الفصل الرابع

طوت خطواتهم كل الجمال الذي قابلاتهم، الأشجار الوارفة الغنية بالثمار الطاظجة، والبساط الأخضر الواسع، حتى ساقتهم أرجلهم بعد ذلك الى أرض جديدة، صحراء
جرداء، لا زرع فيها ولا ماء، ظلوا يسيرون فيها حتى بدأو يشعرون بالعطش الشديد والجوع من أيضا،  ساعات طويلة قطعوها في السير حتى خارت قواهم، سار وجه ليساء شاحبا، متعرقا، عيناها غائرتين، انحت قامتها قليلاً من فرط الأرهاق، توقفت وهمست بانهاك:
-لقت تعبت..وقت طويل قطعناه في السير حتى انقطعت أنفاسنا واستبد بنا الجوع والعطش من جديد.

-نعم ولا نستطيع العودة مرة أخرى للبقعة الخضراء المثمرة حتى نقطف منها بعض الثمار.
تفوه بذلك كيتو وهو يتكأ على عصاه في اعياء.

نظر بوت إلى أعلى حيث الشمس الحامية لم يستطع أن يفتح عيناه في ضيها ..فأردف وقد وضع يده أعلى جبهته ليحجب عنه أشعة الشمس ولو قليلا:
- الشمس أحرقتنا.. لقد قطعنا شوطا طويلا فكيف سنعود؟

غمغمت ليساء وهي تلهث من فرط الإرهاق:
ليس أمامنا إلا أن نكمل سيرنا لعل الله يأتي لنا بالفرج.

ألقى ديمتري شعاعه بتزمر وضرب الأرض بقدميه في تعصب ثم صاح:
- هل سنستمر في السير من جديد؟ ..لم يعد لدي طاقة.

ابتلعت ليساء إرهاقها و بصوت حاولت أن يبدو مرحا حتى تحفزهم على الصبر والتحمل و السير من جديد:
-هيا يا أبطال..أشعر أننا سنصل سريعا..هيا يا أصدقاء لابد لنا أن نواصل.
ومشت وهي تجر قدميها جرا، والأصدقاء يسيرون خلفها بخطوات ثقيلة عرجاء من فرط التعب.

-ليساء ..انظري هناك صخرة كبيرة لما لا نستريح عندها لبعض من الوقت، فقد تعبنا.
نطق بها كيتو وهو يشير على صخرة كانت قد بدت لهم عن بعد.
فهمست ليساء بصوت منهك:
-حسنا كيتو..لا بأس فلنسترح قليلا تحت هذه الصخرة.. هيا يا أصحاب.

وما أن وصلوا عندها، ولامست ظهورهم تلك الصخرة وانزلقوا حتى جلسوا على الأرض وهم يئنون من فرط التعب، وفجأة اهتزت تلك الصخرة اهتزازة قوية، جعلتهم ينتفضون ويفزعون، فقاموا على الفور وابتعدوا بعيدا عنها، تلك الصخرة التي يبدو عليها كأن خلفها عفريتا، يحدقون بها منتظرين ماذا سيكون بعد هذا الأهتزاز؟ هل سيحدث انفجار لها؟ أم ستنسف وتكون كالعهن المنفوش ثم يموتون جميعا تحتها؟
منكمشون هم في بعضهم يرتعدون خوفا من المجهول، فهمس بوت خائفا حروفه خرجت مرتعشة، مبعثرة:
-م..ما هذا ليساء؟ هل..هل سنموت؟

كيتو ايضا ترتعد فرائسه، ويسد أذنيه تحسبا لانفجار سيحدث و يهمس وهو مغمض عيناه بقوة:
-يبدو أننا سوف نلقى حتفنا تحت هذه الصخر.

عيون ليساء متسعة عن آخرها، شفتاها منفرجتان، ترتعشان وكأنها تتمتم مع نفسها بكلمات غير مفهومة، تحتضن وجنتيها بكفيها خوفا من هذا المشهد الذي لم تشاهده من قبل، وبالكاد ابتلعت ريقها، حتى قالت بصعوبة:
-لا..لا أعلم ماهذا، ولكن لا يضرنا شئ باذن الله.

اخذاو يتراجعون خطوات للوراء اتقاء هذا الأنفجار، يجهلون مصيرهم، داعين الله أن يسلمهم ويقيهم شره.
رويدا ..رويدا بدأ الأنفجار يهدأ، والصخرة تسكن ثم تكشف الرؤيا عن باب يشبه للأبواب السابقة، وبعد الرعب الذي التبسهم بدأت الفرحة تغزو قلوبهم، ويحتل الأبتسام شفاههم يهللون فرحين لأنهم عثروا على الباب الرابع،
فاحتضنوا بعضهم البعض في سعادة جمة، وكان أول من تحدث في سعادة بوت الذي قال وهو يرفع شعاعه عاليا:
-انباه الباب الرابع..الباب الرابع يا أصدقاء مرحى ..ثم ظل يضحك من فرط سعادته حتى استلقى على قفاه.
فاثار ضحكه، ضحكات أصحابه أيضا الذين جذبوه من يده وهم يقولون له:
- نعم ..نعم أنه الباب الرابع هيا انهض فأمامنا حل لغزه حتى نفتحه.
-ترى كيف سيفتح الباب هذه المرة؟
تمتمت ليساء بذلك لنفسها وهي تتقدم معهم نحو الباب الرابع.

خطوا نحو الباب وكانت ليساء في المقدمة ظلت تتفحصه بعينيها من أعلاه الى أسفله، كان الباب مغطى بأتربة كثيرة فلم تظهر أي رموز عليه، فهمس كيتو وهو يشير بشعاعه على تلك الأتربة:
-هناك أتربة كثيرة..لابد لنا من إزالتها حتى تتبين ملامح الباب.

أردفت ليساء وهي تنظر لكيتو:
-نعم كيتو..ابتعدوا يا أصدقاء للخلف سوف أقوم وحدي بازالة الأتربة..لا أريدكم أن تتعفروا.

-نستطيع مساعدتك ليساء بأشعتنا.
قال ذلك ديمتري وهو يرفع شعاعه عاليا وكأنه أفضل اداة للتنظيف فقالت ليساء له:
-لا ديمتري سوف أقوم وحدي بالتنظيف ..هيا تراجعوا للخلف.
فتراجع الأصدقاء بمسافة معقولة، يبصرونها وهي تزيل الأتربة عن الباب الذي بدأت تظهر معالمه..كان يشبه للأبواب السابقة، غير أنه كان  أسود كأنه يشبه للسماء في ظلمتها عليه حلقة على شكل هلال، منقوش بنجوم صغيرة لامعة.

فاقتربوا جميعا قرب ليساء فهمس بوت متعجبا:
-همم ..ها قد ظهر الباب جليا وكأنه لوحة مرسومة لمشهد السماء المظلمة.
فاردفت ليساء ويدها تزيل بقايا الأتربة:
-نعم بوت..هذا الباب مختلفا عن الأبواب السابقة في زركشته.
وبنبرة متلهفة قال كيتو وهو يقفز:
-هيا اذا افتحيه ليساء..اني متلهف لفتحه اجذبي تلك الحلقة التي تشبه الهلال..حتى نرى ماذا سيكون خلفه؟

-نعم ليساء بسرعة أنا أيضا متشوق لفتح الباب
قالها ديمتري وهو يحك مقدمة رأسه بشعاعه في قلة صبر.
-صبرا يااصدقاء..سوف أفتحه لا تتعجلوا.

قالت ليساء ذلك وهي تحرك حلقة الباب التي تشبه الهلال، تارة تجذبه نحوها، وتارة تديره يمينا ويسارا..ولكنه لا يستجيب، ثم بدأت تحرك الحلقة في أتجاه آخر..لكنه ايضا لا يفتح،  حركت الحلقة في كل اتجاه وبعزم قوتها والباب يأبى أن يستجيب ..حتى توقفت ليساء عن تلك المحاولات الفاشلة وهمست يائسة:
-الباب يأبى أن يفتح مالعمل يا أصدقائي ؟
قال بوت:
-ما السبب؟؛   كيف نفتحه أذا؟
أجابت بحركة من عينيها تعبر عن قلة حيلتها وهمست:
- لا أعلم؛

-فترة صمت سلسلت الجميع وجعلتهم في عجز قطعها ديمتري قائلا:
- اذا علينا أن نبحث عن حل اللغز.

قال كيتو بنبرة حماسية:
-علينا أن ننفض عن أنفسنا الكسل ونحاول سويا أن نجد حل.
ليساء وهي تومئ برأسها:
-نعم ..هو كذلك .

كانت ليساء شاردة تداعب ذقنها كأنها تفكر في احتمال طرأ في رأسها..فنداها بوت حتى تفيق من شرودها:
-ليساء..ليساء فيما تفكرين؟
ولكن ليساء لم تجيبه حتى أن الأصدقاء نظروا لبعضهم البعض وهزوا أكتافهم في تعجب..فندوها في صوت واحد:
-هل توصلت لشئ؟؛
زفرت ليساء زفيرا طويلا  ثم أشارت على النجوم المنثورة على الباب:
-لدي شعور أن حل اللغز يكمن في تلك النجوم.

تأملوا الأصدقاء تلك النجوم وكأنهم يرونها بعيون ليساء فيتسائلون، كيف تكون تلك النجوم هي حل لغز الباب؟؛
ولكنهم لم يستطيعوا التوصل لشئ بيد أن كيتو تنبه لشئ آخر فهتف وكأنه توصل لشئ عظيم:
-والهلال ليساء..أنا على يقين أن الهلال قد يساعدنا أيضا.
هتفت ليساء:
-احسنت كيتو وأنا أيضا أشعر أن الهلال له علاقة بحل اللغز.

-ألم تلاحظون ايضا أن هذا الباب شديد السواد.. وقد يرمز هذا السواد أيضا لشئ.
قال ذلك ديمتري وهو يحك شعاعه في مقدمة رأسه.
-عظيم..عظيم يأاصدقاء..أنتم أذكياء جدا أشعر أننا أقتربنا من حل اللغز.
فتفاخر ديمتري بنفسه فقد نصب رأسه بغرور ساخر..جعل بوت يقول بتزمر:
-لا تفتخر بنفسك كثيرا فانك لم تحل اللغز..قد يكون ما قلته لا علاقة له بفتح الباب أصلا.

فضيق ديمتري عيناه بغيظ واقترب منه وقد ألصق رأسه في رأس بوت هامسا بتحدي:
-أذا قدم لنا أنت حل اللغز أيه العبقري..ها
وبوت يبادله همهمته وينظر له بتحدي أكبر :
-سوف نرى ياعبقرى زمانك.

ليساء وهي تفرقهما:
-كفى ياأصدقاء..هذا ليس وقت الشجار لابد أن نصل لحل اللغز.. الشمس بدأت في المغيب وسيحل علينا الظلام..والجوع والعطش سيفتكان بنا وقد يكون خلف هذا الباب مايسد جوعنا.
هدأ الأصدقاء وبدأوا يفكرون في حل..حتى همست ليساء وكأنها تفكر بصوت عالي وتدعوهم للتفكير معها:
علينا أن نربط تلك الأشياء ببعضها البعض حتى نرى ما سوف نصل اليه.

دار بوت، وديمتري، وكيتو خلف بعضهم البعض فى حلقة للتفكير الجماعي بينما ليساء ظلت تتفحص الباب جيدا.. وتهمس لنفسها:
-ذلك السواد لأي الأشياء يرمز، وتلك النجوم..والهلال..هذه الأشياء اذا ارتبطت بعضها البعض، ماذا ستكون النتيجة؟
قد يرمز السواد للحداد، أو الليل..أو...
لالا أنني أميل لليل لأن تلك النجوم لا نراها الا اذا حل الظلام...نعم هذا هوا التفسير المنطقي..لكن الهلال ماذا سفيدنا؟؛.. ليل ونجوم وبجانبهم الهلال..فاتسعت ابتسامتها وهي تهتف بحماس:
-قد يعني هذا بداية الشهر العربي..نعم.. نعم أنا واثقة أن هذا هو التفسير المنطقي..ما رأيكم يااصدقاء.
توقفوا ثلاثتهم عن الدوران ونقلوا نظراتهم بينها وبين بعضهم البعض في حيرة..حتى قال ديمتري:
-أذا افترضنا جذلا أن ما تقولينه صحيح فأي شهر عربي من الأشهر هو؟ وأذا عرفناه كيف سيفيدنا في فتح الباب؟
صمتت ليساء برهة بعدها قالت في حيرة:
-علينا أن نعرفه أولا ثم نعرف كيف يفيدنا في فتح الباب.
شعرت ليساء بجفاف شديد في حلقها، الذي اشتدد من فرط العطش حتى انها مسحت رقبتها بيدها..كأنها تستجدي ريقها، والشمس بدأت أن تختفي..ذكرها ذلك الأحساس بصيام شهر رمضان عندما كانت تصوم..وكانت أصعب لحظات الصيام تلك الدقائق الأخيرة في انتظار آذان المغرب حتى يفطروا..ذلك الأحساس جعل حدقتي ليساء تتسع و تلمع ببريق المعرفة فهتفت في حماس وقد اشرق وجهها في سعادة:
-شهر رمضان.. هو شهر رمضان ..أظنه الشهر العربي الذي تنتظر الامة الأسلامية جمعاء ظهور هلاله..نعم أنه هو.

هزوا الاصدقاء رؤوسهم باقتناع..لكن كيتو سألها:
-قد يكون تخمينك صحيح ولكن هذا الأكتشاف كيف سيوصلنا لفتح الباب؟
الحماس يشتعل في قلب ليساء، جعلها ترد على كيتو وهي تشعر بيقين أن الباب سيفتح باذن الله ولن يخذلها الله:
-سوف يلهمنا الله يا كيتو بالمعرفة لا تقلق فظني بالله عظيما .. أمهولني فقط بعض الوقت أفكر.

داعبت ذقنها في تفكير وهي تنظر للباب بتفحص أدق لعلها تجد شئ ما تستطيع من خلاله حل اللغز، وبدون وعي امتدت يداها نحو الباب تمسحه أو كأنها تتلمسه وأذا بها كأن يدها تحسست شئ بارز على الباب فتوقفت عنده..كان التراب يغطيه أنه مسمار صغير، وعلى بعد مسافة عشرون سنتيمتر مسمار آخر..فقامت ليساء بتنظيف تلك المنطقة جيد وأذ بها كأنها لوحة صغيرة طولها ثلاثون سنتميتر وعرضها عشرون سنتمتر مثبتة بمسمارين، فهتفت بسعادة:
- أترون هذه اللوحة ياأصحاب أظنها يكمن خلفها الحل.

بوت باعجاب:
-احسنتي ليساء.. ولكن كيف سنزيلها؟
كيتو وهو يرفع شعاعه عاليا:
-لا يوجد غير هذا أداة.
ليساء مبتسمة:
-سوف نجربه كيتو.
أخذته منه وصوبت رأسه نحو الثقبين الجانبين ..كل واحد على حدى وأدارته بداخله وللحظ لقد استجاب وانفك المسمار الأول..ثم الثاني، أعطت ليساء الشعاع لكيتو ثم نزعت تلك اللوحة فكانت أسفلها كلمات مكتوبة بماء الذهب..حروفها تلمع فقرأت بصوت عالي حتى يسمعه الأصدقاء:
(اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت،وبك أمنت، وعليك توكلت ذهب الظمأ،وابتلت العروق وثبت الأجر)
وما إن انهت قراءته حتى ذابت تلك الحروف وكأنها أختفت عندما اندفعت مياه غزيرة من تلك الفجوة التي كان مكانها تلك اللوحة..فشهقوا الأصدقاء بفضل الماء الذي أغرقهم، وراحوا يضحكون ويهللون ويقفزون،  ثم شربوا، ليروا ظمئهم، وكأنهم بعد أن ارتووا انقطع الماء وفتح الباب على الفور.
ذلك الدعاء الذي يقوله الصائم قبل إفطاره هو مفتاح حل اللغز وفتح الباب.. الباب الرابع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي