الفصل الثالث والثلاثين الأخير

أيام شديدة السواد والحزن مرت على البيت كله عقب وفاة " نعمة " المفاجئة !
كان ذلك الحدث من الأحداث الغريبة التي تجتمع فيها النقائض ، ويفشل الإنسان في العثور على شعور مناسب ليجعل قلبه وعقله يتبنيانه ويعتمدانه شعورا رسميا قانونيا .. هل يفرح أم يحزن ؟!
كانوا ينتظرون الولد ويتلهفون للحصول عليه .. وها قد جاء وحصلوا عليه لكن أم الولد ذهبت في المقابل !
سيتربي يتيما ، بلا أم ، تحوطه مجموعة غريبة من البشر .. أب أنتظر مقدمه طويلا وحن إليه ولدا وسندا وظهيرا وحاميا له في ظهره ، وقاسي وعاني وضحي بعلاقته مع زوجته وحبيبته ، وتجشم مئونة إيواء وإطعام أربعة وعشرين ضلعا لا يحب صاحبتهم ، ولا يهوي فؤاده إليها من أجل أن تأتيه به .. وجاءه أخيرا ليشعر أمام الولد الصغير الباكي بشيء غريب .. يشعر بأنه كقطعة كعك بلا سكر لا طعم له ولا متعة بتذوقه !
هذا الولد فأسترح وأهنأ .. ها هو قد جاء ، لكنه للغرابة ولدهشة الظروف ، لم يرح قلب الأب ، ولن يستريح هو أو يهنأ بحضن أمه وحنانها .. ولد كُتب عليه أن يولد ويعيش لا مستريح ولا مستراح به !
لم يكره ضناه حتما لكنه عجز عن أن يحبه .. كما عجز عن أن يشعر بفرحة مجيئه ويطرب لرؤية ملامحه الذكورية الصغيرة !
وبجوار الأب تقبع جدة ، تأودت وتأوهت وملأت الدنيا صراخا وتعييرا وشماتة وسخرية واستهزاء وكيدا ، ليحصل ولدها على الذكر الذي سيحمل اسمه ويحفظ ذكره مدي الدهر وحتى نهاية الزمان .. لكنها تلقت الضربة على أم رأسها فترنحت وأفاقت أخيرا لتري الحق ساطعا لا يحتاج إلي برهان !
لقد ماتت زوجة ابنها تاركة له ، لولدها ، خمسة أطفال . أربع بنات وولدا رضيعا في أيامه ، بل في ساعاته ، الأولي .. ومهما فعلت ومهما كان ما يكنه قلبها من كراهية للبنات ، وهي لا تكرههن في الواقع ولا تستطيع إلي ذلك سبيلا ، فإنها لن تستطيع أن تتجاهل الحقيقة المؤلمة الصغيرة .. أن الخمسة أطفال صاروا معلقين في رقبتها الآن !
بصفتها جدتهم لأبيهم ، الذي سيتولى رعايتهم بمفرده بعد وفاة أمهم ، فإنها مسئولة مسئولية كاملة عنهم .. عن الولد كما عن البنات الأربعة !
فجدتهم لأمهم ليست ملزمة بهم ، وهي لن تستطيع أن تبقي لترعي أبناء بنتها المتوفاة بل إن أسرة الأب وأمه هم الملزمون بذلك .. فكيف لها أن ترعي الخمسة أطفال وهي في تلك السن وفي هذه المرحلة من الشيخوخة ؟!
وجود " ثريا " لن يخفف من الأمر .. بل سيزيده بلة وسوادا ، لأن زوجة الأب مهما كانت فهي زوجة أب .. وهل ستنسي " ثريا " أنها دخلت هذا البيت لتأتي بهذا الولد من رحمها ، فسبقتها ضرتها وحملته هي قبلها .. وأخرجته من رحمها دافعة دمها وروحها فداء لحياته ولوجوده ؟!
الغريب أن موت " نعمة " ، وهي تلد له الولد ، جعل " عبد الرحيم " يشعر بقربه من زوجته الميتة ، التي أعتصر قلبه حزنا عليها ووجعا لفراقها ، أكثر مما يشعر بقربه من زوجته الثانية الحية التي بدا وكأنه لا يراها مطلقا ولا يشعر بوجودها !
وفي الأيام الأولي لوفاة " نعمة " أقدم على تصرفات بالغة الغرابة .. فأخذ يحمم البنات بنفسه ويمشط لهن شعورهن ، خاصة الصغيرة " حسناء " ، ولا يبقي في البيت للحظة إلا وهن حوله ، والصغيرتان على حجره .. حتى الحمام صار يحملهن إليه بنفسه .. وهو ما لم يقدم عليه من قبل أبدا !
" ثريا " لم يعد لها وجود بالنسبة إليه ، وبدا وكأنه لا يتعمد تجاهلها بل إنه لا يراها فعلا .. أخذ أجمل صورة جمعته بزوجته الأولي المرحومة .. وقام بتكبيرها وتأطيرها بإطار ذهبي جميل وعلقها في واجهة غرفة الجلوس .. وأخذ ينثر صورها الصغيرة في كل مكان بما فيها غرفة نومه مع زوجته الثانية نفسها !
وأصبحت صباحات " ثريا " عذابا ووجعا مقيما .. تصحو لتجد زوجها يغط في النوم وثمة صورة صغيرة ل" نعمة " أسفل يده أو منزلقة وطرفها ظاهر من تحت الوسادة أو حتى ساقطة على الأرض بالقرب من قدمي الفراش .. إنه يحمل صورها معه في كل مكان .. يتأملها بدقة ويتفرس ملامحها ، يحادثها بلا صوت ويتوسل إليها كاتما دموعا سيكون أرحم كثيرا لو تركها تسيل وتطفئ حريقا في قلبه :
" سامحيني يا ست الستات .. سامحيني يا حبيبة يا مرت العمر يا غالية ! "
كثيرا ما سمعته يردد ذلك بخفوت وهو مستيقظ مسهد بجوارها موليا لها ظهره .. أو حتى يخرف به وهو نائم !
هل قربه الموت من زوجته الأولي أكثر مما أبعدتهما الحياة وتصاريفها وأحكامها الغريبة ؟!
أليس غريبا أن " نعمة " انتصرت عليها وهي ميتة أكثر مما انتصرت عليها وهي حية .. وأليس غريبا أنها بدأت تحس إحساسا غريبا نحو الولد الصغير يدفعها دائما لأن تحوم حوله محاولة أن تأمن الأعين والرقباء !
أحست للحظات كثيرة أنه ابنها هي .. الولد الذي كان يجب أن يولد من رحمها هي ، لكنه ضل طريقه لتنغرس بذرته في أحشاء " نعمة " ويخرج من بطن ضرتها ، لا من بطنها هي .. مجرد سوء تفاهم وتيه مؤقت لكن ها قد زالت " نعمة " لتعود الأمور إلي نصابها الصحيح !
لقد شاهدته في جنازة أمه موضوعا نائما على حجر جدته ، فأخذت تختلس النظر إليه .. أنه ابن ضرتها ولا شك .. لكن لما بدا لها أنه نسخة من أحد ولديها اللذين فقدتهما رغم أنفها ؟!
نظرت إليه بزاوية عينها ، كانت تلف رأسها بطرحة سوداء خفيفة وتجلس وسط النسوة ، لا حزنا على المرحومة " نعمة " .. بل لتتوسط المجلس وتثبت نفسها وتسجل اسمها كزوجة الابن الأكبر الوحيدة الآن ، وسيدة البيت بمعني الكلمة .. لذلك وقفت وكتفها بكتف حماتها تستقبل المعزين وتشد على أيديهم ، ولكن بلا دمعة واحدة في عينيها الواسعتين ، رغم أنها لم تكن تحس بالفرحة ولا بالسعادة لتخلصها من ضرتها .. أبدا بل كانت تحس بإحساس غريب آخر لا يوصف !
شعور غريب غمرها منذ أن سمعتهم ينعون " نعمة " بالصراخ والعويل .. لكن إحساسها ب" محمود " الصغير هو الذي يشغلها الآن !
لا تعرف إن كانت عيناها ووعيها وعقلها اجتمعوا واتفقوا على خداعها .. وأن يوحوا إليها أن ابن زوجها يشبه ولدها الأصغر " علي " شبها تاما ، لكنها ارتجفت حين تأملت ملامحه للمرة الأولي .. كانت نفسها صادة تماما من بنات " نعمة " لكن الولد كان وضعه مختلفا .. فلم يوضع في حجر أمه قط ولم تلمسه بيداها !
بدا لها ، ل" ثريا " ، هذا كافيا ليجعله بعيدا عن شعور الفتور والكراهية الذي يغمرها تجاه البنات .. أضف إلي هذا أن البنات كن يتجنبنها تجنبا طبيعيا وبدون وعي ، رغم حداثة أسنانهن ، يشعرن بأنها عدوة أمهن وضرتها .. وبدأت الفتيات تخططن ، بلا وعي منهن ولا تقدير ، لإبعاد أبوهن عن تلك الدخيلة !
لكن الولد شيء آخر .. إنه قطعة لحم حمراء .. لم تلمسه أمه ولم ترضعه ثدييها ولم تضعه على حجرها !
لذلك يمكن للمرأة أن تحب طفلا يتيما أو لقيطا بلا أم معروفة كابنها وتربيه على عينها .. ولا تستطيع أن تفعل ذلك مع طفل تعرف له أما ، خاصة إذا كانت قد رأت أمه هذه رأي العين ولو مرة واحدة ، وهذا لأن الأول لم يوضع على حجر امرأة أخري تعرفها .. فالمرأة عندما تحب طفلا تؤمن أنه لا مأوي له إلا حجرها .. ولا حجر في الدنيا يستحق أن يحميه ويؤويه سوي حجرها هي !
إنها تشعر بقوتها وهي تضع طفلا على ساقيها .. تشعر أنها تهبه الحياة والوجود ، وتمنحه الحب واللبن وقطرات الحياة وتزود عنه الموت .. بنوة الحجر ، قبل بنوة البطن أحيانا ، مسألة حياة أو موت بالنسبة للمرأة !
إنه وهم الخالقة الأنثى .. وحقيقة حب الأم وقوتها اللذين ليس كمثلهما شيء في عالم البشر في الثبات والرسوخ !
" محمود " صالح جدا لأن يكون ابن حجر ل" ثريا " .. حتى إن كانت ضرتها الميتة هي أمه !
هل قررت أن تحتويه بين ذراعيها .. هل قررت أن خير عقاب ل" نعمة " التي سرقت منها " عبد الرحيم " حية ، وسرقته أكثر وهي ميتة ، أن تأخذ هي ، أي الضرة الحية ، ابنها الوليد الصغير وتجعل منه ابنا لها هي .. هي وحدها حتى بعيدا عن " عبد الرحيم " ، الذي لم تعد تشعر نحوه سوي بكونه رجل محسوب عليها زوج .. ورفيق فراش مثلما يفعل الناس لا أكثر !
طافت كل تلك المشاعر وتضاربت وعصفت بذهن " ثريا " وبقلبها وعقلها .. حتى وإن كان عقلها الصغير وتعليمها المحدود لا يسمحان لها بصياغة تلك المشاعر العجيبة في صورة عبارات مفهومة .. ولا التعبير عنها بصيغة مقبولة تفهمها هي نفسها وليس مهما أن يفهمها الآخرون !
لم تدري بنفسها إلا وهي تتسلل إليه ذات ظهر حار ميت الهواء ، جثمت فيه الحرارة على القلوب والصدور ، فجعلت الكل يهجعون كالموتى بغير حراك .. كانوا قد أحضروا امرأة مرضعة من الجيران ، بعد وفاة الأم بسويعات قليلة ، ورجوها أن ترضع " محمود " مع طفلتها نظير أجر إن طلبت .. لكن المرأة كان لديها قدر موفور من الحنان والشهامة فقبلت أن ترضع الطفل بلا مقابل .. لكن الولد رفض أن يأخذ ثديها !
حاولت الجارة إرضاعه بلا جدوى .. حاولت مرارا وكررت المحاولة بلا فائدة من أي نوع !
استسلمت الجارة وهي تري الولد يلفظ ثديها مرة بعد مرة ويبكي بحرقة .. جربوا مع قريبات وحبيبات وجارات أخريات ، ممن تسمح ظروفهن الصحية بإرضاع طفل آخر مع أطفالهن .. لكن الولد رفضهن جميعا !
صنعت له جدته والدة أبيه زجاجة ماء بسكر ، وحملوه إلي طبيب أطفال وصف له نوعا من حليب الأطفال المخصص لتغذية الرضع .. ثم بدءوا موال الرضاعة الصناعية الطويل المرهق !
تنظيف البزازات وغسيلها .. تسخين المياه وصنع اللبن .. تبريد اللبن ليتحمل الغلام الصغير درجة حرارته .. الحفاظ على ما يتبقي من اللبن في الزجاجة ، أو سكبه وطرد الذباب بعيدا .. ومن ثم العودة إلي تكرار نفس تلك الخطوات مرة ومرة ومرة ومائة مرة كل يوم !
كانت والدة الأب هي من تقوم بكل ذلك ، وهي من تتحمل كل ذلك العبء .. أما والدة " نعمة " فقد كان موقفها غريبا بعد وفاة ابنتها !
ملأها شعور بالحقد والكراهية تجاه زوج ابنتها الراحلة وأمه .. شعرت بأنهم مسئولين مسئولية كاملة عن وفاة فقيدتها ، التي مزقت قلبها تمزيقا على موتها المدمي المثير للأسى .. إنه هو من مرر عيشها هو وأمه ، التي لم تكن تكف عن معايرتها بالولد المطلوب الذي عجزت عن منحه لهم !
وها قد جاءتهم بالولد .. ودفعت ثمنه من دمها .. فليشبعوا به إذن وليشبعوا ببناتهم فلا ينقصها هم ولا وجع قلب .. فما فيها يكفيها ويزيد !
لم تمد للغلام الصغير عينا ولا يدا .. فمنذ الساعة التي رأت ابنتها فيها محمولة غارقة في دمها وقد تحجر شيء في قلبها ، ومات شيء في داخلها لا تعرف ما هو اسمه بالضبط !
شعرت بمزيج القسوة والكراهية نحو " عبد الرحيم " وأمه ، وبالطبع لم ينسحب ذلك على أبناء ابنتها الذين لا ذنب لهم في شيء .. لكنها أحست بأنها لا ترغب في أن تحمل همهم ولا هم أبيهم ، ولا شأن لها فهو مسئول عنهم .. هو من جرح ابنتها وأتي لها بضرة ، فليحمل هم أبنائه ويتحمل وزرهم ووحده حتى يدرك حجم الهم الذي كانت تحمله عنه المرحومة المسكينة !
تركت لهم الصغار ووقفت تأخذ عزاء ابنتها في بيتها هي .. لا في بيت زوج ابنتها !
كانت الجدة تتخذ هذا الموقف بشكل طارئ ومؤقت ، فستعود في أقرب فرصة للاعتناء بأطفال " نعمة " وتحن عليهم .. فلن يطاوعها قلبها أن تقسو عليهم ، بعد أن قست عليهم الدنيا .. وأذاقتهم مرارة اليتم وهم في سن الزهور الصغيرة التي لا تزال تحتاج ليد حانية تربت عليها لتتفتح !
وبينما كانت الجدة تفكر هكذا وتضيع في دوامة المشاعر والمشاعر المضادة كانت ضرة ابنتها تعاني تضارب المشاعر مثلها وأكثر .. فقد تسللت إلي حيث مهد " محمود " الصغير وعندما وقعت عيناها عليه نائما في هدوء لم تدري ماذا تفعل به أو له !
كانت حماتها قد وضعته لينام في الحجرة ، وبجواره على سرير صغير أختاه " أسماء " و" حسناء " نائمتان بعمق .. بينما تسحبت الجدة لتنام ساعة من الزمن تستريح فيها من التعب والنصب والهدة التي سببها لها العيال الخمسة !
كانت الطفلتان غارقتان في ثبات عميق يساعدهما هواء مروحة السقف المرتفعة على المزيد من الاستغراق في النوم ، فلم تشعر إحداهما بتسلل زوجة الأب إلي الداخل .. وجدت " ثريا " الطفل ذو الثلاثة أيام بين يديها الآن وهي منفردة به أو تكاد تكون كذلك !
فجأة أرتعش قلبها حين وقعت عيناها على خصلة شعر بنية اللون صغيرة تبرز من اللفة ، وتغطي جزء من جبينه الناصع الأبيض .. ارتجفت وأرتج عليها تماما ، فقد كان ولدها " علي " ، وأين هي من " علي " الآن ؟! ، لديه نفس تلك الملامح ، ونفس ذلك الشعر البني الناعم حينما كان في نفس سن " محمود " !
الآن فقدت سيطرتها على نفسها تماما .. أصبح قلبها هو الذي يسيرها ويحركها .. والمرأة إن تسلط عليها قلبها تتمخض عن عذراء سماوية ، أو تتمزق عن وحش مخيف !
وقد تمخضت " ثريا " عن أم محرومة .. أم حُرمت من أعز وأغلي ما لديها .. ولديها أخذوهما منها ، لكن ها هو ولد صغير يحتاج أما وصدرا حانيا وقلبا يضعه على نسيجه ويحفظه داخل لؤلؤته !
لم تعد زوجة أب ، ولا ضرة في تلك اللحظة بل هي أم .. استرجعت بذرتها الأولي من رحم أمها " حواء " ، فانتفضت الأم الكبرى الحامية داخلها ، وخرجت للعيان .. وتناولت الوليد بلهفة وضمته إليها !
كان " محمود " نائما حين دخلت عليه زوجة أبيه .. لكنه ، وحين أخذته برفق ورفعته من مهده ، ولامس صدرها فتح عينيه وأستيقظ .. بكي برفق لمجرد دقيقة ، لكنها وضعت وجهها بالقرب من وجهه فصمت على الفور ، وفتح عينان واسعتان لا دمعة فيهما ، وأخذ يتطلع إليها بصمت وهدوء ..
أعدو هذا أم مجرد طفل يتصرف بفطرة بيضاء نقية لم تلوثها أتربة الأرض بعد ؟!
أعدو صغير هذا .. أم قلب أخضر كبير يحتويه جسد صغير وينتظر منها أن تكون أما له ؟!
لم تشغل نفسها بالأسئلة .. مالت عليه وقبلت شفتيه وضمته إليها أكثر .. فجأة تحركت احدي البنتين فأجفلت " ثريا " وشعرت بالذعر .. لكن البنت تقلبت في نومها وبقيت غافية ولم تستيقظ !
هدأ روعها بعد لحظة فعادت تتطلع إلي " محمود " الذي كان رأسه يلاصق صدرها .. بغتة أحست بأنها تريد أن تشرب ماء وأنها ظمآنة .. وأن هناك شيء يسير على ثدييها في داخل الثياب !
فقدت عقلها في تلك اللحظة ، وتملكتها غريزتها وهبت أمومتها النائمة تتمطى .. لم تشعر بنفسها إلا وهي تمد يديها داخل ثوبها ، وتخرج ثديها الأيسر .. أخرجته وقربته من فم الطفل الذي ينظر إليها بهدوء !
لقد حرم على نفسه المراضع .. ورفض ولفظ أثداء الجارات والقريبات والحبيبات فهل سيقبل بثدي زوجة أبيه ..عدوة أمه وضرتها ؟!
نظر الغلام إليها للحظة فدق قلبها ، وشعرت بخوف لم تشعر به في حياتها .. فتح الغلام شفتيه وألتقم الثدي وبدأ يمصه ببطء !
تمشي ألم محتمل في صدرها .. ومعه شعور غريب أجتاحها بشيء كبير هائل يسير داخل دمها ويتسلل إلي داخل عروقها !
كان ثديها جافا ولا حليب به ، لكن الغلام أمتصه ببطء .. أرتعش جسدها رعشة هائلة فوجدت نفسها تنزع ثديها من فمه دون وعي !
سمعت صوت خطوات تقترب من باب الغرفة المغلق من الداخل ، أغلقته بنفسها بحرص ، فتركته ووضعته في مهده ، وهو يطلق بكاء خافتا يفتت القلب من فرط رقته وعذوبته .. وضعته بحرص وجرت نحو الباب ، قبل أن تستيقظ احدي الفتاتين وتفضحانها على اتساع البيت كله !
هل سيصدق أحد أنها تسللت إلي الغرفة ، تحت حمي القيظ الشديد والنوم العميق المخيم على البيت ، لمجرد أن تلقي نظرة على الطفل الصغير ؟!
ستمصمص النسوة بشفاههن ويقلن وهن يغمزنها من خلفها :
" ما كان قدامها يا خيتي في جنازة أمه مطلتش عليه بعينها يعني .. كهن نسوان يا خيتي وكيدهن عظيم ! "
وستصبح ( كيدهن عظيم ) هذه مدخلا لتصورات ، ليس أكثرها جموحا أنها ربما تريد إلحاق الأذى بالطفل ، أو ربما تريد تسميمه أو إرضاعه شيئا يقتله !
إنهم يعتنقون مبدأ ( الضرة مضرة ) ولا شيء سيجعلهم يتزحزحون عن إيمانهم المطلق هذا ، ولا ألف دليل .. وحتى إن وجدوا من يخالف تلك المبادئ ويثبت كذبها فلن يكون مصيره سوي الاستهانة والسخرية والتكذيب .. والمزيد من الاقتناع بما يعتقدونه سلفا !
لذلك من الخير لها أن تمنحه حنانها في غفلة من أعين الرقباء .. ليكن " محمود " ابنا لها في الخفاء .. حتى تجد وسيلة لتأخذه علنا ، دون أن يعتقد أحد أنها تفعل ذلك استرضاء لزوجها ، أبيه ، أو بحثا عن حبه الضنين العزيز .. فالحق ، كل الحق ، أن " عبد الرحيم " لا أهمية له في هذا الأمر ..
فالأمر الآن لا يخص سواهما هما الاثنين .. هي " ثريا " ، و" محمود " الصغير .. الذي حرك في تلك المرأة ما لم يتحرك منذ سنوات وسنوات !
تمت
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي