الفصل السادس
- إهدأي يا غيد، توقّفي عن البكاء انتِ تؤذين نفسك.
ضمّها وقد مرّت اكثر من ساعتين وهو يحاول تهدئتها إلّا انّ بكائها لم يخف، كانت تبكي بحُرقة كمن فقدت عزيزًا وقد آلم بكائها قلبه، واقسم ان يعاقب من فعل تلك الفعلة شرّ عقاب.
اخذ هاتفه وضغط على رقمها ليأتيه صوتها ناعسا فقال بحدّة:
- اصعدي لشقّة غيد انتِ وبناتكِ، الآن!
من الطرف الآخر ذُعرت ليلى من نبرته الغاضبة ونهضت على الفور، وعندما دلفت لغرفة حور وحلا وجدتهما تستعدان للمدرسة فقالت لهما:
- هيا بنا، فوالدكما يطلب رؤيتنا ويبدوا غاضبا للغاية.
اغمضت حور عينيها وهي تتخيّل ماذا سيكون عقابها، الا انها لا تشعر بالخوف بل تجتاحها سعادة غريبة ستتضاعف ما ان ترى ردّت فعل غيد.
عندما دلفت اربعتهُن وجدن غيد تجلس على الأريكة ولا زالت دموعها تتساقط بشدّة وشعرها قصيرًا يلامس عنقها بصعوبة.
- ما به شعرك؟
تسائلت فلك ليجيب والدها الذي خرج للتو حاملًا بيده مقصّ الجريمة الذي تركته حور بجانب شعر غيد:
- انتُنّ ستُجبن على هذا السؤال، من منكُنّ قامت بقصّ شعر غيد.
اجابت ليلى ببساطة:
- وماذا سنستفيد من شعرها الشبيه بأسلاك الكهرباء؟ ما دخلنا بها؟
كان آدم يعلم مُسبقًا ان هذه التصرُّفات من المُستحيل ان تصدُر عن ليلى فإقترب من فلك التي تراجعت هامسة بخوف:
- أُقسِمُ انني لم اقترب منها يا ابي، كيف افعل شيئًا كهذا؟
حينها اقترب من حور التي رفعت رأسها نحوه تطالعه بإباء، طالما كانت الأقوى والأكثر قُربًا لقلبه الّا انّ غيد افسدت كُلّ شيء، فبزواجه منها انقطعت صلته ببناته تمامًا، لم تخف حور من ملامح والدها الذي يوشك على قتلها ولم تهتز للحظة عندما اقترب منها اكثر وانحني لقامتها القصيرةُ هامسًا بفحيح:
- انت الفاعلة أليس كذلك.
ابتسمت حينها ونظرت لغيد التي تورّم وجهها من البكاء فإزدادت ابتسامتها عمقًا لتُجيب بحقد:
- نعم ولستُ آسفة، ولو لم أكُن طيّبة القلب لغرستُ المِقصّ في بطنها وارحت الجميع منها.
شهقت والدتها بصدمة في نفس الوقت الذي وضعت فيه غيد يدها على بطنها وكأنها تحمي طفلها من كره اخته لتشتعل ملامح آدم بجنون، لو لم تكُن ابنته التي يراها اصغر بكثير من فتاة راشدة لقتلها بكُلّ تأكيد.
حانت نظراته الى جديلتها التي تسقُط على ظهرها طويلة كليالي الشتاء ودومًا ما كان شعرها على ملامحها التي تشبه والدتها تجعلها تبدوا كالأميرات، رفع المقص فحاولت ليلى الإقتراب من ابنتها لتحميها من غضب والدها الذي لن يرسوا على خير ولكن قد فات الأوان، فجديلتها السوداء الناعمة سقطت ارضًا تحت قدميها، لتبدوا كصبيّ صغير، مثل غيد تماما.
- هذا عقابكِ لمحاولتكِ الإقتراب من غيد، وأُقسمُ إن حاولتي فعل ايّ من تصرُّفاتكِ المتهورة سترين منّي وجهًا لن يُعجبكِ.
نظرت له حينها نظرةً اوجعت اعماق قلبه، نظرة طفلة قتل احدهم لعبتها المُفضّلة، انحنت لترفع جديلتها تتطلّعُ اليها بشك وكأنها غير مُصدّقة الى ان شهقت راكضة ودموعها تتسابق بقهر، لقد قصّ والدها شعرها لأجل زوجته.
- ما الذي فعلته؟ هل جُننت يا آدم؟ لقد افقدتك تلك الحقيرةُ ما تبقى من عقلك.
قالتها ليلى وقد ظهرت دموعها لأول مرّة امام غريمتها، الّا انّ آدم هتف بها حانِقًا:
- يبدوا انّكِ لم تقومي بتربيتهنّ كما ينبغي لذا منذُ اليوم سأتولى انا تقويمهُن، وأُقسِمُ بالله إن حاولت إحداهُنّ الإقتراب من غيد ستنلن منّي عقابًا لا يُغتفر.
نظرت اليه بحدّةٍ وصرخت بجنون:
- لقد ربّيتُ بناتي على اكمل وجه ولكن ماذا ستكون ردّة فعلهنّ عندما يرين والدهُنّ المُتصابي يتزوّج بفتاةٍ بعُمرهن؟!
- إخرسي.
اجفلت غيد من نبرته ولا زالت تجلسُ على اريكتها تراقبُ الأحداث دون ادنى مُجازفة بالتدخُّل بينما غادرت الفتيات خلف أُختهنّ وبقيت ليلى ويبدوا ان الأمر سيحتدم.
- وماذا إن لم اخرس؟ ماذا ستفعل يا سيّد آدم يا شيخ الرجال؟ أستضربُني؟!
جابهته كمحاربة شجاعة لا تخشى شيء وقد فقدت كُلّ ما يجعلها تتمسّك به، قد فاض كيلها ويجب لهذا الجنون ان ينتهي.
- او فلأُخبرك، طلّقني لتتخلّص منّا الى الأبد.
بصقت كلماتها بجنون لتجده يسحبها من معصمها وقد فقد آخر ذرّات تحمُّله:
- اغربي عن وجهي يا ليلى، صدّقيني لستُ بمزاجٍ لك.
دفعت يده عنها وتمتمت بكُره:
- سنغرُبُ عن وجهك! والى الأبد.
غادرت صافعة الباب خلفها بشدّة ليعود هو الى الداخل وقد خارت قواه من تلك المشاكل المتصاعدة التي لا يعرف لها حل، فكُلّ يوم يحملُ لهُ المزيد من الهموم والمصائب.
مررت يدها على ظهره بتردُد وقد رقّ قلبها لحالته وشعرت بسعادةٍ غريبة عندما اخذ لها حقّها الّا ان سعادتها زالت فور تذكُّرها لملامح حور الباكية.
- ما كان عليك ان تقُصّ شعرها، ليتك وبختها فقط، لقد احزنتها كثيرا يا آدم.
قالتها بخفوت وصمته انبأها بأنه لا يرغب بالحديث الّا انه قال بعد وقت طويل:
- كان يجب ان تُعاقب لكي لا تتعدّى عليكِ بعد اليوم.
اسندت رأسها على صدره عندما قال:
- انتِ زوجتي وآن الأوان ليُدركوا انكِ لست زيجة تسلية ولن اتخلّى عنك تحت اي ظرف من الظروف، انتِ امرأتي الى ان اموت.
وكانت تلك الكلمات قارب امانٍ تشبّثت به بعد اشهُرٍ طويلة من الخوف، خوف الوحدة والنبذ الذي ظنّت انها ستواجهه ما ان يمِلّ منها ويُطلّقها.
- ابقى معي ارجوك.
قالتها بعد وقتٍ طويل عندما شعرت بأنها توضع على فراشها وقد ساورها نعاسٌ شديد، وآخر ما سمعته قبل ان تخطفها جنّية الأحلام هو صوته الواثق يقول:
- سأبقى، الى الأبد.
وكان هذا وعده الذي لن ينقضه ابدا، حتى لو سحقته دوامة الحياة، ستبقى حلوى حياته التي تزيل مرارة كُلّ ما قبلها.
.
.
- انا لستُ بحاجة اليه؛فقد نالني منه ما يكفي لكُرهه الى الأبد، لم اعُد ارغب بالحياة تحت جناحه بعد اليوم يا بحر، لقد تعِبت ولم يعُد بي قُدرةٌ على التحمُّل.
قالت ليلى وهي تبكِ بإرهاق عقب انفرادها بأخيها بمنزل والدتهما الذي كان خيارها الوحيد عقِب تركها لبيتها، فما ان خرجت من شقّة غيد حتى سارعت بسحب بناتها ومغادرة المكان الى غير رجعة، فقد كان عقابه لحور هو القشّة التي تهاوى على إثرها بيتهما المُتهالك، ولم يعُد هنالك ايّ امل للرجوع.
لقد تحمّلت الكثير في سبيل الإبقاء على بيتها لأجل بناتها اولّا ولبعض الحُبّ الذي لم يُفارق قلبها الى الآن ولكن ما فعله لحور جعلهُنّ يكرهنهُ بشدّة بل ولا يرغبن بالبقاء معه بأي مكان، هذا ما صرّحت به حلا بوضوح وهي تدافع عن شقيقتها التي ساورتها حالة غريبة من الصمت حتى دموعها قد جفّت وبقي فيها مشهدًا واحدًا وهو نظرة ابيها الصارمة وهو يقُصُّ شعرها دون تردُد، وكان أسلم حل هو ابتعادهن عن ذلك المكان وكما قررت سيكون بُعدًا دائمًا، فقد تقطّعت كُلّ حبال الوصل.
كان بحر يضُمّها بصمت غير قادِرٍ على مناقشتها حول ايّ شيء وقد بدى انها بهذه اللحظات لا تحتاج سوى دعمًا اخويًّا لم يكُن ليبخل به عليها، فبالرغم من هالة القوّة التي تعلمّت ان تُحيط بها نفسها منذُ الطفولة كدرعٍ واقٍ تُخفي بداخله طفلة لم تحظى بحنان ابويها كانت بالحقيقة اكثر ضعفًا منه.
بالرغم من علاقتها المُضطربة مع والدتها التي تركتها لتتزوج بأبيه ألّا انها منذ ان رأته وهو طفل صغير ارتبطت به بصورةٍ غريبة وبمرور الوقت ومُضيّ العُمر لا زال اخيها الوحيد الذي سيكون بجانبها ما ان تحتاجه.
- هيا، ستذهبن معي الى بيتي، لا يُمكنني ترككُنّ بمُفردكُن.
قالها آمرًا مُربّتا على وجنتيها لتُجيب برفض:
- لا يُمكنني ذلك يا بحر، لا أُريدُ ان أثقل عليك وعلى العم جمال، سنبقى هنا.
نظر اليها غاضِبًا وقد تناست للحظة انهما إخوة، فقال لها بذهول:
- انتِ رأسكِ هذا لا يعمل؟ أنتِ وبناتكِ عائلتي هل تظُنين انني قد اترُككِ تواجهين آدم بمُفردك؟
عندما حاولت الرد مرّة أُخرى هتف وعلى ملامحه صرامةً تشبه ملامحها عندما تغضب:
- ستأتي الى بيت اخيكِ الذي هو بيتكِ في الأساس وسنحِل حينها كُلّ شيء.
لم تجِد امام إصراره سوى الإيماء بصمت ليقول مُبتسمًا بحنان:
- هيا لآخُذكُن لتسترِحن قليلًا وسأذهب انا لآدم.
- لا لن تذهب اليه، اذا اراد هو معرفة مكاننا سيفعل، ارجوك.
انهت حديثها متوسّلة ليومىء لها بشرود ويبدوا انّ عائلته أُخته بالفعل تدمّرت.
فقد شعر بأن قلبه يغوص بين اضلُعه عندما هاتفته باكية بأت يأتي لبيت والدتها على الفور، وعندما فتحت له الباب بدت نظراتها خاوية بالرغم من الألم الساكن بداخلها، وكأنما كُسر شيءٌ بداخلها من الصعب ان يترمم وجنّ جنونه عندما رأي حور الصغيرة تجلسُ على الأريكة بصمت تحمِلُ جديلتها المقصوصة، إن آدم قد جُنّ تماما، كيف لهُ ان يضع رأسهُ برأس ابنته الصغيرة، صحيح انها اخطأت ولكن عقابه كان قاسيًا للغاية وهو مُتأكد من ان حور لن تنسى فعلته الى ان يموت، ولن تسمح لزوجة والدها ان تهنأ بحياتها، إنها ابنة أُخته ويعرفها جيّدًا.
.
.
عندما صعدت الفتيات الى سيارة بحر انتبه توّه لغيابها فإلتفت لأُخته التي تجلس بجانبه على المقعد الأمامي وقال بنبرة حاول تعريتها من الأهتمام:
- أين ميرال؟ ألم تأتي معكُنّ؟!
وضعت ليلى يدها على جبينها هامسة بإرهاق:
- لقد اخبرتها ان تبقى بالمنزل الى ان اهاتفها.
- لا بأس سأذهب لأجلبها، واصطحب معي فلك لتجلب لكُنّ اغراضكُن، فيبدوا انك سحبتي البنات على عجل دون ان يجلبن ثيابهُن.
اومأت ليلى وهي تريح رأسها على ظهر المقعد تتنهّدُ بتعب غير قادرة على التخفيف من بشاعة ما يحدُث بحياتها بينما فلك تُمسكُ بكفي أُختيها تضُمهُما وقد تاهت كُلّ كلمات المواساة، وكما يُقال لا ينفعُ البُكاء على اللبنِ المسكوب ويبدوا انّ علاقة والديها قد تداعت بالفعل ولن يُفيد ايّ حديثٍ بعد اليوم.
.
.
ضمّها وقد مرّت اكثر من ساعتين وهو يحاول تهدئتها إلّا انّ بكائها لم يخف، كانت تبكي بحُرقة كمن فقدت عزيزًا وقد آلم بكائها قلبه، واقسم ان يعاقب من فعل تلك الفعلة شرّ عقاب.
اخذ هاتفه وضغط على رقمها ليأتيه صوتها ناعسا فقال بحدّة:
- اصعدي لشقّة غيد انتِ وبناتكِ، الآن!
من الطرف الآخر ذُعرت ليلى من نبرته الغاضبة ونهضت على الفور، وعندما دلفت لغرفة حور وحلا وجدتهما تستعدان للمدرسة فقالت لهما:
- هيا بنا، فوالدكما يطلب رؤيتنا ويبدوا غاضبا للغاية.
اغمضت حور عينيها وهي تتخيّل ماذا سيكون عقابها، الا انها لا تشعر بالخوف بل تجتاحها سعادة غريبة ستتضاعف ما ان ترى ردّت فعل غيد.
عندما دلفت اربعتهُن وجدن غيد تجلس على الأريكة ولا زالت دموعها تتساقط بشدّة وشعرها قصيرًا يلامس عنقها بصعوبة.
- ما به شعرك؟
تسائلت فلك ليجيب والدها الذي خرج للتو حاملًا بيده مقصّ الجريمة الذي تركته حور بجانب شعر غيد:
- انتُنّ ستُجبن على هذا السؤال، من منكُنّ قامت بقصّ شعر غيد.
اجابت ليلى ببساطة:
- وماذا سنستفيد من شعرها الشبيه بأسلاك الكهرباء؟ ما دخلنا بها؟
كان آدم يعلم مُسبقًا ان هذه التصرُّفات من المُستحيل ان تصدُر عن ليلى فإقترب من فلك التي تراجعت هامسة بخوف:
- أُقسِمُ انني لم اقترب منها يا ابي، كيف افعل شيئًا كهذا؟
حينها اقترب من حور التي رفعت رأسها نحوه تطالعه بإباء، طالما كانت الأقوى والأكثر قُربًا لقلبه الّا انّ غيد افسدت كُلّ شيء، فبزواجه منها انقطعت صلته ببناته تمامًا، لم تخف حور من ملامح والدها الذي يوشك على قتلها ولم تهتز للحظة عندما اقترب منها اكثر وانحني لقامتها القصيرةُ هامسًا بفحيح:
- انت الفاعلة أليس كذلك.
ابتسمت حينها ونظرت لغيد التي تورّم وجهها من البكاء فإزدادت ابتسامتها عمقًا لتُجيب بحقد:
- نعم ولستُ آسفة، ولو لم أكُن طيّبة القلب لغرستُ المِقصّ في بطنها وارحت الجميع منها.
شهقت والدتها بصدمة في نفس الوقت الذي وضعت فيه غيد يدها على بطنها وكأنها تحمي طفلها من كره اخته لتشتعل ملامح آدم بجنون، لو لم تكُن ابنته التي يراها اصغر بكثير من فتاة راشدة لقتلها بكُلّ تأكيد.
حانت نظراته الى جديلتها التي تسقُط على ظهرها طويلة كليالي الشتاء ودومًا ما كان شعرها على ملامحها التي تشبه والدتها تجعلها تبدوا كالأميرات، رفع المقص فحاولت ليلى الإقتراب من ابنتها لتحميها من غضب والدها الذي لن يرسوا على خير ولكن قد فات الأوان، فجديلتها السوداء الناعمة سقطت ارضًا تحت قدميها، لتبدوا كصبيّ صغير، مثل غيد تماما.
- هذا عقابكِ لمحاولتكِ الإقتراب من غيد، وأُقسمُ إن حاولتي فعل ايّ من تصرُّفاتكِ المتهورة سترين منّي وجهًا لن يُعجبكِ.
نظرت له حينها نظرةً اوجعت اعماق قلبه، نظرة طفلة قتل احدهم لعبتها المُفضّلة، انحنت لترفع جديلتها تتطلّعُ اليها بشك وكأنها غير مُصدّقة الى ان شهقت راكضة ودموعها تتسابق بقهر، لقد قصّ والدها شعرها لأجل زوجته.
- ما الذي فعلته؟ هل جُننت يا آدم؟ لقد افقدتك تلك الحقيرةُ ما تبقى من عقلك.
قالتها ليلى وقد ظهرت دموعها لأول مرّة امام غريمتها، الّا انّ آدم هتف بها حانِقًا:
- يبدوا انّكِ لم تقومي بتربيتهنّ كما ينبغي لذا منذُ اليوم سأتولى انا تقويمهُن، وأُقسِمُ بالله إن حاولت إحداهُنّ الإقتراب من غيد ستنلن منّي عقابًا لا يُغتفر.
نظرت اليه بحدّةٍ وصرخت بجنون:
- لقد ربّيتُ بناتي على اكمل وجه ولكن ماذا ستكون ردّة فعلهنّ عندما يرين والدهُنّ المُتصابي يتزوّج بفتاةٍ بعُمرهن؟!
- إخرسي.
اجفلت غيد من نبرته ولا زالت تجلسُ على اريكتها تراقبُ الأحداث دون ادنى مُجازفة بالتدخُّل بينما غادرت الفتيات خلف أُختهنّ وبقيت ليلى ويبدوا ان الأمر سيحتدم.
- وماذا إن لم اخرس؟ ماذا ستفعل يا سيّد آدم يا شيخ الرجال؟ أستضربُني؟!
جابهته كمحاربة شجاعة لا تخشى شيء وقد فقدت كُلّ ما يجعلها تتمسّك به، قد فاض كيلها ويجب لهذا الجنون ان ينتهي.
- او فلأُخبرك، طلّقني لتتخلّص منّا الى الأبد.
بصقت كلماتها بجنون لتجده يسحبها من معصمها وقد فقد آخر ذرّات تحمُّله:
- اغربي عن وجهي يا ليلى، صدّقيني لستُ بمزاجٍ لك.
دفعت يده عنها وتمتمت بكُره:
- سنغرُبُ عن وجهك! والى الأبد.
غادرت صافعة الباب خلفها بشدّة ليعود هو الى الداخل وقد خارت قواه من تلك المشاكل المتصاعدة التي لا يعرف لها حل، فكُلّ يوم يحملُ لهُ المزيد من الهموم والمصائب.
مررت يدها على ظهره بتردُد وقد رقّ قلبها لحالته وشعرت بسعادةٍ غريبة عندما اخذ لها حقّها الّا ان سعادتها زالت فور تذكُّرها لملامح حور الباكية.
- ما كان عليك ان تقُصّ شعرها، ليتك وبختها فقط، لقد احزنتها كثيرا يا آدم.
قالتها بخفوت وصمته انبأها بأنه لا يرغب بالحديث الّا انه قال بعد وقت طويل:
- كان يجب ان تُعاقب لكي لا تتعدّى عليكِ بعد اليوم.
اسندت رأسها على صدره عندما قال:
- انتِ زوجتي وآن الأوان ليُدركوا انكِ لست زيجة تسلية ولن اتخلّى عنك تحت اي ظرف من الظروف، انتِ امرأتي الى ان اموت.
وكانت تلك الكلمات قارب امانٍ تشبّثت به بعد اشهُرٍ طويلة من الخوف، خوف الوحدة والنبذ الذي ظنّت انها ستواجهه ما ان يمِلّ منها ويُطلّقها.
- ابقى معي ارجوك.
قالتها بعد وقتٍ طويل عندما شعرت بأنها توضع على فراشها وقد ساورها نعاسٌ شديد، وآخر ما سمعته قبل ان تخطفها جنّية الأحلام هو صوته الواثق يقول:
- سأبقى، الى الأبد.
وكان هذا وعده الذي لن ينقضه ابدا، حتى لو سحقته دوامة الحياة، ستبقى حلوى حياته التي تزيل مرارة كُلّ ما قبلها.
.
.
- انا لستُ بحاجة اليه؛فقد نالني منه ما يكفي لكُرهه الى الأبد، لم اعُد ارغب بالحياة تحت جناحه بعد اليوم يا بحر، لقد تعِبت ولم يعُد بي قُدرةٌ على التحمُّل.
قالت ليلى وهي تبكِ بإرهاق عقب انفرادها بأخيها بمنزل والدتهما الذي كان خيارها الوحيد عقِب تركها لبيتها، فما ان خرجت من شقّة غيد حتى سارعت بسحب بناتها ومغادرة المكان الى غير رجعة، فقد كان عقابه لحور هو القشّة التي تهاوى على إثرها بيتهما المُتهالك، ولم يعُد هنالك ايّ امل للرجوع.
لقد تحمّلت الكثير في سبيل الإبقاء على بيتها لأجل بناتها اولّا ولبعض الحُبّ الذي لم يُفارق قلبها الى الآن ولكن ما فعله لحور جعلهُنّ يكرهنهُ بشدّة بل ولا يرغبن بالبقاء معه بأي مكان، هذا ما صرّحت به حلا بوضوح وهي تدافع عن شقيقتها التي ساورتها حالة غريبة من الصمت حتى دموعها قد جفّت وبقي فيها مشهدًا واحدًا وهو نظرة ابيها الصارمة وهو يقُصُّ شعرها دون تردُد، وكان أسلم حل هو ابتعادهن عن ذلك المكان وكما قررت سيكون بُعدًا دائمًا، فقد تقطّعت كُلّ حبال الوصل.
كان بحر يضُمّها بصمت غير قادِرٍ على مناقشتها حول ايّ شيء وقد بدى انها بهذه اللحظات لا تحتاج سوى دعمًا اخويًّا لم يكُن ليبخل به عليها، فبالرغم من هالة القوّة التي تعلمّت ان تُحيط بها نفسها منذُ الطفولة كدرعٍ واقٍ تُخفي بداخله طفلة لم تحظى بحنان ابويها كانت بالحقيقة اكثر ضعفًا منه.
بالرغم من علاقتها المُضطربة مع والدتها التي تركتها لتتزوج بأبيه ألّا انها منذ ان رأته وهو طفل صغير ارتبطت به بصورةٍ غريبة وبمرور الوقت ومُضيّ العُمر لا زال اخيها الوحيد الذي سيكون بجانبها ما ان تحتاجه.
- هيا، ستذهبن معي الى بيتي، لا يُمكنني ترككُنّ بمُفردكُن.
قالها آمرًا مُربّتا على وجنتيها لتُجيب برفض:
- لا يُمكنني ذلك يا بحر، لا أُريدُ ان أثقل عليك وعلى العم جمال، سنبقى هنا.
نظر اليها غاضِبًا وقد تناست للحظة انهما إخوة، فقال لها بذهول:
- انتِ رأسكِ هذا لا يعمل؟ أنتِ وبناتكِ عائلتي هل تظُنين انني قد اترُككِ تواجهين آدم بمُفردك؟
عندما حاولت الرد مرّة أُخرى هتف وعلى ملامحه صرامةً تشبه ملامحها عندما تغضب:
- ستأتي الى بيت اخيكِ الذي هو بيتكِ في الأساس وسنحِل حينها كُلّ شيء.
لم تجِد امام إصراره سوى الإيماء بصمت ليقول مُبتسمًا بحنان:
- هيا لآخُذكُن لتسترِحن قليلًا وسأذهب انا لآدم.
- لا لن تذهب اليه، اذا اراد هو معرفة مكاننا سيفعل، ارجوك.
انهت حديثها متوسّلة ليومىء لها بشرود ويبدوا انّ عائلته أُخته بالفعل تدمّرت.
فقد شعر بأن قلبه يغوص بين اضلُعه عندما هاتفته باكية بأت يأتي لبيت والدتها على الفور، وعندما فتحت له الباب بدت نظراتها خاوية بالرغم من الألم الساكن بداخلها، وكأنما كُسر شيءٌ بداخلها من الصعب ان يترمم وجنّ جنونه عندما رأي حور الصغيرة تجلسُ على الأريكة بصمت تحمِلُ جديلتها المقصوصة، إن آدم قد جُنّ تماما، كيف لهُ ان يضع رأسهُ برأس ابنته الصغيرة، صحيح انها اخطأت ولكن عقابه كان قاسيًا للغاية وهو مُتأكد من ان حور لن تنسى فعلته الى ان يموت، ولن تسمح لزوجة والدها ان تهنأ بحياتها، إنها ابنة أُخته ويعرفها جيّدًا.
.
.
عندما صعدت الفتيات الى سيارة بحر انتبه توّه لغيابها فإلتفت لأُخته التي تجلس بجانبه على المقعد الأمامي وقال بنبرة حاول تعريتها من الأهتمام:
- أين ميرال؟ ألم تأتي معكُنّ؟!
وضعت ليلى يدها على جبينها هامسة بإرهاق:
- لقد اخبرتها ان تبقى بالمنزل الى ان اهاتفها.
- لا بأس سأذهب لأجلبها، واصطحب معي فلك لتجلب لكُنّ اغراضكُن، فيبدوا انك سحبتي البنات على عجل دون ان يجلبن ثيابهُن.
اومأت ليلى وهي تريح رأسها على ظهر المقعد تتنهّدُ بتعب غير قادرة على التخفيف من بشاعة ما يحدُث بحياتها بينما فلك تُمسكُ بكفي أُختيها تضُمهُما وقد تاهت كُلّ كلمات المواساة، وكما يُقال لا ينفعُ البُكاء على اللبنِ المسكوب ويبدوا انّ علاقة والديها قد تداعت بالفعل ولن يُفيد ايّ حديثٍ بعد اليوم.
.
.