الاول

الرسـاله العشـرون و الأخيـرة.

" أكتب كلماتي تلك كـي لا تتهمـوا مخلوقًا بِـقتلي، هذه رسالـتي الأخيرة للعالم المظلم، كتبتها بِأَدمُع عيناي وتنهيدات روحي المرهقه ، وأنا في كامل وعيي وإدراكي بعـد أيام من الإمتناع عن تناول تلك الحبوب المهدئه التي وصفها الطبيب لي، فتلك الحبوب خبيثه، تتركني هامدة،خامدة، لا بريق في عيني، ولا روح في جسـدي.

أخبروا والدي أنّي أحبه، أخبروه أنه لم يتغافل يومًا عن الإهتمام بي ولم يتواني عن رعايتي وتدليلي، واطلبوا منه العفو، لا بد أنني سوف أحتاج إليه.

أمّا عن دائرة معارفي -المحدوده- أخبروهم أنه لا جدوي من النحيب الآن، فلقد إستهلكت جميع رسائلي السابقة مُستجديةً إيّاهم ولكن الجميـع بات منشغلًا، علي ما يبدو أن لكلٍ منهم حياه كانت تتسع للكثير من الهموم ما عدا أنا.

رسالتـي تلك لن تندسّ بين قريناتها كالسـابق، سوف أتركها أينما تفارق روحي النقية ذلك الجسـد الذي دنّسته النوايا الخبيثـه.

إنّي راحلة والأسف يملأُ فؤادي علي الخلائق التي لم تُدرك بعد أن سبيل الموت لم يَكُن يومًا أول ما جال بخاطـر سالِكـوه وعَمَت أبصارهُم عن كل المحاولات المُهـدره بين السطـور!

وخِتـامًا؛ إن وُجِد بعد موتي من يَزعُم أنه كان يعشقني ،أخبروه بأنه لو أتي قبل دقائق معدوده فقط ، ما كنتُ سأصبح ما أنا عليهِ الآن!

هـذه الحيـاة ظالمة حقًـا.

طَوت تلك الورقه بعد أن أفضت بهـا ما بداخلـها و همّت بوضعهـا داخل ذلك المظروف قبل أن تنتشلـها الريـح من بين يديها و تسوقها إلي تحت أقدام ذاك الذي يقف مسلـوب الروح ،خائـر القوي.

إنحنـي ملتقطـًا إيّاها و دون تفكير بدأ في قراءتها قبـل أن تتسع عيناه دهشًة و ينفرج فاه ذهولًا و تنطلق عيناه - لا إراديًا - في البحث عن تلك التي أقدمت علي إنهاء حياتها بكل شجاعـة.

رآها تخطو نحوه بكل ثبات، عيناها فارغتان من كل شيء عدا الحـزن.

تحرّ قدميها جرًا وقد ناءت بِِحِملِها ثم نظرت إليه، وقبل أن تتفوه بكلمه زاغ بصرها وسقطت بهدوء لتجد مكانها… هنا، إلي جانب رسالتها…جوار أسفل قدميه.

إنتفض إثر صدمتها بالأرض الصلبه بقوة، فإنحني بجزعِهِ يحاول إفاقتها ضاربًا بأصابع يده علي صدغيها بخفه ولكنها أبت أن تستجيب.

إلتقطها بعناية بين ذراعيه، تحت نظرات التعجب والإستهجان من البعض و الفضول من البعض الآخر ثم ضمها إليه بقوة محاولًا فتح باب سيارته دون أن يفلتها من بين يديه، ثم وضعها علي المقعـد الخلفي و أغلق الباب بحذر ثم عاد إلي حيث كانت تجلس وأخذ حقيبتها و عاد إلي سيارته مرة أخرى متجهًا بها إلي المشفـي.


كان يجلس علي مقعدٍ للإنتظار في إحدي زوايا تلك المشفي العريق، متفحصًا المكان من حوله بدقه، كـعادته ؛يهوي إمعان النظر بكل ما يحيطه.

إنتشله من تركيزه إتصالًا من مدبرة منزله فأجاب قائلاً: بردو مش راضيه؟

=حاولت معاها بشتّي الطرق يا مستر ريـاض ، مفيش فايده.

هكذا أجابت " إقبال" بيأس و إستطردت: عشان خاطر ربنا تكلمها إنت تراضيها يمكن تسمع كلامك.

_إقفلي يا إقبال مش فاضيلك.

أنهي المكالمه بحدة دون إنتظار ردها و وضع هاتفه بـِ جيبهِ قبل أن يقف متأهبًا فور رؤيته تلك الممرضه تهرع نحوه قائلة: المريضه دمها فيه نسبة سم عالية ، محتاجين لها نقل دم فورًا.

هكذا تفوهت الممرضه دون إبداء أية تعبيرات لتحصل علي تلك الإجابه منه بكل هدوء:

_أنا فصيلتي " O-" ممكن أديها دم.

سار خلف الممرضه متجهًا برفقتها نحو غرفة الفحص.

=إتفضل حضرتك ارتاح. يا ريت بعد إذنك البطاقه هناخد منك شوية معلومات قبل نقل الدم.

أخرج جُزلانهِ وإلتقط منه بطاقته الشخصية ثم وضعها أمامها علي سطح المكتب لتبدأ في نقل بياناته الشخصية منها ثم سألته :

=بتعاني من أي مرض من الأمراض المعدية بالدم؟

_لأ.

=طيب إتفضل حضرتك اطلع علي الميزان وبعدها نقيس معدل نبض القلب والضغط.

نهض ليفعل ما أمرت بهِ ثم بعد الانتهاء غادر الغرفه علي الفور.

مرت ساعه تلو الأخرى وهو لا يزال مسطحًا علي ذلك السرير ينتظر الإنتهاء من عملية نقل الدم كي يغادر ذلك المكان اللعين الذي يقبض روحهِ و يصيبه بالكرب ، إنفرج باب الغرفه لتظهر الممرضة من خلفه التي قالت: حضرتك حاسس بأي تعب أو دوخه؟

_لأ كله تمام، هو فاضل قد إيه؟

=كمان ساعه.

_ وهي عاملة إيه؟

تنهدت الممرضه بشفقةٍ ثم قالت: ربنا معاها. عن إذنك.

مطّ شفتيه ببرود: أومأ برأسهِ بهدوء مردفًا بخفوت: مغفله !!

الأمر أشبـه بدوّاماتٍ تعصف بها، تسحقها سحقًا ، تنتزع منها روحها و تعتصر قلبها، تسحب منها هويّـتها وتتركها نَكِرَه.

لحظة واحدة تفصلها عن الموت. تتأرجح الكفة يميناً ويساراً كبندول ساعة حائر بين وجود وعدم، هل تكمل الطريق إلى نهايته أم ستكون هناك فرصة أخرى للعودة إلى الوراء؟

و لمّا بدأت دماؤهُ تأخذ حيّزًا في أوردتها بدأت الحياة تدب رويدًا رويدًا بقلبها، سحبت شهيقًـا طويلًا كمن إنقطع عنه الهواء لزمنٍ وعاد الآن فقط، لتبدأ معدّلاتها الحيويه في الإستقرار مشيره إلي عودتها إلي الحياة مجددًا .

فرّقت بين أجفانها بثقل و وهن ترفرف بأهدابها حتي إنقشع عنها الضباب و إتضحت لها الرؤية فحركت بؤبؤيّ عينيها بحثًا عن أحدٍ ما ولكن علي ما يبدو أنها وحيدة هنا كالعادة.

تعلقت عيناها بباب الغرفه عندما إستمعت إلي صوت الممرضه بالخارج لينفرچ الباب وتدخل منه شابة حسناء إنبسطت أساريرها فجأًة عندما رأتها وقد عاد إليها وعيها فنادت : دعااءالمريضه فاقت..

هرولت الفتاتان إلي الغرفه ووقفتا واحدةَ عن يمينها والأخري عن شمالها وقالت:حمدلله علي السلامة.

أومأت برأسها بتعب وقالت: عايزة ميه..

ناولتها الممرضه كوبًا من الماء وقالت لزميلتها: دعاء خليكي معاها أنا هبلغ الدكتور وراجعه..

أومأت دعاء بموافقةٍ ثم نظرت إليها وقالت: قوليلي بقا يا آصـال…

كادت أن تبصق جرعة المياه التي إرتشفتها للتو وقالت بأعين فزعه: إنتي عرفتي إسمي منين؟

قطبت الممرضه جبينها بتعجب وقالت: من بياناتك اللي عندنا أكيد.

_ وجبتوا بياناتي منين؟

= حضرت ده اللي كان معاكي؟

ضيّقت بين حاجبيها بتفكير إستغرق ثوانٍ وقالت: وهو عرف بياناتي منين؟

ضحكت الممرضه مردفه: لأ دي بقا إسأليه عليها اللي أعرفه إن شنطتك وفيها بطاقتك تحت في الامانات..

أومأت بموافقة لتنصرف الممرضه فور دخول الطبيب المتابع لها قائلًا: حمدالله على السلامه.ماشاءالله وشنا نور النهارده أهو.

إبتسمت آصال بتكليف فقال: في حد لطيف وعاقل كدا يفكر ينتحر؟ يا شيخه سيبتي إيه للمجانين؟

_ المجنون من وجهة نظر حضرتك ده إحنا بنحسده علي سلامه النفسي وراحة باله، مش دايمًا كل الأمور في نصابها الصحيح بتكون مريحه يا دكتور.

مطّ الطبيب شفتيه قائلًا: ده إحنا قدام فيلسوفه كبيره بقاا.

إبتسمت بخفه لتذكرها تشبيه والدتها و نعتها لها دائمًا بـ "الفيلسوفه" ثم قالت: إمتا هقدر أخرج يا دكتور؟

نظر إليها الطبيب ثم تقدم من السرير الذي تجلس عليه وجلس علي طرفهِ ، ونظر إليها متنهدًا بشفقةٍ علي حالها ثم قال: هننتظر الأول تقرير النيابه وفي حال أثبت إنه مفيش شبهه جنائية تقدري تخرجي.

أردفت بنزق: شبهه جنائيه إزاي وأنا بنفسي معترفه إني أنا اللي حاولت أنتحر؟

_دي إجراءات روتينية لازم تتعمل، علي العموم طالما واثقه من كلامك يبقا هتخرجي بسرعه إن شاء الله، ولازم أول ما تخرجي تتوجهي لدكتور نفسي وتتكلمي معاه!

أومأت بخفه وهي تقطع أدبار ذلك الحديث العقيم -من وجهة نظرها- لينصرف بعدها الطبيب مغادرًا الغرفة ، تاركًا خلفه سكونٍ و هدوء.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي