الفصل الثالث
لا يوجد نظام أمني محكم مائة بالمائة؛ هناك دائماً ثغرة ما في قلب ذلك النظام، كل ما علينا فعله أن نركز ونفكر جيداً؛ حتى نستطيع إيجاد تلك الثغرة، ثم لننفذ منها إلى قلب ذلك النظام"
بتلك الكلمات أنهى العميد أحمد فتحي المحاضرة التي ألقاها على بعض الضباط المتخرجين حديثاً من الكلية الحربية، حيث قد بدأت التدريبات العملية والفنية لهم؛ لإخراج أقوى الجنود في مجال المخابرات العامة؛ لخدمة وطنهم.
"انتهت محاضرة اليوم يا أشبال المخابرات، هل هناك أي سؤال؟"
سأل العميد هذا السؤال بحزم وهو يتطلع بعيونهم؛ لكي يرى مدى تأثير محاضرة اليوم بهم، ران صمت مهيب في تلك الغرفة الخاصة بالمحاضرات، قبل أن ينهض أحد الضباط ويسأل بحزم:
- هل تسمح لي يا سيادة العميد؟
أومي العميد برأسه وهو يقول:
- عرف عن نفسك أولاً أيها الضابط!
ابتسم الضابط وقال:
- الملازم أول مروان فخر الدين زيدان.
للمرة الثانية أومئ العميد برأسه، وأشار له بيده معلناً عن انتباهه التام له؛ قال مروان بصوت حازم:
- يقولون أن...
وهنا نهض العميد، رفع يده في وجهه مقاطعاً إياه بحزم، وقال بتحذير صارم موجهاً كلامه لهم جميعاً:
- ضعوا الكلمات التي سأقولها لكم الآن في عقولكم، واحفظوها كما تحفظون أسمائكم، لا يجب أن تبنوا تحرياتكم على ما تسمعون دائماً، واحذفوا كلمة (يقولون) هذه من قاموسكم جميعاً. هل فهمتم؟
صدرت بعض الهمهمات مرة أخرى قبل أن يومئ الضباط برؤوسهم، جلس العميد مرة أخرى، ونظر الى مروان بجدية وقال له:
- أكمل حديثك الذي بدأته أيها الملازم، وكأنني لم أقاطعك، وعليك أن تفهم أنني قاطعتك للإفادة فحسب.
تنهد مروان وقال بصوت متوتر:
- أعتذر يا سيدي إن أخطأت، لكني أردت الاستفسار عن شيء هام قد سمعته.
مال العميد أحمد فتحي إلى الأمام وقال بهدوء جديّ:
- وهأنذا أسمعك، هيا أيها الضابط، تكلم.
انضبط مروان في وقفته وتابع بثقة:
- أردت أن أقول أنني سمعت ذات مرة أن أجهزة المخابرات القوية في العالم، وبعض المافيات القوية يتفننون دائماً في إحكام خططهم؛ لغلق أغلب الثغرات التي من الممكن أن تؤدي إلى فشلهم في مهمة ما...
قاطعه العميد أحمد مرة أخرى قائلاً:
- هذا صحيح بالفعل، ولكن هذا يوجهنا إلى شيء هام للغاية؛ أنه يوجد من يمكنه خرق تلك الثغرات باستمرار، وهذا ما يدفع أكبر الأنظمة في العالم لتغيير مخططاتهم دائماً، وهذا ما تناولته في محاضرتي منذ قليل.
للحظات ران على القاعة صمت مهيب؛ حيث راح الضباط يفكرون جيداً في محاضرة اليوم، احترم العميد أحمد صمتهم، ثم ما لبث أن تطلع إلى ساعة يده، وقال بصوت جهوري وحازم:
- هل هناك أي أسئلة أخرى؟
رفع الضباط عيونهم نحوه في صمت فابتسم العميد وأردف:
- أرجو أن تكونوا قد استفدتم من محاضرة اليوم، أريدكم أن تكونوا واثقين من كل كلمة تفوهت بها اليوم، حتى في أصعب المواقف؛ لأن قاعدة اليوم هي أول الطرق التي ستجعلكم تربحون معارككم دائماً، والآن هيا إلى ساحة التدريبات القتالية
ترجل العميد إلى الخارج، وخلفه طلابه الضباط، توجهوا إلى ساحة التدريبات التي تقع في مبنى آخر غير ذلك المبني الذي يحتوي على قاعة المحاضرات، كان المبني من الخارج يبدو قديماً بعض الشيء مقارنة بشكله من الداخل؛ حيث كانت كل من قاعة المحاضرات وساحة التدريبات مجهزتان على أعلى مستوى، وبأحدث أجهزة التكنولوجيا الحديثة، والمعدات القتالية اللازمة للتدريبات، هذا الأمر الذي أثار دهشة الضباط في أول زيارة لهم لمدرسة المخابرات، ولكن مع الوقت علموا أن هذا روتين عادي للغاية؛ حتى لا يجذب شكل المدرسة الأنظار، ولكي لا يتعرف سكان المنطقة عن ماهية ما يحدث بداخلها؛ فإن عمل المخابرات سري للغاية.
تبعوه إلى ساحة التدريبات المغطاة؛ وجدوا أمامهم مدربهم العميد "حازم ياسين" وبرفقته رجل في أواخر العقد الرابع من عمره، تبدو عليه الهيبة والوقار، طويل القامة، عريض المنكبين، أدى الضباط التحية العسكرية لمدربهم، ثم تطلعوا إلى ذلك الرجل بحيرة متسائلين عن شخصيته؛ ابتسم الرجل وقد فهم ما يفكرون به وقال بحسم:
- أعلم أنكم تتساءلون عمن أكون؟ سوف أجيبكم فوراً.
صمت قليلاً لينظر اليهم بفخر وهو يرى البأس والثقة والشجاعة تطل من عيونهم، ثم تابع:
- أنا اللواء حسين عبدالله الغندور مدير جهاز المخابرات المصرية.
ارتفعت أيديهم مرة أخرى في تحية لمديرهم جميعاً، أشار إليهم اللواء بأن يكفّوا وتابع بجدية:
- لقد رأيت أن الآوان قد آن لرؤية أشبال المخابرات الجدد؛ وهذا لأن تدريباتكم أوشكت على الانتهاء.
تطلع اللواء إلى العميد حازم ياسين ثم تابع:
- لقد أثنى عليكم مدربكم، يبدو أننا في مرحلة إعداد رجال أقوياء بالفعل.
نظر إليه العميد حازم وقال بثقة:
- بالفعل يا سيدي، هذه الدفعة من أفضل الدفعات التي دربتها، وأنا متأكد أنهم سيكونوا جاهزين لخوض المهام في أقرب وقت.
شعر الضباط بالسعادة في داخلهم، لكن وجوههم كانت جامدة تخفي ورائها تلك المشاعر التي تدربوا على كتمانها جيداً، مط مدير المخابرات شفتيه وأومئ برأسه وهو يقول:
- عظيم، عظيم، سأترككم الآن لإكمال تدريباتكم، وقفكم الله!
أدى الضباط التحية، بينما تطلع المدير إلى العميد أحمد فتحي وقال له:
- سيادة العميد، هيا معي للخارج قليلاً.
أومئ أحمد برأسه وهو يقول بحزم:
- بالتأكيد يا سيدي ؛ لقد أنهيت عملي اليوم بالفعل.
استقل العميد أحمد سيارة مدير المخابرات بناء على طلبِ منه، التفت المدير إليه، وقال باهتمام:
- ما رأيك في الدفعة الجديدة؟
أجابه العميد بجدية:
- ممتازون يا سيدي، لقد صدقك سيادة العميد حازم عندما قال أنهم سيكونوا جاهزين لأي مهمة في القريب العاجل.
تنهد مدير المخابرات وقال بارتياح:
- حمداً لله، نحن بالفعل بحاجة إلى وجوه جديدة
هتف أحمد فتحي بتوتر:
- أعلم أن خيرة رجالنا وأفضلهم في فترة نقاهة، ومنهم من أُحيل للأعمال الإدارية أو التدريبية، لكننا نبذل قصارى جهدنا؛ لتدريب جيل جديد من أقوى رجال المخابرات؛ ليستطيعوا مجابهة أعدائنا.
ابتسم مدير المخابرات وقال بهدوء:
- ليس عندي شك في هذا يا سيادة العميد.
في غرفة صغيرة مرتبة وقفت فتاة جميلة تمشط شعرها الكستنائي اللامع أمام المرآة، قبل أن تعقده في ربطة خلف رأسها مما أعطاها شكلاً حازماً خاصة بذلك البنطلون الأسود والقميص المماثل له في اللون، والذي كان مفتوحاً حتى أول الصدر، كانت ترتدي من تحته كنزة بيضاء اللون؛ مما أعطاها رونقاً خاصًا بها؛ زادها إشراقاً وجمالاً.
تراجعت للخلف خطوة، ألقت نظرة أخيرة على نفسها قبل أن تمط شفتيها وتغمغم بضيق:
- لا بأس بهذا!
صدح صوت رجولي رخيم من خلفها قائلاً:
- بل تبدين رائعة.
أغمضت عينيها وتنهدت قائلة:
- لا أريد أن أبدو رائعة يا أبي، أنا ذاهبة إلى العمل وليس للتنزه!
ضحك والدها ملئ شدقيه وقال:
- وهل يجب أن تكوني قبيحة الشكل للتوجه إلى العمل يا إيمان؟
التفتت اليه وهي تفتح عينيها لتناظره وقالت:
- لا أريد لفت أنظار الرجال.
اقترب منها، أمسك كتفيها بقوة، وقال بحزم:
- عملك في المخابرات لا يتطلب منك تلك التراهات التي تضعينها في رأسك، وكونك امرأة لا يقلل أبداً من احترافك أو جديتك.
تطلعت إيمان إلى والدها اللواء المتقاعد محمد عمران (مندوب مكتب المخابرات سابقاً في برلين)، وشردت إلى ذلك اليوم الذي تخرجت فيه من الكلية الحربية منذ عشرة سنوات، حينها عرفت طبيعة عمل والدها الحقيقي؛ عندما إضطر والدها بإخبارها بذلك السر عندما صدر قرار مدير المخابرات بتعيينها كملازم أول في المخابرات العامة المصرية؛ نظراً لكفاءتها التي أشاد بها مدربيها أثناء دراستها.
"فيما شردتِ؟"
أفاقت إيمان من ذكرياتها على صوت والدها فأجابته:
- لا شيء مهم!
للحظة رأت في عينيه نظرة ندم فسألته بحيرة:
- ماذا بك يا أبي الحبيب؟
تنهد محمد وقال بحسرة:
- ليتني لم أوافق على التحاقك بهذا العمل، لكن الأمر خرج من يدي بعد قرار سيادة المدير وموافقتك على قراره.
عقدت حاجبيها وسألته بدهشة:
- هل تشعر بالندم لأنني أخدم وطني يا أبي؟
ربت على رأسها بحنان وقال:
- لا يا بنيتي، لم أقصد هذا أبداً، لكن واجبك هذا حرمك من أبسط حقوقك بأن تكوني زوجة وأم.
ارتفع حاجبيها بشدة؛ حتى كادا أن يلامسا منبت شعرها، وسألت بدهشة:
- هل اللواء محمد عمران الصارم، العاشق لوطنه من يتحدث الآن؟
هز رأسه نفياً وقال:
- بل الأب هو الذي يتحدث، صدقيني يا إيمان أنا مستعد للتضحية بحياتي من أجل بلادي، لكن الأمر يختلف عندما يتعلق بك، إنها عاطفة الأب يا صغيرتي.
صمت قليلاً ثم دق بسبابته على أنفها الصغير متابعاً:
- ثم إن اللواء محمد قد تقاعد منذ ستة أشهر، وأحذرك أنكِ لن ترين أمامك غير الوالد الحنون فحسب، والذي يريد أن يفرح بابنته؛ فكوني مستعدة يا ذات الألماس الزرقاء.
ضحكت إيمان بقوة، وتراجعت خطوة مبتعدة عنه، رفعت يدها مازحة في تحية عسكرية وهي تقول:
- حسناً سيدي، طلباتك أوامر.
ثم أمسكت بيده وطبعت عليها قبلة الصباح التي اعتادت عليها منذ صغرها، وغادرت الغرفة بسرعة وهي تقول:
- لا أريد أن يعاقبوني اليوم بسبب التأخير، لا تنسى دعائك لي.
هز رأسه بابتسامة حائرة، وهو يراها تتهرب منه كعادتها؛ كلما فاتحها في فكرة الزواج الذي رفضته مراراً وتكراراً بسبب عملها في المهمات الخارجية، والتي تحتم عليها عدم إنشاء أسرة مستقرة.
تنهد محمد وهو يتذكر إلحاحه عليها بأن تتولى الأعمال الإدارية التي قد تتيح لها الزواج، لكنها دائماً ترفض متحججة بأنها تجد نفسها في هذا العمل الشاق والخطير، إنه لا يريد الضغط عليها، ويتركها لاتخاذ قرارات حياتها بنفسها، رفع يده متوجهاً بالدعاء لرب العالمين:
- اللهم وفق ابنتي إلى ما فيه الخير لها، وأحفظها يا أرحم الراحمين.
أما إيمان، أغلقت باب شقتهم وتوجهت نحو مصعد البناية التي يسكنونها وهي تطالع الملف الذي بيدها، ثم ما لبثت أن تذكرت ذلك اليوم الذي بدأ فيه يناديها بذات الألماس الزرقاء بعد وفاة والدتها؛ حيث اعتاد أن ينادي والدتها بهذا الاسم حتى وفاتها، لتتوارث إيمان الاسم بعد والدتها الراحلة، شعرت بالحزن وكادت دمعة حارقة أن تفلت من عينيها الصافيتين، لكنها تمالكت نفسها كما اعتادت دائماً، وفجأة وأثناء شرودها وهي متجهة نحو المصعد اصطدمت بجسدِ صلب وقوي؛ فتراجعت خطوة للخلف؛ لتبتعد عن ذلك الجسد، وتطلعت إليه بغضب لم تستطيع كبحه؛ متأثرة بحزنها على والدتها، وصرخت بحدة:
- هل أنت أعمى أم......؟
ابتعلت باقي جملتها، وسعلت بقوة كأن الكلمات وقفت في حلقها وهي ترى ذلك الشاب الوسيم الذي تقدم للزواج منها سابقاً، وسألته بدهشة عارمة:
- أنت؟!
ابتسم الشاب وقال:
- المهندس سيف الدين فوزي همام، تحت أمرك سيدتي.
"فاليريا، فاليريا"
راح أندروس يهتف باسم زوجته بينما كان الطبيب يفصحه، ثم التفت نحو الرقيب أول بابلو ديلان رئيس أندروس المباشر وقال له:
- يبدو أنه تعرض لصدمة كبيرة.
أومئ بابلو برأسه وقال بصوت يشوبه القلق:
- لقد قُتلت زوجته منذ عدة ساعات!
تنهد الطبيب، قال وهو يتطلع إلى أندروس:
- مسكين.
ثم تطلع إلى بابلو مرة أخرى وقال بجدية:
- على كل حال لقد أعطيته إبرة مهدئة، ولن يستيقظ الآن، أريدك أن تزودني بتفاصيل وفاة زوجته؛ ﻷن الساعات القادمة ستكون صعبة عليه، وعلينا أن نفهم ما حدث معه؛ لكي نستطيع مساعدته إذا تأزم وضعه.
عقد بابلو حاجبيه بشدة وسأله بقلق:
- هل ستسوء حالته؟
وضع الطبيب يده على كتف بابلو وقال بهدوء يطمئنه:
- دعنا لا نستبق الأحداث، لكن الاحتياط واجب؛ من الواضح أنه متعلق بزوجته كثيراً؛ ولهذا يهذي باسمها.
تطلع بابلو بحزن إلى أندروس النائم وقال بأسى:
- بل كان يعشقها، كانت فاليريا حب حياته الوحيد.
وهنا همس أندروس باسم زوجته مرة أخرى بصوت متثاقل، والعرق يغمر جبينه كأنه مصاب بالحمى، فزع بابلو من منظر صديقه، وقال للطبيب بتوتر:
- هل هو بخير؟
أجابه الطبيب سريعاً:
- هذا تأثير المهدئ، لا تقلق، من الواضح أنه سيحتاج لمساعدة نفسية فور استيقاظه.
قال بابلو يترجاه:
- افعل ما بوسعك أيها الطبيب.
حاول الطبيب أن يهدئه؛ فقال:
- أخبرتك ألا تقلق، فلنتركه يرتاح الآن، وأنصحك بالرحيل، وأنا سأذهب لرؤية الطبيبة النفسية لاريسا سيزنيروس.
أجابه بابلو بصوت حاسم وصارم لا يجدي معه النقاش:
- سأذهب معك.
تطلع إليه الطبيب مندهشاً لصرامته المفاجئة، ورأى ثبات وقوة الضابط الجاد فقال له:
- حسناً كما تريد، قد تحتاج الطبيبة منك المعلومات لمباشرة عملها فور استيقاظ صديقك.
توجها إلى غرفة الطبيبة النفسية، طرق الطبيب باب الغرفة قبل أن يسمع صوتها يدعوهم للدخول، أمسك بابلو مقبض الباب وفتحه بسرعة وقلق، وكأن فعلته هذه ستشفي صديقه، ازداد اندهاش الطبيب من تصرفات بابلو، لكنه آثر الصمت مراعياً لشعوره، ودلفا إلى الغرفة، وفجأة تسمر بابلو مكانه؛ إن تلك السيدة، أو الطبيبة، أو أي كانت باهرة الحسن والجمال.
"يا إلهي، هل أنت إنسية أم ملاك سيدتي؟"
كانت تلك الكلمات التي همس بها بابلو لنفسه دون أن يسمعه أي شخص، راح ينظر إلى ملاك الجمال الذي أمامه والذي أبدع الله في خلقه لها، لم تكن شقراء كأغلب نساء المكسيك، بل كانت أقرب لنساء دول البحر الأبيض المتوسط، ببشرتها الناعمة ناصعة البياض، وعينيها البنتين الداكنتين، وشعرها الأسود اللامع الكثيف، ومع ذلك لقد افتتن بجمالها الهادئ الخلاب، راح يتأملها في صمت، وقد شعر أنها قد مدت يدها إليه وسرقت فؤاده -اللصة- وفجأة أفاق من شروده فيها، وضم حاجبيه في تكشيرة وهو يلوم نفسه:
- هل جننت يا بابلو، منذ متى تهتم للنساء؟
وليزيد الطين بلة ، تنحنح الطبيب من خلفه ليذكره بما فعل، وحملقته في الطبيبة؛ فالتفت إليه بابلو وهو عاقد حاجبيه بغضب، مما أثار توجس الطبيب منه ومن ردود أفعاله الغريبة التي تتغير في الدقيقة الواحدة عشرات المرات.
تقدم الطبيب من مكتب الطبيبة، التي كانت تتابع ما يحدث أمامها في صمت وقال لها:
- هناك حالة أظن أنها بحاجة لمساعدتك.
نهضت لاريسا وتوجهت نحو بابلو ظناً منها أنه المريض، اقتربت منه لتضع يدها على ذراعه وتقول له بهدوء:
- اهدأ من فضلك، كن واثقا أنني سأبذل قصارى جهدي لمساعدتك، عليك الاسترخاء فحسب.
احتقن وجه بابلو وأمسك بيدها ليبعدها عن كتفه وقال بصوت أجش:
- أنا لست حالتك يا دكتورة!
رفعت عينيها عالياً؛ لتتمكن من النظر إليه؛ نظراً لطوله الفارع، وفي أثناء ذلك استطاعت أن تكتشف أنه يملك جسداً ممشوق القوام، وشعرت بقوة يده الفولاذية التي تمسك بمعصمها، استنتجت أنه يمارس التمارين الرياضية كثيراً، وأخيرا وصلت إلى عينيه العسليتين ذات النظرة الصارمة، وهنا تنحنح زمليها الطبيب وقال:
- دكتورة لاريسا، هذا الرقيب بابلو ديلان بالشرطة الاتحادية، وهو صديق للحالة التي أخبرتك عنها.
بتلك الكلمات أنهى العميد أحمد فتحي المحاضرة التي ألقاها على بعض الضباط المتخرجين حديثاً من الكلية الحربية، حيث قد بدأت التدريبات العملية والفنية لهم؛ لإخراج أقوى الجنود في مجال المخابرات العامة؛ لخدمة وطنهم.
"انتهت محاضرة اليوم يا أشبال المخابرات، هل هناك أي سؤال؟"
سأل العميد هذا السؤال بحزم وهو يتطلع بعيونهم؛ لكي يرى مدى تأثير محاضرة اليوم بهم، ران صمت مهيب في تلك الغرفة الخاصة بالمحاضرات، قبل أن ينهض أحد الضباط ويسأل بحزم:
- هل تسمح لي يا سيادة العميد؟
أومي العميد برأسه وهو يقول:
- عرف عن نفسك أولاً أيها الضابط!
ابتسم الضابط وقال:
- الملازم أول مروان فخر الدين زيدان.
للمرة الثانية أومئ العميد برأسه، وأشار له بيده معلناً عن انتباهه التام له؛ قال مروان بصوت حازم:
- يقولون أن...
وهنا نهض العميد، رفع يده في وجهه مقاطعاً إياه بحزم، وقال بتحذير صارم موجهاً كلامه لهم جميعاً:
- ضعوا الكلمات التي سأقولها لكم الآن في عقولكم، واحفظوها كما تحفظون أسمائكم، لا يجب أن تبنوا تحرياتكم على ما تسمعون دائماً، واحذفوا كلمة (يقولون) هذه من قاموسكم جميعاً. هل فهمتم؟
صدرت بعض الهمهمات مرة أخرى قبل أن يومئ الضباط برؤوسهم، جلس العميد مرة أخرى، ونظر الى مروان بجدية وقال له:
- أكمل حديثك الذي بدأته أيها الملازم، وكأنني لم أقاطعك، وعليك أن تفهم أنني قاطعتك للإفادة فحسب.
تنهد مروان وقال بصوت متوتر:
- أعتذر يا سيدي إن أخطأت، لكني أردت الاستفسار عن شيء هام قد سمعته.
مال العميد أحمد فتحي إلى الأمام وقال بهدوء جديّ:
- وهأنذا أسمعك، هيا أيها الضابط، تكلم.
انضبط مروان في وقفته وتابع بثقة:
- أردت أن أقول أنني سمعت ذات مرة أن أجهزة المخابرات القوية في العالم، وبعض المافيات القوية يتفننون دائماً في إحكام خططهم؛ لغلق أغلب الثغرات التي من الممكن أن تؤدي إلى فشلهم في مهمة ما...
قاطعه العميد أحمد مرة أخرى قائلاً:
- هذا صحيح بالفعل، ولكن هذا يوجهنا إلى شيء هام للغاية؛ أنه يوجد من يمكنه خرق تلك الثغرات باستمرار، وهذا ما يدفع أكبر الأنظمة في العالم لتغيير مخططاتهم دائماً، وهذا ما تناولته في محاضرتي منذ قليل.
للحظات ران على القاعة صمت مهيب؛ حيث راح الضباط يفكرون جيداً في محاضرة اليوم، احترم العميد أحمد صمتهم، ثم ما لبث أن تطلع إلى ساعة يده، وقال بصوت جهوري وحازم:
- هل هناك أي أسئلة أخرى؟
رفع الضباط عيونهم نحوه في صمت فابتسم العميد وأردف:
- أرجو أن تكونوا قد استفدتم من محاضرة اليوم، أريدكم أن تكونوا واثقين من كل كلمة تفوهت بها اليوم، حتى في أصعب المواقف؛ لأن قاعدة اليوم هي أول الطرق التي ستجعلكم تربحون معارككم دائماً، والآن هيا إلى ساحة التدريبات القتالية
ترجل العميد إلى الخارج، وخلفه طلابه الضباط، توجهوا إلى ساحة التدريبات التي تقع في مبنى آخر غير ذلك المبني الذي يحتوي على قاعة المحاضرات، كان المبني من الخارج يبدو قديماً بعض الشيء مقارنة بشكله من الداخل؛ حيث كانت كل من قاعة المحاضرات وساحة التدريبات مجهزتان على أعلى مستوى، وبأحدث أجهزة التكنولوجيا الحديثة، والمعدات القتالية اللازمة للتدريبات، هذا الأمر الذي أثار دهشة الضباط في أول زيارة لهم لمدرسة المخابرات، ولكن مع الوقت علموا أن هذا روتين عادي للغاية؛ حتى لا يجذب شكل المدرسة الأنظار، ولكي لا يتعرف سكان المنطقة عن ماهية ما يحدث بداخلها؛ فإن عمل المخابرات سري للغاية.
تبعوه إلى ساحة التدريبات المغطاة؛ وجدوا أمامهم مدربهم العميد "حازم ياسين" وبرفقته رجل في أواخر العقد الرابع من عمره، تبدو عليه الهيبة والوقار، طويل القامة، عريض المنكبين، أدى الضباط التحية العسكرية لمدربهم، ثم تطلعوا إلى ذلك الرجل بحيرة متسائلين عن شخصيته؛ ابتسم الرجل وقد فهم ما يفكرون به وقال بحسم:
- أعلم أنكم تتساءلون عمن أكون؟ سوف أجيبكم فوراً.
صمت قليلاً لينظر اليهم بفخر وهو يرى البأس والثقة والشجاعة تطل من عيونهم، ثم تابع:
- أنا اللواء حسين عبدالله الغندور مدير جهاز المخابرات المصرية.
ارتفعت أيديهم مرة أخرى في تحية لمديرهم جميعاً، أشار إليهم اللواء بأن يكفّوا وتابع بجدية:
- لقد رأيت أن الآوان قد آن لرؤية أشبال المخابرات الجدد؛ وهذا لأن تدريباتكم أوشكت على الانتهاء.
تطلع اللواء إلى العميد حازم ياسين ثم تابع:
- لقد أثنى عليكم مدربكم، يبدو أننا في مرحلة إعداد رجال أقوياء بالفعل.
نظر إليه العميد حازم وقال بثقة:
- بالفعل يا سيدي، هذه الدفعة من أفضل الدفعات التي دربتها، وأنا متأكد أنهم سيكونوا جاهزين لخوض المهام في أقرب وقت.
شعر الضباط بالسعادة في داخلهم، لكن وجوههم كانت جامدة تخفي ورائها تلك المشاعر التي تدربوا على كتمانها جيداً، مط مدير المخابرات شفتيه وأومئ برأسه وهو يقول:
- عظيم، عظيم، سأترككم الآن لإكمال تدريباتكم، وقفكم الله!
أدى الضباط التحية، بينما تطلع المدير إلى العميد أحمد فتحي وقال له:
- سيادة العميد، هيا معي للخارج قليلاً.
أومئ أحمد برأسه وهو يقول بحزم:
- بالتأكيد يا سيدي ؛ لقد أنهيت عملي اليوم بالفعل.
استقل العميد أحمد سيارة مدير المخابرات بناء على طلبِ منه، التفت المدير إليه، وقال باهتمام:
- ما رأيك في الدفعة الجديدة؟
أجابه العميد بجدية:
- ممتازون يا سيدي، لقد صدقك سيادة العميد حازم عندما قال أنهم سيكونوا جاهزين لأي مهمة في القريب العاجل.
تنهد مدير المخابرات وقال بارتياح:
- حمداً لله، نحن بالفعل بحاجة إلى وجوه جديدة
هتف أحمد فتحي بتوتر:
- أعلم أن خيرة رجالنا وأفضلهم في فترة نقاهة، ومنهم من أُحيل للأعمال الإدارية أو التدريبية، لكننا نبذل قصارى جهدنا؛ لتدريب جيل جديد من أقوى رجال المخابرات؛ ليستطيعوا مجابهة أعدائنا.
ابتسم مدير المخابرات وقال بهدوء:
- ليس عندي شك في هذا يا سيادة العميد.
في غرفة صغيرة مرتبة وقفت فتاة جميلة تمشط شعرها الكستنائي اللامع أمام المرآة، قبل أن تعقده في ربطة خلف رأسها مما أعطاها شكلاً حازماً خاصة بذلك البنطلون الأسود والقميص المماثل له في اللون، والذي كان مفتوحاً حتى أول الصدر، كانت ترتدي من تحته كنزة بيضاء اللون؛ مما أعطاها رونقاً خاصًا بها؛ زادها إشراقاً وجمالاً.
تراجعت للخلف خطوة، ألقت نظرة أخيرة على نفسها قبل أن تمط شفتيها وتغمغم بضيق:
- لا بأس بهذا!
صدح صوت رجولي رخيم من خلفها قائلاً:
- بل تبدين رائعة.
أغمضت عينيها وتنهدت قائلة:
- لا أريد أن أبدو رائعة يا أبي، أنا ذاهبة إلى العمل وليس للتنزه!
ضحك والدها ملئ شدقيه وقال:
- وهل يجب أن تكوني قبيحة الشكل للتوجه إلى العمل يا إيمان؟
التفتت اليه وهي تفتح عينيها لتناظره وقالت:
- لا أريد لفت أنظار الرجال.
اقترب منها، أمسك كتفيها بقوة، وقال بحزم:
- عملك في المخابرات لا يتطلب منك تلك التراهات التي تضعينها في رأسك، وكونك امرأة لا يقلل أبداً من احترافك أو جديتك.
تطلعت إيمان إلى والدها اللواء المتقاعد محمد عمران (مندوب مكتب المخابرات سابقاً في برلين)، وشردت إلى ذلك اليوم الذي تخرجت فيه من الكلية الحربية منذ عشرة سنوات، حينها عرفت طبيعة عمل والدها الحقيقي؛ عندما إضطر والدها بإخبارها بذلك السر عندما صدر قرار مدير المخابرات بتعيينها كملازم أول في المخابرات العامة المصرية؛ نظراً لكفاءتها التي أشاد بها مدربيها أثناء دراستها.
"فيما شردتِ؟"
أفاقت إيمان من ذكرياتها على صوت والدها فأجابته:
- لا شيء مهم!
للحظة رأت في عينيه نظرة ندم فسألته بحيرة:
- ماذا بك يا أبي الحبيب؟
تنهد محمد وقال بحسرة:
- ليتني لم أوافق على التحاقك بهذا العمل، لكن الأمر خرج من يدي بعد قرار سيادة المدير وموافقتك على قراره.
عقدت حاجبيها وسألته بدهشة:
- هل تشعر بالندم لأنني أخدم وطني يا أبي؟
ربت على رأسها بحنان وقال:
- لا يا بنيتي، لم أقصد هذا أبداً، لكن واجبك هذا حرمك من أبسط حقوقك بأن تكوني زوجة وأم.
ارتفع حاجبيها بشدة؛ حتى كادا أن يلامسا منبت شعرها، وسألت بدهشة:
- هل اللواء محمد عمران الصارم، العاشق لوطنه من يتحدث الآن؟
هز رأسه نفياً وقال:
- بل الأب هو الذي يتحدث، صدقيني يا إيمان أنا مستعد للتضحية بحياتي من أجل بلادي، لكن الأمر يختلف عندما يتعلق بك، إنها عاطفة الأب يا صغيرتي.
صمت قليلاً ثم دق بسبابته على أنفها الصغير متابعاً:
- ثم إن اللواء محمد قد تقاعد منذ ستة أشهر، وأحذرك أنكِ لن ترين أمامك غير الوالد الحنون فحسب، والذي يريد أن يفرح بابنته؛ فكوني مستعدة يا ذات الألماس الزرقاء.
ضحكت إيمان بقوة، وتراجعت خطوة مبتعدة عنه، رفعت يدها مازحة في تحية عسكرية وهي تقول:
- حسناً سيدي، طلباتك أوامر.
ثم أمسكت بيده وطبعت عليها قبلة الصباح التي اعتادت عليها منذ صغرها، وغادرت الغرفة بسرعة وهي تقول:
- لا أريد أن يعاقبوني اليوم بسبب التأخير، لا تنسى دعائك لي.
هز رأسه بابتسامة حائرة، وهو يراها تتهرب منه كعادتها؛ كلما فاتحها في فكرة الزواج الذي رفضته مراراً وتكراراً بسبب عملها في المهمات الخارجية، والتي تحتم عليها عدم إنشاء أسرة مستقرة.
تنهد محمد وهو يتذكر إلحاحه عليها بأن تتولى الأعمال الإدارية التي قد تتيح لها الزواج، لكنها دائماً ترفض متحججة بأنها تجد نفسها في هذا العمل الشاق والخطير، إنه لا يريد الضغط عليها، ويتركها لاتخاذ قرارات حياتها بنفسها، رفع يده متوجهاً بالدعاء لرب العالمين:
- اللهم وفق ابنتي إلى ما فيه الخير لها، وأحفظها يا أرحم الراحمين.
أما إيمان، أغلقت باب شقتهم وتوجهت نحو مصعد البناية التي يسكنونها وهي تطالع الملف الذي بيدها، ثم ما لبثت أن تذكرت ذلك اليوم الذي بدأ فيه يناديها بذات الألماس الزرقاء بعد وفاة والدتها؛ حيث اعتاد أن ينادي والدتها بهذا الاسم حتى وفاتها، لتتوارث إيمان الاسم بعد والدتها الراحلة، شعرت بالحزن وكادت دمعة حارقة أن تفلت من عينيها الصافيتين، لكنها تمالكت نفسها كما اعتادت دائماً، وفجأة وأثناء شرودها وهي متجهة نحو المصعد اصطدمت بجسدِ صلب وقوي؛ فتراجعت خطوة للخلف؛ لتبتعد عن ذلك الجسد، وتطلعت إليه بغضب لم تستطيع كبحه؛ متأثرة بحزنها على والدتها، وصرخت بحدة:
- هل أنت أعمى أم......؟
ابتعلت باقي جملتها، وسعلت بقوة كأن الكلمات وقفت في حلقها وهي ترى ذلك الشاب الوسيم الذي تقدم للزواج منها سابقاً، وسألته بدهشة عارمة:
- أنت؟!
ابتسم الشاب وقال:
- المهندس سيف الدين فوزي همام، تحت أمرك سيدتي.
"فاليريا، فاليريا"
راح أندروس يهتف باسم زوجته بينما كان الطبيب يفصحه، ثم التفت نحو الرقيب أول بابلو ديلان رئيس أندروس المباشر وقال له:
- يبدو أنه تعرض لصدمة كبيرة.
أومئ بابلو برأسه وقال بصوت يشوبه القلق:
- لقد قُتلت زوجته منذ عدة ساعات!
تنهد الطبيب، قال وهو يتطلع إلى أندروس:
- مسكين.
ثم تطلع إلى بابلو مرة أخرى وقال بجدية:
- على كل حال لقد أعطيته إبرة مهدئة، ولن يستيقظ الآن، أريدك أن تزودني بتفاصيل وفاة زوجته؛ ﻷن الساعات القادمة ستكون صعبة عليه، وعلينا أن نفهم ما حدث معه؛ لكي نستطيع مساعدته إذا تأزم وضعه.
عقد بابلو حاجبيه بشدة وسأله بقلق:
- هل ستسوء حالته؟
وضع الطبيب يده على كتف بابلو وقال بهدوء يطمئنه:
- دعنا لا نستبق الأحداث، لكن الاحتياط واجب؛ من الواضح أنه متعلق بزوجته كثيراً؛ ولهذا يهذي باسمها.
تطلع بابلو بحزن إلى أندروس النائم وقال بأسى:
- بل كان يعشقها، كانت فاليريا حب حياته الوحيد.
وهنا همس أندروس باسم زوجته مرة أخرى بصوت متثاقل، والعرق يغمر جبينه كأنه مصاب بالحمى، فزع بابلو من منظر صديقه، وقال للطبيب بتوتر:
- هل هو بخير؟
أجابه الطبيب سريعاً:
- هذا تأثير المهدئ، لا تقلق، من الواضح أنه سيحتاج لمساعدة نفسية فور استيقاظه.
قال بابلو يترجاه:
- افعل ما بوسعك أيها الطبيب.
حاول الطبيب أن يهدئه؛ فقال:
- أخبرتك ألا تقلق، فلنتركه يرتاح الآن، وأنصحك بالرحيل، وأنا سأذهب لرؤية الطبيبة النفسية لاريسا سيزنيروس.
أجابه بابلو بصوت حاسم وصارم لا يجدي معه النقاش:
- سأذهب معك.
تطلع إليه الطبيب مندهشاً لصرامته المفاجئة، ورأى ثبات وقوة الضابط الجاد فقال له:
- حسناً كما تريد، قد تحتاج الطبيبة منك المعلومات لمباشرة عملها فور استيقاظ صديقك.
توجها إلى غرفة الطبيبة النفسية، طرق الطبيب باب الغرفة قبل أن يسمع صوتها يدعوهم للدخول، أمسك بابلو مقبض الباب وفتحه بسرعة وقلق، وكأن فعلته هذه ستشفي صديقه، ازداد اندهاش الطبيب من تصرفات بابلو، لكنه آثر الصمت مراعياً لشعوره، ودلفا إلى الغرفة، وفجأة تسمر بابلو مكانه؛ إن تلك السيدة، أو الطبيبة، أو أي كانت باهرة الحسن والجمال.
"يا إلهي، هل أنت إنسية أم ملاك سيدتي؟"
كانت تلك الكلمات التي همس بها بابلو لنفسه دون أن يسمعه أي شخص، راح ينظر إلى ملاك الجمال الذي أمامه والذي أبدع الله في خلقه لها، لم تكن شقراء كأغلب نساء المكسيك، بل كانت أقرب لنساء دول البحر الأبيض المتوسط، ببشرتها الناعمة ناصعة البياض، وعينيها البنتين الداكنتين، وشعرها الأسود اللامع الكثيف، ومع ذلك لقد افتتن بجمالها الهادئ الخلاب، راح يتأملها في صمت، وقد شعر أنها قد مدت يدها إليه وسرقت فؤاده -اللصة- وفجأة أفاق من شروده فيها، وضم حاجبيه في تكشيرة وهو يلوم نفسه:
- هل جننت يا بابلو، منذ متى تهتم للنساء؟
وليزيد الطين بلة ، تنحنح الطبيب من خلفه ليذكره بما فعل، وحملقته في الطبيبة؛ فالتفت إليه بابلو وهو عاقد حاجبيه بغضب، مما أثار توجس الطبيب منه ومن ردود أفعاله الغريبة التي تتغير في الدقيقة الواحدة عشرات المرات.
تقدم الطبيب من مكتب الطبيبة، التي كانت تتابع ما يحدث أمامها في صمت وقال لها:
- هناك حالة أظن أنها بحاجة لمساعدتك.
نهضت لاريسا وتوجهت نحو بابلو ظناً منها أنه المريض، اقتربت منه لتضع يدها على ذراعه وتقول له بهدوء:
- اهدأ من فضلك، كن واثقا أنني سأبذل قصارى جهدي لمساعدتك، عليك الاسترخاء فحسب.
احتقن وجه بابلو وأمسك بيدها ليبعدها عن كتفه وقال بصوت أجش:
- أنا لست حالتك يا دكتورة!
رفعت عينيها عالياً؛ لتتمكن من النظر إليه؛ نظراً لطوله الفارع، وفي أثناء ذلك استطاعت أن تكتشف أنه يملك جسداً ممشوق القوام، وشعرت بقوة يده الفولاذية التي تمسك بمعصمها، استنتجت أنه يمارس التمارين الرياضية كثيراً، وأخيرا وصلت إلى عينيه العسليتين ذات النظرة الصارمة، وهنا تنحنح زمليها الطبيب وقال:
- دكتورة لاريسا، هذا الرقيب بابلو ديلان بالشرطة الاتحادية، وهو صديق للحالة التي أخبرتك عنها.