الجزء الثاني (2)
توقف القطار الذي يقل الصغير لمجهول لا يعلم عنه شيء بعد أن صعد به هربًا من أمه وعشيقها بعدما كاد أن يجلده ذلك الأَثم الذي سمم طفولته البريئة بفعله الخبيث وإنعدام ضميره، ظل هاشم نائمًا لا يدري عما يدور حوله، كان أحد الرجال الجالسين على مقاعد القطار يتابعه بصمت خاصة بعدما لاحظ أنه يبكي بقهر ويبدو الأرهاق والوهن واضحان على تقاسيم وجهه مما جعله ينام وهو جالس بأرض العربة، وعندما جاء عامل القطار لأخذ تذكرته قام الرجل له واعطاه ثمنها وطلب منه أن يتركه وشأنه، وعندما وجد عربة القطار تكاد تفرغ من جميع ركابها ومازال هذا الصغير قابع مكانه لا يتحرك أقترب منه ونزل يجلس القرفصاء ولكزه برفق في ذراعه كي يفيق، لكنه تفاجاء بردة فعله المذعورة وصراخه بوجهه متوسلًا له أن يتركه.
- ابوس يدك سبني اني ما عملت شي دا عويس هو اللي عايز يضربني لان أمي وصته لما مرضتش أناديه أبا ولا عمي.
ربت الرجل على ذراعه بحنو.
- أهدى يا أبني ومتخافش انا مش هعملك حاجة.
هز هاشم رأسه بخوف.
- طب أنت ماسك يدي ليه أكده؟.
أشار الرجل حوله في جميع أنحاء عربة القطار.
- الناس كلها نزلت من القطر وأنت نايم مش حاسس بنفسك فقولت أصحيك تنزل لأن القطر دا هيرجع الصعيد تاني بعد ساعة.
نظر هاشم حيث أشار الرجل فنهض مسرعًا يجذب يده من الرجل.
- لاه اني مهعاودش الصعيد تاني اني عايز أروح لعمي.
اسرع الرجل خلفه لخارج القطار.
- طب استنى بس قولي عمك فين ولا أنت رايح له فين الأول قبل ما تطلع من المحطة؟.
توقف هاشم بأنفاس متسارعة ينظر حوله بتيه فأقترب منه الرجل.
- هو احنا أهنه فين القطر ده وصلني لفين؟.
ابتسم الرجل وهو يهدئه.
- ممكن بس تهدا في الأول وتفهمني أنت أزاي تركب القطر من غير ما تعرف هو رايح فين.
هز الصغير رأسه بحزن.
- أصل اني لما ركبت القطر مكنتش عارف هو رايح فين، أني كان المهم عندي أهرب من عويس وعشان أكده ركبت القطر اللي ماشي وخلاص المهم أهرب.
أمئ الرجل متفهمًا ثم وضع يده على كتف هاشم.
- على العموم يا سيدي أنت هنا في القاهرة ودي محطة رمسيس اللي أحنا واقفين فيها دي.
تنفس الصغير الصعداء وأجاب الرجل بسعادة بعدما اطمئن قلبه.
- الحمدلله أن القطر طلع جاي على القاهرة لأن عمي ساكن أهنه بردو.
ربت الرجل على كتفه بحنو.
- طب كويس الحمد لله حظك حلو أنه مكنش رايح على مدينة تانية، خلينا في المهم تعرف عنوان عمك أو رقم تليفونه.
ابتسم الصغير بفرح وهو يومئ للرجل وأخرج من جيب بنطاله حافظة نقود سوداء قديمة.
- دي محفظة أبوي من يوم ما مات وأني ديمًا بشيلها في جيبي، فيها ورق كتير وفيها كمان عنوان عمي ورقم تلفونه.
أمسك الرجل الحافظة وفتحها وبدأ يخرج منها الأوراق واحدة تلو الأخرى.
- هو أسمك ايه وكمان أسم عمك أيه يا حبيبي؟.
أشار الصغير له بأصبعه على الحافظة.
- اني أسمى هاشم مختار القناوي، وعمي اسمه خاطر القناوي وهتلاقي الكارت بتاع شركة المقاولات بتاعته أهنه أبويا كان ديمًا يطلعه يوريه ليا.
أمسك الرجل الكارت الورقي بيده يقرأ ما خط به.
- الحاج خاطر القناوي صاحب شركة القناوي للبناء والتعمير ورقم التليفون زيرو عشرة.
نظر لهاشم يطمئنه.
- كويس أن في رقم محمول دقيقة هكلمه عليه، بس تعالى معايا نطلع من الزحمة هنا ونكلمه من بره.
ثم خرجا هاشم مع ذلك المنقذ الذي أرسله الله له حتى يكون وسيلته الآمنة للوصول لعمه، أخرج الرجل هاتفه ونقر الرقم فوق ازراره ثم وضعه على أذنه ينتظر الأجابة.
في ذلك الوقت من اليوم حيث أذن للمغرب من نصف ساعة وكان خاطر يجلس على سجادة صلاته يسبح بمسبحته بعد أن قضى فرضه، أرتفع صوت هاتفه فطلب من زوجته أن تأتي به من غرفة النوم.
- عيشة يا عيشة هاتي التليفون بتاعي من عندك.
أتت زوجته تحمله بيدها واعطته له.
- أتفصل يا أبو غيث التليفون أهوه.
أخذه منها وضغط زر الأجابة ثم وضعه على أذنه.
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إجابه الرجل من الطرف الآخر.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، الحاج خاطر القناوي معايا؟.
أمئ خاطر بهدوء.
- أيوه انا خاطر القناوي حضرتك مين؟.
تنحنح الرجل في وقار.
- انا أسمى عبدالله صالح حضرتك متعرفنيش انا خدت رقمك من هاشم أبن أخوك مختار لأن انا لقيته راكب القطر اللي جاي من قنا لوحده وكان بيعيط وباين عليه الخوف وهدومه متبهدلة، فحبيت اساعده وأوصله لأهله، وهو اللي أداني الكارت بتاعك اللي كان في محفظة أبوه.
وقف خاطر من جلسته وسأل الرجل بحدة.
- هاشم أبن أخوي جاي لوحده ليه وفين أمه؟.
هز عبدالله رأسه بنفي.
- انا معرفش بصراحة الأحسن أنك تاخده وهو يقولك بنفسه.
ثم أعطى التليفون لهاشم الذي ما أن سمع صوت عمه حتى أنتخب يبكي بقهر.
- عمي أني هربت من أمي وعويس عشان كانت عايزاه يضربني بالكرباج.
جن جنون خاطر وصاح بغضب.
- أنت بتقول أيه يا هاشم وعويس مين ده اللي عايز يضربك.
بكى الصغير حتى تعالت شهقاته.
- عويس جارنا اللي بيته جار بيتنا لزم.
أتسعت عين خاطر بغضب.
- بقى عويس أبن عم أمك واللي كان بيشتغل كلاف البهايم عند أبوك عايز يجلدك أنت، يجلد أبن أسياده.
هز خاطر رأسه برفض.
- لا والله لا عاش ولا كان اللي يمد يده على ولد أخوي وأني عايش، متخافش يا هاشم أني هجبلك حقك، أدي التليفون للأستاذ عبدالله اللي واقف معاك يا حبيبي.
أمئ هاشم له وهو يعطي الهاتف لعبدالله.
- حاضر يا عمي.
امسك عبدالله الهاتف مرة أخرى.
- نعم يا حاج خاطر انا معاك.
خرجت نبرة خاطر ممتنه على صنيعه مع أبن شقيقه.
- اني بتشكرك قوي يا استاذ عبدالله علي وقفتك جنب ولدي وجميلك هيفضل في رقبتي لغاية ما أرده ليك، ممكن تقولي انت فين واني هاجي أخد أبن أخوي منك بنفسي.
زفر عبدالله براحة.
- متقولش كدا يا حاج خاطر أبن أخوك زي أبني واللي انا عملته معاه فرض على كل واحد أنه يعمله ويساعد الضعيف، وعلى العموم انا كدا كدا مروح وهركب تاكسي لو تحب اديني عنوانك وانا أجيبه معايا لغاية عندك.
ابتسم خاطر براحة.
- اني مش عايز أتعبك يا أستاذ عبدالله زيادة كتر خيرك لغاية كده.
هز عبدالله رأسه بنفي.
- لا تعب ولا حاجة وحتى لو تعبت تعبك راحة يا حاج خاطر وبعدين انا كدا كدا مروح فا هوصله ليك في سكتي يعني مفيش تعب ولا حاجة.
زفر خاطر بقوة مخرجًا ما يعتمل بنفسه من غضب بسيي ما فعلته زوجة شقيقه.
- طيب يا أستاذ عبدالله انا ساكن في المعادي شارع......... عمارة القناوي رقم......... هى في أول الشارع والوصول ليها سهل ميتوهش لو ركبت تاكسي وانا هحاسب عليه.
عبثت تقاسيم عبدالله وخرجت نبرته تعتب على ما قاله خاطر.
- وينفع بردو أنك تحاسب على أجرة تاكسي انا ركبه باين من صوت حضرتك أنك أبن عيلة وتعرف في الأصول، كدا انا هزعل منك قوي وعلى العموم أبن أخوك أمانة في رقبتي لغاية ما أوصله ليك وتستلمه مني بنفسك وانا مش مستني مقابل لفعل خير ربنا يقدرني لما أكمله للنهاية.
اغمض خاطر عينيه وتحدث بخجل.
- حقك علي يا أبن الأصول أني مقصدش أزعلك، انا كل غرضي أني محملكش فوق طاقتك وأنت مليكش ذنب في ده كله.
هز عبدالله رأسه متفهمًا.
- لا لا يا حاج خاطر متقولش كده الحكاية بسيطة مش مستهلة لكل ده، انا مضطر أقفل معاك دلوقتي وأن نركب تاكسي وساعة بالكتير ونكون عندك انا وهاشم.
أمئ خاطر بهدوء.
- تمام يا أستاذ عبدالله وانا قاعد مستنيكم، توصلوا بالسلامة ان شاء الله.
ابتسم عبدالله بحنو لهاشم الذي وقف يرتعش جسده بفعل تيارات الهواء الباردة التي حلت مع حلول الظلام.
- أن شاءالله مع السلامة.
أغمض خاطر عينيه بحزن وهو يودعه وينهي المكالمة.
- مع ألف سلامة يا أستاذ عبدالله.
خلع عبدالله سترته الشتوية من على جسده ثم اقترب من الصغير يضعها حوله كي تقيه لفحات البرد، فنظر له هاشم ممتنًا له يرفض أخذها.
- لا اني معوزهاش، البسها يا عمي عشان متبردش اني كويس متخافش عليا.
هز عبدالله رأسه يرفض أن يأخذها منه.
- خليها عليك يا هاشم لغاية ما نوصل لبيت عمك على الأقل وبعد كدا أبقى أخدها.
ثم أشار عبدالله لسيارة أجرة فتوقف قائدها له ففتح بابها الخلفي وساعد الصغير على الصعود بها وأغلق الباب وراءه ثم فتح الباب الأمامي وصعد بجانب السائق الذي انطلق بها بعدما أعطاه عبدالله عنوان منزل خاطر القناوي، وبعد فترة ليست قصيرة وصلت السيارة لوجهتها وتوقف بها السائق حيث كان يقف خاطر أسفل البناية ينتظر مجيئ أبن أخيه بفارغ الصبر، وما أن لمحه الصغير حتى فتح الباب ونزل منها مسرعًا نحو عمه الذي أستقبله فاتحًا ذراعيه عن أخرهما وتلقاه في أحضانه يضمه بحب وعاطفة كبيرة فا هاشم هو أبن شقيقه الوحيد والذكرى الأخيرة له منه وكل ما يريده هو الحفاظ على تلك الأمانة حتى يلقى أخيه وضميره لا يقرعة على التفريط أبنه الذي استودعه إياه، ظل الصغير يبكي في حضن عمه وهو يتلمس الأمان الذي فقده بسبب جحود أمه وقساوة قلبها، دمعت عين عبدالله تأثرًا بحال هاشم البائس، فربت خاطر على ظهره بعدما كاد يفقد السيطرة على مشاعره ويبكي هو الآخر.
- كفياك بكى يا هاشم أحنا معندناش رجاله بتعيط، وحقك هخليك تاخده من اللي أذوك تالت ومتلت، وصدقني يا ولدي مهرحمهمشي واصل ولازمن أخلي العشيرة تطبق فيه حد الله مين ما كانوا يكونوا.
نظر عبدالله لخاطر مندهشًا بعدما شعر برهبة وخوف من نبرته المتوعدة بعذاب مهين لمن تسبب في عذاب أبن أخيه، فعزم على الأستأذان والرحيل كي يتركه لأنتقامه.
- بعد أذنك يا حاج خاطر اسمحلي هروح لأني اتأخرت ومش عايز أقلق أهل بيتي عليا.
اشار خاطر له بالتوقف للحظات حيث إخذ من أبنه الكبير غيث مغلف ورقي ثم أمسك يد عبدالله يصافحه بحرارة واعطاه المغلف في يده، فاراد عبدالله الأعتراض ورفض أخذ مقابل خدمته البسيطة لكن صرامة خاطر جعلته يخشى أن يغضبه.
- انا مش هقدر أخد دا خالص يا حاج خاطر مينفعش إخد مقابل سلامة أبن أخوك.
تحجرت عينا خاطر وخرجت صوته مكتومًا من بين أسنانه.
- ده مش تمن سلامة أبن أخوي لأن مال الدنيا كلياته ميكفيش سلامته، ده حلوان وصوله ليا بالسلامة ولعلمك أنت معندكش مجال ترفض لأن أني مهخلكش تمشي من أهنه غير ما تاخده وبعدين دي حاجة بسيطة متستهلش أننا نفضل نتحايلوا عليك تاخده وياريت متزعليش منيك يا أستاذ عبدالله.
أمأ عبدالله بهدوء.
- لا يا حاج خاطر انا ميرضنيش زعلك حاضر انا هاخده عشان خاطرك بس.
أمد خاطر يده بورقة مقواه ملونة يعطيها له.
- خد يا أستاذ عبدالله ده الكارت بتاعي أي حاجة تحتاجها أتصل بيا على طول ومتترددش واني هكون في خدمتك أن شاءالله.
أبتسم عبدالله له ثم أخذ منه الورقة ووضعها في حافظة نقوده.
- أن شاءالله يا حاج خاطر، انا هستأذن بقى تؤم نط بأي حاجة قبل ما أمشي.
هز خاطر رأسه برفق.
- عاوزين سلامتك يا أستاذ عبدالله مع السلامة وفي رعاية الله وحفظه.
لوح له عبدالله وهو يصعد للسيارة مرة أخرى.
- تسلم أن شاءالله يا حاج، مع الف سلامة.
- ابوس يدك سبني اني ما عملت شي دا عويس هو اللي عايز يضربني لان أمي وصته لما مرضتش أناديه أبا ولا عمي.
ربت الرجل على ذراعه بحنو.
- أهدى يا أبني ومتخافش انا مش هعملك حاجة.
هز هاشم رأسه بخوف.
- طب أنت ماسك يدي ليه أكده؟.
أشار الرجل حوله في جميع أنحاء عربة القطار.
- الناس كلها نزلت من القطر وأنت نايم مش حاسس بنفسك فقولت أصحيك تنزل لأن القطر دا هيرجع الصعيد تاني بعد ساعة.
نظر هاشم حيث أشار الرجل فنهض مسرعًا يجذب يده من الرجل.
- لاه اني مهعاودش الصعيد تاني اني عايز أروح لعمي.
اسرع الرجل خلفه لخارج القطار.
- طب استنى بس قولي عمك فين ولا أنت رايح له فين الأول قبل ما تطلع من المحطة؟.
توقف هاشم بأنفاس متسارعة ينظر حوله بتيه فأقترب منه الرجل.
- هو احنا أهنه فين القطر ده وصلني لفين؟.
ابتسم الرجل وهو يهدئه.
- ممكن بس تهدا في الأول وتفهمني أنت أزاي تركب القطر من غير ما تعرف هو رايح فين.
هز الصغير رأسه بحزن.
- أصل اني لما ركبت القطر مكنتش عارف هو رايح فين، أني كان المهم عندي أهرب من عويس وعشان أكده ركبت القطر اللي ماشي وخلاص المهم أهرب.
أمئ الرجل متفهمًا ثم وضع يده على كتف هاشم.
- على العموم يا سيدي أنت هنا في القاهرة ودي محطة رمسيس اللي أحنا واقفين فيها دي.
تنفس الصغير الصعداء وأجاب الرجل بسعادة بعدما اطمئن قلبه.
- الحمدلله أن القطر طلع جاي على القاهرة لأن عمي ساكن أهنه بردو.
ربت الرجل على كتفه بحنو.
- طب كويس الحمد لله حظك حلو أنه مكنش رايح على مدينة تانية، خلينا في المهم تعرف عنوان عمك أو رقم تليفونه.
ابتسم الصغير بفرح وهو يومئ للرجل وأخرج من جيب بنطاله حافظة نقود سوداء قديمة.
- دي محفظة أبوي من يوم ما مات وأني ديمًا بشيلها في جيبي، فيها ورق كتير وفيها كمان عنوان عمي ورقم تلفونه.
أمسك الرجل الحافظة وفتحها وبدأ يخرج منها الأوراق واحدة تلو الأخرى.
- هو أسمك ايه وكمان أسم عمك أيه يا حبيبي؟.
أشار الصغير له بأصبعه على الحافظة.
- اني أسمى هاشم مختار القناوي، وعمي اسمه خاطر القناوي وهتلاقي الكارت بتاع شركة المقاولات بتاعته أهنه أبويا كان ديمًا يطلعه يوريه ليا.
أمسك الرجل الكارت الورقي بيده يقرأ ما خط به.
- الحاج خاطر القناوي صاحب شركة القناوي للبناء والتعمير ورقم التليفون زيرو عشرة.
نظر لهاشم يطمئنه.
- كويس أن في رقم محمول دقيقة هكلمه عليه، بس تعالى معايا نطلع من الزحمة هنا ونكلمه من بره.
ثم خرجا هاشم مع ذلك المنقذ الذي أرسله الله له حتى يكون وسيلته الآمنة للوصول لعمه، أخرج الرجل هاتفه ونقر الرقم فوق ازراره ثم وضعه على أذنه ينتظر الأجابة.
في ذلك الوقت من اليوم حيث أذن للمغرب من نصف ساعة وكان خاطر يجلس على سجادة صلاته يسبح بمسبحته بعد أن قضى فرضه، أرتفع صوت هاتفه فطلب من زوجته أن تأتي به من غرفة النوم.
- عيشة يا عيشة هاتي التليفون بتاعي من عندك.
أتت زوجته تحمله بيدها واعطته له.
- أتفصل يا أبو غيث التليفون أهوه.
أخذه منها وضغط زر الأجابة ثم وضعه على أذنه.
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إجابه الرجل من الطرف الآخر.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، الحاج خاطر القناوي معايا؟.
أمئ خاطر بهدوء.
- أيوه انا خاطر القناوي حضرتك مين؟.
تنحنح الرجل في وقار.
- انا أسمى عبدالله صالح حضرتك متعرفنيش انا خدت رقمك من هاشم أبن أخوك مختار لأن انا لقيته راكب القطر اللي جاي من قنا لوحده وكان بيعيط وباين عليه الخوف وهدومه متبهدلة، فحبيت اساعده وأوصله لأهله، وهو اللي أداني الكارت بتاعك اللي كان في محفظة أبوه.
وقف خاطر من جلسته وسأل الرجل بحدة.
- هاشم أبن أخوي جاي لوحده ليه وفين أمه؟.
هز عبدالله رأسه بنفي.
- انا معرفش بصراحة الأحسن أنك تاخده وهو يقولك بنفسه.
ثم أعطى التليفون لهاشم الذي ما أن سمع صوت عمه حتى أنتخب يبكي بقهر.
- عمي أني هربت من أمي وعويس عشان كانت عايزاه يضربني بالكرباج.
جن جنون خاطر وصاح بغضب.
- أنت بتقول أيه يا هاشم وعويس مين ده اللي عايز يضربك.
بكى الصغير حتى تعالت شهقاته.
- عويس جارنا اللي بيته جار بيتنا لزم.
أتسعت عين خاطر بغضب.
- بقى عويس أبن عم أمك واللي كان بيشتغل كلاف البهايم عند أبوك عايز يجلدك أنت، يجلد أبن أسياده.
هز خاطر رأسه برفض.
- لا والله لا عاش ولا كان اللي يمد يده على ولد أخوي وأني عايش، متخافش يا هاشم أني هجبلك حقك، أدي التليفون للأستاذ عبدالله اللي واقف معاك يا حبيبي.
أمئ هاشم له وهو يعطي الهاتف لعبدالله.
- حاضر يا عمي.
امسك عبدالله الهاتف مرة أخرى.
- نعم يا حاج خاطر انا معاك.
خرجت نبرة خاطر ممتنه على صنيعه مع أبن شقيقه.
- اني بتشكرك قوي يا استاذ عبدالله علي وقفتك جنب ولدي وجميلك هيفضل في رقبتي لغاية ما أرده ليك، ممكن تقولي انت فين واني هاجي أخد أبن أخوي منك بنفسي.
زفر عبدالله براحة.
- متقولش كدا يا حاج خاطر أبن أخوك زي أبني واللي انا عملته معاه فرض على كل واحد أنه يعمله ويساعد الضعيف، وعلى العموم انا كدا كدا مروح وهركب تاكسي لو تحب اديني عنوانك وانا أجيبه معايا لغاية عندك.
ابتسم خاطر براحة.
- اني مش عايز أتعبك يا أستاذ عبدالله زيادة كتر خيرك لغاية كده.
هز عبدالله رأسه بنفي.
- لا تعب ولا حاجة وحتى لو تعبت تعبك راحة يا حاج خاطر وبعدين انا كدا كدا مروح فا هوصله ليك في سكتي يعني مفيش تعب ولا حاجة.
زفر خاطر بقوة مخرجًا ما يعتمل بنفسه من غضب بسيي ما فعلته زوجة شقيقه.
- طيب يا أستاذ عبدالله انا ساكن في المعادي شارع......... عمارة القناوي رقم......... هى في أول الشارع والوصول ليها سهل ميتوهش لو ركبت تاكسي وانا هحاسب عليه.
عبثت تقاسيم عبدالله وخرجت نبرته تعتب على ما قاله خاطر.
- وينفع بردو أنك تحاسب على أجرة تاكسي انا ركبه باين من صوت حضرتك أنك أبن عيلة وتعرف في الأصول، كدا انا هزعل منك قوي وعلى العموم أبن أخوك أمانة في رقبتي لغاية ما أوصله ليك وتستلمه مني بنفسك وانا مش مستني مقابل لفعل خير ربنا يقدرني لما أكمله للنهاية.
اغمض خاطر عينيه وتحدث بخجل.
- حقك علي يا أبن الأصول أني مقصدش أزعلك، انا كل غرضي أني محملكش فوق طاقتك وأنت مليكش ذنب في ده كله.
هز عبدالله رأسه متفهمًا.
- لا لا يا حاج خاطر متقولش كده الحكاية بسيطة مش مستهلة لكل ده، انا مضطر أقفل معاك دلوقتي وأن نركب تاكسي وساعة بالكتير ونكون عندك انا وهاشم.
أمئ خاطر بهدوء.
- تمام يا أستاذ عبدالله وانا قاعد مستنيكم، توصلوا بالسلامة ان شاء الله.
ابتسم عبدالله بحنو لهاشم الذي وقف يرتعش جسده بفعل تيارات الهواء الباردة التي حلت مع حلول الظلام.
- أن شاءالله مع السلامة.
أغمض خاطر عينيه بحزن وهو يودعه وينهي المكالمة.
- مع ألف سلامة يا أستاذ عبدالله.
خلع عبدالله سترته الشتوية من على جسده ثم اقترب من الصغير يضعها حوله كي تقيه لفحات البرد، فنظر له هاشم ممتنًا له يرفض أخذها.
- لا اني معوزهاش، البسها يا عمي عشان متبردش اني كويس متخافش عليا.
هز عبدالله رأسه يرفض أن يأخذها منه.
- خليها عليك يا هاشم لغاية ما نوصل لبيت عمك على الأقل وبعد كدا أبقى أخدها.
ثم أشار عبدالله لسيارة أجرة فتوقف قائدها له ففتح بابها الخلفي وساعد الصغير على الصعود بها وأغلق الباب وراءه ثم فتح الباب الأمامي وصعد بجانب السائق الذي انطلق بها بعدما أعطاه عبدالله عنوان منزل خاطر القناوي، وبعد فترة ليست قصيرة وصلت السيارة لوجهتها وتوقف بها السائق حيث كان يقف خاطر أسفل البناية ينتظر مجيئ أبن أخيه بفارغ الصبر، وما أن لمحه الصغير حتى فتح الباب ونزل منها مسرعًا نحو عمه الذي أستقبله فاتحًا ذراعيه عن أخرهما وتلقاه في أحضانه يضمه بحب وعاطفة كبيرة فا هاشم هو أبن شقيقه الوحيد والذكرى الأخيرة له منه وكل ما يريده هو الحفاظ على تلك الأمانة حتى يلقى أخيه وضميره لا يقرعة على التفريط أبنه الذي استودعه إياه، ظل الصغير يبكي في حضن عمه وهو يتلمس الأمان الذي فقده بسبب جحود أمه وقساوة قلبها، دمعت عين عبدالله تأثرًا بحال هاشم البائس، فربت خاطر على ظهره بعدما كاد يفقد السيطرة على مشاعره ويبكي هو الآخر.
- كفياك بكى يا هاشم أحنا معندناش رجاله بتعيط، وحقك هخليك تاخده من اللي أذوك تالت ومتلت، وصدقني يا ولدي مهرحمهمشي واصل ولازمن أخلي العشيرة تطبق فيه حد الله مين ما كانوا يكونوا.
نظر عبدالله لخاطر مندهشًا بعدما شعر برهبة وخوف من نبرته المتوعدة بعذاب مهين لمن تسبب في عذاب أبن أخيه، فعزم على الأستأذان والرحيل كي يتركه لأنتقامه.
- بعد أذنك يا حاج خاطر اسمحلي هروح لأني اتأخرت ومش عايز أقلق أهل بيتي عليا.
اشار خاطر له بالتوقف للحظات حيث إخذ من أبنه الكبير غيث مغلف ورقي ثم أمسك يد عبدالله يصافحه بحرارة واعطاه المغلف في يده، فاراد عبدالله الأعتراض ورفض أخذ مقابل خدمته البسيطة لكن صرامة خاطر جعلته يخشى أن يغضبه.
- انا مش هقدر أخد دا خالص يا حاج خاطر مينفعش إخد مقابل سلامة أبن أخوك.
تحجرت عينا خاطر وخرجت صوته مكتومًا من بين أسنانه.
- ده مش تمن سلامة أبن أخوي لأن مال الدنيا كلياته ميكفيش سلامته، ده حلوان وصوله ليا بالسلامة ولعلمك أنت معندكش مجال ترفض لأن أني مهخلكش تمشي من أهنه غير ما تاخده وبعدين دي حاجة بسيطة متستهلش أننا نفضل نتحايلوا عليك تاخده وياريت متزعليش منيك يا أستاذ عبدالله.
أمأ عبدالله بهدوء.
- لا يا حاج خاطر انا ميرضنيش زعلك حاضر انا هاخده عشان خاطرك بس.
أمد خاطر يده بورقة مقواه ملونة يعطيها له.
- خد يا أستاذ عبدالله ده الكارت بتاعي أي حاجة تحتاجها أتصل بيا على طول ومتترددش واني هكون في خدمتك أن شاءالله.
أبتسم عبدالله له ثم أخذ منه الورقة ووضعها في حافظة نقوده.
- أن شاءالله يا حاج خاطر، انا هستأذن بقى تؤم نط بأي حاجة قبل ما أمشي.
هز خاطر رأسه برفق.
- عاوزين سلامتك يا أستاذ عبدالله مع السلامة وفي رعاية الله وحفظه.
لوح له عبدالله وهو يصعد للسيارة مرة أخرى.
- تسلم أن شاءالله يا حاج، مع الف سلامة.