتعمّدًا لكي لا تفتعل هي ايّ شجار فبدلًا عن غضبها هي عليه لزواجه بأُخرى بعُمر ابنته يُظهِرُ هو الحنق جاعِلًا اياها في موضع الإتهام.
عندما جاء ليتناول عشاءه كان قد ارتدى ثيابه البيتية وقد بدى اكثر هدوءً بل وقد توهّجت عيناه بلهيبٍ غريب، وضع هاتفه فجأةً بجانبه لتُدرك انّهُ تحدّث قبل قليل الى غيد، بهتت حينها ملامحها واكتسى قلبها بحسرةٍ خانقة دفعتها للنهوض بعيدًا عنه فآخر ما ترغب به الآن هو رؤية تلك الملامح على وجهه فمهما ظنّ الجميعُ انها قويّة ستظلّ امرأة ولا يمكن لأي امرأة ان تتحمّل رؤية عشق زوجها لأُخرى، ستظلُّ تلك الجمرة التي اضرمها زواجه بقلبها، لن تنطفىء ابدًا الى ان تموت.
اغلقت باب غرفتها بصمت واتجهت لتجلس على فراشها، ذلك الفراش الذي تشاركتهُ ذات يومٍ مع رجُلٍ كان كُل حياتها واصبح مُجرد شخصٍ عابر، يغفو بجانبها من جانب العدل فقط.
استندت على ركبتيها وحملت وسادته بين ذراعيها، تضمها بشدّة، يخنقها عبير عطره كما تختنقُ الآن بدموعها التي تأبي ان تتحرر، تعيدها الى مكانها بهدوء وتستلقي بجوارها بصمتٍ شديد وتأبى عيناها ان تستسلمان للنوم علّ قلبها الملكوم يهدأ ولو للحظاتٍ قليلة، تعودُ بذاكرتها الى سنواتٍ غابرة حيثُ كان اقصى احلامها ان يعود زوجها من العمل لتصنع لهُ العشاء، ان تشاهد معهُ التلفاز الى ان تغفو بين ذراعيه.
دلف بعد فترةٍ طويلة الى الغرفة وربما اراد ان يتأكد من انها خلدت للنوم ليتفادى حرج البقاء برفقتها، هذا ما فكّرت فيه وهي تكتُمُ انفاسها عندما استلقى بجانبها وسرعان ما اتسعت عيناها ويداهُ القويتان تسحبانها لتقابل وجهه ويقول بحسم:
- اخبرتك آلاف المرّات، انا لا أُحبّ ان تعطيني ظهركِ.
رفع ذقنها بأنامله ليواجه نظراتها الحزينة وقد تبللت عيناها بالدموع، كانت امرأةً جميلة للغاية، لها وجهًا كمطلع الشمس، وقد اورثت فتياتها الثلاثة حُسنها، لم تكُن يومًا قبيحة ليستبدلها بأُخرى ولم يُشعرها ولو لليلة واحدة انّهُ لا يتقبّلها ربما لذلك هي مجروحةً منه، ولكن المُعضلة الكُبرى انّهُ بالفعل يُحبّها، انه رفيقة ايامه، الفتاة التي شاركته جنون الشباب ورصانة الكِبر ولكن غيد، يا لها من مُصيبة حلّت على رأسه، لقد تزوجها بالفعل وهو بكامل رضاه بل وشعر بنشوة الظفر ما ان اصبحت ملكه.
هل يمكن للقلب قسمة الحُبّ على إثنين؟! لأنهُ بالفعل يُحبُّ كُلّاً منهما بذات الشغف.
- انا أُحبُّكِ كثيرًا، إياكِ ان تغفلي عن هذه الحقيقة في خضمّ غضبكِ منّي.
قالها وهو يمسحُ دموعها بقبلاته لتقول بأسى:
- واضحٌ للغاية حُبّكَ لي ولبناتك، بديل زواجك من أُخرى بعُمر ابنتك، ولكن اتعلم، انا أعذُرك، فللأسف لم استطيع ان امنحك الإبن الذي سيحمِلُ اسمك.
- انتِ اكثر من يعرف انّ الولد لا يهمّني؛ فلو كنت اريده لتزوجت منذ زمنٍ طويل.
- ليتهُ كان همّك الوحيد، صدّقني لم أكُن لأتألم بهذا القدر.
اختنقت الدموع بداخلها وهمست بحُرقةٍ كمن غُرِس سهمًا بمُنتصف قلبه:
- لقد قتلتني اليوم، الى الأبد.
نهضت من بين ذراعيه وقد بدى حضنه في تلك اللحظات آخر مكانٍ قد تجِدُ فيه الراحة، سارعت بالخروج ودلفت لتقضي ليلتها برفقة ابنتها كالعادة في معظم اوقات بقائه معهم وكأنما تعاقبه على خطيئته وفي الحقيقة لا تعاقب سوى نفسها، فبالرغم من كُلّ افعاله سيظلّ قلبها ينطق بحُبّه الذي يشبهُ المرض، ينخرُ بقلبها ببُطء الى ان يستفحل ويستحيل شفاؤه.
.
.
- الموج اليوم عاتٍ للغاية، اين ذهبت يا بحر!
قالها عجوزٌ يقِفُ قبالة البحر يضعُ إحدى يديه فوق جبينه مُدقِقًا النظر امامه بتركيز في محاولة فاشلة لرؤية القوارب الشراعية البعيدة عن مرمى نظره.
- بلال! يا ولد، تعال الى هنا، الآن!
صرخ موجهًا حديثه لفتى ً يبدوا بالثانية عشر من العمر، كان الفتى يقوم بوضع الصانديق الخشبيّة المخصصة لجمع الأسماك بجانب الشاطىء عندما سمع صرخة العجوز الحانق دومًا فسارع بالركض نحوه قائلًا بصبرٍ:
- نعم يا ابي، نعم، ما الذي تريده؟
- اين اخيك يا ولد؟ ألم يعُد الى الشاطىء بعد؟!
ادار الفتى عيناهُ بملل قبل ان يجيب ملوّحًا بيديه كمن يخاطِبُ طفلا:
- ابي، انا وانت نعلم انّ بحر لن يعود قبل ان يُرضي غروره كصيّاد ماهر، لذا ارجوك كُفّ عن القلق وكأن الفتى يركب الموج للمرّة الأولى.
طالع وجه الرجل الغاضب بيأس ثم ابتعد راكضًا الى السيارة ذات الطراز القديم والتقط منها الكرسيّ الخشبيّ قبل ان يعود ويضعه امام والده قائلًا بحسم:
- إجلس هنا ريثما يعود.
وعاد لعمله دون ان يلتفت وراءه فتذمّر العجوز بغيظ قبل ان يجلس امام البحر في انتظار ابنه ذو الرأس الحجريّ.
اخذ يجول ببصره في الأرجاء وبقلبه يتزايد القلق خاصّة مع اشتداد الموج الذي منع الكثير من الصيادين من العمل، فالبحر غدار ولا يجرؤ احدٌ على تحديه بالطبع عدا ابنه العزيز.
مرّت ساعة تلتها أُخرى وتفاقم الخوف الذي بدى يكسو بلال فرح يغدو ويجيءُ عاري الصدر كما اعتاد دومًا وقد احرقت الشمس وجهه الذي يلمعُ بالعرق، اخذ يركل الرمال بقدميه الحافيتين ويغرسُ انامله في خصلات شعره الطويلة التي تجعل منه كفتيان الأدغال.
نظر الى البعيد فلمح ذاك الرأس الحجريّ الذي لا تخطئه عيناه، رأس اخيه الذي يظهر ويخبو بين الأمواج ومن الواضح انّهُ يأتي سابِحًا كما يُحب تمامًا.
- بحر! عليك اللعنة، ها هو يا ابي، انه هناك!
صرخ بلال وهو يشير للبعيد بينما نهض والده وهتف بصوته الغاضب المُخيف:
- بحر، يا ولد! عليك اللعنة!
بينما بحر يسبح بانتشاء ويردد بداخله:
- يبدوا انه سيكون يومًا حافلًا، يجب ان اهرب حالما ارسوا فأبي سيطعمني للأسماك.
.
.
- رائحة البحر منعشة للغاية، يبدوا ان هواء الشمال يعبثُ بأمواج البحر.
قالها آدم بشرود واقفا امام نافذة مكتبه وعيناهُ تسرحُ للبعيد، نحوها وحدها.
نار، نار حارقة تشتعل بداخله ما ان يُفكّر فيها، إنها امرأته الصغيرة الجميلة التي يرغب بقتلها لفرط رغبته بحمايتها.
يشعُرُ بأنّهُ بات مهووسًا بها وفي كُلّ ليلةٍ تترسّخُ هذه الحقيقة بداخله، هذا الرجُل المُهذب الذي يحترمهُ الجميع قد يتحوّل الى وحشٍ كاسر اذا ذكر احدهم اسمها ولو سهوًا، لم يُفكّر ولو بأقصى احلامه جموحًا ان يشعُر بتلك المشاعر، يبدوا ضعيفًا للغاية امامها وهذا ما يُغضِبُ رجولته، يُخزيه هذا الخنوع الغريب الذي يجتاحهُ ما ان ينظُر الى عينيها.
- وآهٍ من عيناكِ يا غيد، يا قدري الجميل.
اختبأت همسته الخشنةِ خلف اصوات الموج العاتي وانطلقت شرارةً بمنتصف قلبه وهو يلمحها من بعيد، لم يكُن عصيًّا عليه معرفتها ولو من بُعد آلاف الأميال، فمن مِن نساء الأرضِ تسيرُ ببُطءٍ ودلال كموج البحر؟! اللعنة عليها! انّ شعرها... شعرها مُنفرطٌ كعقد لؤلؤ، متناثرٌ بجنون، سافرٌ كخطيئة! وثوبها.. يا اله السمٰوات والأرض!
توقفت خطواتها برُعب، انه قادمٌ نحوها كإعصار، تلاشت شجاعتها ولم يسعفها الوقت لفعل شيءٍ، تسمّرت كدُمية وكُلّ خلية بدالها تنطق:
- لقد انتهيتِ يا غيد، سيقتلكِ لا محالة!
- ما الذي تفعلينه هنا يا غيد؟ كيف خرجتِ من المنزل بهذه الهيئة؟!
باغتتها يده التي تقبِضُ على معصمها بقوةٍ مؤلِمة وامتدّت نبرته الخشنة الخافتة المُكللة بالغضب امتدّت لمسمعها كسوطٍ لاذع فهمست بتردُد:
- انا.. انا...
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
كاااات
نوقف لحد هنا
ونتلاقى الأسبوع الجاي
معكم الزوجة الثانية غيد والأولى التي لم نعرف اسمها بعد (بالصورة المرفقة) ، من يا ترى ستكسب قلب آدم في النهاية؟!
وما هي اكثر شخصية جذبت انتباهكم الى الآن؟
بالفصول القادمة ستعرفوا كيف سيكون عقاب غيد على الخروج بدون إذن
ومن هي السجينة وما سبب سجنها
وقصة بحر ذو الرأس الحجري واخيه الصغير فتى الأدغال
مع حبي
فايا ❤❤❤
لحظةً طويلة مرّت والرجُل الذي يبدوا في اواخر الشباب يقِفُ ناظرًا الى زوجته النائمة بسكون، تلك الصغيرة الهمجيّة التي القت بكُلّ وقاره واحترامه لذاته منذُ ان لمحها لأول مرّةٍ ونالها بعد عناءٍ طويل، اقترب وجلس بجانب الفراش ويداهُ الغليظتان تمتدان نحوها، يزيحُ الغطاء الذي يحجِبُها عنه، يُمررُ كفّه بحنانٍ على شعرها المجنون، يزيحُ خصلاته المتشابكة ليبرز وجهها الصغير المُستدير كشمسٍ حارقة.
فتحت عيناها النجلاء بنعاسٍ وسرعان ما مطّت يداها بدلال وابتسامةً خلّابة ترتسمُ على شفتيها.
- صباح الخير.
قالتها بنبرةٍ غارقة بالنوم تجعل من صوتها كخرير المياه، اتبعتها بقُبلةٍ صغيرة اسقطتها على خدّ ذلك العجوز الذي ابتسم اليها ببلاهة وكم ودّت ان تضحك عاليًا على انقياده المُخزي لنظرةٍ واحدةٍ منها الا انها حافظت على ابتسامتها العذِبة وهي تجلِسُ لينحسِر الغطاء عنها مُظهِرًا كتفين مرمريين ناعمين كالرخام لا يعلوهما سوى قميص نومٍ عاري، تنظُرُ الى نظراته المُفترسة بثبات ودون ادنى مقاومةٍ منها تستسلِمُ لقُبلته الصباحيةِ الثائرة التي تستنزِفُ كُلّ انوثتها، وتريقُ آخر ذرّات التحمُّل لديها، تودّ بعدها ان تغتسل الى ان تدمي فمها، ان تزيل قذارة مشاعره المشوّهة التي يفرغها بها كُلّ مرة، الّا انها لا تملك قدرةً على الأعتراض، تنظر اليه بصمت وانامله الخشنة تجرحُ بشرتها الرقيقة، انامله التي تُربّتُ على وجهها بتملُّكٍ سافر وكأنما يتركُ توقيعهُ عليها.
- ستذهبُ الى العمل؟
قالتها بعد وقتٍ قصيرٍ وهي تتململُ من لمساته.
- نعم، سأخرُج الآن، وانتِ عودي الى النوم، تبدين مُتعبة.
انهى حديثهُ بهمسةٍ ماكرة وانفاسه مُتحشرجة وبالرغم من الجرح الذي ظهر بعينيها جراّء حديثه إلّا انها همست بخفوت:
- سأنتظِرُك على الغداء.
- حسنٌ يا حلوتي.
غادر بهدوء الّا انّهُ التفت يتأملها ويده على مقبض الباب، يشملها بنظرةٍ عميقة تظللها مشاعر تملُّكيّة جامحة، وقال مشيرًا الى جانب الفراش:
- لا تنسي رؤية الهديّة التي جلبتها لكِ بالأمس.
اشاحت ببصرها نحو الصندوق الصغير المُغلّف بأشرطة الهدايا واومأت بصمت.
نظر اليه مرّةً أُخرى نظرةً اكثر عُمقًا الى ان شعرت بوميضٍ يخرُجُ من عينيه ليرسل قشعريرةً باردة الى اطرافها وقال بصوتٍ خافتٍ وكأنما يحادث نفسه:
- غيد
ردّت عليه بأستجابةٍ قلقة ليجيبها بنبرته القويّة الصارمة:
- لا شيء، انتبهي لنفسك.
وخرج مُسرِعًا، عادت لتندسّ بين اغطيتها بنعاس الى ان سمعت بعد فترةٍ قصيرة صوت سيارته المحتكّة مع الأسفلت تعلن انتهاء دورها كزوجة السيد آدم.
بعد عدّة ساعات كانت تدلفُ لغُرفتها حاملةً كوب قهوتها ترتشِفُ منه ببطء، وقفت طويلًا امام الهديّة الحمراء الى ان قررت ان تفتحها، ولم تتفاجأ بالعقد الماسيّ اللامع الذي يُعدّ ثروةً صغيرة امام ما يملكهُ زوجها من مال، زفرت بضيق وهي تشعُر للحظة قصيرة بإحساسٍ مُرّ كالحنظل، احساس قميء ومُقزز غمرها بالمهانة، فهدايا الصباح تلك تجعلها تبدوا كعاهرة تتقاضى ثمن ليلتها. أوليست هي كذلك؟
تسائلت بداخلها واخذت تبتسمُ باستهزاء ولكن سرعان ما انقضت تلك اللحظات لتعود الى تمثيل دور القوة، تنظُرُ امام المرآة بإستعلاء تتأمل جيدها الطويل المُزّين بعقدٍ ازداد جمالًا على بشرتها البيضاء النقية، ترفعُ يدها المُزيّنة بأساور ذهبيّة رنّانة لتقم بتمشيط خصلات شعرها وهي تشدوا بلحنٍ رتيب، تنظُرُ بشرود الى مرآتها التي لم تكذب عليها يومًا، فتخبرها بكُلّ ليلةٍ انها اكثرُ بنات حواءَ جمالًا واقلّهُن حظًّا.
.
.
التاسعة صباحًا، تنضحُ اشعة الشمس الحارقة بحرارةٍ لاسعة ولكن امام تلك البوابة كانت تلك الحرارةُ حياةً لتلك الأجساد التي هرعت للخروج بعد سنواتٍ من السجن، خرجت تجرجر قدميها بتعب، لا تشعر بأي سعادة في التحرر من سجنها الذي دام طويلا، تحمِلُ حقيبةً سوداء مهترئة وقلبًا معطوبًا وكُرهًا قد يحرق الكون.
لسعت الشمس وجهها فوضعت كفّها على جبينها بيأس وهي تلتفِتُ يمينًا ويسارًا غير قادرة على تحديد وجهتها، وبعد حيرةٍ دامت لثوانٍ اختارت الطريق الأسفلتي الأيمن فراحت تسير بمحاذاته بصمت، تتأمل الأماكن، الناس، والطرقات بدهشةٍ وشوق للحياة، للحرية التي أُغتصِبت منها منذُ وقتٍ طويل، ولم يكن لها وجهة معينة، فليس لها احدٌ في هذه الحياة وبعد الخروج من السجن سيتوجّبُ عليها البدء من جديد، كما وعدت نفسها مِرارًا وتكرارا، ستنسى كل شيء وتؤسس لنفسها حياةً كريمة خالية من الألم والعذاب والدموع.
تعبت من السير فجلست بجانب الطريق، راحت تنبِشُ بحقيبتها لتخرج النقود القليلة التي استطاعت تجميعها في الفترة الماضية، لم تكن كثيرةً بما يكفي ولكن على الأقل ستؤمن لها مسكنًا الى ان تجد عملًا مناسبا.
دسّت النقود بحرصٍ بين ثيابها وعدّلت فستانها بهدوء وعادت للتغرق في التفكير، كانت الذكريات تتدافع امامها بشدّة الى درجة انها شعرت بدوارٍ عنيف يغزو عقلها جاعِلًا منها فريسة سهلة ما ان تفقد وعيها في هذا الرصيف الخالي من البشر، دفعت هذه الفكرة الذعر الى قلبها وسرعان ما حاولت التماسك فلا بد ان تظلّ بوعيها لكي تستطيع العيش في هذه الحياة، منذ اليوم ستنامُ بأعيُنٍ مفتوحة والّا ضاعت الى الأبد.
ظلّت تسير وتسير بلا هُدى الى ان توقّفت امام متجر صغير لتبتاع بعض الماء والطعام، ووجدت ان قدماها قادتها الى البحر، حبيبها الأول والأخير، حملت حذائها وسمحت للرمال الدافئة بمعانقة قدماها المتعبتان، ومرّت ببالها آخر ذكرى لها بهذا المكان ولا تدري هل ارتجفت لمرارة الذكرى ام برودة الموج المفاجىء ولكنها قد اقنعت نفسها بأن كل شيءٍ قد انتهى، ولا سبيل للعودة للوراء.
اقتربت لتغسل وجهها بما البحر الذي بدى اشهى من العسل، داعبتها حينها ابتسامةً عميقة، دافئة، مالحة كماء البحر تمامًا واختفت كل سنوات السجن المُرّة والمهينة لتعود لتلك الفتاة التي فقدتها منذ عشر سنين، تلك الشابة التي كان اقصى احلامها ان تكمل دراستها الجامعية بنجاح.
زفرت بألم واضح وهي تستفيقُ على واقعٍ مرير فابتعدت خائرة القوى، منهكة الجسد والروح ولا زال امامها بحثًا طويلًا لتجد ملجأ زهيد الثمن لتنام براحة.
.
.
بدت اشعة الشمس كسوطٍ حار لسع وجهها فأستقامت متأففة، شعرت بأنها ستتقيأ من تلك الرائحة الكريهة المحيطة بها، ولكنها زمّت شفتيها بشدّة ونهضت من وراء حاوية القمامة التي اضطرت ان تقضي ليلتها خلفها، كان الخيار الأسهل والأكثر امانًا حيثُ اختبأت وراء حاوية كبيرة موضوعة بأحد الأزقّة الضيقة، ضمّت حقيبتها الى صدرها وهي تسير بضعة خطوات ولا زال النعاس يداعب ملامحها.
- يا الهي!
همست بتقزز وهي تنظر الى ثوبها المتسخ ورائحتها الكريهة.
- يجب ان اغتسل من هذه القذارة.
اتجهت بعزم نحو احد المراكز التجارية ولكنها لمحت من بعيد حارِسًا بالتأكيد لن يسمح لأمثالها بالدخول، ولكن يجب ان تحاول على الاقل، اقتربت بخطواتٍ سريعة وحاولت الاندماج مع فوج من الناس للدخول للمجمع التجاري ولكن رائحتها كشفتها، فقد التفتت اليها إحدى النساء وصرخت كم مسّه جان:
- يا إلهي! ما هذا القرف؟ اخرجوا هذه المجنونة من هنا.
وجدت نفسها فجأة مُحاطةً بجمعٍ من الاعين المُتقززة من مظهرها، تبدوا متسوّلة بائسة قد امتلأ ثوبها المهترئ بفضلات الطعام، وجدت كفًّا قويّة تسحبها لتلقي بها الى الخارج والحارس يهتف بوجهها بغضب:
- هيا اغربي عن وجهي يا معتوهة، والّا سأبلغ الشرطة ليأخذوكي الى مكانك المناسب.
نهضت بتعثُّر وسارعت بالركض غير آبهة بالأعيُن التي تطالعها؛ فآخر ما ترغب به هو العودة الى ذلك المكان القذِر، لن تعود الى السجن من جديد.
ظلّت تركض الى ان شعرت بأن قدماها قد تيبّستا من التعب وكانت قد وصلت الى البحر، كما غادرته منذ اقلّ من اربع وعشرين ساعة وكأنما كُلّ الطُرُق تعيدها الى ذات المكان، سارت بمحاذاته بشرود وكُلّ خليّةٍ بداخلها تنهار، ترغب بشدّة بأن تبكي وتصرُخ ولكنها مُنهكة، مُنهكة الى درجةٍ بات فيها الشعور بآلامها ميّتًا، وكأنما تجمّد قلبها الخافق بجنون بين اضلُعها وتحجّرت الدموع التي تحرقُ جفنيها.
فسقطت هامسة بعذاب:
- اغثني يا الله، اغثني!
.
.
انها التاسعة مساءً، خرج للتوّ من مكتبه المتاخم للشاطىء، حيثُ يملك عددًا من السُفُن البحرية التي تنقُل البضائع من والى البلاد، لم يكُن مُجرد رجل اعمال القت به الظروف في هذه المنطقة بل إن جذوره منذ جدوده الاوائل تأصلت في البحر، من صائدي اسماك الى بائعي قوارب واخيرًا مالكي سُفُن، يعرفه الصغير قبل الكبير ويكنّ لهُ الجميع احترامًا يفوق الوصف؛ فلسنواتٍ طويلة كانت اعماله تفتح بيوتًا ويعيش على إثرها الكثير من الناس.
خمس واربعين عامًا، قامةً طويلة، صلبةً ابيّةً كالنخيل، وجهًا يحمِلُ وقار الشيوخ وعينان غارقتان بالسفور، ذلك السفور الفطري الذي يكسوا الشباب، انهُ مزيجًا رجوليًّا جدًّا من الجاذبية والهيبة والوقار، ولكن يحكم ذلك المظهر الوسيم عقلًا مُتزِنًا مُثيرًا للإعجاب، الّا ان كُلّ تلك المحاسن تزول ما ان يتعلّق الأمر بغيد، زوجته الثانية التي يرى الجميع زواجه منها مُجرد وسيلة للرفاهية او المحاولة لجلب ابن يحمل اسمه بينما في الحقيقة ارتباطه بها ابعد ما يكون عن هذين الإحتمالين ولكنها لا تفهم ذلك، ولا يرغب هو بالتبرير لها، يكفي انها زوجته، مليكته وطوع امره، يشبعُ من النظر الى وجهها دون حرج.
.
.
بحر الجنوب، يمتدُ بطول الحي الشعبيّ ذو المباني ذات الطراز العتيق، تتراص العمارات ذات الطلاء الأبيض متشابهة التصميم على شكل دائري في تلك المساحة الشاسعة مكوّنة منطقة اشبه بالأحياء الايطالية القديمة، يجتاح الاجواء هواء البحر المنعش المشبّع بالمعادن والذي يبعد مئات الأمتار عن المنطقة، كان احد تلك العمارات القديمة مظهرًا اكثر رُقي او فلنقُل به القليل من التعديلات التي تجعل منها بناية مميزة، كانت واجهتها مطليّة بلونٍ ازرقٍ كلون البحر ويبدوا جليًّا الثراء على ساكنيها الذين هم ليسوا سوى عائلته.
اوقف آدم سيارته امام البوابة الحديدية القصيرة ودلف الى الداخل، كانت الأضواء تنير الردهة المؤدية الى الدرج الافعوانيّ الطويل الذي يصل ذاك البناء الطويل مع بعضه البعض، كانت الشقّة بالطابق الأول هي شقّة اخيه الوحيد الذي يعمل برفقته ويسكن هو وزوجته وابنيه بها بينما بالطابق الثاني تسكن ابنة اخته التي يعتني بها منذ طفولتها الى ان زوجها ابن احد اصدقائه بشرط ان تبقى برفقته بذات البيت، وصل الى الطابق الثالث ولم يتفاجأ بالباب الذي فُتِح على مصرعيه ليواجه زوجته الأولى التي اخذت تنظُر اليه بصمت الى ان قالت بنبرةٍ هازئة:
- تفضّل يا آدم، المنزل منزلك.
كانت امرأةً في مطلع الاربعينات، ترتدي ثوبًا حريريًّا ناعمًا يُظهرُ مفاتن قامتها الممشوقة ذات التقاسيم الأنثوية الفاتنة بالرغم سنوات عمرها التي جعلتها أُمًّا لثلاث فتيات، ازاحت خصلات شعرها الأسود الطويل عن وجهها بحركةٍ ساحرة وتحرّكت من امامه فدلف وهو يحدجها بإحدى نظراته الحادّة لتبتلع سخريتها وتتبعه بصمت حيث دلف الى غرفته مباشرةً ليبدل ثيابه وكانت هي تنظر اليه بثبات الى ان قال آمِرًا:
- حضري لي العشاء.
كانت نبرته في اوجّ احتدادها وهي تعلم ذلك لذا غادرت بهدوء لكي تتجنّب ما يغضبه وتُدرك انّهُ يفعل ذلك مُتعمّدًا لكي لا تفتعل هي ايّ شجار فبدلًا عن غضبها هي عليه لزواجه بأُخرى بعُمر ابنته يُظهِرُ هو الحنق جاعِلًا اياها في موضع الإتهام.
عندما جاء ليتناول عشاءه كان قد ارتدى ثيابه البيتية وقد بدى اكثر هدوءً بل وقد توهّجت عيناه بلهيبٍ غريب، وضع هاتفه فجأةً بجانبه لتُدرك انّهُ تحدّث قبل قليل الى غيد، بهتت حينها ملامحها واكتسى قلبها بحسرةٍ خانقة دفعتها للنهوض بعيدًا عنه فآخر ما ترغب به الآن هو رؤية تلك الملامح على وجهه فمهما ظنّ الجميعُ انها قويّة ستظلّ امرأة ولا يمكن لأي امرأة ان تتحمّل رؤية عشق زوجها لأُخرى، ستظلُّ تلك الجمرة التي اضرمها زواجه بقلبها، لن تنطفىء ابدًا الى ان تموت.
اغلقت باب غرفتها بصمت واتجهت لتجلس على فراشها، ذلك الفراش الذي تشاركتهُ ذات يومٍ مع رجُلٍ كان كُل حياتها واصبح مُجرد شخصٍ عابر، يغفو بجانبها من جانب العدل فقط.
استندت على ركبتيها وحملت وسادته بين ذراعيها، تضمها بشدّة، يخنقها عبير عطره كما تختنقُ الآن بدموعها التي تأبي ان تتحرر، تعيدها الى مكانها بهدوء وتستلقي بجوارها بصمتٍ شديد وتأبى عيناها ان تستسلمان للنوم علّ قلبها الملكوم يهدأ ولو للحظاتٍ قليلة، تعودُ بذاكرتها الى سنواتٍ غابرة حيثُ كان اقصى احلامها ان يعود زوجها من العمل لتصنع لهُ العشاء، ان تشاهد معهُ التلفاز الى ان تغفو بين ذراعيه.
دلف بعد فترةٍ طويلة الى الغرفة وربما اراد ان يتأكد من انها خلدت للنوم ليتفادى حرج البقاء برفقتها، هذا ما فكّرت فيه وهي تكتُمُ انفاسها عندما استلقى بجانبها وسرعان ما اتسعت عيناها ويداهُ القويتان تسحبانها لتقابل وجهه ويقول بحسم:
- اخبرتك آلاف المرّات، انا لا أُحبّ ان تعطيني ظهركِ.
رفع ذقنها بأنامله ليواجه نظراتها الحزينة وقد تبللت عيناها بالدموع، كانت امرأةً جميلة للغاية، لها وجهًا كمطلع الشمس، وقد اورثت فتياتها الثلاثة حُسنها، لم تكُن يومًا قبيحة ليستبدلها بأُخرى ولم يُشعرها ولو لليلة واحدة انّهُ لا يتقبّلها ربما لذلك هي مجروحةً منه، ولكن المُعضلة الكُبرى انّهُ بالفعل يُحبّها، انه رفيقة ايامه، الفتاة التي شاركته جنون الشباب ورصانة الكِبر ولكن غيد، يا لها من مُصيبة حلّت على رأسه، لقد تزوجها بالفعل وهو بكامل رضاه بل وشعر بنشوة الظفر ما ان اصبحت ملكه.
هل يمكن للقلب قسمة الحُبّ على إثنين؟! لأنهُ بالفعل يُحبُّ كُلّاً منهما بذات الشغف.
- انا أُحبُّكِ كثيرًا، إياكِ ان تغفلي عن هذه الحقيقة في خضمّ غضبكِ منّي.
قالها وهو يمسحُ دموعها بقبلاته لتقول بأسى:
- واضحٌ للغاية حُبّكَ لي ولبناتك، بديل زواجك من أُخرى بعُمر ابنتك، ولكن اتعلم، انا أعذُرك، فللأسف لم استطيع ان امنحك الإبن الذي سيحمِلُ اسمك.
- انتِ اكثر من يعرف انّ الولد لا يهمّني؛ فلو كنت اريده لتزوجت منذ زمنٍ طويل.
- ليتهُ كان همّك الوحيد، صدّقني لم أكُن لأتألم بهذا القدر.
اختنقت الدموع بداخلها وهمست بحُرقةٍ كمن غُرِس سهمًا بمُنتصف قلبه:
- لقد قتلتني اليوم، الى الأبد.
نهضت من بين ذراعيه وقد بدى حضنه في تلك اللحظات آخر مكانٍ قد تجِدُ فيه الراحة، سارعت بالخروج ودلفت لتقضي ليلتها برفقة ابنتها كالعادة في معظم اوقات بقائه معهم وكأنما تعاقبه على خطيئته وفي الحقيقة لا تعاقب سوى نفسها، فبالرغم من كُلّ افعاله سيظلّ قلبها ينطق بحُبّه الذي يشبهُ المرض، ينخرُ بقلبها ببُطء الى ان يستفحل ويستحيل شفاؤه.
.
.
- الموج اليوم عاتٍ للغاية، اين ذهبت يا بحر!
قالها عجوزٌ يقِفُ قبالة البحر يضعُ إحدى يديه فوق جبينه مُدقِقًا النظر امامه بتركيز في محاولة فاشلة لرؤية القوارب الشراعية البعيدة عن مرمى نظره.
- بلال! يا ولد، تعال الى هنا، الآن!
صرخ موجهًا حديثه لفتى ً يبدوا بالثانية عشر من العمر، كان الفتى يقوم بوضع الصانديق الخشبيّة المخصصة لجمع الأسماك بجانب الشاطىء عندما سمع صرخة العجوز الحانق دومًا فسارع بالركض نحوه قائلًا بصبرٍ:
- نعم يا ابي، نعم، ما الذي تريده؟
- اين اخيك يا ولد؟ ألم يعُد الى الشاطىء بعد؟!
ادار الفتى عيناهُ بملل قبل ان يجيب ملوّحًا بيديه كمن يخاطِبُ طفلا:
- ابي، انا وانت نعلم انّ بحر لن يعود قبل ان يُرضي غروره كصيّاد ماهر، لذا ارجوك كُفّ عن القلق وكأن الفتى يركب الموج للمرّة الأولى.
طالع وجه الرجل الغاضب بيأس ثم ابتعد راكضًا الى السيارة ذات الطراز القديم والتقط منها الكرسيّ الخشبيّ قبل ان يعود ويضعه امام والده قائلًا بحسم:
- إجلس هنا ريثما يعود.
وعاد لعمله دون ان يلتفت وراءه فتذمّر العجوز بغيظ قبل ان يجلس امام البحر في انتظار ابنه ذو الرأس الحجريّ.
اخذ يجول ببصره في الأرجاء وبقلبه يتزايد القلق خاصّة مع اشتداد الموج الذي منع الكثير من الصيادين من العمل، فالبحر غدار ولا يجرؤ احدٌ على تحديه بالطبع عدا ابنه العزيز.
مرّت ساعة تلتها أُخرى وتفاقم الخوف الذي بدى يكسو بلال فرح يغدو ويجيءُ عاري الصدر كما اعتاد دومًا وقد احرقت الشمس وجهه الذي يلمعُ بالعرق، اخذ يركل الرمال بقدميه الحافيتين ويغرسُ انامله في خصلات شعره الطويلة التي تجعل منه كفتيان الأدغال.
نظر الى البعيد فلمح ذاك الرأس الحجريّ الذي لا تخطئه عيناه، رأس اخيه الذي يظهر ويخبو بين الأمواج ومن الواضح انّهُ يأتي سابِحًا كما يُحب تمامًا.
- بحر! عليك اللعنة، ها هو يا ابي، انه هناك!
صرخ بلال وهو يشير للبعيد بينما نهض والده وهتف بصوته الغاضب المُخيف:
- بحر، يا ولد! عليك اللعنة!
بينما بحر يسبح بانتشاء ويردد بداخله:
- يبدوا انه سيكون يومًا حافلًا، يجب ان اهرب حالما ارسوا فأبي سيطعمني للأسماك.
.
.
- رائحة البحر منعشة للغاية، يبدوا ان هواء الشمال يعبثُ بأمواج البحر.
قالها آدم بشرود واقفا امام نافذة مكتبه وعيناهُ تسرحُ للبعيد، نحوها وحدها.
نار، نار حارقة تشتعل بداخله ما ان يُفكّر فيها، إنها امرأته الصغيرة الجميلة التي يرغب بقتلها لفرط رغبته بحمايتها.
يشعُرُ بأنّهُ بات مهووسًا بها وفي كُلّ ليلةٍ تترسّخُ هذه الحقيقة بداخله، هذا الرجُل المُهذب الذي يحترمهُ الجميع قد يتحوّل الى وحشٍ كاسر اذا ذكر احدهم اسمها ولو سهوًا، لم يُفكّر ولو بأقصى احلامه جموحًا ان يشعُر بتلك المشاعر، يبدوا ضعيفًا للغاية امامها وهذا ما يُغضِبُ رجولته، يُخزيه هذا الخنوع الغريب الذي يجتاحهُ ما ان ينظُر الى عينيها.
- وآهٍ من عيناكِ يا غيد، يا قدري الجميل.
اختبأت همسته الخشنةِ خلف اصوات الموج العاتي وانطلقت شرارةً بمنتصف قلبه وهو يلمحها من بعيد، لم يكُن عصيًّا عليه معرفتها ولو من بُعد آلاف الأميال، فمن مِن نساء الأرضِ تسيرُ ببُطءٍ ودلال كموج البحر؟! اللعنة عليها! انّ شعرها... شعرها مُنفرطٌ كعقد لؤلؤ، متناثرٌ بجنون، سافرٌ كخطيئة! وثوبها.. يا اله السمٰوات والأرض!
توقفت خطواتها برُعب، انه قادمٌ نحوها كإعصار، تلاشت شجاعتها ولم يسعفها الوقت لفعل شيءٍ، تسمّرت كدُمية وكُلّ خلية بدالها تنطق:
- لقد انتهيتِ يا غيد، سيقتلكِ لا محالة!
- ما الذي تفعلينه هنا يا غيد؟ كيف خرجتِ من المنزل بهذه الهيئة؟!
باغتتها يده التي تقبِضُ على معصمها بقوةٍ مؤلِمة وامتدّت نبرته الخشنة الخافتة المُكللة بالغضب امتدّت لمسمعها كسوطٍ لاذع فهمست بتردُد:
- انا.. انا...
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
كاااات
نوقف لحد هنا
ونتلاقى الأسبوع الجاي
معكم الزوجة الثانية غيد والأولى التي لم نعرف اسمها بعد (بالصورة المرفقة) ، من يا ترى ستكسب قلب آدم في النهاية؟!
وما هي اكثر شخصية جذبت انتباهكم الى الآن؟
بالفصول القادمة ستعرفوا كيف سيكون عقاب غيد على الخروج بدون إذن
ومن هي السجينة وما سبب سجنها
وقصة بحر ذو الرأس الحجري واخيه الصغير فتى الأدغال
مع حبي
فايا ❤❤❤