الثالث

تنهدت بضيق وقالت:لما أرجع هحكيلك يا بابا، دلوقتي متاخره.

قال والدها بإصرار: لا يمكن، مفيش خروج غير لما أعرف.

أغمضت عينيها بقوة ليتبين غضبها فقال خلاص يبقا علي الأقل تفطري..

همّت بالإعتراض قائلة:يا بابا بس

قاطعها قائلًا : مفيش بس..يلا عالفطار وبعدين إتفضلي إنزلي مشوارك الغامض، بس خلي بالك لما ترجعي مش هسيبك غير لما أعرف.

جلست إلي جوار والدها يتناولان طعام الإفطار و والدها لا يتوقف عن إطعامها بيده.

تذمرت كالأطفال قائلة: يا بايا كفايه هو إنت بتزغط بطه!!

_ ومالو، كلي عشان تبقي بطه شبه أمك الله يرحمها..

= لاااا..أنا هفضل محافظة علي رشاقتي، لازم أفضل علي الوزن المثالي للموديلز يا حبيبي.

نظر والدها إليها بحدة قائلًا: آصــال إحنا إتكلمنا في الموضوع ده قبل كده و قولتلك إنه مرفوض رفض تام و نهائي،و أفتكر كمان إني نبهتك متجيبيش السيره دي قدامي تاني!

إعترضت فقالت: ليه بس يا بابا؟ ما إنت عارف إن ده حلم حياتي و إني من صغري نفسي أكون عارضة أزياء.

_بلا نفسك بلا مش نفسك، بلاش كلام فارغ.

نهض والدها غاضبًا لتتبعه بإلحاح: لو سمحت يا بابا مش كل مره هنتكلم في الموضوع ده حضرتك تقوم و تسيبني..علي الأقل فهمني وجهة نظرك يمكن أقتنع.

نظ رإليها والدها متنهدًا بقلة حيلة ثم سحبها من يدها لتجلس إلي جواره ففعلت ثم قال
: يا بنتي العالم ده مش عالمنا، الناس اللي فيه مش شبهنا ولا طينتهم زي طينتنا، إنتي مش قد شروطه و قوانينه و أحكامه، العالم ده يبنتي كله تنازلات!

إنزوي ما بين حاجبيها بإستفهام وقالت: مش فاهمه ، تنازلات إزاي؟

_يعنـي تعملي حاجات مش شبهك، تتخلي عن قيمك و مبادئك اللي إتربيتي و نشأتي عليها تتغري و تطمعي في الشهره و الفلوس و النجوميه و تنسي ربنا، تنسي دينك و أخلاقك و الثوابت اللي كبرت فيكي و كبرت معاكي.

تنهدت بضجر ثم قالت: بابا حضرتك مكبر الموضوع و مديله أكبر من حجمه ، ما البلد مليانه موديلز هل كلهم بيتنازلوا ولا ببتخلوا عن عن أخلاقهم و ثوابتهم! لأ طبعًا.

أومأ برأسه ثم قال: أتا عارف إن دماغك حجر صوان ومش هتقتنعي بكلامي أبدًا كلام أمك الفاضي معشش في دماغك و ماليها بس أنا حذرتك و عرفتك اللي فيها و إنتي حره.

دلف والدها إلي شرفة غرفته يتصفح جرنالهُ و يحتسي قهوته بينما هرولت هي تفر إلي مستقبلها الذي إنتظرته كثيرًا و قد صمّت أذناها عن حديث والدها..

وصلت إلى الفندق، ترجلت من سيارة الأجرة وهي تنظر إلي واجهة الفندق، إنه فندق متواضع جدًا ، أثار في نفسها الريبه! كانت علي وشك التراجع و لكن لا، لقد أصبحت علي بُعد خطوات قليله من تحقيق حلمها.

أغلقت باب السياره وهي تهندم مظهرها للمرة العاشره و ما إن خطت أول خطواتها حتي إنبعث إلي أذناها صوت السائق يقول بضجر: الأجره يا أستاااااذه.

إتساع عينيها و قضمة شفتيها كانتا تلك وسيلتها للتعبير عن إندهاشها مما فعلت فتقدمت منه وهي تخرج النقود من جزلانها وقالت: معلش أنا آسفه مخدتش بالي.

طالعها بحنق وراح يغمغم بكلمات غير مفهومة فقالت: ما قولتلك مخدتش بالي.

إنصرف السائق وأكملت طريقها تجاه الفندق، أخرجت هاتفها و بعثت برسالة إلي ذلك المسئول عن الإعلان مفادها: أنا وصلت الاوتيل.

ثوانِ معدودة و جاءها الرد: التصوير في غرفه 512.

قطبت جبينها بتعجب و تسلل الخوف إلي قلبها و ظلت تتطلع حولها حتي وقع بصرها علي فتاتين بمجرد ما إن رأونها حتي أسرعوا نحوها.

_إنتي اللي جايه جلسة التصوير الخاصة بوكالة IMG ؟

تنهدت بإرتياح و أومأت بموافقه لتقول إحداهما: أنا حسناء المسئوله عن التنظيم و دي رضوي المصورة. إتفضلي معانا التصوير في غرفه 512.

سارت خلفهما بحماس و رهبه لا تستطع أن تخفيها ، قدماها ترتجفان كورقةِ شجر يعصف بها الريح.

دلفت إلي الغرفه برفقة مسئولة التنظيم و المصورة لتجد مجموعة فتيات قد حضرن للتصوير.

إطمئن قلبها و جلست تنتظر لحظة البدء.

جميعهن يتطلعن نحو مستقبلهن المشرق، الشغف قد أكل داخلهن، حلمهن بات قيد أنمله من الآن.

بدأت جلسة التصوير، تأهبن، وقفن شامخات، بدأن بتغيير الأزياء كما طلبت منهن المسئولة و قُمن بالتصوير ، كلهن يتقدمن نحو هدفهن خطوة بخطوة.

_بالتوفيق يا بنات، هنبلغكم بقرار اللجنه في أسرع وقت..اتفضلوا.

إنصرفن الفتيات و كلاً منهن تحلم بحياتها الجديدة، تتخيل يوم صعودها علي منصة العرض، الجميع يرمقهن بإعجاب و إكبار، العديد من الكاميرات مصوبة نحوهن، الكثير من العروض تتوالي عليهن.

عادت إلي منزلها لتجد والدها في إنتظارها و ما إن رآها حتي وقف متلهفًا: آصال..كنتي فين كل ده قلقتيني عليكي!

تقدمت من والدها و بداخلها شعور لم تستطع تفسيره.

توقفت أمامه مباشرةً و شبّت تطبع قبلةً فوق جبينه و إحتضنته قائلة: متقلقش عليا يا حبيبي، المواصلات بس!

ربت فوق رأسها مبتسمًا وقال: ليكي عليا أول ما أسوي معاشي هجيبلك عربيه صغننه كده علي قدك تروحي وتيجي بيها بدل بهدلة المواصلات و لما تشتغلي إنتي تجيبي العربيه اللي تليق بيكي.

إبتسمت بهدوء وقالت: إن شاء الله يا حبيبي، يلا تصبح على خير.

_ إيه ده؟ هتنامي من غير عشا؟

=مش جعانه يا بابا، تصبح على خير.

دلفت إلي غرفتها، بدلت ثيابها و فتحت فراشها و دخلت إليه، لم يكحل النعاس لها جفنًا بل باتت ليلتها تحلم و تتأمل.

توالت الليالي، و الأيـام، حلمها يتعمق و يتغلغل بداخلها ،و لكن!إلي متي الإنتظار؟

أمسكت بهاتفها وقامت بإرسال رسالة إلي مسئول الإعلانات الذي راسلها مسبقًا:مساء الخير ، حضرتك هو مفيش أي أخبار عن نتيجة التقييم؟ قولتوا إنكوا هتعرفونا برأي اللجنه بعد يومين وفات أسبوع.

لم تصل الرساله، إنتظرت لدقائق، ساعات، و لكن دون جدوي.

قامت بالإتصال بالرقم لتستمع لتلك الرسالة المسجله " هذا الرقم غير صحيح"

حاولت مراتٍ و مرات و لكن الرد واحد.

دب الرعب بأوصالها، إصفرّ وجهها كإصفرار وجوه الموتي، شعرت بأن حلقها قد جف من فرط التوتر فذهبت إلي المطبخ تحضر كأسًا من الماء..


إستمعت إلي صوت الهاتف ينبأها بوصول رساله فأسرعت لفتحها ظنًا منها بأنها الرد لجوابها و لكنها صُعٍقَت لما رأت.

العديد من الصور التي تظهر فيها شِبه عــاريه إلّا من ملابسها الخاصه!

وضعت يدها فوق فمها تكتم شهقه كادت أن تنفلت و راحت دمعاتها تتساقط كشلالٍ جارٍ.

_لأ إستحالـة!

كانت تلك جملتها الوحيدة التي ترددها شفتاها بصدمه وإستنكار و كإنما فقدت كل حروف الهجاء عدا تلك الأحرف.

ظلت تتحقق من الصور بغير تصديق، إنها هي، جسدها، ملابسها، و تلك الغرفه الخاصه بتغيير الملابس داخل الغرفه التي ذهبت إليها في الفندق للتصوير!

الآن فقط بات كل شيء واضحًا أمامها ، لم يكن الأمر منذ البداية سوي فخٍ قد سقطت فيه دون أدني مجهود.

قطع تفكيرها صوت تلك الرساله التي كتبها إليها ذاك الحقير..

" معاكي مهله أسبوع، يا تدفعي نص مليون جنيه يا إما صورك الحلوة دي هتنور الجروبات و السوشيال ميديا كلها "

شعرت بأن الأرض تميد بها ، قدماها لم تعد تحملها فسقطت أرضًا تبكي و تنوح علي ما حل بها..

رساله أخري قد جاءتها فتحتها بأيدي مرتجفه و قرأت محتواها

و النهارده أول يوم من الاسبوع لسه ٦ ايام

إنقض قلبها وأمسكت بهاتفها تكتب له: "أنا هجيب منين نص مليون جنيه في اسبوع؟

_إتصرفي ، ولو ضاقت خالص ومعرفتيش تتصرفي في الفلوس وقتها هنلجأ للحل التاني.

أسرعت تكتب له بلهفه: إيه هو الحل التاني؟

قرأ رسالتها و لم يجب، مرت قُرابة الساعة وهي تمسك بالهاتف تنتظر ردهُ ، تلفت أعصابها و بلغ منها التوتر كل مبلغٍ إلي أن أرسل إليها يقول : تيجيلي ، نقضي مع بعض يوم بالنص مليون جنيه، بصراحه إنتي تستاهلي.

سقط الهاتف من بين يديهاو قد شعرت بأن الكون يضيق عليها شيئًا فـ شئ لتسقط مغشيًا عليها فاقدةً للوعي
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي