الفصل الثاني والثلاثين

*****
لم تمت " مروة " بل نجت !
أنقذها حسن حظها وتصاريف القدر ولحظة تريث من الموت ، وربما لا مبالاة بها أو عدم رغبة في ضمها إلي صفوف رعاياه .. سقطت مباشرة كقطعة حجر ، ولأن موعدها لم يحن بها ولا تزال لها بقية من عمر تحياها ، فقد نفذت بالقرب من أسلاك الكهرباء المعلقة أسفل شرفتي منزلها وعبرت بجانبها دون أن تصب بسوء .. ثم عندما قاربت الوصول إلي الأرض وجدت نفسها تنقلب لتعتدل في الحقيقة .. كان تهبط برأسها لكنها وجدت نفسها تتشقلب كبهلوان محترف لتهبط على قدميها .. اهتزت واضطربت وانعدم وزنها وخف وعيها وتلاشي .. وما إن ارتطمت قدماها بالأرض حتى داخت بشدة وأنتابها دوار رهيب فسقطت على ظهرها وعلى مؤخر رأسها محدثة صوتا مدويا .. جذب انتباه جارتهم التي كانت تقف لتجمع غسيلا جافا مضي على تعلىيقه فوق حبال الغسيل يومين .. شاهدت سقوط البنت من منظور جانبي وهي تهم بالعودة إلي داخل المنزل ، فاعتقدت أولا أنها قطعة ملابس سقطت من شرفة منزل جارهم أبو " عمر " .. لكن صوت الارتطام جعلها تنتبه وتفتح عينيها وتهرع لتري الأمر من منظور كامل .. فرأت البنت ذات الستة عشر ربيعا ساقطة ممددة على بعد مترين من باب منزلها ففهمت كل شيء ، وأخذت تصيح وتصرخ منادية أبويها وقد قر في ذهنها أن البنت قد قضت وانتهت .. هرع الأب وخلفه الأم التي تصيح وتدفع زوجها لتري ابنتها مسجاة أمامها وكمية دماء بدت لها مخيفة تنداح أسفل مؤخر رأسها .. رمت بنفسها فوق ابنتها واندلعت صرخاتها القوية فأسرعت نسوة الجيران وانفتحن صارخات مشاركات في الإعلان عن المأساة غير الضرورية أبدا التي حدثت الآن !
فقد الأب توازنه ، وأحس أنه يكاد يفقد الوعي وعلى صوت الصراخ جاء أخوته وأبنائهم .. وخلال لحظات كانت " مروة " ممددة على حجري أمها وحجر زوجة عمها " فايق " متلاصقتين في المقعد الخلفي من سيارة أبيها .. بينما عمها نفسه يقود السيارة بسرعة جنونية إلي مستشفي المركز ، وبجواره أبيها مكفهر الوجه صامت تماما .. وقد أصابته الصدمة الفادحة بالخرس وما يشبه الشلل العقلي الكامل حتى أنه لم يستطع أن يتذكر كيف يقود سيارة !
وصلوا المستشفي ودخلوا والمرأتان تصرخان بدون لحظة هدنة .. وهرع أطباء الاستقبال وعدد من الممرضات والتمورجية ، الذين أبدوا نشاطا فائقا حين وقعت عيونهم على السيارة الفاخرة ، التي أقلت البنت وذويها إلي المستشفي ، وأدركوا أنهم أمام زبائن ثقلاء الجيوب دافئين بالنقود .. حُملت البنت فورا إلي حيث جري تنظيف جرح مؤخر رأسها ثم حملوها لعمل أشعة على رأسها للتأكد من عدم وجود كسور بالجمجمة .. وبنقود أبيها وبشخط عمها وعصبيته نشطوا أكثر وعملوا لها أشعة كاملة على كل أجزاء جسدها .. وخلال ساعة كانوا قد تيقنوا من النتيجة المطمئنة لقلوب الجميع .. البنت بخير ، لا كسور ، ولا إصابات خطرة بها ، حتى الجرح الذي كان بسيطا نتج عن ارتطامها بأحجار الطريق وزلطه لا أكثر ، ونظفوه وطهروه بعناية ، ثم ضمدوه .. وحملوها إلي غرفة خاصة بها .. بعد أن نفحهم عمها بخمس ورقات من ذات المائة ليضمن لابنة أخيه معاملة خاصة !
كانت مصابة بصدمة عصبية قوية لكنها بخير ليست ميتة ولا معرضة للموت .. وكان بالإمكان أن تخرج في نفس اليوم وتعود إلي قريتها ومنزلها ، لكن الأب والعم أصروا على أن تبقي يومين تحت رعاية الأطباء .. وبالنقود ضمنوا لها كل رعاية ممكنة وفائقة واطمئنوا إلي أن ابنتهم في أيد أمينة .. طالما ملأتها بالنقود !
خلال اليومين اللذين قضتهما هناك كفت " مروة " تماما عن الإحساس بشيء أو التفكير في شيء .. عندما فتحت عيناها لأول مرة حسبت نفسها ماتت وذهبت إلي الجنة !
ولكن أي جنة لمنتحرة قتلت نفسها ؟!
حين ذاك اعتراها الرعب وظنت أنها ماتت حقا لكنها ذهبت إلي جهنم .. وساءت الصدف السيئة أن تقترب منها في تلك اللحظة ممرضة ضخمة غريبة السحنة ، وما إن تبينت ملامحها بالقرب من وجهها ، حتى صرخت صرخة مدوية رنت في المستشفي من أولها إلي آخرها .. كانت الأم في الحمام تقضي حاجتها كارهة ، فهي لا تريد ترك ابنتها حتى لمجرد لحظة أو حتى للقيام بنشاط طبيعي لا تستطيع منعه أو إيقافه ، ورافقتها أختها ، التي حلت محل زوجة عمها " فايق " في البيات معهم في المستشفي الليلة الماضية ، لتمسك لها باب الحمام .. فحمامات المستشفي بلا أبواب كخلق الله ، لها أرتجة ومزاليج تغلق بها .. سمعت الأم والخالة الصرخة فأسرعتا عائدتين لتجدا " مروة " منزوية في ركن السرير مغطية رأسها وجسدها بالملاءة وهي تصرخ من تحتها بجنون :
" مش عايزة أروح النار .. مش عايزة أروح النار ! "
أسرعت إليها المرأتان وأمسكت أمها بالملاءة تنزعها من فوق وجه ابنتها .. بينما قالت الخالة التي تناولت كوب ماء وحملته وهي تقول لأمها متوترة :
" هطس 71 وشها بشوية مية لا تتلبس 72 ! "
وبالفعل وضعت الخالة كمية ماء في كف يدها وألقتهم بوجه " مروة " فانتفضت وارتعشت وكفت عن الصراخ .. كانت تلك أول لحظة تدرك فيها البنت أنها لا تزال على قيد الحياة !
لم تمت إذن ؟!
لم تمت ولا زالت حية ترزق ولا تزال تحت نير أبيها .. لم ينقذها منه موت ولا جنون ولا انتحار !
لكن الأب في الحقيقة كان قد تغير كثيرا بعد تلك التجربة السريعة المريرة الصعبة .. بدأ يراجع نفسه !
ليس عن فهم أو ندم أو مصارحة النفس بل عن طريق حساب الخسائر والمكاسب والآلة الحاسبة الجافة .. فقد فكر مع نفسه قليلا ، حين كف قلبه عن الارتجاف واللهاث في صدره أخيرا ، عندما أخبروه مبشرين مهنئين أن ابنته لا تزال حية وأنها بخير وأنها ناجية بإذن الله ، بدأ ساعتها يفكر .. ما الذي سيستفيده من إجبار ابنته على ما تكره ؟!
من الواضح أنه غير قادر على إرغامها على أن تدرس الطب أو تتخرج دكتورة كما يريد ويشتهي .. يمضه هذا ويتعبه لكن هل الحل أن يتركها تقتل نفسها ويفقدها ؟!
لم يكن الأب قاسيا إلي تلك الدرجة .. بل هو فقط رجل ضيق الأفق قليل الفهم يؤمن بأن المهن العليا ، كما يفهمها ، ستمنحه وتمنح ابنته وتمنح أسرته كلها مزيدا من العلى والسمو والارتفاع الطبقي والمال والسطوة والعزة .. لكن ما العمل إن كانت ابنته لا تفهمه ولا تستوعب ما يريده ويأمله لها ومن أجلها !
فليخلي سبيلها إذن ويتركها تفعل ما تشاء لعله يجنب نفسه ، ويجنب زوجته المسكينة ، لحظات أخري من الألم الموجع والقلق المعتصر الذي شاهده بعينيه منذ أن وقعت أنظاره على ابنته ممددة على الأرض وبقعة الدم أسفل رأسها .. فلتفعل ما تشاء إذن !
يأسا ومللا وليس عقلا وتفهما وتعقلا .. بدأ يغمرها بحنان جاف وهي راقدة في المستشفي مصدومة مذعورة .. لم يكن يحبذ رؤية وجهها في الحقيقة ، على الأقل حتى ينسي ما جلبته له من قلق وألم وهم ، لكنه لم يشأ أن يقال أنه أب قاسي فظ بلا قلب ولا مشاعر .. من ناحيتها كانت " مروة " تخافه وتشعر بأن حنيته عليها كحنان الإبر وهي تخيط الجروح !
خاط جرحها بإبرته غير المسممة ، وخرجت معه ومع أمها من المستشفي على حال طيبة .. كانت الأستاذة " ماريان " حاضرة في تلك الأيام بقوة وبشكل دائم .. في الحقيقة إنها لم تكد تفارق " مروة " منذ أن سمعت بخبر محاولة الانتحار الفاشلة المخيف .. هرعت إلي المستشفي ، ولم تنتظر حتى يعود زوجها من عمله ويقلها إلي المستشفي في المركز ، فاتصلت بابن أختها دكتور " وجيه " ، الذي كان يزور عائلته في القرية ، ورجته أن يأتي فورا ويذهب معها لتطمئن على " مروة " .. كان " وجيه " هو الذي نجح في تغيير فكر والد " مروة " بذكائه ولباقته وعلمه الغزير وحسن منطقه !
حدث الأب برفق ، بعد أن عرفه بنفسه وبمركزه الوظيفي ، ثم دعاه إلي جلسة حديث هادئة بين رجلين يستطيع كلا منهما أن يفهم الآخر جيدا ويدرك ما الذي يقصده بالضبط .. سأله أولا لماذا يريد أن تكون ابنته طبيبة ؟!
أرتج على الأب للحظة ثم أجاب بغير كبير ثقة :
" عشان تكون بني أدمة محترمة والناس كلها تشاور عليها وتقول الدكتور " مروة " بنت فلان أهي ! "
ضحك " وجيه " في باطنه وأدرك أي نوعية من الناس ينتمي إليها هذا الأب .. ليس غريب عليه هذا النمط ، فلديه في عائلته أشكال كهذه وقد تعامل معهم شخصيا .. بل كاد يكون ضحية لهم ك " مروة " تماما !
إنه يتفهمهم تماما ويعطف على عقولهم ، ويحس بأنهم مخلصين حقا فيما يقولونه ، ويعتقدون بصدق ما يؤمنون به تمام التصديق .. إنهم ذوي الاتجاه الواحد .. ذوي التفكير المنمط والفكر المحدد الذي يسير في خط مستقيم لا يري ، ولا يهتم ، بما يقع على يمينه أو شماله !
فالدنيا في نظرهم خط واحد .. من التعليم والوظائف والزواج ، والمركز في نظرهم مرتبط بالوظيفة وبالمركز التعليمي .. لا أفق ولا خيال لديهم ولا يعترفون بأن ثمة أشياء أخري في العالم تستحق أن يعيش الإنسان من أجلها ويقاتل حتى الوصول إليها !
قد يسمعون بأسماء كُتاب وشعراء وفنانين مشاهير صنعوا اسما وصنعوا لأنفسهم ولأسمائهم تلك نفوذا ومكانة ، مكانة بأقلامهم وفرشهم وألوانهم وأصواتهم وأخيلتهم الجامحة ومواهبهم التي بلا حدود .. لا ريب أنهم ، أو كثير منهم ، درسوا وتعلموا وكانوا أولادا نابهين أذكياء ومجتهدين ومتفوقين كذلك ، لكنهم امتلكوا شيئا آخر .. شيئا لا يقدره أولئك الناس ولا يرغبون ، ولا يحبون ، أن يعترفوا به .. إنه الموهبة والمنحة الإلهية غير المنكورة التي تسري في دمائهم دون سواهم !
أولئك الناس لا يعترفون بالموهبة ولا يؤمنون بها .. إنها تتجاوز خط أفقهم وتسمو فوقه ، إنها تعلو على الفوقية التي اعتادوا أن يوقفوا أنظارهم عندها ويمنعوها من التطلع لما فوقها ، لأنهم يؤمنون جد الإيمان بأن ( اللي يبص لفوق يتعب ) .. ولذلك لا يعترفون بذلك ولا يصدعون به !
وحتى إن صادفوا واحدا من هذا النمط الموهوب كان رد فعلهم هو تجاهله أو الإدعاء بأنهم لا يرونه .. هذا إذا لم يعمدوا إلي تسفيه أحلامه وكسر مجاديفه !
كانت " مروة " من الصنف الموهوب الرقيق ، الذي يملك شيئا مختلفا ، وكان أبيها على النقيض ، من المعسكر الآخر .. من عشاق الخط المستقيم ومن كارهي الخيال وجاحدي نعمة الموهبة !
كيف يعترف بأن له ابنة شاعرة موهوبة ؟!
لو كانت ولدا ربما كان سيخلي سبيلها ، لكنها بنت .. والبنت لا يجب أن تخرج عن الخط المرسوم لها ولتحمد الله في كل صلاة أن لها أبا يضع في يديها القيود ويغلها بالسلاسل ليحميها من همزات الشيطان الذي يقبع في عقلها !
لكنها ألقت بنفسها من أعلى البناء .. اختارت الموت على أن تحيا حياة لا تريدها ولا تقدر على دفع تكاليفها !
أفهمه " وجيه " أن ابنته لا ترتكب خطأ ، ولا تقترف جرما .. ليس ذنبها أنها موهوبة حتى النخاع ، وليس ذنبها أنها تكره نوع الدراسة التي أراد أن يفرضه عليها .. ولا ذنبها أن لقب الطبيبة لا يستهويها ولا يثير خيالها !
خلوا سبيلها إذن يا قوم واتركوها ترعي في أرض الله ما دامت لا تأتي جرما .. ولا تفعل ما يسيء إليكم ولا إلي اسم عائلتها وشرف أبيها وكرامته !
أقنع الرجل الرجل فنكس الأب رأسه .. شعر بقليل من الندم لكنه لا زال يعتقد أنه على حق وأنه في النهاية هو الأصوب والأكثر حكمة والأحق بأن يتبع !
وعندما غادرت " مروة " المستشفي برفقة الأبوين والأقارب، ومعها " ماريان " ، التي عاهدتها على أن تبقي بجوارها دائما ، كان لديها صك خضوع رزين من الأب .. سيتركها تختار الدراسة التي تحبها ولن يفرض عليها شيئا .. مقابل ألا تفعل هي بدورها شيئا إلا بعد استشارته وموافقته ورضاه !
وعدها " وجيه " بأن يساعدها على نشر قصصها وقصائدها في مجلات أدبية صغيرة .. وأعطاها أملا جديدا ومزق سترا فوق رأسها ، سامحا للفجر بأن يشرق أخيرا على قلبها .. سيرعي موهبتها وسيعلمها كيف تصقلها وتزيدها وتجمل المأوي الذي آواها الله إليه وتحسنه !
هل ضاع عام من عمرها سدي ؟!
هل تعود لتعيد السنة بعد أن تغير مسار دراستها إلي القسم الأدبي .. هل تبقي ، كما هي ، في القسم العلمي وتجتهد قدر طاقتها لتحصل على مجموع يؤهلها لدخول كلية الآداب أو التربية ؟!
هناك طرق متعددة أمامها .. والأب لا يقف بوسط أي منها معترضا .. لكنه يقف في نهاياتها كلها !
فهو لا زال مقتنعا بأن ابنته لم تفعل أكثر من أنها تركت القمر الواضح المنير ، لتمسك بنجمة صغيرة تافهة ، يعلم الله إن كانت ستضيء لها حياتها أم ستظلم عليها ليلها ونهارها .. والأب معذور في تصوراته فهو مما نالوا تعليما مجانيا ، ولا يعرف أن النجمة الصغيرة البعيدة أكبر آلاف وربما ملايين المرات ، من قمره القريب المخادع .. الذي يحيا حياته ويبلغ أجله في ثمانية وعشرين يوما قصيرة .. وربما كان يدور حول هذا النجم ألوفا من عينة قمره الذي لا يضيء إلا بما يختلسه من ضوء الشمس !
عادت الفتاة إلي البيت سالمة ، وقد تحولت حياتها تحولا جذريا أو بدأت تفعل وتغير أفقها وتلون بلون الوعد الجميل وحلاوة الانتظار والصبر حين تكون غير مؤلمة أو مثيرة للوجع ..
وخلال أيام كان كل شيء قد تبدل حولها .. عادت تكتب بكثرة وملأت درجها أشعارا وقصصا وإلهاما وخطت على الورق حياة أخري جديدة ، غير التي مزقها ودمرها لها أبيها من قبل ، تبدو أكثر جمالا وأقل حزنا .. ربما لأنها حياة مرسومة في ضوء النهار وعلى أعين كل من لديه أعين يري بها .. وليست مسروقة في ظلمات الليل ودفء الكشاكيل المغلقة المقفل عليها ألف درج ودرج !
لكن السؤال كان دائما يراودها .. وكم ألحت عليها فكرة أن تسأله لأبيها ولأمها ولجميع من يحيطون بها ، ويتداخلون في حياتها بشكل مباشر ويغمرونها بنصائحهم البلهاء التي يفعلون خيرا لو احتفظوا بها لأنفسهم .. هل كان يجب أن تعرض نفسها للموت من أجل أن يتركوها تفعل ما تشاء ؟!
" هل كان يجب أن أقف على حافة الموت حتى تسمحوا لي بالحياة ؟! "
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي