الفصل الخامس

- ليلى.
توقّفت عن تسريح شعرها عندما دلف على حين غرة يناديها بكُلّ بساطة وكأنه لم يكاد يقتُلها قبل يومين بخبر حمل غيد.
- اخرج الى الضيوف، انا سألحقُ بك على الفور.
تقدّم منها هامسًا بتذمُّر:
- من الضيوف؟ انهم عائلتنا.

تأمل ثوبها القرمزيّ القصير الذي انسدل على قامتها الهيفاء بنعومةٍ بالغة ليُنهي دهشة الناظرين الى منتصف ساقيها بينما اكمامه القصيرة مُغطاة بشال صوفي اسود ماثل لون شعرها الناعم المُتساقط علي خصرها بفتنه، بينما عيناها استعادت لونها العسليّ اللامع المُحاط برموش طويلة مُكتحلة بطبيعة، وحمرة شفتيها، إنها نُقطة ضعفه، تلك الحُمرة القرمزيّة الداكنة على شفتين كحبّات الكرز، انها ملكة، كما كانت طوال حياتها، دون تصنُّع تستطيع سلب لُبّه بنظرة واحدة من عينيها الجميلتين.

امتدّت نظرته لبضعة ثوانٍ عندما نهضت ملتفتةً اليه، بالرغم من ارتجاف قلبها الّا انّ الرفض بات جليًّا على ملامحها عندما اقتربت لتتقدمه الّا انّهُ سحب معصمها مُقيّدًا اياها بين ذراعيه لتهمس بحدّة:
- ابتعد عن طريقي يا آدم، صدّقني انت آخر من قد ارغب برؤيته اليوم.
كانت كلماتها غاية في القسوة ولم يكن آدم متوقعًا هذا الجفاء لذا نفض يده عنها وتقدّم بملامح صلبه لتتبعه وعلى وجهها ذات الملامح، وكلاهُما مُضطرّان قضاء هذه الساعات كزوجين مُحبّين وكلاهما لا يعرف الخداع.

تقدّمت ليلى لتُلقي التحيّة على بحر وبلال اللذان نهضا لمعانقتها وكانت ميرال تراقبهما من الداخل، قبل فترة قصيرة عرفت ان بحر هو الأخ غير الشقيق لليلى، فوالدتها تزوّجت برجُل آخر بعد وفاة ابيها وانجبت منه بحر وبلال بينما تربّت ليلى في كنف عائلة والدها وتزوّجت من ابن عمها آدم الزيات.
- كيف حالك يا حبيبي، اشتقت اليك كثيرًا، لماذا لا تأتي لزيارتي؟
قالت ليلى وهي تضُمّ اخيها الصغير الذي ضحك هامِسًا بخجل:
- توقّفي عن تقبيلي كما الأطفال، لذلك انا لا ازوركِ.

ضحكت بحنان وعادت لمعانقته وسط ضحكات الجميع فإنسحب منها عنوة ووجنتاه محمرتان وابتعد ليجلس بعيدا بينما شاركته حلا الاريكة وعبثت بشعره الطويل هامسة بمرح:
- خالي بلال الجميل.
- توقفي عن مناداتي بخالي بلال الجميل.

قلدها بغيظ لتردف بمشاكسة:
- انا اعتبرك فردًا كبيرًا لما تغضب، حسنٌ يا حبيبي، كيف تسير المدرسة؟ بالطبع تركت صيد الأسماك فور بداية الدراسة أليس كذلك؟
- نعم.
تأفف بنفاذ صبر وهمس:
- سأذهبُ الى المطبخ، فقد شعرتُ بالعطش.
ونهض تاركًا اياها تضحك على مزاجه الغاضب دومًا، إنه فتى لطيف.

- تبدين جميلة للغاية اليوم.
قال بحر مُقبّلًا يد أُخته التي همست اليه بغرور:
- انا جميلة كُلّ يوم ولكنّك لا تراني سوى مرّة كُلّ عام.
ابتسم وقال:
- انتِ تعلمي انشغالي بالعمل يا عزيزتي، وايضًا هذه الأيام ابي مريض قليلًا وابقى معه معظم الوقت.
اتّشحت ملامحها بالقلق على زوج والدتها الطيّب فهمست:
- ما به العم جمال؟

اجاب بحر وقد فطنت للتوّ لملامحه المُجهدة:
- تعلمين حُبّه العظيم للبحر، هو يُصرّ على امتهان الصيد وانا منشغل بأعمالي ولا استطيع مساعدته كما انّ بلال بدأ عامه الدراسي، وابي يرفض البقاء في المنزل وحده.
ربّتت على يديه هامسة بحنان:
- لا تقلق يا حبيبي، انا سأذهبُ اليه واحاول اقناعه، اعلم انّهُ يُحبّني للغاية.
وافقها وهو يقول مبتسما:
- بالفعل يُحبّكِ كثيرًا، ودوما ما يخبرني انّكِ نُسخة عن أُمّنا.

- بحر، انا بحاجةٍ اليك.
قالتها فجأة عندما تذكّرت انّهُ الوحيد القادر على الوقوف بجانبها، انّهُ سندها الذي لن يتنكّر يومًا عليها.
لمح هو شحوب ابتسامتها وامتلاء عينيها بالدموع فسحبها بعيدًا وهمس اليها بقلق:
- ما الأمرُ يا ليلى؟ ماذا هناك؟
طرفت بعينيها لتمنع دموعها من النزول ونظرت الى بناتها وبقيّة العائلة لتعود بنظراتها اليه وتقول:
- ليس الآن يا عزيزي، سنتحدث ولكن ليس اليوم، هيا بنا لنعود اليهم.
وقبل ان يعترض كانت قد سحبته ليجلسوا بالصالة الكبيرة حيث حضرت ميساء ابنه اخت آدم، واخيه وأُسرته، كانت عائلتهم كبيرة ودافئة لولا دخول تلك الحيّة اليها.

.
.

- اريد بعض الماء لو سمحتي.
التفتت ميرال فخفق قلبها بشدّة عند رؤية بلال، فقد ذكّرها بوجوهًا كانت تعرفها، لقد شعرت بأن الزمان عاد لما قبل السجن حيث كان لها اناسًا تُحبُّهم وملامح هذا الفتى لا تشبه ايّ منهم الّا انها جذبتها بصورة اوجعت قلبها، حاولت نزع نظراتها عنه عندما اطالت النظر فسارعت تمِدُّ اليه كوب الماء بيدين مرتجفتين الى ان انسكب بعض منه على قميصه فسارعت بالهمس بتلجلُج:

- آسفة، لم اقصد سكبه.
تطلّع حينها اليها مُستغربًا تصرُّفاتها ونظراتها الغريبة فقال بهدوء:
- لا بأس.
اخذ الكوب وخرج ولازالت تضعُ يدها على قلبها تُهدئ من روعه.
- يا إلهي!  ما الذي يحدُث لي؟

همست بإرتياع وألقت بثقلها على المقعد واخذت تُمسّدُ جبينها بأناملها غير قادرة على التحكُّم بإرتجافها، الّا انّ بحر دلف هو الآخر ليجدها على تلك الهيئة وبالرغم من رغبته في تجاهُلها الّا انّ عينيه افلتت رغمًا عنه لتتفحصها بنظرات خفيّة، ولا زالت صورتها وهي تفتح لهم الباب عالقة بذهنه، عندما ابتسمت اليهم بلباقة لتظهر غمازتين كانتا مختبئتان خلف وجنتيها اللتان امتلأتا بحيوية وقد فقد وجهها لونه الأسمر المحترق من الشمس ليغدوا ابيضًا شاحبًا بصورة تخلِبُ الألباب، وكانت في تلك اللحظة ابعد ما يكون عن الخدم.

لشرودها الشديد لم تنتبه اليه عندما دخل فنهضت لتصطدم به وكادت ان تسقُط لولا يده التي امسكت بخصرها فنظرت إليه بأعينٍ زائغة ليهمس بنبرةٍ غامضة ارتجف لها سائر جسدها:
- هل انتِ بخير يا غزالة؟!
همهمت بشرود وحاولت دفعه الّا انّهُ بدى كسدٍ منيع وقد اسرتهُ نظراتها التائهة فغرق ببحور خيوط عينيها الشبيهة بالمفقرعات النارية بألوانها الخضراء والزرقاء المتشابكة في حدقتين كبيرتين سكنتا احلامه منذُ اوّل ليلة لمحهما.

ولم تكُن هي على مبعد من جنون تلك الثواني فقد اخفضت بصرها نحو عنقه تراقب اضطراب انفاسه وبداخلها شيئًا غريبًا لا تفهم معناه، شيئًا دفعها للنظر بعينيه من جديد لتشعُر بقلبه يهدرُ تحت كفها وعينيه مغُلّفة ببريقٍ داكنٍ ونظرتهما مرتكزة على شفتيها، قرّبها نحوه اكثر وتراجع للخلف بضعة خطوات لتصطدم يده بكوبٍ زجاجي سقط من على الطاولة ليوقظه من غفوة عقله، دفعها حينها برفق وابتعد تاركًا اياها تلهث بجنون ودموعًا حارّة تسيلُ على وجنتيها، لقد كادت ان تغترف إثما عظيمًا دون ان تشعُر.

- يا إلهي، ميرال يدكِ تنزف.
قالتها فلك التي دلفت للمطبخ ووجدتها تجمع الزجاج، نظرت حينها ليدها والدم يسيل منها لتهمس بهدوء وكأنما استفاقت من حُلمٍ طويل:
- انه جُرح صغير، لا يؤلم.
وكان ذلك الجُرح بقلبها، قلبها الذي لم تعرف انّهُ ينبض بعد كل تلك السنوات سوى قبل بضع لحظات وكاد ان يقودها الى حافّة الهاوية.

.
.

رنّ جرس الباب فإلتفت الجميع نحوه فعلى حسب ما يذكرون لن يكون هنالك زائر جديد.
- سأذهب لأفتح الباب.
قالت ليلى وتوجهت للخارج، عادت بعد دقائق واتجهت اعيُن الجميع لمن ظهرت من خلفها، اتسعت عينا عمران وهو يرى زوجة عمّه الحسناء ولكنه سارع بخفض بصره مُدرِكًا انّ هذه النظرة قد تكلفه حياته وهو غير مُستعد للموت.

بينما ارتفع رأس آدم كالصقر وهو يلمحها تتقدم بخطواتٍ بطيئة، قد ارتدت ثوبًا طويلا بلون البنفسج لا يُظهرُ منها شيئًا لتتفادى غضبه وقامت بتمليس خصلات شعرها المُجعّدة وجمعتها في كعكة انيقة تتساقط منها بعض الخصلات النافرة، حتى وجهها باهِتًا دون ايّة زينة بينما ليلى تتألق كالأميرات بثيابها القصيرة.
شعرت بالندم للحظة وهي ترى اعيُن الجميع تترصّدها ومعظمها او كلها ترفض وجودها هنا.

- ها قد اكتملت العائلة.
قالت ليلى وهي تُشير اليها بينما نهض آدم ليتجه اليهما وعندما وصل وقبل ان يقول ايّ شيء تفاجأ بليلى تعانقه وتهمس بصوتٍ ميّت ولكنهُ واضحٌ للجميع:
- مُباركٌ يا ابا فلك، اتمنّى ان تكون غيد تحمِلُ صبيًّا يكون نعم العون لأخواته.
كان الجميع منذهلون لقوّة هذه المرأة، والبعض يحسدها على هذه الصلابة وحدهُ بحر الذي عرِف سبب دموعها قبل قليل، إنها تتألم دون ان تُظهر ذلك لأحد.

ران صمتٌ طويل قطعتهُ زوجة عمّ فلك التي هتفت بسعادة:
- مباركٌ يا غالي، مباركٌ يا غيد فليُتمم اللهُ حملكِ على خير وتجلبين لنا الصبي.
ابتلعت ليلى غصّة عذاب وهي ترمقُ الجميع بهدوء:
- إذن تفضّلوا لغُرفة الطعام.
تقدّم الجميع وعندها التفتت ليلى لبناتها اللاتي لم يتحرّكن من مكانهنّ، وكانت بأعيُنهنّ نظرةً وجعٍ وقهرٍ عظيم، وكانت حور تشتعل من الجنون، وكأن شيطنًا تلبّسها، اقتربت منها ليلى هامسة برجاء:
- لأجلي يا بناتي، لأجل كبريائي لا تفتعلن مُصيبة، لا تُظهرن حسرتي لأحد.

نظرت اليهنّ من جديد وقتربت لتُمسِك بكفّ حور التي هي اقرب قطعة من روحها:
- هيا يا حبيبتي، ارجوكِ.
اتّجهتا لغُرفة الطعام وقد غدت العزيمة اثقل عبء على الجميع، ولكن حاولت فلك لعب دور الهدوء واتقنتهُ بشدّة ولكن نظراتها لم تبتعد عن والدتها، تتفقدها بين الحين والآخر تستمِدُّ منها قوّةً لا تمتلكها بينما حلا وحور ترمقان زوجة والدهما بعداءٍ واضح ويبدوا ان قدوم اخ لهُنّ لم يكُن سببًا في هدوء علاقتهم بل زاد حدّتها.

- لماذا اتيتِ؟!
همس بها آدم وهو على وشك الإختناق لتجيبه وهي ترتجف دون ارادةٍ منها:
- أُقسِم لم آتي دون دعوة، لقد اتت ليلى ودعتني بنفسها.
اشفق عليها عندما لاحظ حالتها والرُعب جليُّ على ملامحها ورغب بأن يُبعدها عن كُلّ تلك الأعيُن الكارهة لها، وضع يده على يدها هامسًا بخفوت:
- لا بأس، لا ترتعبي بهذه الطريقة، إهدأي.

زفرت انفاسها بتمهُّل وحاولت التخلُّص من خوفها؛ فعلى الأقلّ هو بجانبها ولن يسمح لأحد بأن يؤذيها.
- هيا تناولي هذا الطعام، فأنتِ بحاجة الى التغذية.
همسته التي وصلت الى أُذُني حور جعلتها تهمس لوالدتها بحدّة:
- اسمحي لي يا أُمّي بنتف شعرها وسحق رأسها بهذه الطاولة.
- إهدأي يا حبيبتي، ارجوكِ.
قالتها ليلى وهي تنظُر لمن حولها بملامح مُتعبة لا ترغبُ بشيءٍ سوى ان تطرُد الجميع وتلتجئ لغُرفتها لتبكي دون ان يراها احد.

اخيرًا انتهت تلك اللحظات الكارثيّة وغادر احمد وابنائه وزوجته الحقودة ولحقت بهم ميساء وطفلها بينما طلب بحر من ليلى ان تذهب معه لبيتهم الّا انّها رفضت بشدّة واخبرتهُ بأنها ستحادثهُ في الغد لأنها لن تستطيع ترك الفتيات لوحدهن فودعها مُجبرًا هو واخيه ولم يتبقّى سوى آدم وزوجتيه وبناته، كانت غيد على وشك السقوط من النعاس فرافقها آدم وظلّت الثلاث زهرات الذابلات برفقة والدتهنّ يحاولن اقتسام الحزن والألم علّه يتلاشى إلّا انّهُ يزداد كحريقٍ بأرضٍ يباس.

.
.

صباحًا، كان آدم غافيًا بالغُرفة المجاورة لغرفة غيد بعد ان جافاه النوم فتركها لتنعم بالراحة، ورغما عنه يجتاحه نحوها اهتمامًا خاص منذُ معرفته بخبر حملها فآثر منذ ذلك الوقت ان يعاملها برفق ويُنسيها فقد والدتها، لأنها ستحتاجها بالتأكيد ولن يستطيع هو ان يسمح لها برؤيتها.

وبغرفتها، فتحت غيد عينيها وهي تشعُر بشيء غريب، فقد لمحت ضوء الشمس على الفور ولم تحجبه عنها خصلاتها شعرها الكثيفة، رفعت رأسها لتصرُخ فجأةً صرخةً ايقظت آدم فزِعًا فركض الى غُرفتها ليجدها لا زالت تصرُخ بعدم تصديق وخصلات شعرها الطويلة المتشابكة مقصوصة بعشوائية ومتناثرة على وسادتها...

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

فصل قبل الموعد.

وغيد تم قص شعرها

سيكون التركيز في الفصول القادمة على ميرال وحياتها قبل السجن وايضا حياة عزيز.

ربما يكون هنالك فصل الخميس ايضا

مع حبي❤❤❤

فايا
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي