الفصل الثالث

على شاطى البحر الرمليّ الناعم استلقى براحة، تسقُطُ اشعه الشمس على جسده الرياضي الضخم فتزيده لمعةً واسمِرار بينما وجههُ ذو الملامح الوديعة مُختبئٌ خلف خُصلات شعره الطويلة، انها منتصف الظهيرة حيثُ يئنُّ السوق بفوضى البائعين بينما يصِلُ صوتهم الى مسامعه من بعيد كلحنٍ شديد الرتابة، لقد خرج من البحر قبل بضعة ساعات خلفه قاربه الأكثر شهرة بالمكان يجدّف عليه احد اصدقائه حاملًا على متنه الكثير من الأسماك بينما يسبحُ هو بمهارة مصارِعًا الأمواج، متحدّيًا ان تستطيع  جرف جسده الصخري الذي يشبهُ اجساد القراصنة.

رفع رأسه فجأة ما ان شعر بإقتراب احدهم منه، كانت اصوات اقدامها على الرمل غير مسموعة خاصّة مع الحِذاء الرياضي البالي الذي ترتديه الّا انّهُ يملِكُ حاسّة سمعٍ مُرهفة جعلته يفتح عيناه الشاحبة ذات اللون الغريب، نظرة واحدة دفعتها لإجراء ردّةَ فعلٍ سريعة قبل ان يمسك بها هذا الكائن الضخم فما كان منها الّا ان انحنت وقذفت تلك العينان بقبضةً من الرمل، والتقطت بسُرعة العلبة البلاستيكية المخصصة للطعام والتي تراقبها منذُ ان جلبها اليه الصبيّ الصغير وغادر، كانت تراقبها وبطنها تعوي كذئبٍ جريح.

لا تعلم كيفّ امتلكت القدرة على الركض ولكنها ليست سوى لحظات وشعرت بخطواتٍ عنيفة تركضُ نحوها، ولحسن حظّه وطول ساقيه استطاع الوصول اليها بخطواتٍ قليلة ولازالت عيناه تحترق من حبيبات الرمل المنثور بداخلها، قبض عليها بعشوائيةٍ ويداهُ تكبّلها بحركةٍ واحدة وهي تصرخ وتصرُخُ على مدّ البحر الكبير لا يسمعها سوى صوت الموج فقطعًا هذا ليس وقت تواجد ايّ احدٍ بالجوار، اثناء صراخها كان يتراجعُ بها الى الخلف الى ان كبّلت كفّه الكبيرة صرخاتها هاتِفًا بجنون:
- اللعنة عليكِ يا مجنونة، ما الذي تريديه منّي؟ انطقي الآن.

سقط بها على الرمال ولازالت تتلوّى بين ذراعيه وهمهماتٍ مختنقة تحاولُ الفرار من بين شفتيها الّا انّهُ ضغط على كفّه اقوى وهمس بغضب وقد لمح علبة الطعام التي لازال تحت قبضتها:
- يا سارقة! يا سارقة.
وافلت يده عن فمها متمتمًا بغيظ:
- سارقة.
- لستُ سارقة!
صرخت فجأةً بصوتٍ واهنٍ وقد بدأت تفقدُ ما تبقى من طاقتها.
- انا فقط جائعة.
قالتها بتعب وجسدها يرتخي بإعياء وآخر ما لمحته عيناها نظرةً رماديّةً مصدومة ورائحة البحر تغرقها بلا مرساة.

- يا آنسة...  انتِ يا سارقة.
هتف بحر وانامله تربّت على خدّ الفتاة التي سقطت بلا حولٍ ولا قوّة، ولكن لم يكن هنالك رد، لاسيما انها فقدت وعيها.
حينها فقط انتبه لثيابها الرثّة وهيئتها التي تدل بوضوح الى ايّ فئةٍ من الناس هي، انها مجرد متسوّلة.
رقّت ملامحه فجأةً وحملها هامسًا بتذمُّر:
- يبدوا يومًا جميلًا من بدايته.

   
.
.

تأوهت بإرهاق، مررت اناملها على الفِراش الناعم الذي تغوص بداخله فإبتسمت وكأنها تغرقُ بحُلمٍ جميل؛ فهي تكاد لا تذكر متى آخر مرّةٍ ارتاح جسدها المتعب على فراش، تقوقعت ككرة صوف وافلتت من بين شفتيها تنهيدة راحة ولكن سرعان ما فتحت عينيها على اتساعهما وهي تنهضُ بسُرعة فشعرت بأن الكون يدور من حولها ووجدت كفّان توضعان على كتفيها تعيدانها للفراش وهمسة خشنة مرتبكة مرّت على مسامعها:
- إهدأي، لا تخافي، انتِ بأمان.

فتحت فمها لتطلق صرخةً عالية ما ان تأكدت من انه ذات الرجل الّا انّهُ اخرسها بكفّه مرّةً أُخرى هامسًا بغضب:
- كُفّي عن الصراخ واهدأي، لن آكلك، اخرسي قليلًا!
ظلّت صرخاتها مكتومة وعيناها تشتعلُ بغضبٍ وشراسة الى ان حانت منها التفاتة الى المكان من حولها، كانت غرفة كبيرة بها سرير ضخم واثاث خشبي شديد الأناقة، وعادت بنظراتها الى من يكبّلها بذراعيه الحديديتان، واخذت تطالع نفسها برعب لتتأكد من انها بذات الثياب الرثّة التي كانت ترتديها الّا انّ نظراتها دفعته للهمس بتقزز:
- هل حقًّا تشُكّين بأنني قد...
صمت وقد بان القرفُ على ملامحه وكأنما يمضِقُ ضفدعًا:
- يا إلهي! 

زفر بإستياء ولازالت تقاومه بإستماتة فهتف اخيرًا بنفاذ صبر:
- هل يعجبكِ هذا الوضع وانتِ مُحاصرة بين صدري العاري بلا حياء، توقفي عن التلوّي كالأفعى لأحررك.
نظر اليها مليًّا، كان وجهها اسمرًا يكسوه احمرارًا شديدًا من كثرة الصراخ، عينيها بلونٍ يعرفه تمامًا، بلون الشعب المرجانيّة الملوّنة التي طالما استرهبت نظره، تطالعهُ بجنون فتتوهّج كمهرجانٍ من الألوان، ملامحها مشدودة كوتر عود، ولا يبدوا ابدًا انها مجرد متسوّلة.

هدأت قليلًا ولكن لا زالت انفاسها تتعالى بجنون وقد بدأ التعب بغزوا قسماتها من جديد فأفلتها هامسًا بيأس:
- خذي.
كانت تلك علبة الطعام، فتحها لها ففاحت رائحة السمك الشهيّة لتجتاح انفها فأصدرت بطنها صوتًا اشبه بالصراخ، لم تدري كيف تحرّكت يداها المرتجفتان لتُمسك منه العلبة وتبدأ بتناول السمكة بنهمٍ شديد، كانت يداها الإثنتان تغوصان باللحم الأبيض الناضج تنتزعانه من خيط الأشواك.

بينما بقي هو يراقبها وبقلبه شفقةً نحوها، يبدوا انها لم تُدخل شيئًا بفمها منذُ بضعة ايام، فقد انحنت تأكُلُ بتركيز كقطّة مشرّدة حظيت بوليمة وهي الآن بتلك الهيئة تبدوا بالفعل قطّة، قطّة بمخالب حادّة.
لم تنتبه لمغادرته للغرفة ولكنها نظرت اليه عند عودته حاملًا طبقًا يحوي المزيد من الطعام، التقطته منه بسرعة وراحت تتناول ما بداخله وهي تلهثُ كحيوانٍ برّي، فقد جاعت في الأيام الماضية الى ان شعرت بأنها قادرة على تناول اصابعها من فرط الجوع.

عندما اكملت تناول الطعام شعرت وكأن الحياة تدُبُّ بأوردتها من جديد وقد كسى وجهها احمرارًا دافئًا فأخذت تمسحُ على جانب فمها بيديها وهمست اخيرًا بصوتٍ خافتٍ حذِر:
- شكرًا لك للغاية، واعتذر عن فعلتي.
فركت يداها بتوتُّر وابتلعت غصّة ألم مضيفة:
- انا فقط لم اذق طعم الزادِ منذُ ثلاثة ايام.
- اين تسكنين؟!
ارتبكت بشدّة وحاولت تلفيق كذبة سريعة الّا انّ عقلها لم يسعفها فجاء جرس الباب لينقذها في اللحظة الأخيرة.
- انها فلك، سأفتح الباب واعود.

قالها وخرج لتضع اناملها المرتعشة على قلبها تُهدئ خفقات الرعب التي تتلبّسه، وفي لحظات قليلة استطاعت تلفيق حكاية تتناسب مع وضعها؛ فأكبر درس تعلمتهُ من سنين سجنها الطويلة أن إتقان الكذب بشأنه ان ينقذنا دائما.
في الخارج فُتح الباب لتدلف فلك حاملة كيس يحوي بعض الثياب وقالت بقلق:
- ما الأمر يا بحر؟ ومن تلك المرأة التي جلبتها لبيتك؟ وكيف من الأساس ان تتجرأ وتجلب فتاةً لهذا الحي، ألا تعلم سرعة الشائعات، صدقني لن تمُرّ دقائق الّا وستجد سيرتكُما على كُلّ الألسُن.

- هلّا توقفتي قليلًا، سنتقطع انفاسك.
كانت فلك تتنفسُ بعُمق وتطالعه بعينان يملؤهما الذهول والقلق، فقد هاتفها قبل قليل طالبًا منها ان تجلب بعض من ثيابها القديمة وتأتي اليه على الفور فبحسب قوله توجد امرأة غريبة بمنزله.
تناول منها الكيس وهمس ببساطة:
- سأعطيها هذه الثياب ونتحدث حينها براحة، اجلسي هنا.
صعد الى غرفته ليجدها لا زالت على نفس جلستها، رفعت رأسها لتواجهه وهمست بتساؤل مشيرةً لما بيده:
- ما هذا؟
- انها ثياب، بإمكانكِ استخدام الحمام.

اشار لها الى الباب الجانبي المُغلق واضاف:
- فشكلكِ مزرٍ للغاية.
وافقتهُ الرأي وتطلعت لثيابها المتسخة التي تركت بعض الآثار على الاغطية البيضاء النظيفة، ووجدت انها بالفعل بحاجة للاستحمام.
نهضت ببُطء وتابعته بنظراتها وهو يخرج فسارعت لتغلق الباب بالمفتاح ليهتف من الخارج:
- إياكِ ان تحاولي سرقة ايّ شيء، والّا أُقسِمُ ان اسحقكِ كالجرذان.

تطلّعت من حولها تتفحّص المكان بدقّة وللتوّ فقط ادركت انها بشقّة رجُلٍ غريب، جلبها الى غرفته وطلب منها الاستحمام وارتداء ثيابًا غير لائقة.
قفز قلبها بين اضلعها بذعر وراحت تبحث عن ايّ شيء بإمكانها ان تدافع به عن نفسها، لم تجد شيئًا فدلفت الى الحمام لتجد على زاويته البعيدة إحدى ادوات التنظيف ذات عصًا خشبيّةً طويلة، اخذتها وفتحت الباب بحذر، وجدت نفسها امام غرفة اخرى ورواقًا يؤدي الى مُدرّج خشبيّي ذو طراز قديم، ترجّلت عبره الى الأسفل وصرخت بحدّة:
- إياك والإقتراب منّي، سأخرج من هنا حالًا ولا تحاول اللحاق بي.

وجدت نفسها امام فلك التي تراجعت بهلع من صراخها المرعب وبحر الذي سارع باحتوائها متمتمًا بغضب:
- هل جننتِ يا امرأة؟ لماذا تصرخين؟
اخذت تخفض الممسحة بهدوء وعيناها تتأملان الفتاة الوقفة خلف ذلك الرجل، انها شابّة بعمرٍ صغير لا يمكنها تخمينه يبدوا الخوفُ جليًّا في عينيها المتسعتين.
بينما فلك تراقبها ولا زالت مصدومةً من مظهرها، انها مجنونة على الأرجح، دفعتها تلك الفكرة للإنكماش خلف بحر هامسة بخفوت:
- دعها تذهب ارجوك، تبدوا مختلّة.

نظر الى الفتاة هامسًا بحدّة:
- لقد ارعبتي الفتاة، انظري اليّ جيّدًا انا قد وصلت لآخر حدودي معكِ،اخرجي من منزلي على الفور!
شعرت بأنها قد فوّتت فرصة ثمينة فلولا خيالها الخصب الملئ بالقمامة لكانت حصلت على حمام دافئ وثياب نظيفة.
وضعت يداها حول وجهها وبدأت بالبكاء وهي تدعوا بداخلها ان تحصل على استعطافهما، ظلّت تبكِ وكلاهما يطالعانها بصدمة الى ان اقتربت منها فلك هامسة بحنو:
- إهدأي ارجوكِ، اين تسكنين لنوصلكِ الى بيتك؟

- ليس لديّ بيت.
قالتها بإنكسار ليهتف بحر من بين اسنانه:
- كيف لا يوجد لديكِ مكان لتسكني فيه؟ هل تعيشين بالشارع؟
اومأت بصمت ونظرت اليهما من بين دموعها لتجد فلك تطالعها بعطف لتُكمل:
- انا اتيت لهذه المنطقة منذُ بضعة اشهُر بحثًا عن العمل، كنت اسكُن بشقّة صغيرة ولكن نقودي قد نفدت ولم اجد عملًا لأُعيل به نفسي وقد طردني صاحب الشقّة بعد ان تراكم عليّ ثمن الإجار وانتهى بي المطاف في الشارع.
- يا إلهي!  وكيف تعيشين في الشارع؟ اقصد اين تنامين؟
قالتها فلك بحُزنٍ شديد وقد تساقطت دموعها عندما اجابتها وهي تشعُرُ بغصّةٍ مؤلمة:
- بجانب حاوية القمامة.

- أليس لديكِ عائلة؟ او زوج؟
اجابت بشرودٍ حزين:
- كان لديّ بيت وعائلة، في الماضي!
تسائلت فلك بفضول:
- واين هم الآن؟
- والداي توفيا.
واضافت لتزيد من قتامة السناريو المُحكم:
- كنتُ متزوّجة ولكن زوجي مات بحادث سيارة قبل عامين، ولم يتبقّي لي ايّ احد.

- إذهبي الى الأعلى وابدلي ثيابك.
قالها بحر بهدوء لتومئ بصمت وتصعد للأعلى وهي تمسحُ دموعها التي لم تكُن مُجرّد وسيلة للإستعطاف بل دموع امرأة مخذولة وضعتها الأيام في اسوأ المواقف.
جلس على الأريكة بجانب فلك التي همست ببكاء:
- يا إلهي!  هل يمكنك تخيُّل ما عانت منه تلك المرأة؟ إن الحياة قاسية للغاية، حمدًا لله على نعمة العائلة.

اخذ يطالعها  بملامح هادئة قبل ان يومئ بصمت ولم يكُن ساذجًا ليُصدّق ما قالتهُ تلك الفتاة؛ فدموعها لم تؤثر به ابدًا، ربما تكون مُجرّد سارقة ترغبُ بالنصب عليهم.
- انا ارغبُ بمساعدتها.
انتشله صوت فلك من شروده ليقول:
- لا يمكننا فعل شيء، فقط سنعطيها بعض النقود.
- بالطبع لا!
قالتها بنبرةٍ قاطعة وسرعان ما برزت فكرةً برأسها لتضيف بتهوّر:
- سآخذها معي الى بيتنا، بإمكانها العملُ لدينا فوالدتي لن تمانع بوجود مساعدة لها بأعمال المنزل خاصة وان مساعدتها لم تعُد تأتي بإستمرار.

- لايمكنك التصرف بهذه السذاجة، من اين تعرفين الفتاة لتدخلينها بيتكم؟ ومن الأساس والديكِ لن يسمحا بهذا الأمر.
- من قال اننا سنقول لهما انها متسوّلة يا بحر، ما ستقوله وانت تسلّمها لليلى هو انها قريبة احد اصدقائك وترغبُ بالعمل، وانا سأتكفّل بالباقي.
- ماذا إن كانت كاذبة؟ ربما تسرقكم ؟
- انا لديّ نظرة للبشر يا عزيزي، صدّقني إنها ليست كاذبة او مجرمة.
ادار عينيه بملل وندم على دعوتها للقدوم؛ فكيف سيقنعها الآن بالعدول عن رأيها؟
- بحر ارجوك لا ترفض.
- توقّفي يا فلك، لن تذهب معكِ الى ايّ مكان وهذا امرٌ مفروغٌ منه.

.
.

مرّت دقائق طويلة الى خرجت اليهم، توقّفت امامهما فإنتبه كلاهما لها، ابتسمت لها فلك برقّة وقد بدى ثوبها الأخضر ملائمًا لها بشدّة، بطوله الذي يرنو الى منتصف ساقيها وأكمامه القصيرة التي تُظهر كتفيها وجزءً وفيرًا من جيدها الشبيه بعُنق الغزال، وبالرغم من نحولها الشديد الّا انها بدت غايةً في الأنوثة الناعمة، كان جمالها عاديًّا للغاية خاصّة مقارنة بجمال الفتيات الساحليات المعروفات بحُسنهنّ الفتّان، بها شيئًا خفيًّا يجعلك تلتفت اليها ما ان تمُرّ بجانبك، شيئًا يشبهُ الفضول، غير انها تبدوا كطفلة صغيرة بذلك الشعر المبلل المتساقط على وجنتيها، وللتوّ فقط ادرك بحر انّ الواقفة امامه فتاةً وليست المجنونة التي سرقت طعامه.

قالت فلك مقاطعة لشرودهما:
- يال غبائنا، الى الآن لم نعرف ما هو اسمك.
- اسمي ميرال.
- غزالة.
قالها بحر مبتسمًا فإسمها يليقُ بها للغاية.
- نعم، هذا هو معناه.
قالتها بخفوت لتقول فلك برقّة:
- اسمكِ جميل للغاية، انا فلك وهذا الرجل الغاضب يكون بحر.
اومأت بصمت ولا زالت ولا زالت تقِفُ امامهما الى ان شعرت باليأس.

- شكرا لكم للغاية، لقد قمت بتنظيف غرفتك، وسأخرج الآن.
قالتها وهل تحمل حقيبتها لتقول لها فلك:
- الى اين ستذهبين وليس لديكِ مكان؟ ما الذي تجيدين فعله؟
- انا جيّدة بأعمال المطبخ والتنظيف وايضا لديّ خبرة بخياطة الثياب.
اجابتها سريعا وهي تشعُر بالأمل لتهمس فلك بنبرة قاطعة:
- إذن ستعملين لدينا بصفة دائمة، وسنعطيكِ غرفة لتسكني بها.

نبرة بحر التحذيرية دفعتها للصمت ليقول بإيجاز:
- سأدبّر لها عملا في ايّ مكان وادفع ايجار شقتها فحسب.
- لا، لايمكن ان اعود لتلك الشقّة.
هتفت بذُعرٍ حقيقي وقد بدأت كذبتها بالظهور، ايّ شقّة وهي اصلا من ساكني الشوارع؟!
ارتفع حاجب بحر بتساؤل لتكمل وهي تختلقُ المزيد من الأكاذيب:
- لديّ جار سيء الأخلاق، يحاول دائمًا التحرُّش بي لذلك لن استطيع العودة.

ابتلعت ريقها وهي تدعوا بداخلها برجاء ان يصدقونها الّا انّ بحر لم يفعل، لا زال الشكّ يجتاحه نحوها وشعورًا غريبًا يخبره انها ليست الحقيقة الّا انّ فلك، أهٍ منها تلك الفتاة عاطفيّة للغاية وبعد تلك الكلمات اخذت عهدًا على نفسها ان تحمي ميرال من غدر الشارع.

وبالفعل بعد ساعات قليلة كان ثلاثتهم بمنزل آدم، دلفت فلك مع والدتها الى غرفتها لتخبرها بأمر الفتاة المسكينة وتركاهما يجلسان بالصالة ذات الطراز الراقي، كانت ميرال تجلسُ منكمشة على احد الأرائك وبجانبها بحر الذي التفت اليها وامسك بذاعها فجأة وقال بخفوت:
- اتمنّى ان لا تكوني قد كذبتي علينا؛ وإن حاولتِ مُجرّد محاولة لخداع اهل هذا البيت صدّقيني سؤذيكِ بشدّة.
- صدّقني لن افعل يا سيّدي، انا لا اريدُ سوى عملًا شريفًا يعيلني، ولن اعضّ اليد التي امتدت لي ابدًا.

نفض يدها عنها بعنف وبداخله غضبًا غير مُبرر، لقد استطاعت هذه الدنيا الفتاة ان تُعكّر صفو يومه منذُ بدايته.
اخذت ميرال تدلّك معصمها بألم ذلك الغبيّ ذو الجُثّة الضخمة هشّم يدها الصغيرة، نظرت اليه بغضب وودّت لو تتعلّق بخصلات شعره الطويلة تلك تنتزعها من جذورها، غبي.
- بحر!
قالتها حلا بترحاب واقتربت لتعانقه، راقبتها ميرال بنظرات خفيّة، تبدوا بالسادسة عشر من العمر او اصغر، بالتأكيد انها إحدى التوأمتين اللتان حدثتها عنهما فلك، تبدوا لطيفة كأُختها.

- اوه اميرتي الحلوة! كيف حالكِ؟ واين هي حور؟ لم ارها منذُ زمن.
ابتسمت حلا مجيبةً ببعض الحزن:
- انا بخير، وحور بغرفتها، انها معاقبة.
وقبل ان يتساءل عن السبب دلفت فلك ووالدتها لتجلسان معهم.

كانت ميرال تطالع ليلى بإنبهار، لا تصدق الى الآن انها والدة فلك فالناظر لهما سيظن انهما اختين، كانتا جميلتان للغاية ككُلّ شيءٍ في هذا المكان؛ فمنذُ رؤيتها لحافظة الطعام وقرارها بسرقتها بدى كُلّ شيء بالتحسُّن وكأنما غيمة حياتها السوداء ستنقشِعُ اخيرًا لتستطيع النظر للحياة من جديد، قد يبدوا الأمر مُخزيًا للغاية ولكن بالتأكيد العمل كخادمة ووجود جدران تأويها خيرًا من ذرع الشوارع والحياة كالمتسوّلين.

بنهاية ذلك اليوم تمّت الموافقة على عملها من قِبل سيّدة المنزل التي منحتها إحدى غُرف الشقّة، التي تحوي الكثير من الغُرف فبدلا عن إحتواء الطابق على شقق كثيرة كانت المساحة مفتوحة على هيئة شقّة ضخمة بها الكثير من الاروقة.
عندما حلّ المساء كانت قد قامت بغسل اطباق العشاء بل وتناول هي ايضا وجبتها، آهٍ كم هو لذيذٌ الشعور بالشبع بعد ايامٍ من الجوع، دلفت الى تلك الغرفة متوسّطة الحجم اتسعت عيناها بسعادةٍ غامرة؛ فبمنتصف المكان يوجد سرير متوسّط الحجم به فراش قطني ناعم، وايضا توجد خزانة صغيرة واريكة وطاولة زينة بكرسي خشبي انيق، اخذت تدور في تلك المساحة الصغيرة بسعادة فعندما تغلق هذا الباب ستكون ببيتها، منطقتها الخاصّة التي ستعيش فيها براحة بعد اشهُرٍ من لسعات الشمس وعيون البشر المتقززة.

وجدت على الفِراش الثياب التي وضعتها لها فلك بعد معرفتها بأن حقيبة سفرها قد سُرِقت في الأيام التي قضتها بالشارع، بالطبع كانت تلك مُجرّد كذبة بيضاء أُخرى؛ فمن السجن لم تخرُج سوى بثوبين تمزّقا من النوم على الأرصفة، كانت ثياب بيتية جميلة على الأرجح تم ارتداؤها مرتين او ثلاثة، التقطت منها بيجامة وردية قصيرة كانت الأنسب لمزاجها الرائق، وعندما خلدت اخيرًا لفراشها الناعم التمعت عينيها بدموع فرحةٍ لم تعرفها منذُ وقتٍ طويل وسرعان ما تحولت الى نحيبٍ خافت، نحيب امتنان امرأةً انتُشِلت فجأة من أسوأ كوابيسها لتوضع في جنّةٍ ورديّةٍ ناعمة.

.
.

يوم جديد تراجعت فيه الشمس بخجلٍ نحو الغروب، كانت فلك تسرع الخُطى عودةً الى البيت عقِب لقائها مع صديقتيها في احد المقاهي القريبة من البحر، لم يكُن المكان بعيدًا عن بداية الحيّ لذلك سارت على قدميها في تلك الشوارع الفسيحة المرصوفة بالأسمنت.

راحت تفكرّ بكُلّ ما يحدُث بالفترة الأخيرة وبالطبع حاز زواج والدها على كُلّ تفكيرها، كان الأمرُ صادِمًا للغاية فمن يرى علاقة والديها لا يُفكّر ولو للحظة ان ذلك الرجُل المُستقيم بإمكانه ان يراوغ بل ويتزوج بفتاة بعُمر غيد.
بأعماق قلبها كانت تشعُر بالشفقة نحو غيد؛ فما ادركتهُ هو انّ الفقر قد يدفع المرء لفعل كُلّ شيء الّا انّها لا تجِد العُذر لأبيها، لا عُذر إطلاقًا على ما سببهُ لهُنّ من ألم.

اثناء سيرها بجانب احد الأزقّة وجدت كفًّا تسحبها الى بؤرة الظلام وعلى ضوء المصابيح الخافتة استطاعت رؤية ملامحه التي تبرقُ بالحنق المجنون بينما نظرتها تحوّلت من الفزع الى الشوق الأعمى، شوق العشق المؤلم الذي لا يطفىء ناره ألف عناق.
- ألم أُحذّركِ آلاف المرّات من السير وحيدة في الليل؟!
نبرته الحازمة الخشنة دفعت احمرارًا لذيذًا الى وجنتيها فأجابته بإرتباك:
- لا زال الوقتُ باكرًا.

- ألا ترين هذا الظلام من حولنا؟! على العموم سأوصلكِ الى البيت وعندما تخرجين بوقتٍ كهذا هاتفيني لأُعيدكِ بنفسي.
قالها بجفاء وابتعد عنها، فتحوّلت ابتسامتها الحمقاء الى عبوس حزين وهي تراهُ يتقدّمها دون حتى ان يلتفِت اليها، ولكن كُلّ هذا لم يمنع دقّات قلبها الخائنة التي تهمِس بإسمه بين النبضة والأُخرى.

عندما اوصلها امام بنايتها اشار اليها بالصعود ولكنها بقيت تطالعه برفض غير راغبة بنهاية لقائهما القصير ولكنّهُ تقدّم منها ليحشرها في زاوية الدرج متمتمًا بخفوت:
- هيا اصعدي.
فعلت حينها اكثر الأشياء حماقةً واندفاعا فقد اقتربت منه لتقِف على اطراف اصابعها تهمِسُ بجانبي أُذُنيه بعذوبة عاشقة خجولة:
- شُكرًا لك يا عزيز.

اتبعت شُكرها بقُبلةٍ صغيرة على خدّه دامت لثانيتين قبل ان تبتعد عنه راكضةً الى الأعلى بينما بقي هو منوّمًا من تلك الرائحة الزكيّة التي غمرت انفاسه، إنها ارقّ وأجمل واشهى قُبلةً حصل عليها بحياته.
افاق من شروده وابتعد عن البناية سريعا ولكنه ظلّ يقِفُ بمكانه المعهود امام شرفتها، وبالفعل بعد عدّة دقائق اضائت الغُرفة وفتحت نافذتها المُطلّة على وجهه تماما، اخذت تطالعه وقلبها يخفقُ بجنون مُنذِرًا بفضحها بأي لحظة، انها بالفعل تعشقُ هذا الرجُل.
ابتسمت بشدّة عندما اشار لها مودّعًا فتنهّدت بعُمق واغلقت الشرفة وعندما التفتت لم تكُن امامها سوى ميرال، تطالعها بنظرة من قبض على جُرذٍ في مصيدة...

.
.

بينما بذات البناية على شرفة الطابق الرابع وقفت غيد تطالع حبيبها القديم، الذي بات حُلُمًا بعيد المنال، ترى نظراته الصارمة المُختلطة بالمرارة وترثي قلبًا كبّلتهُ الظروف ووأدت نبضه دون رحمة...

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،.

فصل طويل جدا

الى الآن شخصياتنا المهمة انحصرت بغيد وآدم وفلك وبحر وعزيز وميرال وطبعا بالفصل القادم سنرى ما سيدور بين فلك وميرال 
ونعرف اكثر من هو عزيز ومن هو بحر وما علاقتهما بعائلة آدم.

مع حبي

فايا ❤❤❤
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي