الفصل الرابع
- لقد طرقتُ الباب عدّة مرات ولكن يبدوا انّكِ لم تسمعيني.
قالتها ببراءة وهي تراقب وجه فلك المتوهّج بينما اخذت الأخيرةُ تنشغلُ بخلع حذائيها هامسة بتوتُّر:
- نعم يا ميرال، ما الأمر؟
- السيّدة ليلى تطلُبُ رؤيتك.
- حسنٌ، دقائق وسأذهب اليها.
اجابت بخفوت بينما ظلّت ميرال تراقبها بصمت، وعندما تواجهت نظراتهما تسائلت فلك:
- هل هنالك شيءٌ آخر؟
اومأت ميرال بالنفي واضافت بحنان:
- هل ترغبين بأن تُخبريني بأي شيء؟!
- لا، شكرا لك.
- لا بأس، ولكن اذا احتجتي اليّ سأكون هنا دائما.
خرجت لتتركها على راحتها، ولكنها مُدركة انّ فلك الصغيرة بحاجة للمُساعدة، وهي ستفعل كُلّ ما تستطيع لترُدّ اليها المعروف، فقد مرّ شهران على عملها ببيتهم وللغرابة استطاعت بسهولة ان تتأقلم معهم واعتادت طباعهم، وتتمنى ان تعمل طوال حياتها معهم فمن المُستحيل ان تملك نقودًا تخولها الإستقرار وحدها.
.
.
- انت تلعب بالنار يا عزيز، لا يمكنك ان تُلقي بشباكك حول ابنة آدم بهذه السهولة، حتى وإن احبّتك لن يسمح والدها ان يزوّجها لك، صدّقني قضيّتُك خاسرة من البداية.
علا صوت الموج وازدادت قتامة الليل المماثلة لملامح عزيز المتجهّمة بضيق بينما لم يُعطه اخيه فُرصةً للردّ واسرع يُضيف:
- لا تُقحِم فلك في دوّامة انتقامك.
التفت اليه عزيز وقبض على ياقة قميصه هاتفًا بجنون:
- انت لا تتدخّل، ولا تجعلني اتفوّه بما لن يُرضيك، إنشغل بشؤونك يا عمرو وابتعد عنّي.
- لن افعل يا عزيز، لن اسمح لك بأن تؤذي فتاةً مسكينة على حساب حقدك على ابيها لأنه سرق حبيبتك.
قالها عمرو بنبرةٍ هادرة قصد بها ايلامه علّهُ يستفيق من سكرات عشقه المُستحيل؛ فغيد قد تزوّجت وانتهى الأمر وكُلّ ما سيفعله لن يجعله سوى مُجرّد رجُلٍ وضيع وهو ليس كذلك.
- لا تقُل حبيبتي، غيد لم تعُد تعنيني صدّقني.
قالها بقوّةٍ وقلبه ينبضُ بكُرهٍ يهدد بحرق الدنيا، لا يعلم كيفّ مرّت تلك الأيامُ منذُ زواجها، لقد احبّها بصدق ولكنها مع اوّل بائعٍ غني سلّمت نفسها دون ان تلتفت للوراء، كان يحفِرُ في الصخر ليستطيع الإرتباط بها على الملأ، عمل ليل نهار ليشتري لها بيتًا صغيرًا يجمعهما ولكنها نقضت كل عهودها وباعته بأبخس الأثمان، باعت قلب رجُلٍ لن يعوضها عنه ملء البحر مالًا.
- ارجوك يا عزيز، انا اخيك الأكبر اتوسّلُ اليكَ ان لا تُحطّم قلب تلك المسكينة، افعل ايّ شيءٍ إنتقامًا لكرامتك ولكن ليس عن طريقها، صدّقني ستندم طوال حياتك.
قالها اخيه وغادر غاضِبًا خائفًا عليه من اهواء نفسه المُتعبة بينما جلس هو على الشاطىء وكلمات اخيه تترددُ بأُذُنيه، وللحظة اغمض عينيه واطلّت صورة غيد بخياله، استسلم لذكرياتٍ جمعتهما بذات المكان، حيث كان يهرُبُ بها من بيتها المُتهالك الى جنّة أحلامهما، هنا اعترف لها بالحُبّ لأوّل مرّة، هنا قبّل عينيها الزرقاوين، هنا أمسك بيدها ونظر الى وجهها كما لم ينظُر الى امرأةٍ من قبل.
تسرّبت الدموع من مُقلتيه حُزنًا على قلبه الساذج الذي يُهدر المُتبقيّ من كرامته نابضًا بإسم امرأةً خائنة.
.
.
آدم من اغرب الرجال الذين رأتهم في حياتها، انهُ ليس حادّ الطباع كما ظنّتهُ مُسبقًا بل يكادُ يكون مثالًا للهدوء والرزانه هذا بالطبع اذا استثنينا لحظات غضبه من تصرُّفاتها المُتهوّرة، فعدا ذلك يظلّان على وفاق في معظم الأوقات، وقد بدى انها اعتادت نمط حياتها، فثلاثة ايام بالأسبوع يظلّان سويًّا بشقّتها الجميلة وبقيّة الأيام تنفرِدُ فيها بنفسها وحيدةً بين تلك الجُدران، ولكن تلك الوحدة باتت متنفّسها للحياة بوجود مكتبتها الجميلة التي ابتاعت كُتُبها بنفسها، ولم يكُن له مانع بالطبع من تسليتها بتلك الأوراق طالما انها لم تعتّب باب غرفتها، كانت ترتشفُ قهوتها بتلذُذ وتغوص بكُلّ تركيزها في سطور كتاب يتحدُث عن الرجال وطريقة التعامُل معهُم، لم تشعُر بالفضول ببداية الأمر ولكن يبدوا ان محتواه قد راقها للغاية؛ وربما بإستطاعتها الأستفادة منه في التعامل مع زوجها غريب الأطوار.
في تلك الأثناء رنّ جرس الباب مُنبئًا بقدوم احد، ظنّتهُ احد صبيان آدم الذين يجلبون طلباتها التي اعطتها لهُ صباحًا، فإرتدت مبذلا حريريًا فوق ثوب نومها الابيض القصير، ولكنها تفاجأت بما ترى، انها ليلى.
برأسٍ مرفوع بالفطرة وعينان واثقتان مليئتان بالبرود وبإبتسامة ودودة جدًّا قالت لغريمتها:
- مرحبًا.
تلجلجت غيد لثوانٍ متشبّثة بأناملها بجانب الباب تنظُر الى ليلى برهبةٍ لا تدرك اسبابه، فلهذه المرأة هيبةً وهالةً من الفخامة تجعل كُلّ من يراها يشعُر بأنها ملكة، ملكة مبجّلة لا تستحق سوى الركوع امامها.
- مرحبا.
خرج صوتها اخيرًا جافًّا خافت النبرات، لتزداد ابتسامة ليلى وتهمس رافعة أحد حاجبيها:
- ألن تدعيني للدخول؟
- آسفة للغاية، تفضّلي.
ابتعدت لها عن الباب لتدلف بخطواتٍ وئيدة يتبعها حفيف ثوبها الملتفّ حول جسدها الممشوق، انها اصغر سنًّا مما يُقال، هذا ما فكّرت فيه غيد وهي تتأملها ولم تخفي اعجابها الغريب بهذه المرأة.
جلست ليلى على احد الأرائك ووضعت قدمًا فوق أُخري وبيدها المليئة بأساور ذهبية ناعمة ابعدت خصلات شعرها عن وجنتيها ولا زالت تتأمل المكان بتقييم:
- ذوقكِ لا بأس به، ولكن نصيحة منّي، لا تضعي اغطية الصوف على هذه الأريكة، ستبدوا اجمل بدونها.
ظلّت غيد واقفة تطالعها بحاجبٍ مرفوع تتسائلُ بداخلها عن سبب هذه الزيارة، بالتأكيد ليس لتنبهها على غطاء الصوف.
- شاي ام قهوة؟
- قهوتي كما يُحبّ آدم.
اجابتها ببساطة وكأنما تخاطب صديقتها المُقرّبة، لقد بدأت ترتعبُ من وجود هذه المرأة.
تركتها لتتجه الى المطبخ وتُحضّر القهوة بينما ظلّت ليلى تنظر اثرها وقد تحوّلت ابتسامتها الى لوحةً من الألم، فالتي كانت تحادثها قبل دقائق، تلك الطفلة التي تماثل عمرابنتها قد اخذت منها زوجها، سحبت بساط حياتها فجأة لتقلبها رأسًا على عقِب، بالرغم من انها ليس جميلة، واللهِ ليست بنصف جمالها، فقط عيناها الزرقاوين ما يجعلا منها مقبولة الشكل، ليست فاتنة مُطلقا.
زفرت انفاسًا حارقة وقلبها يشتعلُ من الغيرة والعصبية فلو تركت العنان لأوامر قلبها للحقتها وسحبتها من شعرها وألقت بها خارِجًا الّا ان عقلها يأمُرها بالتريُّث، فعقب زيارة كريمة -زوجة عم بناتها- وتلاعبها بالكلمات ستكون غبيّةً إن لم تتحرّك وتُصلح الأوضاع.
تأملتها من جديد وهي تحملُ القهوة مُتجهةً نحوها، انتبهت للتوّ لثيابها التي لا تجرؤ هي على إرتداء مثلها الّا بغُرفة زوجها، شعرت للحظة بغصّةٍ حادّة وهي تتخيّل شعور آدم وتلك الفتاة تسير امامهُ بتلك الثياب، قبضت على فنجان القهوة بقبضةٍ قوّية لكي لا تُظهر ارتجافها، وقد شعرت بحلقها جافًّا للغاية، ولكنها آثرت الصمت ولازالت تنظُرُ الى غيد بهدوءٍ لا يُظهر ايّ من المجازر التي تدورُ بداخلها.
هدأت قليلا بعد فترةٍ قصيرة ونظرت الى الكتاب الموضوع بجانبها، التقطته وافلتت من بين شفتيها ضحكةً حقيقية وهي تقرأُ عنوانه.
- لن تفيدكِ كُتُب العالم اجمع لمعرفة ما يدور بذهن آدم، فأنا لأكثر من عشرين عامًا برفقته ولم استطِع فهمه الى الآن.
- سيدة ليلى صدقيني انا لستُ ندًّا لكِ، انا اعرفُ تمامًا انكِ الأولى بحياته.
قالتها غيد وهي تفركُ اناملها بتوتُر وقد اتعبتها هذه الزيارة الثقيلة اكثر من اللازم بينما ارتفع انف ليلى بترفُّع وردّت عليها بنبرةٍ واثقة:
- اعلمُ يا عزيزتي، لن تكونين يومًا ندًّا لي.
واضافت وهي تضعُ فنجان القهوة على الطاولة:
- على العموم، بما انّكِ صِرتِ فردًا من هذه العائلة فيتوجبُ عليكِ التعرُّف على الجميع.
بعد غد اوّل ايام الشهر، وبهذا الوقت من كُلّ شهر تجتمع العائلة على وجبة الغداء بمنزلي، وبما انّكِ لم تتكرّمي وتأتي طوال الأشهُر الماضية منذُ زواجكِ ستأتين بالغد؛ فالجميع يقولون انّكِ متكبّرة وهذا لا يليقُ بزوجة آدم الزيات أليس كذلك؟
- سوف أُلبّي دعوتكِ بكُلّ تأكيد.
- إذن سأذهب، وسنلتقى غدًا.
قالتها وخرجت على الفور بينما تنفّست غيد الصعداء وهي تهمسُ بقلق:
- هل سأذهب الى عرين الأسد بقدميّ؟!
.
.
- اين هي حور؟
تسائل ما ان جلس على طاولة العشاء امام ليلى وابنتيها بينما سارعت فلك بالأجابة:
- إنها نائمة يا ابي.
رمقها بتساؤل لتُضيف ليلى بنبرةٍ باهتة:
- ابتدأت دراستهُنّ ولذلك تنام باكرًا.
نظر اليهنّ بعدم اقتناع وبدأ بتناول طعامه بصمت، كانت حينها حور بغُرفتها تتناول الشطائر التي حضرتها لها ميرال وتهمسُ بغيظ:
- لا بأس سأُريكِ يا غيد.
ارتفع حاجبيها بشرّ وهي تتأمل المقص الذي حضّرته خصيصًا لتنفذ خطتها.
- ابي، هل يُمكنني ان اطلُب منك شيء؟
قالتها فلك وهي تدلفُ لغُرفة والديها، التفت اليها ابيها واشار اليها لتأتي للجلوس بجانبه فربّت على وجنتيها بحنان:
- انت لا تطلُبي بل تأمُري يا حبيبتي، ما الأمر.
حسمت امرها واجابت دون تردد:
- أُريدُ ان اعمل.
- أي نوع من الأعمال؟
بدت نبرته حذرة بالرغم من خفوتها ليغزوا التوتُّر ملامحها:
- أنت تعلم انني تخرجتُ حديثًا ويجبُ ان ابدأ بالعمل على الفور لكي لا انسى ما درست.
- ابنتك تُريدُ مُساعدتك، ستعمل محاسِبة بشركتك.
قالتها ليلى وهي تنضمّ اليهما ليقول آدم بهدوء:
- لا اعلم، دعيني أُفكّر بالأمر.
ابتسمت فلك بأمل فعلى الأقل لم يغضب وسيُفكر بالأمر بجدّية.
- لا بأس، تُصبِحان على خير.
قالتها واتجهت لغُرفتها بينما قالت ليلى بإصرار:
- سيكون من الأفضل ان تجِد لها عملًا بجانبك لأني اريدها ان تعمل.
واضافت بشرود:
- لن احرمها من ما حرمتُ نفسي منه سابقا.
- هل ندمت على ترك عملك بمحل والدكِ؟
- ايما ندم!
قالتها بحسرة.
- ليلى، انا آسِفٌ للغاية.
قالها وهو يجلِسُ بجانبها، وكان بالفِعل يأسفُ على حالها، آخر ما قد يرغب به هو إيذاء مشاعرها، ليتها تعلم شعوره نحو غيد، ربما ستعذُره حينها، عندما تُدرك انهُ لا ينجذِبُ اليها بإرادته بل إن شيئًا ما خفيًّا يسحبُ قلبه نحوها، نحو فتاةً قُدّر لها ان تعيش معه طوال حياته، امرأةً فُرِضت عليه قسرًا وهو الذي لا يسيرُ الا بأوامر عقله، انتفض قلبه رُغمًا عنه وطلبها رهينةً الى الأبد، حيث لا فرار من جدران سجنها الّا بموتها او موته.
- لا يُمكنك ان تعتذر على رغباتك، انا اكثرُ من يعرِفُك يا آدم، لقد اعجبتك الفتاة ووجدت فيها اشياءً لا املكُها انها وبما ان الشرع قد منحك احقّية الزواج من انا لأُعارض؟.
همست اليه وهي تُمرر يدها على ذراعه دون ان تلتفت اليه الّا انّ اصابعه قبضت على ذقنها يرفعُ وجهها اليه، ابتسمت اليه حينها كطائر مذبوح فوجعتهُ ابتسامتها اكثر من ايّ شيءٍ في الدُنيا، ودّ لو صرخت، بكت، او صفعته ولكن لا تبتسم اليه بتلك الصورة الموجِعة.
نهضت مُبتعدةً عنه لتتجه الى طاولة الزينة، اخذت تتأمل ملامحها بتركيز وهي تمشط شعرها، لقد بدت نحيلة للغاية، ضحكت فجأة عندما تذكّرت مُلاحظة فلك، فقد قالت ان المشكلات والعصبية تُنقِص الوزن ودعّمت نظريتها بقوام حور هاوية المُشكلات بينما حلا التي تشبه حلوى الحلقوم ممتلئة القوام كقالب كعك غير آبهة بأي من ما يدور حولها من مصائب.
خفتت ضحكتها ووجدت عيناهُ المُتلصصتان تحرقان ظهرها، انهُ يراقبها عبر المِرآة ولكنها لا تهتم، ولن تهتمّ بعد اليوم.
رمقت زجاجة عطرها القديم، الذي كان يعشقه بالماضي وغيرتهُ منذ زواجه.
دون ارادةٍ منها كانت يدها تسحبه لتضع منه على عنقها، نفحةً واحدة جعلتها تشهقُ بشوق، وللحظةٍ طافت بذاكرتها كُلّ لحظاتهما الخاصّة، تلك اللحظات التي لا يرافقهما فيها سوى هذا العِطر.
شعرت به فجأةً يطوّقها بين ذراعيه، ظهرها مُلامِسًا لصدره وخفقات قلبه تطرُقُ جُدران قلبها بلا هوادة، عيناهُ تُحاصرانها بنظرته التي تُذيب الجليد حول قلبها وتُخبرها انّ كُلّ الدنيا تتوقّف عندما يطالعها.
امسك بقنينة العطر ورشّ رذاذه بسخاء حولها بينما تطالعهُ عبر المِرآةِ فاغرة الفم تائهة المشاعر وكأنها مُراهقة صغيرة، من قال بأن للحُبّ عُمرٌ مُعين او انّ لتلك المشاعر الهوجاء تاريخ انتهاء؟ فهذا الحُبّ ليس سوى بلسم الخلود الذي لا يفنى.
- هذا العطر المجنون يختلطُ بعبق هذا الجلد الناعم فيُفقدني صوابي.
همس وهو يديرها نحوه وينحني مُقبْلًا عُنقها بإشتهاء بينما كان هي ترتعِدُ كزهرةٍ في مهبّ الريح، غير قادرة على مقاومة مشاعرها ولكن كرامتها تئنُّ من الألم.
- ليلاي!
سالت دمعةً رفضت ان تُحاصَر تحت جفنيها المُطبقين وهمست بنحيب:
- آدم، ابتعد عنّي.
التمعت عينيه بمشاعرًا هادرة لم يقوى على كبحها، مشاعرًا تُهدد بقتله إن لم يقربها الآن، مسح دمعتها بشفتيه هامِسًا برجاءٍ خافت:
- لا يُمكنني الابتعاد، ليس اليوم يا حبيبتي، ليس اليوم.
همسته كانت آخر ما سمعتهُ قبل ان تهرُب معهُ نحو عالمهما الذي لا يوجد به سواهما، وعطرها العتيق.
عندما استيقظت فجر ذلك اليوم وجدته مُستيقِظًا يُطالعها بملامح مُتجهّمة وكأنما يُفكّر بمُعضلةٍ عويصة، ولم يمنحها فُرصةً للتفكير عندما قال لها بصوتٍ خافتٍ:
- غيد حامل.
تسمّرت ملامحها ورمقتهُ بنظرةٍ ضائعة، تحوّلت عينيها الى بركة عسل وثقُلت الدموع بداخلهما، بدت جامدة بلا حراك الّا انّ قلبها تهشّم الى شظايا صغيرة، حاولت ان تبتسم تلك الابتسامة الباردة اللامُبالية ولكنها لم تُفلِح، فقط استطاعت ان تهمس بصوتٍ لا يكادُ يُسمع لولا قربه الشديد من وجهها:
- حقًّا؟!
كان توسُّلًا اكثر من كونه سؤالا، رغبت ان ينفي حديثه ويضحك ضحكته التي تُزيلُ الحُزن عن قلبها ويُخبرها انّهُ يمزح ولن يسمح لإمرأةٍ في الدُنيا سواها ان تحمل اطفاله ولكنهُ وأد آخر آمالها عندما اومأ بالأيجاب وضغط على جروحها قائلًا:
- لقد شعرت بالإعياء قبل بضعة ايام، واخذتها للطبيبة لتُخبرنا بأنها تحملُ جنينًا بعُمر الشهرين.
شعرت بأن الكون يدورُ من حولها وهواء الغُرفة ينسحِبُ عن رئتيها فشهقت بإرتياع، عندها احسّت بعناقه الذي يحتويها هامسًا بندم:
- ارجوكِ لا تبكِ، لا تؤلميني يا ليلى.
انتزعت حينها نفسها من بين ذراعيه ونهضت مُبتعدة عنه، ولكنها التفتت اليه تلهثٌ بجنون، كانت حينها لوحةً رُسِم عليها القهر بأعمق صوره، عينيها الحمراوين المُحتقنين بالدموع ونظراتها الشرسة والألم المُحيط بها، لن ينسى هذه النظرة طوال حياته.
ركضت الى الحمام واغلقت الباب عليها لتصلهُ شهقةً خرجت من اعماق روحها، كمن غُرِس بجسده رمحًا مُسنن، تلاهُ صمتٌ غريب فقد آثرت ان تكتم نحيبها بكفيها مُحتفظةً بما تبقّى من كرامتها المُهدرة، وادركت انها خسرت شيئا لن تستطيع تعويضهُ مهما حاولت، فقد انتهت معركتها قبل ان تبدأ وفازت من ستحمِلُ ابنه.
لا تعلم كم من الوقت ظلّت تبكِ الّا انّها سمعت صوت الباب يُطرق وفلك تهمسُ بقلق:
- أُمّي، هل انتِ بخير؟
عندما لم تسمع صوتًا اعادت ضرب الباب بشدّة وهتفت بخوف:
- أُمّي ارجوكِ افتحي الباب، لقد ذهب ابي منذُ ساعتين وانت هنا، أُمّي!
فُتح الباب اخيرًا لتظهر والدتها بهئيةٍ موجعة، شعرها متناثِرٌ حول وجهها المُحمرّ وعيناها كبركة دماءٍ حمراء منتفخة ولكن نظرتها هي ما كسرت قلب فلك، كانت نظرة انهزامٍ لم تعرفه يومًا.
عندما اقتربت منها وضمتها انتحبت فجأةً في بكاءٍ حار، كانت تبكٍ بحُرقة وكأنما مات اعزّ احبابها وبالفعل قد مات في تلك اللحظة حُبّها لآدم، وللحظةٍ شعرت باليُتم الذي لم تشعُر به من قبل، يُتم فقد كُلّ ما تبقىّ لديها في الحياة. ثقُل جسدها وانفلتت من بين ذراعي ابنتها لتسقُط ارضًا ولا تسمعُ الّا صوت البُكاء.
صوت نحيب بناتها دفعها لفتح عينيها بتعب لتمس حور:
- أُمّي، حبيبتي.
شعرت بقبلاتهنّ على وجهها وكفّيها وثلاثتهُنّ يبكين دون توقُّف الى ان قالت لهُنّ ميرال بهدوء:
- ابتعِدن عنها قليلًا لتتنفّس.
اطعنها بالفعل بينما ظلّت حور مُمسكة بيدها ولا زالت الدموع على وجنتيها.
- انا بخير يا صغيراتي، فقط شعرتُ ببعض الإرهاق.
قالتها وجلست ولازال رأسها يئنُّ من الوجع، اسرعت اليها فلك لتعيدها الى الوسادة هامسة بحنان:
- لا تتحرّكي، استلقي واستريحي يا حبيبتي.
والتففت الى اختيها آمرة:
- هيا الى غرفتكما يا حلا، فليلى بحاجة للراحة، وانت يا ميرال اصنعي لها شيئا تتناوله.
خرجت الفتاتان وتبعتهما ميرال بينما اقتربت فلك لتجلس بجانب والدتها وتضُمّها دون ان تسألها عن ايّ شيء وربما كان هذا افضل ما تمنحه لها، المواساة الصامتة التي لا تحتاج لسواها، وقد ذكّرها هذا العناق بأنّ روحها تعود اليها من جديد ولكن بصورةٍ أُخرى منيعةً عن الألم.
طالما كانت فلك صديقتها اكثر من كونها ابنةً لها، فقد ولدتها بعُمرٍ صغير كانت فيه اكبر بقليل من طفلةٍ صغيرة، وكانت فلك لعبتها الأجمل والأوحد، احبّتها بفطرةٍ اموميّةٍ يانعة ومنحتها ثقتها وصداقتها الي ان غدت شابّةً جميلة، لا زالت تجِدُ فيها ابنةً وأُمًا لم تحظ بحنانها.
- هل ترغبين بأنّ أُعِدّ لكِ فطيرة التُفّاح؟ على الأرجح هي الشيء الوحيد الذي يمحو حزنك.
دفع سؤال ابنتها ابتسامةً دافئةً على وجنتيها لتُجيبها بحُب:
- اكثر من ايّ شيءٍ في الدُنيا.
.
.
قالتها ببراءة وهي تراقب وجه فلك المتوهّج بينما اخذت الأخيرةُ تنشغلُ بخلع حذائيها هامسة بتوتُّر:
- نعم يا ميرال، ما الأمر؟
- السيّدة ليلى تطلُبُ رؤيتك.
- حسنٌ، دقائق وسأذهب اليها.
اجابت بخفوت بينما ظلّت ميرال تراقبها بصمت، وعندما تواجهت نظراتهما تسائلت فلك:
- هل هنالك شيءٌ آخر؟
اومأت ميرال بالنفي واضافت بحنان:
- هل ترغبين بأن تُخبريني بأي شيء؟!
- لا، شكرا لك.
- لا بأس، ولكن اذا احتجتي اليّ سأكون هنا دائما.
خرجت لتتركها على راحتها، ولكنها مُدركة انّ فلك الصغيرة بحاجة للمُساعدة، وهي ستفعل كُلّ ما تستطيع لترُدّ اليها المعروف، فقد مرّ شهران على عملها ببيتهم وللغرابة استطاعت بسهولة ان تتأقلم معهم واعتادت طباعهم، وتتمنى ان تعمل طوال حياتها معهم فمن المُستحيل ان تملك نقودًا تخولها الإستقرار وحدها.
.
.
- انت تلعب بالنار يا عزيز، لا يمكنك ان تُلقي بشباكك حول ابنة آدم بهذه السهولة، حتى وإن احبّتك لن يسمح والدها ان يزوّجها لك، صدّقني قضيّتُك خاسرة من البداية.
علا صوت الموج وازدادت قتامة الليل المماثلة لملامح عزيز المتجهّمة بضيق بينما لم يُعطه اخيه فُرصةً للردّ واسرع يُضيف:
- لا تُقحِم فلك في دوّامة انتقامك.
التفت اليه عزيز وقبض على ياقة قميصه هاتفًا بجنون:
- انت لا تتدخّل، ولا تجعلني اتفوّه بما لن يُرضيك، إنشغل بشؤونك يا عمرو وابتعد عنّي.
- لن افعل يا عزيز، لن اسمح لك بأن تؤذي فتاةً مسكينة على حساب حقدك على ابيها لأنه سرق حبيبتك.
قالها عمرو بنبرةٍ هادرة قصد بها ايلامه علّهُ يستفيق من سكرات عشقه المُستحيل؛ فغيد قد تزوّجت وانتهى الأمر وكُلّ ما سيفعله لن يجعله سوى مُجرّد رجُلٍ وضيع وهو ليس كذلك.
- لا تقُل حبيبتي، غيد لم تعُد تعنيني صدّقني.
قالها بقوّةٍ وقلبه ينبضُ بكُرهٍ يهدد بحرق الدنيا، لا يعلم كيفّ مرّت تلك الأيامُ منذُ زواجها، لقد احبّها بصدق ولكنها مع اوّل بائعٍ غني سلّمت نفسها دون ان تلتفت للوراء، كان يحفِرُ في الصخر ليستطيع الإرتباط بها على الملأ، عمل ليل نهار ليشتري لها بيتًا صغيرًا يجمعهما ولكنها نقضت كل عهودها وباعته بأبخس الأثمان، باعت قلب رجُلٍ لن يعوضها عنه ملء البحر مالًا.
- ارجوك يا عزيز، انا اخيك الأكبر اتوسّلُ اليكَ ان لا تُحطّم قلب تلك المسكينة، افعل ايّ شيءٍ إنتقامًا لكرامتك ولكن ليس عن طريقها، صدّقني ستندم طوال حياتك.
قالها اخيه وغادر غاضِبًا خائفًا عليه من اهواء نفسه المُتعبة بينما جلس هو على الشاطىء وكلمات اخيه تترددُ بأُذُنيه، وللحظة اغمض عينيه واطلّت صورة غيد بخياله، استسلم لذكرياتٍ جمعتهما بذات المكان، حيث كان يهرُبُ بها من بيتها المُتهالك الى جنّة أحلامهما، هنا اعترف لها بالحُبّ لأوّل مرّة، هنا قبّل عينيها الزرقاوين، هنا أمسك بيدها ونظر الى وجهها كما لم ينظُر الى امرأةٍ من قبل.
تسرّبت الدموع من مُقلتيه حُزنًا على قلبه الساذج الذي يُهدر المُتبقيّ من كرامته نابضًا بإسم امرأةً خائنة.
.
.
آدم من اغرب الرجال الذين رأتهم في حياتها، انهُ ليس حادّ الطباع كما ظنّتهُ مُسبقًا بل يكادُ يكون مثالًا للهدوء والرزانه هذا بالطبع اذا استثنينا لحظات غضبه من تصرُّفاتها المُتهوّرة، فعدا ذلك يظلّان على وفاق في معظم الأوقات، وقد بدى انها اعتادت نمط حياتها، فثلاثة ايام بالأسبوع يظلّان سويًّا بشقّتها الجميلة وبقيّة الأيام تنفرِدُ فيها بنفسها وحيدةً بين تلك الجُدران، ولكن تلك الوحدة باتت متنفّسها للحياة بوجود مكتبتها الجميلة التي ابتاعت كُتُبها بنفسها، ولم يكُن له مانع بالطبع من تسليتها بتلك الأوراق طالما انها لم تعتّب باب غرفتها، كانت ترتشفُ قهوتها بتلذُذ وتغوص بكُلّ تركيزها في سطور كتاب يتحدُث عن الرجال وطريقة التعامُل معهُم، لم تشعُر بالفضول ببداية الأمر ولكن يبدوا ان محتواه قد راقها للغاية؛ وربما بإستطاعتها الأستفادة منه في التعامل مع زوجها غريب الأطوار.
في تلك الأثناء رنّ جرس الباب مُنبئًا بقدوم احد، ظنّتهُ احد صبيان آدم الذين يجلبون طلباتها التي اعطتها لهُ صباحًا، فإرتدت مبذلا حريريًا فوق ثوب نومها الابيض القصير، ولكنها تفاجأت بما ترى، انها ليلى.
برأسٍ مرفوع بالفطرة وعينان واثقتان مليئتان بالبرود وبإبتسامة ودودة جدًّا قالت لغريمتها:
- مرحبًا.
تلجلجت غيد لثوانٍ متشبّثة بأناملها بجانب الباب تنظُر الى ليلى برهبةٍ لا تدرك اسبابه، فلهذه المرأة هيبةً وهالةً من الفخامة تجعل كُلّ من يراها يشعُر بأنها ملكة، ملكة مبجّلة لا تستحق سوى الركوع امامها.
- مرحبا.
خرج صوتها اخيرًا جافًّا خافت النبرات، لتزداد ابتسامة ليلى وتهمس رافعة أحد حاجبيها:
- ألن تدعيني للدخول؟
- آسفة للغاية، تفضّلي.
ابتعدت لها عن الباب لتدلف بخطواتٍ وئيدة يتبعها حفيف ثوبها الملتفّ حول جسدها الممشوق، انها اصغر سنًّا مما يُقال، هذا ما فكّرت فيه غيد وهي تتأملها ولم تخفي اعجابها الغريب بهذه المرأة.
جلست ليلى على احد الأرائك ووضعت قدمًا فوق أُخري وبيدها المليئة بأساور ذهبية ناعمة ابعدت خصلات شعرها عن وجنتيها ولا زالت تتأمل المكان بتقييم:
- ذوقكِ لا بأس به، ولكن نصيحة منّي، لا تضعي اغطية الصوف على هذه الأريكة، ستبدوا اجمل بدونها.
ظلّت غيد واقفة تطالعها بحاجبٍ مرفوع تتسائلُ بداخلها عن سبب هذه الزيارة، بالتأكيد ليس لتنبهها على غطاء الصوف.
- شاي ام قهوة؟
- قهوتي كما يُحبّ آدم.
اجابتها ببساطة وكأنما تخاطب صديقتها المُقرّبة، لقد بدأت ترتعبُ من وجود هذه المرأة.
تركتها لتتجه الى المطبخ وتُحضّر القهوة بينما ظلّت ليلى تنظر اثرها وقد تحوّلت ابتسامتها الى لوحةً من الألم، فالتي كانت تحادثها قبل دقائق، تلك الطفلة التي تماثل عمرابنتها قد اخذت منها زوجها، سحبت بساط حياتها فجأة لتقلبها رأسًا على عقِب، بالرغم من انها ليس جميلة، واللهِ ليست بنصف جمالها، فقط عيناها الزرقاوين ما يجعلا منها مقبولة الشكل، ليست فاتنة مُطلقا.
زفرت انفاسًا حارقة وقلبها يشتعلُ من الغيرة والعصبية فلو تركت العنان لأوامر قلبها للحقتها وسحبتها من شعرها وألقت بها خارِجًا الّا ان عقلها يأمُرها بالتريُّث، فعقب زيارة كريمة -زوجة عم بناتها- وتلاعبها بالكلمات ستكون غبيّةً إن لم تتحرّك وتُصلح الأوضاع.
تأملتها من جديد وهي تحملُ القهوة مُتجهةً نحوها، انتبهت للتوّ لثيابها التي لا تجرؤ هي على إرتداء مثلها الّا بغُرفة زوجها، شعرت للحظة بغصّةٍ حادّة وهي تتخيّل شعور آدم وتلك الفتاة تسير امامهُ بتلك الثياب، قبضت على فنجان القهوة بقبضةٍ قوّية لكي لا تُظهر ارتجافها، وقد شعرت بحلقها جافًّا للغاية، ولكنها آثرت الصمت ولازالت تنظُرُ الى غيد بهدوءٍ لا يُظهر ايّ من المجازر التي تدورُ بداخلها.
هدأت قليلا بعد فترةٍ قصيرة ونظرت الى الكتاب الموضوع بجانبها، التقطته وافلتت من بين شفتيها ضحكةً حقيقية وهي تقرأُ عنوانه.
- لن تفيدكِ كُتُب العالم اجمع لمعرفة ما يدور بذهن آدم، فأنا لأكثر من عشرين عامًا برفقته ولم استطِع فهمه الى الآن.
- سيدة ليلى صدقيني انا لستُ ندًّا لكِ، انا اعرفُ تمامًا انكِ الأولى بحياته.
قالتها غيد وهي تفركُ اناملها بتوتُر وقد اتعبتها هذه الزيارة الثقيلة اكثر من اللازم بينما ارتفع انف ليلى بترفُّع وردّت عليها بنبرةٍ واثقة:
- اعلمُ يا عزيزتي، لن تكونين يومًا ندًّا لي.
واضافت وهي تضعُ فنجان القهوة على الطاولة:
- على العموم، بما انّكِ صِرتِ فردًا من هذه العائلة فيتوجبُ عليكِ التعرُّف على الجميع.
بعد غد اوّل ايام الشهر، وبهذا الوقت من كُلّ شهر تجتمع العائلة على وجبة الغداء بمنزلي، وبما انّكِ لم تتكرّمي وتأتي طوال الأشهُر الماضية منذُ زواجكِ ستأتين بالغد؛ فالجميع يقولون انّكِ متكبّرة وهذا لا يليقُ بزوجة آدم الزيات أليس كذلك؟
- سوف أُلبّي دعوتكِ بكُلّ تأكيد.
- إذن سأذهب، وسنلتقى غدًا.
قالتها وخرجت على الفور بينما تنفّست غيد الصعداء وهي تهمسُ بقلق:
- هل سأذهب الى عرين الأسد بقدميّ؟!
.
.
- اين هي حور؟
تسائل ما ان جلس على طاولة العشاء امام ليلى وابنتيها بينما سارعت فلك بالأجابة:
- إنها نائمة يا ابي.
رمقها بتساؤل لتُضيف ليلى بنبرةٍ باهتة:
- ابتدأت دراستهُنّ ولذلك تنام باكرًا.
نظر اليهنّ بعدم اقتناع وبدأ بتناول طعامه بصمت، كانت حينها حور بغُرفتها تتناول الشطائر التي حضرتها لها ميرال وتهمسُ بغيظ:
- لا بأس سأُريكِ يا غيد.
ارتفع حاجبيها بشرّ وهي تتأمل المقص الذي حضّرته خصيصًا لتنفذ خطتها.
- ابي، هل يُمكنني ان اطلُب منك شيء؟
قالتها فلك وهي تدلفُ لغُرفة والديها، التفت اليها ابيها واشار اليها لتأتي للجلوس بجانبه فربّت على وجنتيها بحنان:
- انت لا تطلُبي بل تأمُري يا حبيبتي، ما الأمر.
حسمت امرها واجابت دون تردد:
- أُريدُ ان اعمل.
- أي نوع من الأعمال؟
بدت نبرته حذرة بالرغم من خفوتها ليغزوا التوتُّر ملامحها:
- أنت تعلم انني تخرجتُ حديثًا ويجبُ ان ابدأ بالعمل على الفور لكي لا انسى ما درست.
- ابنتك تُريدُ مُساعدتك، ستعمل محاسِبة بشركتك.
قالتها ليلى وهي تنضمّ اليهما ليقول آدم بهدوء:
- لا اعلم، دعيني أُفكّر بالأمر.
ابتسمت فلك بأمل فعلى الأقل لم يغضب وسيُفكر بالأمر بجدّية.
- لا بأس، تُصبِحان على خير.
قالتها واتجهت لغُرفتها بينما قالت ليلى بإصرار:
- سيكون من الأفضل ان تجِد لها عملًا بجانبك لأني اريدها ان تعمل.
واضافت بشرود:
- لن احرمها من ما حرمتُ نفسي منه سابقا.
- هل ندمت على ترك عملك بمحل والدكِ؟
- ايما ندم!
قالتها بحسرة.
- ليلى، انا آسِفٌ للغاية.
قالها وهو يجلِسُ بجانبها، وكان بالفِعل يأسفُ على حالها، آخر ما قد يرغب به هو إيذاء مشاعرها، ليتها تعلم شعوره نحو غيد، ربما ستعذُره حينها، عندما تُدرك انهُ لا ينجذِبُ اليها بإرادته بل إن شيئًا ما خفيًّا يسحبُ قلبه نحوها، نحو فتاةً قُدّر لها ان تعيش معه طوال حياته، امرأةً فُرِضت عليه قسرًا وهو الذي لا يسيرُ الا بأوامر عقله، انتفض قلبه رُغمًا عنه وطلبها رهينةً الى الأبد، حيث لا فرار من جدران سجنها الّا بموتها او موته.
- لا يُمكنك ان تعتذر على رغباتك، انا اكثرُ من يعرِفُك يا آدم، لقد اعجبتك الفتاة ووجدت فيها اشياءً لا املكُها انها وبما ان الشرع قد منحك احقّية الزواج من انا لأُعارض؟.
همست اليه وهي تُمرر يدها على ذراعه دون ان تلتفت اليه الّا انّ اصابعه قبضت على ذقنها يرفعُ وجهها اليه، ابتسمت اليه حينها كطائر مذبوح فوجعتهُ ابتسامتها اكثر من ايّ شيءٍ في الدُنيا، ودّ لو صرخت، بكت، او صفعته ولكن لا تبتسم اليه بتلك الصورة الموجِعة.
نهضت مُبتعدةً عنه لتتجه الى طاولة الزينة، اخذت تتأمل ملامحها بتركيز وهي تمشط شعرها، لقد بدت نحيلة للغاية، ضحكت فجأة عندما تذكّرت مُلاحظة فلك، فقد قالت ان المشكلات والعصبية تُنقِص الوزن ودعّمت نظريتها بقوام حور هاوية المُشكلات بينما حلا التي تشبه حلوى الحلقوم ممتلئة القوام كقالب كعك غير آبهة بأي من ما يدور حولها من مصائب.
خفتت ضحكتها ووجدت عيناهُ المُتلصصتان تحرقان ظهرها، انهُ يراقبها عبر المِرآة ولكنها لا تهتم، ولن تهتمّ بعد اليوم.
رمقت زجاجة عطرها القديم، الذي كان يعشقه بالماضي وغيرتهُ منذ زواجه.
دون ارادةٍ منها كانت يدها تسحبه لتضع منه على عنقها، نفحةً واحدة جعلتها تشهقُ بشوق، وللحظةٍ طافت بذاكرتها كُلّ لحظاتهما الخاصّة، تلك اللحظات التي لا يرافقهما فيها سوى هذا العِطر.
شعرت به فجأةً يطوّقها بين ذراعيه، ظهرها مُلامِسًا لصدره وخفقات قلبه تطرُقُ جُدران قلبها بلا هوادة، عيناهُ تُحاصرانها بنظرته التي تُذيب الجليد حول قلبها وتُخبرها انّ كُلّ الدنيا تتوقّف عندما يطالعها.
امسك بقنينة العطر ورشّ رذاذه بسخاء حولها بينما تطالعهُ عبر المِرآةِ فاغرة الفم تائهة المشاعر وكأنها مُراهقة صغيرة، من قال بأن للحُبّ عُمرٌ مُعين او انّ لتلك المشاعر الهوجاء تاريخ انتهاء؟ فهذا الحُبّ ليس سوى بلسم الخلود الذي لا يفنى.
- هذا العطر المجنون يختلطُ بعبق هذا الجلد الناعم فيُفقدني صوابي.
همس وهو يديرها نحوه وينحني مُقبْلًا عُنقها بإشتهاء بينما كان هي ترتعِدُ كزهرةٍ في مهبّ الريح، غير قادرة على مقاومة مشاعرها ولكن كرامتها تئنُّ من الألم.
- ليلاي!
سالت دمعةً رفضت ان تُحاصَر تحت جفنيها المُطبقين وهمست بنحيب:
- آدم، ابتعد عنّي.
التمعت عينيه بمشاعرًا هادرة لم يقوى على كبحها، مشاعرًا تُهدد بقتله إن لم يقربها الآن، مسح دمعتها بشفتيه هامِسًا برجاءٍ خافت:
- لا يُمكنني الابتعاد، ليس اليوم يا حبيبتي، ليس اليوم.
همسته كانت آخر ما سمعتهُ قبل ان تهرُب معهُ نحو عالمهما الذي لا يوجد به سواهما، وعطرها العتيق.
عندما استيقظت فجر ذلك اليوم وجدته مُستيقِظًا يُطالعها بملامح مُتجهّمة وكأنما يُفكّر بمُعضلةٍ عويصة، ولم يمنحها فُرصةً للتفكير عندما قال لها بصوتٍ خافتٍ:
- غيد حامل.
تسمّرت ملامحها ورمقتهُ بنظرةٍ ضائعة، تحوّلت عينيها الى بركة عسل وثقُلت الدموع بداخلهما، بدت جامدة بلا حراك الّا انّ قلبها تهشّم الى شظايا صغيرة، حاولت ان تبتسم تلك الابتسامة الباردة اللامُبالية ولكنها لم تُفلِح، فقط استطاعت ان تهمس بصوتٍ لا يكادُ يُسمع لولا قربه الشديد من وجهها:
- حقًّا؟!
كان توسُّلًا اكثر من كونه سؤالا، رغبت ان ينفي حديثه ويضحك ضحكته التي تُزيلُ الحُزن عن قلبها ويُخبرها انّهُ يمزح ولن يسمح لإمرأةٍ في الدُنيا سواها ان تحمل اطفاله ولكنهُ وأد آخر آمالها عندما اومأ بالأيجاب وضغط على جروحها قائلًا:
- لقد شعرت بالإعياء قبل بضعة ايام، واخذتها للطبيبة لتُخبرنا بأنها تحملُ جنينًا بعُمر الشهرين.
شعرت بأن الكون يدورُ من حولها وهواء الغُرفة ينسحِبُ عن رئتيها فشهقت بإرتياع، عندها احسّت بعناقه الذي يحتويها هامسًا بندم:
- ارجوكِ لا تبكِ، لا تؤلميني يا ليلى.
انتزعت حينها نفسها من بين ذراعيه ونهضت مُبتعدة عنه، ولكنها التفتت اليه تلهثٌ بجنون، كانت حينها لوحةً رُسِم عليها القهر بأعمق صوره، عينيها الحمراوين المُحتقنين بالدموع ونظراتها الشرسة والألم المُحيط بها، لن ينسى هذه النظرة طوال حياته.
ركضت الى الحمام واغلقت الباب عليها لتصلهُ شهقةً خرجت من اعماق روحها، كمن غُرِس بجسده رمحًا مُسنن، تلاهُ صمتٌ غريب فقد آثرت ان تكتم نحيبها بكفيها مُحتفظةً بما تبقّى من كرامتها المُهدرة، وادركت انها خسرت شيئا لن تستطيع تعويضهُ مهما حاولت، فقد انتهت معركتها قبل ان تبدأ وفازت من ستحمِلُ ابنه.
لا تعلم كم من الوقت ظلّت تبكِ الّا انّها سمعت صوت الباب يُطرق وفلك تهمسُ بقلق:
- أُمّي، هل انتِ بخير؟
عندما لم تسمع صوتًا اعادت ضرب الباب بشدّة وهتفت بخوف:
- أُمّي ارجوكِ افتحي الباب، لقد ذهب ابي منذُ ساعتين وانت هنا، أُمّي!
فُتح الباب اخيرًا لتظهر والدتها بهئيةٍ موجعة، شعرها متناثِرٌ حول وجهها المُحمرّ وعيناها كبركة دماءٍ حمراء منتفخة ولكن نظرتها هي ما كسرت قلب فلك، كانت نظرة انهزامٍ لم تعرفه يومًا.
عندما اقتربت منها وضمتها انتحبت فجأةً في بكاءٍ حار، كانت تبكٍ بحُرقة وكأنما مات اعزّ احبابها وبالفعل قد مات في تلك اللحظة حُبّها لآدم، وللحظةٍ شعرت باليُتم الذي لم تشعُر به من قبل، يُتم فقد كُلّ ما تبقىّ لديها في الحياة. ثقُل جسدها وانفلتت من بين ذراعي ابنتها لتسقُط ارضًا ولا تسمعُ الّا صوت البُكاء.
صوت نحيب بناتها دفعها لفتح عينيها بتعب لتمس حور:
- أُمّي، حبيبتي.
شعرت بقبلاتهنّ على وجهها وكفّيها وثلاثتهُنّ يبكين دون توقُّف الى ان قالت لهُنّ ميرال بهدوء:
- ابتعِدن عنها قليلًا لتتنفّس.
اطعنها بالفعل بينما ظلّت حور مُمسكة بيدها ولا زالت الدموع على وجنتيها.
- انا بخير يا صغيراتي، فقط شعرتُ ببعض الإرهاق.
قالتها وجلست ولازال رأسها يئنُّ من الوجع، اسرعت اليها فلك لتعيدها الى الوسادة هامسة بحنان:
- لا تتحرّكي، استلقي واستريحي يا حبيبتي.
والتففت الى اختيها آمرة:
- هيا الى غرفتكما يا حلا، فليلى بحاجة للراحة، وانت يا ميرال اصنعي لها شيئا تتناوله.
خرجت الفتاتان وتبعتهما ميرال بينما اقتربت فلك لتجلس بجانب والدتها وتضُمّها دون ان تسألها عن ايّ شيء وربما كان هذا افضل ما تمنحه لها، المواساة الصامتة التي لا تحتاج لسواها، وقد ذكّرها هذا العناق بأنّ روحها تعود اليها من جديد ولكن بصورةٍ أُخرى منيعةً عن الألم.
طالما كانت فلك صديقتها اكثر من كونها ابنةً لها، فقد ولدتها بعُمرٍ صغير كانت فيه اكبر بقليل من طفلةٍ صغيرة، وكانت فلك لعبتها الأجمل والأوحد، احبّتها بفطرةٍ اموميّةٍ يانعة ومنحتها ثقتها وصداقتها الي ان غدت شابّةً جميلة، لا زالت تجِدُ فيها ابنةً وأُمًا لم تحظ بحنانها.
- هل ترغبين بأنّ أُعِدّ لكِ فطيرة التُفّاح؟ على الأرجح هي الشيء الوحيد الذي يمحو حزنك.
دفع سؤال ابنتها ابتسامةً دافئةً على وجنتيها لتُجيبها بحُب:
- اكثر من ايّ شيءٍ في الدُنيا.
.
.