الفصل الثاني بحر بلا شاطئ
في ليلة ممطرة.. عواصف رعدية وبرق يزين السماء، يجلس آدم في إحدى زوايا الغرفة وهو يرجف من البرد القارس، وتصطك أسنانه ببعضها في نغمة رتيبة، ضاماً جسده بذراعيه يتوسل الدفء فلا مجيب لندائه، فجسده قد أصبح مغطى بالكدمات والجروح جزاء على اعتراضه على لوائح المصحة، فيعامل كأنه حيوان موبوء، فأصبح هزيل الجسد، يحيط عيناه اللون الأسود كحيوان الباندا، تحت قدماه الحافية أرض أسمنتية بلا فراش، يحاوطه الظلام من كل جانب، يسمع أصوات الرعد وهى تعصف كأنها وحوش تزأر وتحاول نهش جسده بأنيابها الحادة، يدعو الله بقلبه أن ينجيه من هذا الجحيم، فدموعه جفت من كثر البكاء والعويل، لا يدري هل يرثي نفسه؟ أم يندب حظه على لجوءه لمثل هذا الدار أملاً في الشفاء من سقم قد قام بنفسه بالابتلاء به، جحظت عيناه عند سماع أصوات أقدام تقترب من باب الغرفة المؤصدة، قلبه تهاوى مع صرير الباب وهو يفتح، رفع بصره تجاه الباب وهو يحبس أنفاسه من الرعب، فطل عليه رجل.. لا ليس برجل بل آلة ضخمة للفتك والضرب والتعذيب، كأنه وحش تم استيراده من معتقل غوانتانامو، يطلق من عيناه حمم بركانية، تذوب من حممها الأبدان، فلم يشعر آدم إلا بماء دافئ ينهمر بين رجليه، كأنه طفل قد رأى عفريت يخرج له من تحت الفراش، كشر هذا الوحش عن أنيابه قائلاً:
- اخرج أمامي فلقد انتهى فترة احتجازك في غرفة الأنفرادي، وأرجو أن تكون قد تعلمت درسك جيداً.
نظر آدم للأسفل بحرج، فهو قد لوث نفسه، ولا يستطيع الحراك من مكانه بهذة الهيئة..
ضحك (سبعاوي) ضحكة مجلجلة، يهتز جسده من قوتها قائلاً:
- ألست كبيراً بما يكفي لفعلها على نفسك، يالك من جبان!
أدمعت عين (آدم) من الخجل وقلة الحيلة قائلاَ:
- برجاء احضر لي ملابس أخرى.. أرجوك.
فرح (سبعاوي) لنجاحه في كسر عين (آدم) وخرج من الغرفة، ثم عاود أدراجه مرة أخرى وهو يحمل بين يداه دلو به ماء كاد أن تتجمد من برودتها، ثم القاه على جسد آدم، فشهق آدم وشعر بتجمد أطرافه وهو ينظر لسبعاوي متفاجأ من تصرفه قائلاً:
- لماذا؟! ألا تخشى الله! ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء.
ضحك (سبعاوي) بسخرية قائلاً:
- وأين كان إيمانك بالله وأنت تلقي بنفسك في التهلكة؟ هل تذكرته الآن؟ هياا أمامي وإلا لقنتك درس لن تنساه طيلة حياتك.
حاول (آدم) أن يتحرك، فجسده قارب على التجمد، فكان يصدر من حركته صوت احتكاك قدمه بالأرض، حتى وصل للغرفة المنشودة التي تضم أكثر من خمسة عشر شاباً حالتهم لا تقل عنه سوءاً، وعندما دلف للحجرة هرول إليه شابين وهما يحاولان إسناده للجلوس على فراش مهلك، وقاما بتغيير ملابسه المبتلة والمتسخة، وقلبهما يرجف من الخوف، فمستقبلهما كاحل لا بصيص أمل فيه، في صباح اليوم التالي.. استيقظ (آدم) وهو مصمم على الهروب، ولكن كيف؟ فتذكر حديث أحد الشباب الذين يقبعون معه في الحجرة، فلقد قال سابقاً أنه سبق له الهروب، ولكن أهله قاموا بأرجاعه مرة أخرى للدار، فقام ( آدم) بالتلفت حوله حتى عثر عليه، فقام بالتقرب منه في هدوء تام حتى لا يثير الشك، وجلس بجواره قائلا بهمس:
- أنا أريد الهرب، من فضلك ساعدني، ولن أنسى معروفك طيلة حياتي.
نظر له الفتى بنظرة جانبيه، ثم تنهد قائلاً:
- وماذا سأجني بالمقابل؟
أمسك (آدم) كف يده وهو ينظر له متوسلاً:
- ما تأمر به مجاب، ولكن ارحمني.. أريد الخروج من هذا الجحيم.
ابتسم الفتى وهو يومأ له بالموافقة قائلاً:
- انتظر مني الإشارة، وكن مستعداً.
..تجلس في شرفة المنزل وهى متكئة على السور، وتراقب المارة وتنظر للوجوه، فهى تبحث عن من سلب لب عقلها، ودقات قلبها، يا ترى أين ذهب؟ ولماذا لم يعد بعد؟ لقد هاجر النوم جفونها، فما من راحة حتى تراه بأم عينيها، حتى يطمئن قلبها على سلامته، وأثناء ذلك وجدت من يربت على كتفها قائلاً:
- كفياكي تحديقاً في المارة، فهو لم يأتي بعد، فلا ترهقي عينكي هباءاً.
ألتفتت (رشا) لها قائلة:
- ماذا أفعل يا أختاه؟ فقلبي يأبى التصديق، ينتظره حتى يدق من جديد.
جلست (نهى) أمام أختها (رشا) وهى تمسك يديها قائلة:
- وماذا حين يراه قلبك؟ فهو لا يعلم بحبك له، فحبك من طرف واحد فقط، كيف تعيشين الوهم؟ القلب في حاجة إلى من يحيه لا إلى من يرهقه، احفظي قلبك إلى من يستحقه.
ضحكت (رشا) في سخرية وهى تنظر مرة أخرى للطريق قائلة:
- نصيحتك جاءت متأخرة يا أختاه، فلم أعد المتحكمة في قلبي، بل هو من يتحكم بي.
.. لقد مر أسبوعين على وجود (آدم) في المصحة، فحاول (أدهم) زيارته والأطمئنان عليه، ولكن مدير المصحة منع ذلك بحجة أنه في فترة العلاج ويمنع عنه الزيارة؛ حتى تتحسن حالته النفسية، وللأسف اقتنع أدهم بذلك وعاود أدراجه، ولكن بعد دفع مبلغ آخر للمصحة، وعند عودته تلقى اتصال من والدته فأجاب قائلاً:
- لقد اشتقت إليكِ يا أمي، أعلم أني مقصر في حقك، فسامحيني.. مشقة الحياة والسعي وراء لقمة العيش أصبح مرهقاً.
ترقرقت دمعة دفينة بعيني (فاتن) وهى تجلس على فراشها وتسند رأسها على طرفه، تنهدت وهى تقول بصوتٍ خافتٍ:
- أعلم ذلك، وأدعو لك دائماً أن يعينك ويرزقك من حيث لا تعلم، اتصلت بك للسؤال عن أخيك آدم، فقلبي يعتصر عليه، أشعر أنه في كرب وضيق، هل اتصل بك؟
قام (أدهم) بمرور أصابعه بين خصلات شعره وهو يتنهد قائلاً:
- نعم.. لقد اتصل بي، فأعذريه يا أمي فهو بمكان إرساله ضعيف، فلا يستطيع الاتصال بك، ولقد أنساني الشيطان أن أبلغكِ فأعذريني، أنا المخطئ.
تنفست (فاتن) الصعداء وهى تتمتم " الحمدلله" ثم قالت:
- لقد أرحتني أراحك الله يا بني.. فقلبي يشعر بالإختناق في بُعد أخيك عني، فظننت أنه في كربة ومشقة، الحمدلله.. ادعو الله أن يرده إلي سالم غانم، أعذرني يا بني لم أسألك عن حفيدي وأمه، هل هما بخير؟
حاول (أدهم) زرع ابتسامة على محياه قائلاً:
- بأفضل حال.. هل أنتِ في حاجة؟ هل ينقصك شئ؟ أطلبي يا أمي، فأنا رهن إشارتك.
ابتسمت (فاتن) قائلة:
- أريد سلامتك.. ولا تنسى أن تخبر أخيك أن يتواصل معي، فقلبي لن يهدأ حتى يسمع صوته.
أغلق (أدهم) المكالمة وهو يشعر بمعاناة أمه، فقلب الأم لا يخطئ ابدا، ولكن كيف يخبرها بمكان تواجده؟ فلقد وعد أخاه بألا يخبر مخلوق بمكانه فهذا شرطه لتلقي العلاج، ظل يدعو الله بشفاء أخيه العاجل.
كان (يزيد) في الجامعة، حيث قام بالاِنتهاء من شرح المحاضرة في طريقه لمكتبه، فسمع صوت أنثوي رقيق ينادي عليه، فألتفت للصوت وجدها رشا بنت الجيران، فتعجب قائلاً:
- رشا!! ماذا أتى بك إلى هنا؟
ابتسمت (رشا) وهى تنظر له، فخيل إليها بأنها تنظر لحبيبها آدم، فهما متقاربان في الملامح والعيون قائلة:
- كنت في زيارة لصديقة لي، فوجدتك بالصدفة، فأردت إلقاء التحية عليك.
أشار (يزيد) لها تجاه باب مكتبه قائلاً:
- تفضلي بالدخول حتى يتسنى لنا الحديث في هدوء بعيداً عن ضوضاء الطلبة.
أومأت (رشا) له ودلفت لحجرة مكتبه، وهى تتلفت بداخلها، فبالرغم من عدم اتساعها إلا أنها كانت منظمة وتحث على التفاؤل قائلة:
- مكتبك جميل.. كيف حالك؟ لم أعد أراكم في الحي كثيراً، لعل المانع خير.
جلس (يزيد) خلف مكتبه وهو ممسك بسماعة الهاتف قائلاً:
- قبل كل شئ.. ماذا تشربي؟ مهلاً هنا يعدون عصير البرتقال الطازج سوف يعجبك سأطلبه لكِ.
ظلت (رشا) في مكتبه لنصف ساعة، وهى تحاول معرفة سر اختفاء آدم، ولكن لم تستطع السؤال بشكل مباشر و (يزيد) لم يفهم ما بين السطور، ياله من غبي! فهى في الحقيقة لم تأتي لزيارة أحد بل لمقابلته؛ لمعرفة مكان تواجد آدم والاِطمئنان عليه، فنظرت لساعتها ثم رفعت نظرها إليه قائلة:
- شكراً على كرم ضيافتك، فلقد أخذت من وقتك الثمين، وارجو إبلاغ سلامي للعائلة.
وقف (يزيد) وهو مبتسم، مدّ يده لها قائلاً:
- بالعكس لقد أنارتي مكتبي بقدومك، وارجو معاودة الزيارة مرة أخرى.
خرجت (رشا) من مكتبه وهى تحمل معها خيبة الأمل، ولكن لاحظت شئ ما، فنظرات يزيد لها لم تكن بريئة، أو قد خُيل لها ذلك، فهى لم تعد تعلم شئ، فتنهدت بحزن دفين متمتمة:
- أين أنت يا آدم؟ لقد اشتقت إليك، أين أراضيك؟
..كان (يزيد) يجلس على كرسي مكتبه وهو يستند بظهره للخلف، محرك قلمه بين أصابعه، شارد بخياله في حُسنها وجمالها الآخاذ، فهو يعلم بأنها جاءت لرؤيته فلا صديقة لديها هنا، ولكن لماذا؟ أيعقل أن تكون معجبة به أو عاشقة له؟! فابتسم عند وصول تفكيره لهذة النقطة.
.. يسمع صوت قرقرة المعدة، فلم يذق الطعام منذ يومان، فأين الرحمة؟ فلم يصل لمنزلة الحيوان، هل أقتلع من قلبهم الأنسانية وزرع بدلاً منها قسوة الحجارة؟! ما الذي أقترفه في حقهم حتى يعامل هكذا؟ فهو لم يؤذي سوى نفسه، وكان يأمل النجاة، ولذا اِرتمى في أحضانهم، ولم يعلم بأن حضنهم كالصبار يحيطه الشوك من كل جانب، والمرار بداخله كالحنظل، ياليتني أملك آلة زمنية للرجوع بالزمن للوراء، حتى أمنع نفسي من اِرتكاب هذة الحماقة، لم يعد لدي القدرة على التحمل أكثر من ذلك، فالموت أصبح راحة لي من هذا الجحيم، فالألم، و العذاب، وكسرة النفس، والذل، أصبحوا رفقائي في هذا المكان الموحش، فلم يعد أمامي سوى الهروب أو الموت، سمعت همس بجانب أذني يقول:
- استعد.. فاليوم ستكون حُر طليق، ولكن لا تنسى المبلغ المتفق عليه، ستودعه في حسابي البنكي.
رقص قلبي فرحاً، فجملته كانت كطوق النجاة من ظلمة قاع المحيط، الذي لا يتخخله شعاع من الضوء، فألتفت له قائلاً:
- أقسم لك.. بخروجي من هنا، سأدفع لك ضعف ما تطلب.
في عتمة الليل، واختفاء ضي القمر، قام الفتى ومن ورائه (آدم) بالهروب من المصحة، وذلك عن طريق اتفاق الفتى مع أحد العاملين بالمصحة، وذلك بمقابل مبلغ من المال الوفير، فكان بانتظارهم سيارة أجرة تقف بالقرب من المصحة، وعند تسلقهم السور والقفز منه، وجدوا إشارة ضوئية تبعث لهم من السيارة، فهرولوا تجاهها وتنفسوا الصعداء وهى تنطلق بهم إلى الحرية، سمع (أدهم) طرق على باب منزله في جوف الليل، فشعر بالخوف وهو يهمهم:
- استر يارب..
فتفاجأ بشبح أخيه، فالصدمة قد لجمته، حتى شعر بتمزق أحباله الصوتية، ففتح فاهه بدون خروج صوت، حتى قاطعه صوت أخيه قائلاً:
- لا أستطيع الوقوف طويلاً، قدماي لن تصمد أكثر من ذلك.
أشار (أدهم) للداخل ولم ينطق بكلمة، ظل ينظر لدلوف أخيه وهو يشعر بالصدمة، فتساءل من هذا؟ جلس أمامه وهو يتفحص جسد أخيه، الذي أصبح معدوماً، فتنهد آدم قائلاً:
- سوف اقص عليك ما حدث لي، ولكني أشعر بالجوع، فهل يوجد لديك طعام؟
جحظ (أدهم) وقلبه يتمزق على أخيه، فأومأ له وذهب للمطبخ لإحضار أشهى طعام، وحمد الله على نوم زوجته وابنه، فلا يريد أن يشعر أخيه بالحرج عند رؤيتهم، حاول أدهم رسم أبتسامة كاذبة، فقلبه ينزف حزناً على أخيه قائلاً:
- لقد اشتقت إليك، فمنذ يومين ذهبت للمصحة لمقابلتك، ولكنهم رفضوا الزيارة، فرجعت خالي الوفاض، هل أتم الله شفائك؟
ضحك (آدم) حتى أدمعت عيناه، ثم بكى بحرقة رجل فقد شرفه، وكرامته، وانتهك أنسانيته، فما أصعب بكاء رجل عاجز مقهور لا حيلة له، فقفز أدهم من مكانه وهو يحضن أخيه ويربت على ظهره، حتى شعر بقطرات من الماء الساخن تنهمر من جفنيه من شدة ألم قلبه على أخيه، وبعد مرور عدة دقائق على حالهم، خرج (آدم) من حضن أخيه وهو يمسح دموعه قائلاً:
- سأروي لك ما حدث معي.. ولكن أريد مأوى لي بعيداً عن هنا لفترة حتى استرد عافيتي، فلا أستطيع أن أظهر أمام أمي ولا زوجتك بهذا المظهر.
- لا تقلق سأهتم بذلك، أحكي لي ما حدث معك، كلي أذان صاغية.
.. كان (أدهم) يستمع لأخية ودموعه تتسابق في النزول، وظل يؤنب نفسه والذنب ينهشه كالوحش الكاسر، فهو من فعل بأخيه ذلك، كيف ألقى بأخيه في جحر الحيات والعقارب؟ الذنب ذنبه فهو لم يتقصى جيداً عن المصحة، فأصبح كمن ألقى بأخيه في غيابة الجب، كل كلمة، وتنهيدة، ودمعة من أخيه كانت كجمرة النار تحرق فؤاده وتمزقه لأشلاء حتى الرماد، تمنى الأرض تنشق وتبتلعه حياً؛ على ما أقترفه في حق أخيه، عند انتهاء آدم من الحديث، قال (أدهم) وهو يسكب الدموع على ما عاناه أخيه:
- أقسم لك يا أخي.. لن أترك حقك، فسأجعلهم يتعفنون في السجون، لن أرحمهم، سامحني يا أخي فذنبي عظيم، كنت أريد لك الخير فأصبح شر، فلن أسامح نفسي ما دمت حياً.
ربت (آدم) على كتف أخيه وهو يمسح دموعه بيده الأخرى قائلاً:
- أعلم يا أخي نواياك، فأنت اطهر وانقى مخلوق عرفته، فلا تقسى على نفسك، فأنا على يقين بأنك تفديني بروحك عند الخطر، فالذنب ذنبي أنا، لقد قضيت على مستقبلي بيدي، وجعلت السفيه وحطاط القوم يتدلون على كتفي.
- لا تخف يا أخي.. سأظل درعك القوي، سندك في الحياة، كل من سولت له نفسه لإيذائك سأسحقه بقدمي، فلا رحمة لمن لا يرحم.
ظلت المقابلات مستمرة بين (يزيد) و (رشا) في محاولتها معرفة مكان (آدم) ولما تأخر في العودة، ولكن (ليزيد) رأي آخر فلقد تعلق قلبه بها وزرع بداخله بذرة العشق والهوى، فلقد ظن أنها تكن له الحب والأشواق، ولكن هيهات فهى تستغله لمعرفة أخبار حبيبها وروح قلبها، فحتى الآن لم يريح فؤادها، ولذا قررت الابتعاد عنه فلا فائدة ترجى منه، ولكن لعنتها أصابت قلب يزيد في مقتل؛ فلقد أحبها بجنون حتى طار لب عقله بها، فسحقاً على من يلهو بالقلوب، فلقد جرى هواها بداخله مجرى الدم، فلقد صورت له الدنيا كقصيدة شعر، وزرعت حبها في قلبه وأخذت الصبر.
يتبع..
- اخرج أمامي فلقد انتهى فترة احتجازك في غرفة الأنفرادي، وأرجو أن تكون قد تعلمت درسك جيداً.
نظر آدم للأسفل بحرج، فهو قد لوث نفسه، ولا يستطيع الحراك من مكانه بهذة الهيئة..
ضحك (سبعاوي) ضحكة مجلجلة، يهتز جسده من قوتها قائلاً:
- ألست كبيراً بما يكفي لفعلها على نفسك، يالك من جبان!
أدمعت عين (آدم) من الخجل وقلة الحيلة قائلاَ:
- برجاء احضر لي ملابس أخرى.. أرجوك.
فرح (سبعاوي) لنجاحه في كسر عين (آدم) وخرج من الغرفة، ثم عاود أدراجه مرة أخرى وهو يحمل بين يداه دلو به ماء كاد أن تتجمد من برودتها، ثم القاه على جسد آدم، فشهق آدم وشعر بتجمد أطرافه وهو ينظر لسبعاوي متفاجأ من تصرفه قائلاً:
- لماذا؟! ألا تخشى الله! ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء.
ضحك (سبعاوي) بسخرية قائلاً:
- وأين كان إيمانك بالله وأنت تلقي بنفسك في التهلكة؟ هل تذكرته الآن؟ هياا أمامي وإلا لقنتك درس لن تنساه طيلة حياتك.
حاول (آدم) أن يتحرك، فجسده قارب على التجمد، فكان يصدر من حركته صوت احتكاك قدمه بالأرض، حتى وصل للغرفة المنشودة التي تضم أكثر من خمسة عشر شاباً حالتهم لا تقل عنه سوءاً، وعندما دلف للحجرة هرول إليه شابين وهما يحاولان إسناده للجلوس على فراش مهلك، وقاما بتغيير ملابسه المبتلة والمتسخة، وقلبهما يرجف من الخوف، فمستقبلهما كاحل لا بصيص أمل فيه، في صباح اليوم التالي.. استيقظ (آدم) وهو مصمم على الهروب، ولكن كيف؟ فتذكر حديث أحد الشباب الذين يقبعون معه في الحجرة، فلقد قال سابقاً أنه سبق له الهروب، ولكن أهله قاموا بأرجاعه مرة أخرى للدار، فقام ( آدم) بالتلفت حوله حتى عثر عليه، فقام بالتقرب منه في هدوء تام حتى لا يثير الشك، وجلس بجواره قائلا بهمس:
- أنا أريد الهرب، من فضلك ساعدني، ولن أنسى معروفك طيلة حياتي.
نظر له الفتى بنظرة جانبيه، ثم تنهد قائلاً:
- وماذا سأجني بالمقابل؟
أمسك (آدم) كف يده وهو ينظر له متوسلاً:
- ما تأمر به مجاب، ولكن ارحمني.. أريد الخروج من هذا الجحيم.
ابتسم الفتى وهو يومأ له بالموافقة قائلاً:
- انتظر مني الإشارة، وكن مستعداً.
..تجلس في شرفة المنزل وهى متكئة على السور، وتراقب المارة وتنظر للوجوه، فهى تبحث عن من سلب لب عقلها، ودقات قلبها، يا ترى أين ذهب؟ ولماذا لم يعد بعد؟ لقد هاجر النوم جفونها، فما من راحة حتى تراه بأم عينيها، حتى يطمئن قلبها على سلامته، وأثناء ذلك وجدت من يربت على كتفها قائلاً:
- كفياكي تحديقاً في المارة، فهو لم يأتي بعد، فلا ترهقي عينكي هباءاً.
ألتفتت (رشا) لها قائلة:
- ماذا أفعل يا أختاه؟ فقلبي يأبى التصديق، ينتظره حتى يدق من جديد.
جلست (نهى) أمام أختها (رشا) وهى تمسك يديها قائلة:
- وماذا حين يراه قلبك؟ فهو لا يعلم بحبك له، فحبك من طرف واحد فقط، كيف تعيشين الوهم؟ القلب في حاجة إلى من يحيه لا إلى من يرهقه، احفظي قلبك إلى من يستحقه.
ضحكت (رشا) في سخرية وهى تنظر مرة أخرى للطريق قائلة:
- نصيحتك جاءت متأخرة يا أختاه، فلم أعد المتحكمة في قلبي، بل هو من يتحكم بي.
.. لقد مر أسبوعين على وجود (آدم) في المصحة، فحاول (أدهم) زيارته والأطمئنان عليه، ولكن مدير المصحة منع ذلك بحجة أنه في فترة العلاج ويمنع عنه الزيارة؛ حتى تتحسن حالته النفسية، وللأسف اقتنع أدهم بذلك وعاود أدراجه، ولكن بعد دفع مبلغ آخر للمصحة، وعند عودته تلقى اتصال من والدته فأجاب قائلاً:
- لقد اشتقت إليكِ يا أمي، أعلم أني مقصر في حقك، فسامحيني.. مشقة الحياة والسعي وراء لقمة العيش أصبح مرهقاً.
ترقرقت دمعة دفينة بعيني (فاتن) وهى تجلس على فراشها وتسند رأسها على طرفه، تنهدت وهى تقول بصوتٍ خافتٍ:
- أعلم ذلك، وأدعو لك دائماً أن يعينك ويرزقك من حيث لا تعلم، اتصلت بك للسؤال عن أخيك آدم، فقلبي يعتصر عليه، أشعر أنه في كرب وضيق، هل اتصل بك؟
قام (أدهم) بمرور أصابعه بين خصلات شعره وهو يتنهد قائلاً:
- نعم.. لقد اتصل بي، فأعذريه يا أمي فهو بمكان إرساله ضعيف، فلا يستطيع الاتصال بك، ولقد أنساني الشيطان أن أبلغكِ فأعذريني، أنا المخطئ.
تنفست (فاتن) الصعداء وهى تتمتم " الحمدلله" ثم قالت:
- لقد أرحتني أراحك الله يا بني.. فقلبي يشعر بالإختناق في بُعد أخيك عني، فظننت أنه في كربة ومشقة، الحمدلله.. ادعو الله أن يرده إلي سالم غانم، أعذرني يا بني لم أسألك عن حفيدي وأمه، هل هما بخير؟
حاول (أدهم) زرع ابتسامة على محياه قائلاً:
- بأفضل حال.. هل أنتِ في حاجة؟ هل ينقصك شئ؟ أطلبي يا أمي، فأنا رهن إشارتك.
ابتسمت (فاتن) قائلة:
- أريد سلامتك.. ولا تنسى أن تخبر أخيك أن يتواصل معي، فقلبي لن يهدأ حتى يسمع صوته.
أغلق (أدهم) المكالمة وهو يشعر بمعاناة أمه، فقلب الأم لا يخطئ ابدا، ولكن كيف يخبرها بمكان تواجده؟ فلقد وعد أخاه بألا يخبر مخلوق بمكانه فهذا شرطه لتلقي العلاج، ظل يدعو الله بشفاء أخيه العاجل.
كان (يزيد) في الجامعة، حيث قام بالاِنتهاء من شرح المحاضرة في طريقه لمكتبه، فسمع صوت أنثوي رقيق ينادي عليه، فألتفت للصوت وجدها رشا بنت الجيران، فتعجب قائلاً:
- رشا!! ماذا أتى بك إلى هنا؟
ابتسمت (رشا) وهى تنظر له، فخيل إليها بأنها تنظر لحبيبها آدم، فهما متقاربان في الملامح والعيون قائلة:
- كنت في زيارة لصديقة لي، فوجدتك بالصدفة، فأردت إلقاء التحية عليك.
أشار (يزيد) لها تجاه باب مكتبه قائلاً:
- تفضلي بالدخول حتى يتسنى لنا الحديث في هدوء بعيداً عن ضوضاء الطلبة.
أومأت (رشا) له ودلفت لحجرة مكتبه، وهى تتلفت بداخلها، فبالرغم من عدم اتساعها إلا أنها كانت منظمة وتحث على التفاؤل قائلة:
- مكتبك جميل.. كيف حالك؟ لم أعد أراكم في الحي كثيراً، لعل المانع خير.
جلس (يزيد) خلف مكتبه وهو ممسك بسماعة الهاتف قائلاً:
- قبل كل شئ.. ماذا تشربي؟ مهلاً هنا يعدون عصير البرتقال الطازج سوف يعجبك سأطلبه لكِ.
ظلت (رشا) في مكتبه لنصف ساعة، وهى تحاول معرفة سر اختفاء آدم، ولكن لم تستطع السؤال بشكل مباشر و (يزيد) لم يفهم ما بين السطور، ياله من غبي! فهى في الحقيقة لم تأتي لزيارة أحد بل لمقابلته؛ لمعرفة مكان تواجد آدم والاِطمئنان عليه، فنظرت لساعتها ثم رفعت نظرها إليه قائلة:
- شكراً على كرم ضيافتك، فلقد أخذت من وقتك الثمين، وارجو إبلاغ سلامي للعائلة.
وقف (يزيد) وهو مبتسم، مدّ يده لها قائلاً:
- بالعكس لقد أنارتي مكتبي بقدومك، وارجو معاودة الزيارة مرة أخرى.
خرجت (رشا) من مكتبه وهى تحمل معها خيبة الأمل، ولكن لاحظت شئ ما، فنظرات يزيد لها لم تكن بريئة، أو قد خُيل لها ذلك، فهى لم تعد تعلم شئ، فتنهدت بحزن دفين متمتمة:
- أين أنت يا آدم؟ لقد اشتقت إليك، أين أراضيك؟
..كان (يزيد) يجلس على كرسي مكتبه وهو يستند بظهره للخلف، محرك قلمه بين أصابعه، شارد بخياله في حُسنها وجمالها الآخاذ، فهو يعلم بأنها جاءت لرؤيته فلا صديقة لديها هنا، ولكن لماذا؟ أيعقل أن تكون معجبة به أو عاشقة له؟! فابتسم عند وصول تفكيره لهذة النقطة.
.. يسمع صوت قرقرة المعدة، فلم يذق الطعام منذ يومان، فأين الرحمة؟ فلم يصل لمنزلة الحيوان، هل أقتلع من قلبهم الأنسانية وزرع بدلاً منها قسوة الحجارة؟! ما الذي أقترفه في حقهم حتى يعامل هكذا؟ فهو لم يؤذي سوى نفسه، وكان يأمل النجاة، ولذا اِرتمى في أحضانهم، ولم يعلم بأن حضنهم كالصبار يحيطه الشوك من كل جانب، والمرار بداخله كالحنظل، ياليتني أملك آلة زمنية للرجوع بالزمن للوراء، حتى أمنع نفسي من اِرتكاب هذة الحماقة، لم يعد لدي القدرة على التحمل أكثر من ذلك، فالموت أصبح راحة لي من هذا الجحيم، فالألم، و العذاب، وكسرة النفس، والذل، أصبحوا رفقائي في هذا المكان الموحش، فلم يعد أمامي سوى الهروب أو الموت، سمعت همس بجانب أذني يقول:
- استعد.. فاليوم ستكون حُر طليق، ولكن لا تنسى المبلغ المتفق عليه، ستودعه في حسابي البنكي.
رقص قلبي فرحاً، فجملته كانت كطوق النجاة من ظلمة قاع المحيط، الذي لا يتخخله شعاع من الضوء، فألتفت له قائلاً:
- أقسم لك.. بخروجي من هنا، سأدفع لك ضعف ما تطلب.
في عتمة الليل، واختفاء ضي القمر، قام الفتى ومن ورائه (آدم) بالهروب من المصحة، وذلك عن طريق اتفاق الفتى مع أحد العاملين بالمصحة، وذلك بمقابل مبلغ من المال الوفير، فكان بانتظارهم سيارة أجرة تقف بالقرب من المصحة، وعند تسلقهم السور والقفز منه، وجدوا إشارة ضوئية تبعث لهم من السيارة، فهرولوا تجاهها وتنفسوا الصعداء وهى تنطلق بهم إلى الحرية، سمع (أدهم) طرق على باب منزله في جوف الليل، فشعر بالخوف وهو يهمهم:
- استر يارب..
فتفاجأ بشبح أخيه، فالصدمة قد لجمته، حتى شعر بتمزق أحباله الصوتية، ففتح فاهه بدون خروج صوت، حتى قاطعه صوت أخيه قائلاً:
- لا أستطيع الوقوف طويلاً، قدماي لن تصمد أكثر من ذلك.
أشار (أدهم) للداخل ولم ينطق بكلمة، ظل ينظر لدلوف أخيه وهو يشعر بالصدمة، فتساءل من هذا؟ جلس أمامه وهو يتفحص جسد أخيه، الذي أصبح معدوماً، فتنهد آدم قائلاً:
- سوف اقص عليك ما حدث لي، ولكني أشعر بالجوع، فهل يوجد لديك طعام؟
جحظ (أدهم) وقلبه يتمزق على أخيه، فأومأ له وذهب للمطبخ لإحضار أشهى طعام، وحمد الله على نوم زوجته وابنه، فلا يريد أن يشعر أخيه بالحرج عند رؤيتهم، حاول أدهم رسم أبتسامة كاذبة، فقلبه ينزف حزناً على أخيه قائلاً:
- لقد اشتقت إليك، فمنذ يومين ذهبت للمصحة لمقابلتك، ولكنهم رفضوا الزيارة، فرجعت خالي الوفاض، هل أتم الله شفائك؟
ضحك (آدم) حتى أدمعت عيناه، ثم بكى بحرقة رجل فقد شرفه، وكرامته، وانتهك أنسانيته، فما أصعب بكاء رجل عاجز مقهور لا حيلة له، فقفز أدهم من مكانه وهو يحضن أخيه ويربت على ظهره، حتى شعر بقطرات من الماء الساخن تنهمر من جفنيه من شدة ألم قلبه على أخيه، وبعد مرور عدة دقائق على حالهم، خرج (آدم) من حضن أخيه وهو يمسح دموعه قائلاً:
- سأروي لك ما حدث معي.. ولكن أريد مأوى لي بعيداً عن هنا لفترة حتى استرد عافيتي، فلا أستطيع أن أظهر أمام أمي ولا زوجتك بهذا المظهر.
- لا تقلق سأهتم بذلك، أحكي لي ما حدث معك، كلي أذان صاغية.
.. كان (أدهم) يستمع لأخية ودموعه تتسابق في النزول، وظل يؤنب نفسه والذنب ينهشه كالوحش الكاسر، فهو من فعل بأخيه ذلك، كيف ألقى بأخيه في جحر الحيات والعقارب؟ الذنب ذنبه فهو لم يتقصى جيداً عن المصحة، فأصبح كمن ألقى بأخيه في غيابة الجب، كل كلمة، وتنهيدة، ودمعة من أخيه كانت كجمرة النار تحرق فؤاده وتمزقه لأشلاء حتى الرماد، تمنى الأرض تنشق وتبتلعه حياً؛ على ما أقترفه في حق أخيه، عند انتهاء آدم من الحديث، قال (أدهم) وهو يسكب الدموع على ما عاناه أخيه:
- أقسم لك يا أخي.. لن أترك حقك، فسأجعلهم يتعفنون في السجون، لن أرحمهم، سامحني يا أخي فذنبي عظيم، كنت أريد لك الخير فأصبح شر، فلن أسامح نفسي ما دمت حياً.
ربت (آدم) على كتف أخيه وهو يمسح دموعه بيده الأخرى قائلاً:
- أعلم يا أخي نواياك، فأنت اطهر وانقى مخلوق عرفته، فلا تقسى على نفسك، فأنا على يقين بأنك تفديني بروحك عند الخطر، فالذنب ذنبي أنا، لقد قضيت على مستقبلي بيدي، وجعلت السفيه وحطاط القوم يتدلون على كتفي.
- لا تخف يا أخي.. سأظل درعك القوي، سندك في الحياة، كل من سولت له نفسه لإيذائك سأسحقه بقدمي، فلا رحمة لمن لا يرحم.
ظلت المقابلات مستمرة بين (يزيد) و (رشا) في محاولتها معرفة مكان (آدم) ولما تأخر في العودة، ولكن (ليزيد) رأي آخر فلقد تعلق قلبه بها وزرع بداخله بذرة العشق والهوى، فلقد ظن أنها تكن له الحب والأشواق، ولكن هيهات فهى تستغله لمعرفة أخبار حبيبها وروح قلبها، فحتى الآن لم يريح فؤادها، ولذا قررت الابتعاد عنه فلا فائدة ترجى منه، ولكن لعنتها أصابت قلب يزيد في مقتل؛ فلقد أحبها بجنون حتى طار لب عقله بها، فسحقاً على من يلهو بالقلوب، فلقد جرى هواها بداخله مجرى الدم، فلقد صورت له الدنيا كقصيدة شعر، وزرعت حبها في قلبه وأخذت الصبر.
يتبع..