الفصل الحادي والثلاثين

كانت تحمل دائما علبة حقن (اكسوسوتين )* فارغة لتطلب إحضارها حين تشعر أن الأم الوالدة تنزف فوق المقدار المعقول ، لأنها لا تجيد نطق اسم الحقن اللاتيني وبالتأكيد لا تجيد كتابته .. لكن " عبد الرحيم " دفعها بعيدا .. لم يعد يري في مرآة الوجود سوي وجه زوجته الشاحب الميت المثير للرعب .. من نظرة واحدة إليها ، ثم إلي وجه حماته ، أدرك أن هناك شيء خطير يحدث .. والحقيقة أنه كان مخطئا في ذلك فالشيء الخطير كان قد حدث بالفعل وأنتهي الأمر !
الشيء الخطير حدث عندما تجاهلوا نصيحة الطبيب ، وحينما أعطي هو أذنيه لامرأتين موتورتين حاقدتين وغمط امرأته حقها .. وأستكثر علىها بضع مئات من الجنيهات .. الخطأ حدث حينما تهاون في حق نفسه وفي حق زوجته وحبيبته .. حينما رضخ مرة ومرة ومرة ، ووجد نفسه أخيرا لم يعد يعرف إلا الرضوخ .. حدث الخطأ إذن وأنتهي لكن ليست كل الأخطاء قابلة للإصلاح للأسف !
أرتمي فوق جسد " نعمة " يحدثها :
" " نعمة " .. " نعمة " حبيبتي يا مرت عمري .. مالك .. متخافيش أنا هوديكي للدكتور .. متخافيش هشيلك على كتفي وهوديكي للدكتور دلوقتي ! "
اعترضت أمه بخفوت :
" أنت بس هاتلها الحقن وهي هتبقي كويسة إن شاء .. "
تحول إلي أمه وصرخ فيها بقوة :
" أسكتي .. مسمعش نفسك ! "
بقوة أسد غاضب نهرها فانتهرت ، وسكتت ولم تحر كلمة زائدة .. لقد كانت بحاجة لمن يُسكتها منذ زمن طويل !
كانت أم " نعمة " قد انخرطت في بكاء مر .. بينما فتحت الزوجة عينين غائمتين لا تعرف إن كانت تري بهما العالم المحيط بها ، أم أنها تهيم بهما في عالم آخر لا يراه أحد ممن يحيطون بها .. بصوت منخفض للغاية همست الوالدة المتألمة :
" جبتلك الواد .. سميه " محمود " .. عشان نبقي حامدين ربنا عليه ! "
سكتت بعد ذلك .. كانت عيناها لا تزالان تتحركان حركة عشوائية وتدوران هنا وهناك، لكنها لم تكن مدركة لما يدور حولها ، ولبحر الدم الذي ما أنفك ينفجر من داخلها .. لقد وهن الرحم وفشل في الانقباض .. وأخفق في السيطرة على الأوعية الدموية فأنفجر الدم الحبيس في الجسد متسربا إلي الخارج وكأنه مداد محبرة مضي عليه سنين في محبسه .. وقد آن أوان خروجه ليسيل ويكتب قصة جديدة أو ينهي قصة قديمة !
صرخ " عبد الرحيم " مناديا أحد أخوته آمرا إياه بأن يسرع ليستوقف سيارة أو توكتوك ، أو أي وسيلة ينقلون بها المرأة التي تنزف بغزارة إلي المستشفي أو عيادة طبيب .. أسرع الأخ الأصغر بتنفيذ الأمر ، بينما وضع الزوج ذراعيه تحت جذع زوجته وقدميها ، وحملها كخرقة مبللة خفيفة الوزن ،غير مبال بكل الدم الذي علق به ولطخ ثيابه على الفور .. حملها وهي لا تكاد تعي ولا تحس بما يدور حولها وأتجه بها نحو السلم .. هرعت البنات الأربع يلحقن بأمهن وأبيهن صارخات والدموع تتقاطر على أوجههن البريئة بحورا من نزق الحزن وطيشه ، حين يصيب قلوب غضة لا ينبغي لها أن تعرف معني الحزن أو أن تجربه .. لكن خالة أمهن واحدي العمات أسرعن بمنع البنات وحجزهن بالقوة .. وهن يصرخن وينادين أمهن ويحاولن الإفلات بكل طريقة وكل وسيلة تستطيعها أجسامهن الغضة الصغيرة ..
جرت والدة " نعمة " خلف موكب ابنتها ، وتبعتها الحماة على بعد خطوتين .. وهي تشعر بأن هناك مصيبة قريبة ، قريبة جدا ، ستحدث مع أنها حدثت بالفعل وتحت أنظارها .. لكن منذ متى يبصر العميان أو يحسنون النظر ؟!
بدأ " عبد الرحيم " يهبط السلم بتؤدة وتأني ودم زوجته يسيل على ذراعه الذي يسند به أسفل ظهرها .. كان يتمزق بين رغبته في الإسراع لنجدتها وبين حرصه على عدم تحريك جسدها الواهن بقوة لا تتحملها في تلك الحالة المزرية .. عند منتصف السلم تماما بدأت الزوجة تحتضر !
كانت قد فقدت ما قياسه 3000ملي من دمها ، وصارت على أعتاب الموت نتيجة فقدان الدم الضخم .. لم يسرع أحد بنجدتها ، لم تعرف الحكيمة ، التي ليست إلا قابلة مدربة في نهاية الأمر ، كيف تتدارك الأمر أو كيف تسرع بنجدتها .. شٌغلوا عنها بالولد الذي ألهاهم وتلهوا به ، تاركين من أتت به إلي الدنيا تقضي وتنزف حتى الموت .. أصبح إنقاذها الآن أمرا يعتمد على شيء واحد .. هل لها بقية من عمر ؟!
عند منتصف السلم اتضحت الإجابة وجاءت إليه تهرع ولكنها لا تبشر ولا تزف .. كانت رأس " نعمة " مائلة في حضن زوجها الذي ضمها إليه بحنان لم يضمها به منذ سنوات وسنوات ، بل منذ ليلة زفافهما ، حيث قرر أن يمنحها الأمان والشعور بالطمأنينة معه قبل أن يطلب منها هي أن تمنحه شيئا .. منحها ومنحته ، وكان بالإمكان أن يدوم هذا للأبد .. لولا الولد والتقاليد والانتظار والتصبر والتشكي وقهر النساء ، وغلبة الضعف على الرجل حين يحب ويتمزق بين من يحب وما يحب ويشتهي .. كان بالإمكان أن يستمر هذا إلي الأبد .. أبده هو وأبدها هي لكن أبدها أسرع للأسف وأكثر قسوة !
حين عد تسعة درجات نزولا ، وما عد ولا كان فيه عقل يعد ، توقف تنفسها تماما .. كان يشعر بنفسها الواهن المتخاذل يدخل ويخرج من صدرها ، ويطمئن إلي أنها لا تزال حية .. لا تزال تقاوم لكن الدم المسفوح كان أكثر من قوتها وأكبر من مقاومتها !
نزفت حتى صفي دمها فأسلمت الروح بين ذراعيه وفي حضنه .. شعر برأسها تخفق في حضنه خفقة صغيرة ثم شهقت ، وتدلي رأسها محويا في حضنه ساكنا صامتا ولا نفس يتردد في صدرها .. شعر بذلك فتوقف .. باغتته الضربة على مؤخرة عنقه فتوقف مجبرا !
لو أن أحدا فاجأه في السوق أو الشارع وضربه على مؤخر رأسه ، على قفاه .. لتوقف فورا واستدار إليه ورد إليه ضربته عشرا .. لكن كيف السبيل إلي رد ضربة الموت !
هل له وجه تصفعه عليه .. أله جلد تمزقه .. أله بطن أو صدر تركله فيه ؟!
لا شيء من هذا ..
إنه بجبروته وقوته وخطفه المسروق لكل شيء لا يقاوم ولا يؤخذ منه ولا يرد عليه !
تهاوي الآن من الداخل .. آن له أن يتهاوي الآن ويسقط .. فقد صمد أكثر مما يجب وأكثر مما يحتمل .. تهاوي وجلس على درجة السلم العاشرة يرمق ما أمامه بذهول .. ولم يكن أمامه شيء يُرمق أو ينُظر إليه .. محض مساحة بيضاء لا ألوان فيها .. أفق معتم مخطط بالأبيض ولا خلفية له .. على درجة السلم العاشرة جلس واضعا إياها في حجره وعلى ساقيه غير مدرك أنه وبعملية طرح بسيط .. بإنقاص واحد كان يمكنه أن يدركها وهي حية !
بناقص واحد كان يمكن أن يعتذر لها ويعلن ندمه .. وكانت ستسمعه رغم الحجاب الذي توارت خلفه وغلفها وأحاطها بغلالة من كتمان .. بناقص واحد كان يمكن أن يجبر كسرها بكلمة تطيب خاطرها وتعرفها أنه لم يحب امرأة في حياتها سواها .. وأن التي تجلس فوق ، مذهولة مرعوبة فاقدة التوازن ، ليست زوجة ولا حبيبة .. إنما هي ماعون !
هي الماعون الذي أتي به وليست " نعمة " .. فلم يتزوج " نعمة " حين تزوجها لتكون معونا له .. أبدا !
تزوجها لأنه أرادها .. ولأنها أحبها .. ولأنها المرأة التي أشار نحوها قلبه وأشارت عليها جوارحه !
لكن الأخرى هي ( الماعون ) .. آتي بها لتحمل وتلد له الولد .. ووالله لو أنها فعلت ثم خيرها بين أن تبقي بلا قيمة ، أو أن تذهب تاركة له الولد واختارت الثانية ، لطلقها وأبعدها دون تردد ودون ندم !
والله لما كان لها في قلبه ذرة حب ولا لها عنده ذرة مودة ولا رحمة !
فأي رحمة ترجي وراء من أتت لتقوم بمهمة الحمل والإنجاب كأنها أنبوب اصطناعي ؟!
لا والله كان لديه الكثير ليقوله والكثير ليطيب خاطرها ويداوي جرح قلبها به .. ولكن ، ولأنه تلميذ خائب جمع بدلا من أن يطرح ، وفاته واحد لا غير .. فقد فاتته فرصة أن يقول لها كل ذلك إلي الأبد !
جلس بها على حجره ومن خلفه أتت حماته الوالهة على ابنتها ، وأمه التي يعتصرها القلق اعتصارا وينهشها الخوف نهشا .. جاءتا من خلفه تستحثانه على السير بينما حضر أخيه جريا من الخارج يبشره بأنه أحضر له سيارة بيجو تخص أحد أصدقائه لينقلوا المرأة التي تنزف بها .. لكن ما من فائدة أصبحت ترجي !
صرخت فيه الحماة بعد أن فقدت كل صبر لديها وكل طول بال على المكاره :
" ما تقوم يا ولدي .. هتقعد بيها كده لما دمها يتصفي قدام عنينا ! "
بدأ يبكي الآن .. سال بحر مفاجئ ، كأنه سيل عرم أنفجر من خلف حطام سد مدمر ، من الدموع على وجهه وهتف بصوت مبحوح :
" ماتت ! "
ضربت الأم على صدرها وأحتبس الكلام في حلقها ، بينما أسود وجه أمه هو وتقلصت ملامحها في ذعر .. قال ثانية وهو يضم زوجته الميتة إليه وكأنه يخشي أن ينتزعها أحد من بين يديه :
" بتك ماتت .. " نعمة " ماتت ! "
بدم بارد وقلب أكثر برودا أستقبل العالم الفجر .. ودوي صوت الآذان من المسجد القريب ليعلن أن العالم يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. وبدا كأن صوت الآذان الشجي يستدعي الله نفسه ليشهد على ما يجري من خلقه وما يجري عليهم .. لكن الله ليس بحاجة إلي استدعاء أو طلب .. فالله ومنذ البدء كان يشهد أيضا ولا زال يشهد .. فهو الشاهد وهو الشهود نفسه !
...
من ينتظرون لكل قصة نهاية يتجاهلون حقيقة مهمة واضحة وبسيطة .. أنه ما من شيء له نهاية في هذا الكون !
كل شيء فيه لا نهائي .. يبدأ ولا ينتهي .. فالموت ليس نهاية ولا الولادة ولا الحياة نهايات !
كل شيء في الكون يدور حول نفسه ليبدأ من جديد .. والقصة التي تنتهي تكتب سطر بداية لقصة جديدة تنبع من ذيلها .. حتى الموت ليس نهاية مناسبة لأي قصة !
فهناك ميت لكن هناك أحياء يتركهم من خلفهم هم على كل حال جزء منه وهو جزء منهم .. حتى الميت نفسه تنتظره حياة أخري خلف القبر ، ليس مهما أن تعرف عنها شيئا أو لا تعرف .. لكن الروح الصامدة الراسخة تقول لك بوضوح منذ لحظة صرخة الوليد بوجهك حين يلج الدنيا برأسه ، أو بقدميه أحيانا ( أنا لا أموت .. أنا خالد وبعد أن أنتهي أبدأ من جديد )
بدايات جديدة وليست نهايات هي إذن ..
*****
" سناء "
مرت عليها أوقات صعبة وأيام طويلة مؤلمة بعد وفاة البنت القصيرة الصغيرة " إسراء " مدهوسة تحت الأقدام .. لم يكن موت الفتاة هو سبب ألمها المبرح حقيقة بل ما جري بعد حادث الموت .. فما من أحد عوقب على ذلك الخطأ الجسيم الذي نتج عنه موت طفلة صغيرة ضعيفة البنيان غضة الإهاب !
فالسيد مدير المدرسة تلقي مساعدة وحماية كاملة من المسئولين بالإدارة التعليمية ، التي تتبعها المدرسة ، وأنسلت يده من المسئولية بشهادة السيد الزائر الكبير التي جاءت في صالحه تماما .. شهد الموظف التعليمي الكبير بأن السيد المدير ، حفظ الله عليه كرشه ولغده السمين ، كان جالسا برفقته في المكتب يراجعان دفاتر وأوراقا هامة ، وأنه لا شأن له بقرار إنزال جميع الطلاب ، صغارا وكبارا ، كلهم من سلم واحد مما نجم عنه موت الطفلة التي لها ظروف صحية خاصة .. ألقيت الكرة في ملعب من كانوا يتولون مسئولية الإشراف اليومي في ذلك اليوم المشئوم .. فسرعان ما ركلوها بعيدا ونفضوا أيديهم من المسئولية ومن الجريمة ببراعة متناهية .. ببساطة تم التلاعب في كشف الإشراف اليومي ، وإثبات أسماء ثلاثة مدرسين تغيبوا عن المدرسة يومئذ كمشرفين على المدرسة في يوم الأحد ، وقيل أن الثلاثة تغيبوا فقام بقية المدرسين بواجب الإشراف اليومي متطوعين .. وعندما سؤل عن اسم الشخص الذي قرر أن يوجه الطلاب كلهم لاستخدام سلم واحد للنزول لم يجد المحققين من يجيبهم على هذا السؤال ورميت المسئولية على هذا وذاك لكن ما من ورقة رسمية تثبت من هو المسئول عن هذا القرار الغبي !
المدرسون كلهم أتحدوا ووقفوا صفا يدافعون عن أنفسهم .. كل واحد منهم وجد أن إفلات الآخرين هو ضمان لإفلاته هو من المسئولية ومن العقاب ، فتضامنوا وتآزروا معا ، ربما لأول وآخر مرة في تاريخ مزاملتهم المهنية .. أختفي الحقد المتبادل بين مدرسي المادة الواحدة ، وتبخرت المنافسة على الرؤوس وعلى الفوز بكعكة الدروس الخصوصية .. ووضع المدرسون ، خاصة المدرسون الأوائل الذين كانوا لا يكفون عن تبادل الشكاوي الكيدية ، والضربات القذرة تحت الحزام ، وبسببهم أصبحت المدرسة مرتعا للنيابة الإدارية ومحققيها ، خلافاتهم في جيوبهم ، فكل هذا نُسي الآن وتبدد .. ولم تبق سوي المسئولية الخطرة التي تهددهم جميعا .. فشل المحققون تماما في التوصل إلي من أتخذ قرار استخدام السلم الواحد ، كما فشلوا في معرفة من الذي بادر بإنزال طلاب فصول الصف السادس ، ثم طلاب الإعدادي قبل موعدهم بأكثر من ربع ساعة ، ليسقطوا فوق الجميع ويدهسوا بأقدامهم النزقة الغليظة عنق وجسد فتاة قزمة مسكينة لا حول لها ولا قوة !
طارت الكرة حول الملعب وما من أحد تمكن من اللحاق أو الإمساك بها .. وطارت روح " إسراء " الصغيرة فوقهم كلهم لتري كيف ضاعت دماؤها وضاعت روحها هباء ، في وطن أرخص ما فيه هو دماء الناس وأرواحهم !
حتى " سناء " لاذت بالصمت وتمسكت به .. وجدت نفسها في محيط معادي ، مهددة بما هو أكثر من فقدان وظيفتها ، إن هي تجرأت وفتحت فمها ولفظت الاسم الذي تعرفه جيدا .. اسم المدرس الأول الغضنفر الذي أتخذ قرار نزول الطلاب كلهم من السلم الآخر ليحافظ على شكل المدرسة ونظافة السلم المجاور لمكتب المدير أثناء وجود السيد المحترم الزائر الكبير !
كان اسمه معروفا للجميع لكنهم كانوا جميعا أيضا يؤمنون بمبدأ وعقيدة واحدة :
" وهو الأستاذ " محمد " ذنبه أيه ؟! ده عمرها يا بت الناس والأعمار بيد الله وما ياخد الروح إلا اللي خالقها ! "
فلسفة قبيحة مبنية على أكثر المثل سموا وجمالا في الكون .. وما دام الله هو خالق الروح وهو وحده الذي يأخذها ، فبأي حق تدهسون ما خلقه الله .. وبأي ملة تمزقون بديع صنعه وتفرمونه وتدوسونه بأقدام غبية غليظة ؟!
لا جواب سيأتيك من أحدهم .. فلا تتعب نفسك بالسؤال !
لقد تربوا على ألا يسألوا .. وربوا أولادهم وتلاميذهم على نفس المبدأ الصفيق .. فخرج الجميع يؤمنون بأن السؤال عيب وحرام !
بكت " سناء " حتى شبعت بكاء وحزنا .. أعطوها أجازة مرضية لمدة عشرة أيام عادت بعدها وقد تبدلت تبدلا كاملا .. وكأن امرأة جديدة حلت محل الأولي وأزاحتها وألقتها أرضا وهشمت رأسها !
امرأتان تتنازعان جسدا واحدا وروحين .. روح قديمة طلقة تحب الحياة وتعتقد أنه يمكنها أن تفعل الكثير ، روح تؤمن أنه بإمكانها أن تغير وتصلح الخطأ وتعالج الجرثومة المستفحلة ولو حتى بالبتر والاستئصال .. وروح جديدة كسولة متثائبة بلا عزم ولا شيء تؤمن به .. تري المدرسة من حولها مثالا على الفساد والإهمال وروح الجشع والتفاهة التي كُتب علىها أن تحيا فيها إلي الأبد .. إلي الأبد يتوجب عليها أن تحيا هنا وتتحمل ما يفرضه مجتمع غير سوي .. مجتمع أعمي يتظاهر بأنه يري كل شيء ، ويعرف كل شيء بل ويعير الآخرين بعماهم .. ويقترح عليهم أن يصدر إليهم خبراته المجيدة وإنجازاته الفذة !
تنازعتها كلا الروحين فتمزقت بينهما .. عادت وقد قررت أن تفعل مثلما يفعل الناس ، فما دامت في روما فيجب عليها أن تفعل مثلما يفعل الرومان ، وإذا كان الإهمال وانعدام الضمير قانون سائد هنا فليكن هو ذاته قانونها ونبراسها .. فقد تمطي السأم في روحها وأنتشر الضجر في خلاياها !
وعلام تخوض كل تلك المعركة وحدها .. وضد من ؟!
ضد نظام راسخ قديم قدم الوباء ومنتشر انتشار الطاعون ؟!
ما جدوى أن تدخل معركة خاسرة وأنت تعرف جيدا ، ومن قبل أن تخضها ، أنها كذلك ؟!
عادت بدفاتر تحضير مضبوطة وكراسات منسقة ومراعاة كاملة لتوزيعة المنهج .. لكن بلا روح تعمل بها ولا خفقة قلب متوثب طموح متأمل !
مات شيء بداخلها حين وضعت الطفلة المزرقة الميتة على حجرها .. ودفنت روحها حين وجدت الكل وقد أفلتوا ووجدت نفسها تنعي بنتا لم يعد أحد يذكرها !
لقد ذهبت لتعزي أسرتها فيها ، فوجدت الأم تبكي بحرقة وتعدد على بنتها المغدورة القتيلة.. بينما الجدة للأب تنهرها ، وتقول لها بلا أثر لدمعة في زاوية عينها التي تستحق رصاصة تندب فيها :
" ما خلاص يا بت الناس ! يعني مات الهايج 70 دي هبابة بت وكتر الله من البنات ! "
هبابة بت ؟!
أنتهي الأمر إذن ؟!

لا ليس بعد .. لأن " سناء " القديمة ما لبثت تحاول العودة من جديد .. فكم تتحرك الروح القديمة الحقيقية تحت الجلد الثخين الجديد المزيف !
تشعر أحيانا بدهشة مما وصلت إليه .. تحس بذهول لكونها أصبحت هكذا .. تتمطى روحها الحقيقية وتنتعش ، فتجد نفسها تأخذ حصصا إضافية من زملائها لتعلم الطلاب في فصلها كلمات جديدة أو تقرأ عليهم قصة أو تشرح لهم درسا تجده أصعب مما يستطيعون أن يهضموا ، وأكبر مما تستطيع عقولهم أن تستوعبه .. لكن الأولاد أنفسهم هم الذين أصبحوا يتهربون من الأعباء الإضافية !
انسلوا في إثر بعضهم مبتعدين متعللين بكل علة وكل حجة تخطر لهم على بال .. إنهم يريدون حصص ألعاب .. يريدون أن يتمتعوا بفسحتهم .. لا يريدون أشياء إضافية !
ليسوا بحاجة إلي ما تقدمه لهم مجانا فهم يحصلون عليه مثمنا بدقة ، ويدفعون مقابله في حصص الدروس الخصوصية التي ارتبطوا كلهم ، أو أغلبهم ، بها رغم حداثة سنهم وصغر أعمارهم الدراسية .. لا يريدون الشيء المجاني ففي عرفهم كل شيء مجاني ، حتى وإن كان المثل يحثهم على الإكثار منه ، إلا أنهم لا يرونه إلا شيئا رخيصا تافها معدوم القيمة !
تسللوا من بين يديها ووجدت نفسها تقبض على الهواء .. فعادت الروح الجديدة تؤنبها وتشمت بها :
" وأنت مال أهلك .. ما إن شالله عنهم ما أتعلموا .. روحي روحي أقعدي مع زمايلك في أوضة المدرسات وأشربيلك كوباية شاي .. بلا قلبة دماغ ! "
بلا نقاش أطاعت " سناء " النصيحة .. ولملمت كتبها وألوانها وكراسات التلوين وذهبت إلي حيث يجب أن تذهب كل مدرسة في تلك المخروبة المسماة مدرسة .. غرفة المدرسات لتثرثر مثلما يثرثرن وتشرب الشاي مثلما يشربن .. وتتكلم في كل تافهة وسخيفة وبالية مثلما يتكلمن !
لكنها أحيانا وهي في منتصف الطريق تستوقفها أداة نداء خافتة .. ثمة من يناديها ويستحثها على العودة .. لكن العودة باهظة الثمن هنا .. والبقاء على حرف السيف لا يُجني منه إلا القلق وحزات الجروح !
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي