الفصل الثالث

ظلوا يتساقطون، ويتساقطون،  كريشة في مهب الريح تتلاعب بهم، لا يدرون ماذا حدث لهم؟ ولا ماهو مصيرهم؟ حتى تلقفتهم أيادي بشر غريبو الشكل، فهم طوال القامة بشكل مبالغ فيه، ضخام الجثة شعورهم غزيرة مشعثة، لحيتهم كثيفة مهملة، يغطي جسدهم جلد من جلود الحيوانات، حواجبهم تقبل بعضها البعض، يرتدون أحذية من جلد الماعز.
وجدت ليساء نفسها مستقرة بين يدا رجل كأنه موجود منذ بدء الخليقة،  أنزلها وهو يتأملها بنظرات ليس لها معنى، ثم انصرف  دون أدنى كلمة منه كأنه منوم تنويما مغنايسيا، تركها غارقة في دهشتها تنظر له بتساؤل من هذا؟ تعدل ثيابها وأنفاسها متلاحقة، تتجول بعينيها لتتفحص البقعة التي احتضنتهم، كذلك بوت كان يركل بيديه وقدميه يصرخ مستغيثا من ذلك الرجل الذي استقر بين يديه قائلا بتعصب:
- من أنت أنزلني..أنزلني يا هذا.
وبالفعل انزله الرجل الذي كانت هيئته تشبه للرجل الأول..ذو لحية وشعر عظيمين، وقد انزله دون أن ينبس ببنت شفا، وقد تكرر الأمر مع ديمتري وكيتو اللذان اندهشا عندما تلقفتهما أيادي رجلين من نفس الهيئة، ثم نظروا لبعضهم البعض في تساؤل عجيب حتى قال ديمتري:
-من هؤلاء الناس ولماذا لا يتكلمون؟
-سحنتهم غريبة وملابسهم أيضا.
قالت ليساء ذلك ونظراتها مازالت تحت تأثير الدهشة.
تنفس كيتو بعمق وقال وهو يجلس فاردا قدميه:
-المهم أننا نجونا..فسقطتنا هذه كانت الهلاك لنا جميعا.
-ولكن أين نحن الآن؟
تفوه بها بوت بعد أن ازاح عن جبينه بعض الشعرات اللاتي يداعبنها، الذي كان واقفا يتأمل المكان من حوله وهو يشير بعصاه على المكان الذي كانوا يسيرون فيه.
نهض كيتو لينظر الى حيث أشار بوت..الجميع يتأملوه بعيون مليئة بالتعجب، انه مكان فسيح جدا يوجد به بعض النباتات الغريبة، نباتات طويلة وقصيرة، لها الوان لم يعتادوا على رؤيتها، هناك نباتات باللون الأسود، واللون الرمادي وزرقاء أيضا، كأنه غابة تعرت في وقت الخريف، يمشون ولا يوجد نهاية لسيرهم، فقد ساروا لمدة ساعتين كاملتين حتى شكت أقدامهم، فتوقفت ليساء مرة واحدة وقد غارت عيناها واحمرتا من شدة التعب، تعدل من ثوبها المهترئ، تمسد ركبتيها وتقول بصوت واهن:
-لقد تعبت من السير..قدماي تؤلماني،وأتضور جوعا أيضا.
-ونحن أيضا تعبنا.. الا يوجد نهاية لسيرنا هذا
نطقوا بهذا كل من بوت وكيتو وديمتري، وقد افترشوا الأرض يلهثون من فرط الاعياء، وبالتالي جلست ليساء بجوارهم فاردة قدميها للأمام تمسد على ركبتيها عل الألم الذي ينخر فيهما يهدأ، بعد برهة من الزمن وقد أقتنصوا قسطا من الراحة، بدأ الانهاك يختفي تدريجيا نهضت ليساء وهي تقول لهم:
-هيا بنا يا أصدقاء لابد أن نبحث عن أي شئ نأكله.
بادر بوت بالنهوض، بعدها قال كيتو وهو يمد يده له:
-أجذبني اليك بوت ساعدني على النهوض فاني أشعر بالخوار.
جذبه بوت اليه ، فوجد ديمتري أيضا يمد له يده لكي يساعده على النهوض قائلا له:
-وأنا أيضا ياصديقي.
قوس بوت فمه بتزمر وقال وهو يجذبه لكي ينهض:
-انك انتهازي ديمتري.
قال ديمتري وهو يبتسم:
-أنت صديقي ..وخير الصديق الذي يساعد أصدقائه وقت الشدة.
-انظروا ..انها شجرة يتظلي منها ثمار تبدو لي من بعيد.
قالها بوت كمن عثر على كنز، وهو يشير بشعاعه نحو اليسار فاتجهت أبصارهم نحو مايشير اليه بوت فقالت ليساء بفرحة:
-نعم يابوت انها بالفعل كذلك عسى أن تكون ثمارها صالحة للطعام، ولكن يخيل لي انها تلمع ..هيا..هيا نذهب لنتأكد.
ققز ديمتري بسعادة قائلا:
-لقد ضمنا طعامنا.
بينما كيتو لعق شفتيه بلسانه وقد انتبهت شهيته للطعام قائلا:
-هممم كم أنا جائع كثيرا.
وركضوا نحو هدفهم يسبقهم جوعهم الذي كاد يفتك ببطونهم.
عندما وصلوا بجوارها ظلوا يطوفون حولها وعيونهم مبهورة، افواههم فاغرة لا يصدقون ما يرونه، إنه تفاح من ذهب، بريقه يكاد يخطف أبصارهم، حتى أنهم جميعا نسوا جوعهم.
قالت ليساء بأنفاس مبهورة:
- هذا التفاح من ذهب..سبحان الله
قال كيتو وهو يتبادل النظر لبوت ثم ديمتري:
-أنظر يا ديمتري انه كنز.
فأومأ ديمتري وبوت مؤيدين له ينظرون للتفاح بتعجب وانبهار قائلين:
-نعم هو كذلك
مدت ليساء يدها وقطفت ثمرة من التفاح،  تقلبها في يدها وقد سحرها بريقها، وإذ بالتفاحة تفتح وبداخلها ورقة مطوية فقالت بنبرة حملت كثير من الدهشة وهي تنظر لأصدقائها:
-أنظروا.. ماذا وجدت داخل التفاحة؛
اقترب بوت برأسه لينظر للتفاحة بتعجب قائلا:
-ما هذا؟؛  وماذا يوجد داخل هذه الورقة؟؛
تأمل ديمتري التفاحة والورقة التي بداخلها فاردف مندهشا:
-شئ لا يصدقه عقل؛

بينما فغر كيتو فاه فأردف متعجبا :
-حقا أنه شئ غريب..علينا أن نقرأ الورقة أذا..افتحيها ليساء واقرأيها.

أومئت رأسها بالموافقة، وراحت تفتح الورقة وتقرأ ما فيها.

( ابحث عن المفتاح)

ضيقت عينيها قبل أن تردف:
-ما معنى هذا؟؛ عن أي مفتاح أبحث؟؛
حك بوت رأسه بتفكير، وديمتري وضع رأس شعاعه في فمه يبحث عن مقصود الجملة، بينما كيتو يضرب جبهته عدة ضربات خفيفة يقدح زناد فكره حتى قال بصوت جهوري أجبرهم أن ينظرون إليه باهتمام:
-قد يكون المقصود هو مفتاح الباب الثالث.
- أحسنت كيتو هذا هو التفسير المنطقي.
نطقت بها ليساء باقتناع.

بوت وهو يسأل باشارة من يده :
-ولكن أين سنبحث عن المفتاح.
لحظات صمت فرضت نفسها عليهم، الكل يفكر حتى نطق ديمتري بحماس:
-قد يكون في احدى الثمرات.
مطت ليساء شفتيها وكأنها ليس أمامها غير هذا الحل فقالت على مضض:
-نعم سوف نبحث عنه في جميع الثمرات لعله في إحداها..هيا يا أصدقائي سوف نتعاون مع بعضنا البعض ونفتح جميع الثمرات لعلنا نجد المفتاح.
وراح الكل يفتش بهمة وحماس يقطفون الثمرات ويفتحونها واحدة تلو واحدة، لكن  جميع الثمرات ليس بداخلها الا ورقة مكتوب عليها نفس الجملة   

( ابحث عن المفتاح).
التبسهم اليأس، ينظرون لبعضهم البعض في حيرة، زفرت ليساء بعجز فقالت وهي تجلس تحت الشجرة وقد أعياها السير والجوع:
-ماذا سنفعل الآن ولم نعثر على المفتاح؟

صاح فيها بوت وقد زوى بين حاجبيه:
-لماذا جلستي؟ لابد لنا أن نكمل سيرنا حتى نعثر على الباب الثالث، والا سوف تسجنين هنا للأبد.

قال ديمتري وهو يومئ مؤمنا على كلام بوت:
-نعم ليساء بوت معه حق لابد أن نكمل سيرنا.

أردفت ليساء بنبرة تجمع بين الأعياء وقد قوست فمها بتزمر:
أعلم ولكني تعبت ..تعبت للغاية، والجوع يفتك بي.
-هيا ليساء لا تضيعي الوقت.
قال ذلك كيتو وهو يمد لها يده يشجعها على القيام.
نهضت ليساء بصعوبة وسارت معهم وقبل أن يخطو كيتو خطوة معهم قال لهم:
-ما رأيكم في أن نأخذ معنا بعضا من هذا التفاح ربما نحتاجه.
أردفت ليساء:
- ماذا سنفعل به في هذه الغابة التي تساقطت أشجارها ..ولا يوجد أحد هنا؟
أردف كيتو باصرار:
-نحن لا نعلم ماذا سيقابلنا، أشعر أننا سنحتاجه وانه سينفعنا.
قال ديمتري:
-لن نخسر شئ يا ليساء ان أخذنا القليل منه.
أشار بوت على نفسه بابهامه مردفا:
-وأنا أوافقهم على ذلك.
قد شعرت انها ليس لديها طاقة لمجادلتهم فقالت على مضض:
-حسنا ..لنأخذ معنا بعضا من التفاح، ولكن ليس معنا شئ ندس فيه التفاح.
-أنسيت عصاي السحرية.
قالها كيتو وهو يرفع شعاعه لاعلى وفي لمح البصر ظهر أمامهم أربع من الأكياس مصنوعة من الجلد فتناول كل واحد منهم كيسا وعبئ فيه التفاح، ثم أكملوا مسيرتهم، خطواتهم ثقيلة، واهنة، أعياهم السير، والجوع ثم بدأ يظهر بشر مثل اللذين تلقفوهم بأيديهم وهم يتساقطون، بدأو يقتربون منهم حتى ان ليساء توقفت والخوف يتسلل اليها، وتوقف الأصدقاء خلفها فقالت ليساء وهي تتراجع للخلف في حذر:
-من هؤلاء؟؛ انهم يقتربون منا..ماذا يريدون؟
ارتجف بوت وامسك بثوب ليساء البالي وقال وهو يختبئ خلفها:
-لا أعلم ..انهم مخيفون.
اقترب رجل أشعث أغبر، عليه ثياب من جلد الحيوانات يمد يده وهو يقول باستعطاف:
-أعطني مما اعطاك الله.
أردف كيتو وعيناه مسلطة على الرجل:
-انه شحاذ.
غمزه بوت بشعاعه وهمس له:
- اصمت حتى لا تجرحه.. أعطه يا ديمتري حسنة.
فهمس له ديمتري:
-ليس معي نقود.
داعب بوت ذقنه بيديه وهو يقول:
-صحيح ليس معنا نقود..ما العمل اذا؟
رقت ليساء لهذا المسكين وقد تبخر الخوف منها وحل محله العطف، فأخرجت تفاحة من جرابها وأعطتها للشحاذ وهي تقول له باابتسامة:
-تفضل يا أخي.
أخذها الرجل وقد أشرق وجهه باابتسامة عريضة، وانصرف ولسانه يمطرها بدعوات كثيرة.

بعد انصراف المسكين وواصلوا الأصدقاء سيرهم، وفي الطريق كان المحتاجين يظهرون تباعا يمدون لهم أيديهم يطلبون الصدقة، تارة سيدة، وتارة شاب، وتارة طفل، وكلهم بحالة مزرية، والأصدقاء يخرجون التفاح من جواربهم ويعطونها لهم حسنة..حتى نفذ التفاح  فقال كيتو وهو ينظر لجرابه الخالي:
-لقد نفذ التفاح الذي يخصني فماذا نفعل لو ظهر الشحاذون مرة أخرى؟
وأردف بوت وهو يفتح جرابه أمامهم:
-وأنا أيضا الجراب أصبح خاويا.
بينما اردف ديمتري:
-وأنا مثلكما نفذ تفاحي.

-وأنا أيضا لا يوجد معي تفاح..ولكن الله لن يضيعنا.. هيا لنكمل سيرنا.
قالتها ليساء بثقة وهي تشعر من داخلها أن الفرج قريب، وأذ بها فجأة تصرخ بسعادة وهي تشير على موضع ما وتقول:
-الباب الثالث..أنظروا يا أصدقاء انه الباب مثل الأبواب التي قابلناها من قبل.
-واو..انه حقا الباب الثالث.
نطق بها كيتو وهو ينظر اليه بعيون متسعة، سعيدة.
وأشار كيتو على ريتاج الباب مردفا:
- بل إن المفتاح عالق به أيضا.
رفع ديمتري يديه الى السماء وهو يقول:
-شكرا لك ربنا..هيا بنا لكي نعبره.

وركضوا اليه جميعا بخطوات متلهفة، داعين الله أن يفتح الباب بالمفتاح العالق به.
وصلت ليساء بجواره وضعت يدها على المفتاح، تنظر للسماء وشفتيها تمتمان بالدعاء، طالبة من الله أن لا يخذلها، بينما كيتو وديمتري، وبوت، يراقبونها با اهتمام وعندما أدارت ليساء المفتاح وفتح الباب، صاحوا الاصدقاء وهللوا واحتضنوا بعضهم البعض حامدين الله وشاكرين فضله.

بعد دلوفهم بهرهم ما رأوه، حيث الأشجار الوارفة، والثمار الطازجة التي تتدلى منها كأنها تنادي الجوعى، ظنوا انهم في الجنة، الكل منبهر بالمناظر الخلابة فاغرين فيهم باعجاب، عيونهم تلتهم الثمار التي فوق الأشجار لقد قطفت ليساء ثمرة من ثمار الموز وقالت:
-انه موز حقيقي طاظج صالح للطعام؛

-اذا اعطينا بعض منه لكي نتذوقه.
قالها كيتو وهو يلثم شفتيه بلسانه.
أما بوت فانه ربت على معدته بحركة دائرية وقال:
-على عجل يا ليساء فكدت أموت جوعا.

اما ديمتري فقد فتح جرابه لها وقال بتلهف:
- املئي لي جرابي بكل انواع الثمار ليساء .
ظلت ليساء تقطف لهم ثمارا وتضعهم لهم في جواربهم وهي تقول:
-انها فاكهة متنوعة ..موز، وتفاح، وخوخ ايضا، وهناك برتقال سوف أجلب لكم منه.
عبئت الكثير من الفاكهة لها وللأصدقاء، ثم قالت لهم:
-هيا نذهب الى تلك الشجرة ونجلس تحت ظلها ونأكل براحتنا.
جلسوا تحت ظل اكبر شجرة قابلتهم ، يأكلون من الثمار مستلذين بطعمه وقد قالت ليساء لهم وهم يهمون أن يقضمون من الثمار:
-سموا الله يا أصدقاء حتى لا يأكل معنا الشيطان.
ورددوا التسمية قبل أن يأكلون،  كان حديثهم طروبا، ضحكاتهم تجلجل المكان من حولهم.

بعد أن انتهوا من الطعام قالت لهم ليساء:
-والآن لابد أن نكمل سيرنا.
مشوا وأيديهم تتشابك في أيادي بعضهم البعض ولكن عيونهم مشغولة بالجمال الذي يفرد بساطه حولهم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي