الفصل الثاني

- اصمُتي، لا اريد سماع صوتكِ.
قالها بخفوت وقد انتبه لبعض العيون المُتلصصة، اللعنة عليها، كيف لا ينظرون الى هذه الحوريّة التي رمى بها موج البحر الى حيّ الصيادين؟!
- ادلفي الى الداخل امامي بسُرعة قبل ان اصفعك.
سارعت بالسير امامه بتعثُّر، بينما التفت الى العُمّال الذين يتابعون تأمُّل السيدة الصغيرة ذات الثوب الأحمر، التفت اليهم هاتِفًا بحدّة:
- فليذهب كُلٌّ الى عمله، الآن!

اجفلت من مرآى احدًا كان بداخل مكتبه، وسرعان ما تراجع الشاب من امامها واخفض بصره هامسًا بتحيّةٍ خافتة لم تستطِع الردّ عليها عندما دلف آدم هامسًا بحدّة:
- عمران!  اذهب الى البيت فوالدتكَ بإنتظار حاجياتها، بسُرعة.
خرج الشاب مُسرِعًا بينما التفت اليها فوجدها تنظُرُ اليه بخوف، تفرُكُ يداها يقلقٍ كطفلةٍ تنتظِرُ العِقاب، كم تبدوا هشّةً بهذه الصورة.

- ألم أُحذركِ من الخروج دون إخطاري؟!
قالها وهو يقِفُ قريبًا منها، تشعُرُ لقربه بثوران قلبه بشدّة اما وجهها، لا يفصلها عن عناقه سوى بقايا غضبه المُختلط بالغيرة والعشق.
- الجوُ رائع اليوم!
قالتها ببساطة  بخفوتٍ شديد وهي تطالعهُ بتردُد وارتفع إحدي حاجبيه غيظًا وحنقًا لتُضيف:
- لقد سِرتُ قليلًا امام البحر فالجو خانقٌ بالمنزل، انا لم اعتد الوحدة ولا أُحبّها.

- بهذا الثوب؟!
- ما به هذا الثوب؟
دارت حول نفسها فدار شعرها حولها في دوّاماتٍ متشابكة وتمتمت بتردُد:
- توقّف عن التزمّت، لا يبدوا سيئًا الى هذا الحد.
- هذا المتزمّت قد اصبح زوجك ويجب عليكِ احترام مكانته ونسيان حياة الحواري التي كنت تعيشينها برفقة والدتك.

خرج صوتهُ صارمًا بارِدًا، رفعت وجهها اليه بصدمة وكأنّ احدهم صفعها على وجهها، احمرّت عيناها بشدّة، ووجنتاها، ارتجفت شفتاها فعضّت عليها بحسرة ولكنها ابت ان تبكي؛ لن تشعره بلذّة الإنتصار، اقتربت منه وهمست بتهديدٍ واضح:
- إياكَ ان تتحدّث عن والدتي بهذا الشكل، إياك.
- يال الأسف! فوالدتكِ التي تتشدّقين بالدفاع عنها قد باعتكِ اليّ دون ان تأسف عليكي، لقد قبضت ثمنكِ فور زواجنا، انسيتي بهذه السرعة؟

شحبت ملامحها وعادت بذاكرتها الى اقسى ذكرى مرّت بحياتها، ذكرى زواجها الذي صار حبلًا غليظًا مُلتفًّا على عنقها يخنقها ببُطء فلا هو يُنهي حياتها ولا يتركها تعيش بسلام، ذكرى خسارتها لكُلّ من حولها عقب توقيعها على عقد ملكيتها لهذا الرجُل.
ترك والدتها لها بكُلّ بساطة وخروجها من حياتها بكُلّ قسوة.


نظرت اليه وقد تحوّلت عينيها الى لوحةً مسطورة بالعذاب وصوت بكائها يأتيها من بعيد، يقفِزُ من الماضي مُذكّرًا إياها بدموع الفراق، يوم سقطت تحت قدمي والدتها تستجديها ان لا تذهب، تترجاها ان تزيل مرارة الذُلّ الذي تتعرض له ولكن كان جوابها واضحًا باتِرًا كحدّ السيف:
- انسينا يا غيد، وتمسّكي بزوجكِ فهو حبل نجاتكِ الوحيد في هذه الحياة، واجلبي لهُ الصبيّ الذي يتمنّاه وحينها ستتتغيّر مكانتكِ بقلبه الى الأبد، وستدركين انني لم فعلتُ كُلّ هذا لمصلحتك.


دمعة واحدة سالت بنعومة على خدّها وهي تطالعه بملامح مذبوحة من الألم غير مُصدّقة انّهُ قد تعمّد نثر الملح على جروحها، كانت قد بدأت تعتاد عليه، تألفُ حنانه الدافق نحوها، حنانه الذي كان السبب الوحيد الذي يجعلها تتحمّل كُلّ ما مرّ بها في حياتها، ولكن يبدوا انها تأملت كثيرًا وفرط الأمل لا يجلب سوى الخذلان.
مدّ يده محاولًا مسح دموعها ولكنها ابتعدت عنه وتمتمت بخفوت:
- لم افعل، صدقني لم انسى انني لست سوى جارية اشتريتها لتُدفئ فراشك.


صوت صفعته القاسية دوّت على أُذُنيها كطنين النحل بينما اشتعل خدّها بألم وسال خيطٌ من الدم بجانب شفتيها، مرّت لحظات وهما يواجهان بعضهما البعض ولا يعلو سوى صوت انفاسه التي تهرُبُ قسرًا من رئتيه، عيناهُ اكتست ببوادر جنونٍ قلّما يبدوا عليه، واقسم اذا ظلّت امامه للحظة واحدة سيحطمها، سيقضي عليها تماما فما كان منه الّا ان دفعها من امامه وخرج صافعًا الباب خلفه بقوّةٍ جعلتهُ يرتجّ من مكانه، بينما ظلّت هي واقفة بذات المكان دون ان ترمش بعينيها، كان قلبها يخفق بشدّة ورأسها يدور كمطحنة وعينيها تختزِنُ دموع العالم اجمع دون ان تفيض بشيء.

في الخارج بقي هو واقفًا وعقله على وشك الجنون، شياطينًا سوداء تتراقصُ امام عينيه وكلماتها تترددُ على مسامعه كلحنٍ ناشز، ربما لأنها الحقيقة التي حاول مِرارًا إخفاءها، حقيقة خوفه من هذا الحُب، ذلك الخوف الذي يجعلهُ يستبدل الوردة بخنجرٍ يُغرسُ بمُنتصف قلب حبيبته، الخوف من سطوة العشق ورقّته وضعفه جعلتهُ بعينيها رجُلًا عجوزًا يشتري امرأةً تعيده لسنوات المراهقة، وهو قطعًا ليس كذلك، لقد اخطأت للغاية بالإساءة الى نفسها امامه، انها ليس جارية، ليست كذلك ابدًا، غيد حبيبته، الفتاة الوحيدة التي دلعت جذوة النار بأحشائه، انها حبيبته، ولو كان للأمر وصفا اعمق من ذلك لقاله، انها روحه التي بين اضلعه.
وضع كفّه على قلبه الذي يئن كوحش حبيس وضرب عليه بقبضةٍ مُحكمة، انها هنا، هنا بداخله.

عاد ليفتح باب مكتبه بقوّة وقد حمد اللهُ انّ العاملين ملتهين بقُرب الشاطئ على مراكبهم الشراعية الكبيرة فلم ينتبه اليه احد، دلف ليجدها تقِفُ بذات المكان الّا ان رأسها قد انحنى بخذلان، اقتراب منها بخطواتٍ بطيئة وكأنما يمنحها الفرصة للهرب منه الّا انها بقيت كما هي، وعندما واجه ملامحها الهادئة اشتعل قلبه بألم، مرر كفه بخشونةٍ على وجهها يزيحُ خصلات شعرها ببُطء ليبرز وجهها المُحمر من كتم البكاء، ربّت على خدّها الذي كساهُ الاحمرار فأسبلت جفنيها بعذاب، كان قلبها يصرخ بوجع رهيب الى درجة انّها باتت تتنفس بصعوبة ولا زالت يداهُ الصارمتين تحاصران وجهها غير راغبٍ في تحريرها، كان آدم يجابه حينها اسوأ شواطينه، تتعالى انفاسه الخشنة الدافئة على وجهها وانامله تغوض بشرودٍ بين خصلاتها المتشابكة.

استمرّ صمتهما لدقائق طويلة الى ان همس بنبرةٍ خافتة بدت غريبة للغاية:
- هيا الى المنزل.
ودون ان يهتمّ لردّها احتوت قبصته يدها الصغيرة ساحبًّا اياها خلفه لتتبعه كطفلةٍ مُطيعة وقد شعرت فجأةً بتبلُّدٍ خائن، كانت تتأمل جانب وجهه وهي تشعُرُ بشيءٍ غريب، شيئًا يربطها بهذا الرجُل ويدفعها للبقاء تحت سُلطته الى ان الأبد، وهو ذات الشيء الذي يمنعها عن الابتعاد عنه.

لا تعلم كيف مرّ ذلك الوقت ولكنّها الآن بداخل منزله وتحديدًا بفراشه، بين ذراعيه مطيعةً كما كانت طوال حياتها، تشعّرُ بكُلّ قُبلةٍ منه وكُلّ لمسةٍ تدمغُ جسدها تخبرها بأنها رخيصة، رخيصة الى درجةٍ مُخزية.
ادار وجهها اليه واجبر عينيها على مواجهته، تأملت حينها ملامحه بتركيز، كان وجهه يوحي بالهيبة والقوّة وملامحه الحادّة قد اكتست بوقار العُمر، وقد بدى اصغر بكثير من سنوات عمره التي قاربت الخمسين عامًا بينما عيناه الصقريتان تشملانها بنظراتٍ دافئة وكأنما احدهم يضعُ مرهما على جرحها، رقّت ملامحه فجأةً بحنانٍ دفع المزيد من الأسى الى قلبها انه يستعبدها، يذلها للغاية ويستعطفها بنظرة، ويعود بعدها ليجرحها من جديد.

رنّ هاتفه مقاطعًا الصمت ليجيب بحزم:
- نعم، حسنًا، انا قادمٌ اليه، فلينتظرني في المكتب.
عاود النظر اليها وقال:
- سأذهب الآن، لديّ بعض الأعمال، سأعود بعدها على الفور، لن اتأخر.
كانت الاجابة بنظرة ضائعة منها جعلته ينتهّد بضيق ويستعد للخروج، وبعد دقائق كان قد تأنق متأهبًا للذهاب وعاد مقتربًا منها مُربتًا على شعرها بحنان قائلًا وكأنما يخاطب طفلة:
- لن تخرجي مرةً أُخرى وتُثيرين غضبي أليس كذلك؟! ستبقين هنا وتتصرفي بطاعة كأي زوجة محترمة، حسنًا؟!

بدت تائهة تمامًا في افكارها الّا انها همست بصوتٍ اجوف:
- لا تقلق، فليس لي مكانٌ اذهبُ اليه.
ابتسم يمسحُ على خدها ولثم موضع الجرح الذي احدثته صفعته على شفتيها، قبّلها بنهم من بين همساته الحادة:
- سأخرج الآن يا غيد، لن اتأخر عليكِ صغيرتي.
غادر وصوته لا زال يرنّ بأُذُنيها، انامله الخشنة تُطبعُ على جسدها ورائحته تختلطُ بأنفاسها تأبى ان تبارحها.

.
.

بأحد شُقق البيت الأزرق، استيقظت فلك ورائحةً زاكية تختلِطُ بأنفاسها، غمرت انفها بعناق والدتها الذي اعتادت عليه بالفترة السابقة مدركة للخلافات بين والديها منذ زواج ابيها بأُخرى، وبالرغم من تأثُرها بما يحدُث الّا انها لا تُظهِر ذلك، كوالدتها تمامًا تدّعي القوّة في اوّج لحظات ضعفها، يؤلمها هذا الدمع المتيبّس على وجنتي والدتها، ترغبُ بقتل تلك الفتاة التي سرقت منها دفء عائلتها ولكنها لن تفعل شيئًا يُظهِرُ حسرتها على ما حدث، لن تمنح الشامتين فُرصةً للنيل منها او من والدتها.

نهضت لتغتسل من بقايا النوم وتستعد لإخراج والدتها من حزنها.
بعد فترةٍ قصيرة خرجت لتجد فراشها فارغًا، يبدوا ان والدتها قد استيقظت، اخذت فرشاة شعرها واتجهت للفور الى غرفة والدتها، وجدتها قد انهت استحمامها للتو، ترتدي ثوبًا قطنيًا طفولي وشعرها الطويل مُبلل كشعرها تماما.
- صباح الخير ليلى.
همست بأسم والدتها التي اشارت اليها بالأقتراب واخذت تمشط لها شعرها قائلة:
- صباح الخير فلك، هل عليّ توبيخكِ كُلّ صباح، اهتمي بنفسك قليلًا يا فتاة، ولا تعتمدي عليّ كطفلة صغيرة.

مررت الفرشاة على شعر ابنتها وتأملتها بحب، هي لا تشبهها ابدًا، انها تحمِلُ ملامح والدها الشبية بقسمات اهل البحر ذوي العيون الملوّنة والقسمات الجذابة.
- لن امشط شعركِ بعد اليوم، حتى اخواتك الصغيرات يعتمِدن على نفسهنّ.
ارتسمت ابتسامةً مُشرقةً على وجه فلك وسرعان ما قالت:
- ليس ذنبي انّهُنّ غير عاطفيات، انتِ أُمي ومن واجبك تسريح شعري.
ضحكت ليلى هامسة بيأس:
- حقًّا؟! اذن قومي بواجبكِ كإبنة بارّة وحضري لي قهوتي ريثما اوقظ الحوريتين.

تجعدت ملامح فلك وقالت برجاء:
- سأصنعُ الإفطار كلّهُ ولكن ارجوكِ لا قهوة.
- صدقًا انتِ غير معقولة، فليعين الله من سيتزوجك، طفلة ولا تعرف كيف تصنع كوب قهوة.
- أمي!
ضحكت الأخيرةُ باستمتاع وهي ترى ملامح ابنتها الغاضبة واضافت وهي تمرر اناملها على خصلات فلك الناعمة كزغب الطيور:
- هيا يا حبيبتي، الى المطبخ.

جلست فتاتان تحملان ملامحًا متشابهة الى درجة بعيدة بيد ان إحداهما اكثر امتلاءً وشعرها الأسود الخفيف قصيرًا يلامس كتفيها بدلال بينما الأُخرى نحيلةً بشعرٍ طويل يرنو الى خصرها، كانتا مراهقتان خلعتا ثوب الطفولة منذ فترةٍ قصيرة، توأمتان بالرغم من اختلاف طباعهما الّا ان لهما ذات القُدرة على رفع ضغط والدتهما بمشاكستهما التي لا تنتهي.

- كانت فلك تضعُ امامها صحنًا يحوي بعض الخضروات تبعًا للحمية الغذائية التي تتبعها بينما حلا وحور تتناولان البيض المقلي وليلى اكتفت بكوب القهوة وقطع بسكويت.
كانتا اربع نساء يجمعهُنّ الدم والملامح ولا ينقُصهُنّ سوى رجُل كان ذات يوم يتقاسمُ معهُنّ الحياة بحلوها ومُرّها.
- هل كان ابي هنا بالأمس؟
تسائلت حلا لتجيبها ليلى بإيماءةٍ شاردة، بينما قالت حور بحقد:
- ولما جاء يا تُرى؟ هل ملّ من زوجته القذرة بهذه السُرعة؟!
- حور!  تهذبي عندما تتحدثي عن والدكِ.

هتفت والدتها بتوبيخ لتنهض وهي تدفعُ طبقها بعنف وهتفت بانزعاج:
- لن اتهذب وانا ليس لي اب، انا بعكسِكُنّ تمامًا، لا اتمسّكُ بمن يفلت يدي.
نظرت الى أُختيها ووالدتها واضافت بحدّةٍ اكبر:
- ابدًا..
ودخلت الى غُرفتها تتبعها ذبذباتٍ من الغضب بينما بهتت ملامح ليلى وهي تفطن للجملة التي رمتها بها ابنتها، هل يبدوا انها متمسكة بزوجها الى الآن؟ هل تبدوا بائسة الى هذا الحد؟ الى الحد الذي يجعل ابنتها الصغيرة تشفق عليها.

- أُمّي!
- تناولي طعامكِ يا حلا، هيا حبيبتي.
قالتها لتنهي الحوار بينما فلك ترمقها بنظرات حزينة وخوفها يتعاظم من تبعات تلك الزيجة المفاجأة فحور لن تهدأ بسهولة وربما تفتعل المشاكل.
- سأذهب بعد قليل الى السوق لأجلب بعض الأسماك.
قالتها ليلى بعد صمتٍ دام طويلا لتقول فلك:
- هل يمكنني المجيئ معكِ، ارجوكِ أُمّي.
- حسنٌ، ولكن لن نتأخر، فقط سنجلب بعض الأسماك الطازجة لأطهوها لكُنّ على الغداء.

نظرت الى حلا بإهتمام وقالت لها:
- إياكِ ان تسمحي لأُختكِ بالخروج من المنزل، والّا اقسم ان تنالا منّي عقابًا قاسيًا، فلتبقيا بغرفتكما الى ان نعود.
اومأت حلا بطاعة واردفت بتردُد:
- هل ستبقى غيد، اقصد تلك المرأة، هل ستبقى بالأعلى دومًا؟! اقصد أليس من الأفضل ان تعيش بمكان آخر بعيدًا عنّا؟

نظرت ليلى الى ابنتها بصمت وارتدت نبرتها الحاسمة واجابتها بلُطف:
- حلا.. حبيبتي، والدكُنّ لم يفعل شيئًا مُحرّما، لقد تزوج على سنّة الله ورسوله، اي انّ كُلّ ما حدث من حقّه، وانا لن اسمح لأيّ احد ان يقول بأنني اشحذُ بناتي ضدّ ابيهنّ، ولا اريدكُنّ ان تنشغِلن بهذه الأمور.
قبّلت جبين ابنتها قائلة برقّة:
- اذن يا حوريتي الحُلوة، هل اجلب لكِ الروبيان الذي تحبينه؟
اومأت الفتاة بصمت وبخاطرها حُزنًا يفوق الوصف على أُمّها المسكينة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي