الفصل الثالث بحر بلا شاطئ
( بعد مرور أسبوع)
يجلس (آدم) في الشقة السكنية التي استأجرها له أخيه، فحتى الآن لم يظهر على الملأ فأراد أن يتعافى جسمانياً من آثار التعذيب الذي تعرض له في مصحة الإدمان، فظل أخيه (أدهم) يتردد عليه للأطمئنان على صحته، برغم جهله بأن أخيه مازال يتعاطى الحبوب المخدرة، فهو لم يقلع عن الإدمان بل زاد سوءاً، لم يستطع آدم إطالة مدة إجازته عن العمل، فقرر العودة مرة أخرى للعمل؛ حتى لا يتم تسريحه فهو بحاجة لكل قرش، ليستطيع جلب المخدر الذي أصبح من الصعب الإقلاع عنه، تفاجأ (أحد زملائه) في العمل بما آل إليه آدم، فوجهه أصبح شاحب شحوب الأموات، وجسمه أصبح هزيل للغاية فقال له بذهول:
-آدم!! ماذا حل بك؟ هل أنت مريض؟ ماذا أصابك؟
شعر (آدم) بالخجل، ألهذه الدرجة أصبح مظهره يثير الشفقة والريبة قائلاً:
- لا لست مريضاً.. بل أنني اتبع حمية غذائية، حتى استعيد لياقتي البدنية.
نظر له الصديق مطولاً، فهو لم يقتنع بحديثه قائلاً:
- حمية غذائية! هل جننت؟ أنت تدمر نفسك، انظر إلى ذاتك أمام المرآه أصبحت كالشبح.
حاول (آدم) انهاء هذه المحادثة، فلم يعد بوسعه الحديث أكثر من ذلك، فهو يشعر بالاختناق قائلاً:
- سأحاول.. عن أذنك لدي عمل علي القيام به.
لاحظ (آدم) همهمات المحيطين به في العمل، ونظراتهم إليه كأنهم ينظرون إلى كائن غريب الأطوار في برنامج عالم الحيوان، حاول تجاهلهم فهو يعلم بأنه سيواجه المجتمع قريباً، فلا شيء سيبقى فى طي الكتمان، انتهى عمله وخرج مسرعاً حتى لا يسمح لأحد بأن يرضى فضوله على حسابه، عاد لشقته الجديدة وهو يفكر ماذا سيفعل؟ بعد مرور عدة ساعات وجد الباب يدق، وكان الطارق أخيه (أدهم) قائلاً:
- تفضل يا أخي كيف أخبارك وأخبار أمي وأبي وأخي يزيد، لقد أشتقت إليهم.
جلس (أدهم) على الأريكة وملامحه لا تبشر بالخير قائلاَ:
- لقد حان الآن وقت عودتك للمنزل، فأمنا مريضة ولا تذكر سوى اسمك على لسانها..
انتفض قلب (آدم) وهو مذعور قائلاَ:
- ماذا حدث لأمي؟
تنهد (آدهم) وهو يمسد جبهته من التعب والأرهاق الباديين على ملامحه قائلاً:
- لا أعلم.. ربما أرهقت قلبها وعقلها في التفكير والقلق بشأنك، فأنت لم تكلف نفسك بأجراء مكالمة لها لكي تطمئن عليك، قلب الأم ينفطر على فلذة كبدها، لم أعلم أنك بهذا الجفاء!
شعر (آدم) بالخجل، كيف نسى أمه؟! ربما لأنه خجل من نفسه، فهو لم يعد مصدر فخر لها قائلاً:
أمهلني عشر دقائق حتى أحضر ملابسي وأخرج معك...
قاطعه (أدهم) قائلاً:
- لقد أخذت لك حقك.. لقد تم تشميع المصحة بالشمع الأحمر، وتم القبض على مديرها ورئيسها وهم الآن في النيابة العامة يتم التحقيق معهم، فللأسف الشديد هناك أحد المرضى لقي مصرعه أثناء تعذيبهم له بحجة تقويم سلوكه، وأرسلت للنائب العام ملفات عثرت عليها من أحد الموظفين الشرفاء الذين يعملون في هذة المصحة، قد تبقيهم في السجن مدى الحياة، فلقد تبين إن هذة المصحة غير مرخصة من وزارة الصحة، وتستخدم علاج غير مصرح بتداوله، فهو يسبب نتائج عكسية قد يؤدي إلى الوفاة، أنا أسف يا أخي لقد ألقيت بك في الجحيم بدون وعي مني.
نظر (آدم) (لأدهم) وهو يستعيد ذكرياته السوداء التي مرت به أثناء وجوده في المصحة، ابتسم ابتسامة ساخرة ثم قال:
- ألم تعلم من الذي قُتل؟
حاول (أدهم) تذكر أسم القتيل قائلاً:
- لا أعلم فلقد كتب اسمه بالرموز أول حرف من اسمه واسم والده فقط.
هز (آدم) رأسه برتابه، ثم تنهد ودلف لغرفته ليجهز حقيبة ملابسه التي اشتراها مؤخراً، وخرج حاملاً إياها وهو يتجه ناصية الباب بدون أن يتفوه بأي كلمة، وخرج بعد منه أخيه بعدما أغلق المنزل جيداً، واتجه لحارس العقار ليسلمه مفاتيح الشقة، ويعلمه بانتهاء الإيجار فلم يعد بحاجة إليها، كان (آدم) ينظر من نافذة السيارة وهو شارد الذهن، ظل يفكر بأمه ويتساءل ماذا سيكون رد فعلها عندما تراه بهذه الهيئة؟! ماذا سيقول لها؟ كيف سيبرر غيابه طوال هذة المدة؟ لاحظ (أدهم) شرود أخيه فخمن بما يفكر فقال له:
- اخبرها بأنك كنت مريض ولم تستطع أن تقلقها عليك؛ ولذا لم تتصل بها، وحاول أن تطمئنها، فأمك ستتعافى بمجرد أن تراك، فأنت أقرب الأبناء إلى قلبها.
ضحك (آدم) بسخرية قائلاً:
- لا تقلق فمنذ هذه اللحظة لم أعد الأقرب إلى قلبها، فهى ستلعنني ما حييت.
..ما الذنب الذي أقترفته حتى يصبح قلب ابني كالحجر الصوان؟! فأنا لم أقصر في تربيته ولا نشأته، فكنت خير صديقة له قبل أن أكون أمه التي أخرجته للحياة، لماذا هذه القسوة؟! فأنا لم أطلب الكثير، فقط أريد سماع صوته والاطمئنان عليه، قلبي يرتعش خوفاً عليه، جفني يحرم دلوف النوم لعيناي، عقلي يأبى الخضوع لمبررات واهيه لغيابه، اخشى أن يكون قد أصابه مكروه، فقلبي لا يستطيع تحمل مجرد فكرة خطرت لعقلي قد دسها الشيطان به، جسدي أصابه الإنهيار، فماذا يفيد الدواء لداء علاجه رؤية ابني وسماع صوته ولمس جسده؟! حتى أتأكد من سلامته، اغلقت جفناي وأنا أتخيل بأن (آدم) يقبع في حضني وأملس على رأسه، ولكن كيف صوته يرن في أذني؟ كأنه يجلس بالقرب مني، وعند هذه الخاطرة فتحت جفناي على عيناه الخضراء التي تلتمع بالدموع قائلاً:
- سامحيني يا أمي.. أعلم بأن قلبك الطاهر النقي قد تألم من غيابي عنه، ولكن أقسم لك بأن غيابي كان رغماً عني، فكما ترين جسدي قد أصابه الهزلان، فذلك كان بسبب المرض الذي أدعو الله أن يزيله عني، ولكن لا تخافي ولا تحزني، فأنا في مرحلة الشفاء.
حدقت (فاتن) وهى تنظر إليه، فلم تكن تصدق بوجوده أمامها حقا، ولكنها قامت بتحريك كفها ووضعته على خده، وعندئذ تركت العنان لدموعها بالهطول قائلة:
- الحمدلله على سلامتك.. هل هنت عليك حتى لا تهاتفني ولو لمرة واحدة، ألا يوجد بقلبك ذرة رحمة تجاهي؟! ماذا فعلت لك حتى تعاقبني هذا العقاب؟!
ظل (آدم) يبكي بكاءاً مريراً، وارتمى في حضن أمه وكتفيه يهتزان من شدة البكاء قائلاً:
- سامحيني يا أمي.. أرجوكي لا تتخلي عني في محنتي، فبعد الله لا ملاذ لي غيرك.
لم تفهم (فاتن) ماذا يقصد ابنها من كلمة محنة، ولذا سألته قائلة:
- محنة!! ماذا بك؟ ماذا أصابك يا بني؟
لاحظ (أدهم) بأن (آدم) قد يفشي سر مرضه لأمه، مما قد يزيد من مرضها، ولذا قرر تغيير مجرى الحديث قائلاً:
- يكفي بكاء ونحيب.. ألم يقر عيناك بابنك يا أمي، هيا انهضي من فراش المرض اللعين، فنحن نشتاق لوجودك بيننا وسماع ضحكتك الرنانة، والنميمة على الجارة الفضولية الحسودية أم جمالات.
ضحكت (فاتن) وسط بكائها، وهى تمسد على ظهر (آدم) قائلة:
- أم جمالات.. هذه المرأة لا تكل ولا تمل من حشر أنفها فيما لا يعنيها، لقد أصابكم الحسد من عينيها الكريهة، لابد من تبخيركم وتبخير المنزل من عينيها الحاسدة.
اعتدل (آدم) وجلس على طرف الفراش، وهو يمسح دموعه قائلاً:
- أصبتي يا أمي.. هيا انهضي حتى تزيلي سهم عينيها الغادرة المسمومة التي اخترقت حياتنا حتى أصابها المرض.
.. هرولت للداخل وهى ترقص فرحاً، وقلبها يغني طرباً، فحبيب القلب قد وصل لمنزله، فلقد رأته وهو يدلف للعقار المجاور لهم، فظلت تدندن بأعذب الألحان، وهى تتخيله بين أحضانها، وظلت تدور وتدور حول نفسها كأنها قمر يدور حول أرضها، فآدم هو أرضها وموطنها، فقاطع فرحتها دلوف أختها قائلة:
- لقد شرف من ملك فؤادك، والآن ماذا ستفعلين؟ هل ستستمري في مراقبته خلف الأسوار أم ستعترفي له بحبك بل عشقك اللا متناهي له؟ أجيبي يا أختاه.
جلست (رشا) على الأريكة وهى حائرة فيما تقوله لها أختها، فهى بالطبع محقة فيما تتفوه به، ولكن لما تشعر بالخوف؟ هل لأنها تخشى رفضه لحبها؟! أم لشعورها بالإحراج؟! لم تعد تعلم شيء.
رجع (يزيد) من الجامعة وهو يتضور جوعاً، فهو يعلم جيداً بمرض أمه ولذا قام بشراء الغداء له ولأمه فقط، لأن أبيه مازال في البلدة يتابع المحصول، وكان يشغل باله رقود أمه على الفراش بلا حول لها ولا قوة، فقرر أخذها ليعرضها على الطبيب، فلن يرضخ لرفضها مرة أخرى، وعند فتحه لباب المنزل سمع صوت ضحكة أمه مجلجلة، فلم يصدق أذناه، فدلف للداخل وهو يرى الدخان يملئ البيت برائحة العود والعنبر، ثم ظهر من وسط هذا الدخان أخيه آدم، ولكن ما الذي أصابه؟! فجسده قد فقد الكثير من الشحم، فضحك ساخراً:
- آدم! حمدلله على سلامتك، لقد سمعت ضحكت أمي فلم أصدق نفسي حتى رأيتك.. فأمي كما تعلم قلبها ملك يداك.
لم يهتم (آدم) لحديث (يزيد) بل قام بسحبه لداخل حضنه فيزيد أخيه الصغير الذي يشعر دائماً بالغيرة من أخوته فلا يريد أن ينافسه أحد في حب أمه قائلاً:
- لقد اشتقت إليك يا أخي، بالرغم من لسانك اللاذع، فأنا بدونكم كورقة شجرة ذابلة في فصل الخريف.
(بعد مرور أسبوع)
في دجى الليل، والنجوم تتلألأ وسط السماء، في ليلة ذات نسيم عليل، يجلس (يزيد) في شرفة غرفته وهو يحدق إلى السماء، فخيل له بأن (رشا) تبتسم له وعينيها تبرقان من العشق، كالقمر الذي يضئ عتمة قلبه فيجعله عامر بالحب والهيام، وظل يتساءل ما السحر الذي ألقته عليه؟! فأصبح كالمتيم بجمالها وحسنها، فعيناها ترسل بريق يخجل الجفون من حجبها عنه، لقد سقط في بئر العاشقين، فلا نجاة ولا منجى منه إلا إليها، فأصبح يذوب بين رموشها كالكحل الذي يزين جوهرتيها، ضحك وهو يسخر من نفسه، فلم يكن يتصور أن يقع في الغرام بهذه السهولة "ياله من قلب متواطئ مع النوم ضدي، فكلاهما يرفعان راية العصيان، فلا شك أني هالك لا محالة" قاطع شروده أخيه (آدم) وهو يجلس أمامه قائلاً:
- لا أسكت الله لك حسا، مالك والشرود! أيعقل أن تكون قد وقعت في شباك العشق؟! يا حسرتاه على شبابك الضائع!
ضحك (يزيد) ضحكة ساخرة قائلاً:
- لا تشمت في أخيك، فالدنيا دوارة.. قد يصيبك ما أصابني، فلا تتعجب فسهام العشق عمياء، قد تختارك ولو كنت في بروج مشيدة.
ضحك (آدم) بصخب حتى كاد أن يسقط من على كرسيه قائلاً:
- لا تقلق فأنا قد أصابني سهم من اللعنة، أسوء من سهامك، فجميعنا سنواجه الهلاك بعينه.
لم يفهم (يزيد) ماذا يقصد أخيه (آدم) بحديثه، ولكنه أكتفى بأنه أومأ برأسه، وهو يتطلع إلى المجهول، فماذا سيفعل بقلب قد أصابه في مقتل؟ هل سيحقق له طلبه؟ أم سيتركه يتعذب في جحيمه؟!
(بعد مرور يومين)
ظل يتجول في الشوارع هائماً، يشعر أنه في بئر سحيق مظلم لا نهاية له، فأين ضي الأمل؟ يريد أن يرى بصيص من النور حتى ينجيه من وحله، وأثناء هيامه وجد صوت أنثوي جذاب ينادي عليه كأنه الكروان بعينه قائلة:
- أستاذ آدم.. المعذرة منك فأنا أريد الحديث معك في موضوع ما، فهل تسمح لي بأن أشاركك في طريقك؟
نظر لها آدم وهو يتفحصها، فهذه أول مرة يراها فتعجب لمعرفتها له، تبسم قائلاً:
- بالطبع.. هل تفضلين الجلوس في مقهى ما؟
ابتسمت في خجل قائلة: يكون من الأفضل لنا، فالموضوع يحتاج إلى مكان هادئ.
كان (آدم) يختلس النظر إلى (رشا) ويدور في عقله ألف سؤال وسؤال، وعندما أقتربوا من مقهى ما، سألها (آدم) قائلاً:
- أنا لم أتعرف عليكِ بعد، ما اسمك؟
نظرت له (رشا) وعينيها تلتمع ببريق العشق قائلة:
- أدعى رشا.. ولا تقلق فأنا لا ألتهم الوسماء.
ضحك (آدم) حتى ظهرت نواجذه قائلاً:
- اسمك جميل، ولديكِ حس الدعابة ايضاً، لقد وصلنا تفضلي بالدلوف للمقهى.
ظل (آدم) ينظر لها فمنذ جلوسهما على الطاولة وهى لم تنطق بكلمة واحدة، ولاحظ توترها وخجلها، فأراد أن يخرجها من صمتها قائلاً:
- الطقس اليوم لطيف وهادئ، فهو يجعل المرء ينعم بالسكون والراحة، ما رأيك في ذلك؟
اومأت له (رشا) وهى لا تدرى إلى أين هربت منها الكلمات؟ لماذا أصابها الخرس فجأة؟! فحاولت لملمت الباقي من شجاعتها قائلة:
- أنا أعلم بأنك ربما لم تتعرف إليا، أنا اسكن بالعقار المجاور لك، هل تتذكر الفتاة الصغيرة التي دافعت عنها عندما تعرض لها بعض من المتطفلين لإيذائها؟
صمت (آدم) برهة من الزمن ثم قال:
- نعم تذكرت الفتاة الباكية، هكذا كان يلقبها الفتيان في الحي.
ابتسمت (رشا) وهى تومأ برأسها قائلة:
- نعم أنت محق.. فكنت دائمة البكاء ولكن كنت أنت البطل الذي احتمي به.
تطلع لها (آدم) وهو يتذكر ومضات من الماضي، ثم ابتسم لها قائلاً في تحسر:
- ياليت كنا صغاراً ولم نكبر في هذه الحياة القاسية، فالبراءة أصبحت في طي النسيان، وتم استبدالها بالخبث والخسة والغدر...
قاطعته قائلة: لماذا تقول ذلك؟ فالحياة لا ذنب لها في أفعال الحمقى، ابتسم للدنيا تبتسم لك.
ضحك (آدم) من سذاجتها فهى مازالت تعيش في عالمها الوردي، فأتكأ على الطاولة وهو يميل بجسده للأمام قائلاً:
- مازلتي صغيرة.. فنصيحة مني تخلي عن هذه السذاجة، فأنا اخشى عليكِ من تقلبات الزمن الغادر، فنحن نعيش في غابة مليئة بالذئاب البشرية، فلا تأمني البشر حتى أنا لا تثقي بي.
اندهشت (رشا) من نظرته الحالكة الظلام، فمن ينظر له لا يعتقد أن بداخله كل هذا الألم والأسى، فأمعنت النظر بعيناه فوجدتهما كأنهما عينان زجاجية خالية من المشاعر والأحاسيس، فتساءلت ماذا حدث له؟
فقاطع (آدم) تحديقها له قائلاً:
- حتى الآن لم تخبريني بالموضوع الهام، كلي أذان صاغية.. تفضلي بالحديث.
تلعثمت قليلاً ثم همست بصوت يكاد أن يكون مسموعاً قائلة:
- أني أحبك.. أعلم بأنك لا تكن لي بأي مشاعر، ولكن لم أقدر على احتمال ألم قلبي في بعدك عني، فأنا أشعر كأنني جسد بلا روح، فأرجو منك رد روحي إليا.
جحظت عينا (آدم) من مصارحتها بحبها له، فلم يكن يتوقع ذلك، فحاول محو اندهاشه حتى لا يشعرها بالحرج، وصمت قليلاً حتى يفكر بما سيجيب عليها.
فأردفت (رشا) قائلة: أنا لا أنتظر منك الرد الآن، فطلبي هو أن تعطيني فرصة للتقرب منك حتى يتسنى لك الشعور بما أشعر به تجاهك، ربما تغرق في بحور عشقي وينابيع حناني.
أومأ لها (آدم) وهو لا يعلم بماذا يجيب؟! فهى لم تسمح له بالاعتراض، فكيف يعترض على طلبها؟ فمن الأحمق الذي يرفض حب فتاة مكتملة الأنوثة والجمال الذي يركع له اعتى الرجال.
.. استمرت المحادثات الليلية بينهم، ولم يجرأ (آدم) على البوح لها بسره الذي لا يعلمه أحد من عائلته غير أخيه (أدهم) وشعر بأنه ينجذب لها شيئاً فشيئاً وأحس بالخطورة فما ذنبها أن تعاني معه؟! فمرضه لا يستطيع الشفاء منه؛ فهو فقد الأمل في العلاج، وفي ليلة ما أثناء حديثه معها دق باب غرفته أخيه (يزيد) فأعتذر لها لأنه مضطر لإغلاق المكالمة، وسمح بدلوف أخيه قائلاً:
- تفضل يا أخي بالدخول.
مد يزيد رأسه من الباب وهو مبتسم قائلاً:
- هل قاطعت وصلت عشقك يا أخي.
ضحك (آدم) قائلاً: هل تتنصت عليا يا ماكر؟
ضحك (يزيد) ضحكة صاخبة حتى كاد أن يسقط من شدتها قائلاً:
- لا أحتاج للتنصت فحبك يظهر للجميع، ألم يحن الوقت للإفصاح عن هويتها؟
أشار (آدم) له بالجلوس بجواره على الفراش، ثم همس له بصوت حالم قائلاً:
- لقد سقطت مثلك يا أخي، فلم أكن أعلم بأن الحب سيجعل قلبي يرفرف مثل الفراشة على الزهور المتفتحة في الربيع، فهى مثل زهرة اللافندر البرية تفوح منها رائحة جذابة تسحرني، لقد أصبحت كالمجذوب في عشقها.
سعد (يزيد) لأخيه وربت على يديه برفق قائلاً:
- لقد سعدت لسماع ذلك يا أخي، ولكن من سعيدة الحظ التي ملكت قلبك؟
نظر (آدم) لصوره موجودة خلفية لهاتفه، وهو يتنهد بهيام قائلاً:
- حبيبتي رشا.. ما أجملها!
وقع نظر (يزيد) للمكان الذي ينظر له أخيه فوجدها صورة حبيبته، فتجمد مكانه من هول الصدمة، فكلاهما يحبان نفس الفتاة، فأشتعل قلبه كأنه عين الجحيم.
...يتبع
يجلس (آدم) في الشقة السكنية التي استأجرها له أخيه، فحتى الآن لم يظهر على الملأ فأراد أن يتعافى جسمانياً من آثار التعذيب الذي تعرض له في مصحة الإدمان، فظل أخيه (أدهم) يتردد عليه للأطمئنان على صحته، برغم جهله بأن أخيه مازال يتعاطى الحبوب المخدرة، فهو لم يقلع عن الإدمان بل زاد سوءاً، لم يستطع آدم إطالة مدة إجازته عن العمل، فقرر العودة مرة أخرى للعمل؛ حتى لا يتم تسريحه فهو بحاجة لكل قرش، ليستطيع جلب المخدر الذي أصبح من الصعب الإقلاع عنه، تفاجأ (أحد زملائه) في العمل بما آل إليه آدم، فوجهه أصبح شاحب شحوب الأموات، وجسمه أصبح هزيل للغاية فقال له بذهول:
-آدم!! ماذا حل بك؟ هل أنت مريض؟ ماذا أصابك؟
شعر (آدم) بالخجل، ألهذه الدرجة أصبح مظهره يثير الشفقة والريبة قائلاً:
- لا لست مريضاً.. بل أنني اتبع حمية غذائية، حتى استعيد لياقتي البدنية.
نظر له الصديق مطولاً، فهو لم يقتنع بحديثه قائلاً:
- حمية غذائية! هل جننت؟ أنت تدمر نفسك، انظر إلى ذاتك أمام المرآه أصبحت كالشبح.
حاول (آدم) انهاء هذه المحادثة، فلم يعد بوسعه الحديث أكثر من ذلك، فهو يشعر بالاختناق قائلاً:
- سأحاول.. عن أذنك لدي عمل علي القيام به.
لاحظ (آدم) همهمات المحيطين به في العمل، ونظراتهم إليه كأنهم ينظرون إلى كائن غريب الأطوار في برنامج عالم الحيوان، حاول تجاهلهم فهو يعلم بأنه سيواجه المجتمع قريباً، فلا شيء سيبقى فى طي الكتمان، انتهى عمله وخرج مسرعاً حتى لا يسمح لأحد بأن يرضى فضوله على حسابه، عاد لشقته الجديدة وهو يفكر ماذا سيفعل؟ بعد مرور عدة ساعات وجد الباب يدق، وكان الطارق أخيه (أدهم) قائلاً:
- تفضل يا أخي كيف أخبارك وأخبار أمي وأبي وأخي يزيد، لقد أشتقت إليهم.
جلس (أدهم) على الأريكة وملامحه لا تبشر بالخير قائلاَ:
- لقد حان الآن وقت عودتك للمنزل، فأمنا مريضة ولا تذكر سوى اسمك على لسانها..
انتفض قلب (آدم) وهو مذعور قائلاَ:
- ماذا حدث لأمي؟
تنهد (آدهم) وهو يمسد جبهته من التعب والأرهاق الباديين على ملامحه قائلاً:
- لا أعلم.. ربما أرهقت قلبها وعقلها في التفكير والقلق بشأنك، فأنت لم تكلف نفسك بأجراء مكالمة لها لكي تطمئن عليك، قلب الأم ينفطر على فلذة كبدها، لم أعلم أنك بهذا الجفاء!
شعر (آدم) بالخجل، كيف نسى أمه؟! ربما لأنه خجل من نفسه، فهو لم يعد مصدر فخر لها قائلاً:
أمهلني عشر دقائق حتى أحضر ملابسي وأخرج معك...
قاطعه (أدهم) قائلاً:
- لقد أخذت لك حقك.. لقد تم تشميع المصحة بالشمع الأحمر، وتم القبض على مديرها ورئيسها وهم الآن في النيابة العامة يتم التحقيق معهم، فللأسف الشديد هناك أحد المرضى لقي مصرعه أثناء تعذيبهم له بحجة تقويم سلوكه، وأرسلت للنائب العام ملفات عثرت عليها من أحد الموظفين الشرفاء الذين يعملون في هذة المصحة، قد تبقيهم في السجن مدى الحياة، فلقد تبين إن هذة المصحة غير مرخصة من وزارة الصحة، وتستخدم علاج غير مصرح بتداوله، فهو يسبب نتائج عكسية قد يؤدي إلى الوفاة، أنا أسف يا أخي لقد ألقيت بك في الجحيم بدون وعي مني.
نظر (آدم) (لأدهم) وهو يستعيد ذكرياته السوداء التي مرت به أثناء وجوده في المصحة، ابتسم ابتسامة ساخرة ثم قال:
- ألم تعلم من الذي قُتل؟
حاول (أدهم) تذكر أسم القتيل قائلاً:
- لا أعلم فلقد كتب اسمه بالرموز أول حرف من اسمه واسم والده فقط.
هز (آدم) رأسه برتابه، ثم تنهد ودلف لغرفته ليجهز حقيبة ملابسه التي اشتراها مؤخراً، وخرج حاملاً إياها وهو يتجه ناصية الباب بدون أن يتفوه بأي كلمة، وخرج بعد منه أخيه بعدما أغلق المنزل جيداً، واتجه لحارس العقار ليسلمه مفاتيح الشقة، ويعلمه بانتهاء الإيجار فلم يعد بحاجة إليها، كان (آدم) ينظر من نافذة السيارة وهو شارد الذهن، ظل يفكر بأمه ويتساءل ماذا سيكون رد فعلها عندما تراه بهذه الهيئة؟! ماذا سيقول لها؟ كيف سيبرر غيابه طوال هذة المدة؟ لاحظ (أدهم) شرود أخيه فخمن بما يفكر فقال له:
- اخبرها بأنك كنت مريض ولم تستطع أن تقلقها عليك؛ ولذا لم تتصل بها، وحاول أن تطمئنها، فأمك ستتعافى بمجرد أن تراك، فأنت أقرب الأبناء إلى قلبها.
ضحك (آدم) بسخرية قائلاً:
- لا تقلق فمنذ هذه اللحظة لم أعد الأقرب إلى قلبها، فهى ستلعنني ما حييت.
..ما الذنب الذي أقترفته حتى يصبح قلب ابني كالحجر الصوان؟! فأنا لم أقصر في تربيته ولا نشأته، فكنت خير صديقة له قبل أن أكون أمه التي أخرجته للحياة، لماذا هذه القسوة؟! فأنا لم أطلب الكثير، فقط أريد سماع صوته والاطمئنان عليه، قلبي يرتعش خوفاً عليه، جفني يحرم دلوف النوم لعيناي، عقلي يأبى الخضوع لمبررات واهيه لغيابه، اخشى أن يكون قد أصابه مكروه، فقلبي لا يستطيع تحمل مجرد فكرة خطرت لعقلي قد دسها الشيطان به، جسدي أصابه الإنهيار، فماذا يفيد الدواء لداء علاجه رؤية ابني وسماع صوته ولمس جسده؟! حتى أتأكد من سلامته، اغلقت جفناي وأنا أتخيل بأن (آدم) يقبع في حضني وأملس على رأسه، ولكن كيف صوته يرن في أذني؟ كأنه يجلس بالقرب مني، وعند هذه الخاطرة فتحت جفناي على عيناه الخضراء التي تلتمع بالدموع قائلاً:
- سامحيني يا أمي.. أعلم بأن قلبك الطاهر النقي قد تألم من غيابي عنه، ولكن أقسم لك بأن غيابي كان رغماً عني، فكما ترين جسدي قد أصابه الهزلان، فذلك كان بسبب المرض الذي أدعو الله أن يزيله عني، ولكن لا تخافي ولا تحزني، فأنا في مرحلة الشفاء.
حدقت (فاتن) وهى تنظر إليه، فلم تكن تصدق بوجوده أمامها حقا، ولكنها قامت بتحريك كفها ووضعته على خده، وعندئذ تركت العنان لدموعها بالهطول قائلة:
- الحمدلله على سلامتك.. هل هنت عليك حتى لا تهاتفني ولو لمرة واحدة، ألا يوجد بقلبك ذرة رحمة تجاهي؟! ماذا فعلت لك حتى تعاقبني هذا العقاب؟!
ظل (آدم) يبكي بكاءاً مريراً، وارتمى في حضن أمه وكتفيه يهتزان من شدة البكاء قائلاً:
- سامحيني يا أمي.. أرجوكي لا تتخلي عني في محنتي، فبعد الله لا ملاذ لي غيرك.
لم تفهم (فاتن) ماذا يقصد ابنها من كلمة محنة، ولذا سألته قائلة:
- محنة!! ماذا بك؟ ماذا أصابك يا بني؟
لاحظ (أدهم) بأن (آدم) قد يفشي سر مرضه لأمه، مما قد يزيد من مرضها، ولذا قرر تغيير مجرى الحديث قائلاً:
- يكفي بكاء ونحيب.. ألم يقر عيناك بابنك يا أمي، هيا انهضي من فراش المرض اللعين، فنحن نشتاق لوجودك بيننا وسماع ضحكتك الرنانة، والنميمة على الجارة الفضولية الحسودية أم جمالات.
ضحكت (فاتن) وسط بكائها، وهى تمسد على ظهر (آدم) قائلة:
- أم جمالات.. هذه المرأة لا تكل ولا تمل من حشر أنفها فيما لا يعنيها، لقد أصابكم الحسد من عينيها الكريهة، لابد من تبخيركم وتبخير المنزل من عينيها الحاسدة.
اعتدل (آدم) وجلس على طرف الفراش، وهو يمسح دموعه قائلاً:
- أصبتي يا أمي.. هيا انهضي حتى تزيلي سهم عينيها الغادرة المسمومة التي اخترقت حياتنا حتى أصابها المرض.
.. هرولت للداخل وهى ترقص فرحاً، وقلبها يغني طرباً، فحبيب القلب قد وصل لمنزله، فلقد رأته وهو يدلف للعقار المجاور لهم، فظلت تدندن بأعذب الألحان، وهى تتخيله بين أحضانها، وظلت تدور وتدور حول نفسها كأنها قمر يدور حول أرضها، فآدم هو أرضها وموطنها، فقاطع فرحتها دلوف أختها قائلة:
- لقد شرف من ملك فؤادك، والآن ماذا ستفعلين؟ هل ستستمري في مراقبته خلف الأسوار أم ستعترفي له بحبك بل عشقك اللا متناهي له؟ أجيبي يا أختاه.
جلست (رشا) على الأريكة وهى حائرة فيما تقوله لها أختها، فهى بالطبع محقة فيما تتفوه به، ولكن لما تشعر بالخوف؟ هل لأنها تخشى رفضه لحبها؟! أم لشعورها بالإحراج؟! لم تعد تعلم شيء.
رجع (يزيد) من الجامعة وهو يتضور جوعاً، فهو يعلم جيداً بمرض أمه ولذا قام بشراء الغداء له ولأمه فقط، لأن أبيه مازال في البلدة يتابع المحصول، وكان يشغل باله رقود أمه على الفراش بلا حول لها ولا قوة، فقرر أخذها ليعرضها على الطبيب، فلن يرضخ لرفضها مرة أخرى، وعند فتحه لباب المنزل سمع صوت ضحكة أمه مجلجلة، فلم يصدق أذناه، فدلف للداخل وهو يرى الدخان يملئ البيت برائحة العود والعنبر، ثم ظهر من وسط هذا الدخان أخيه آدم، ولكن ما الذي أصابه؟! فجسده قد فقد الكثير من الشحم، فضحك ساخراً:
- آدم! حمدلله على سلامتك، لقد سمعت ضحكت أمي فلم أصدق نفسي حتى رأيتك.. فأمي كما تعلم قلبها ملك يداك.
لم يهتم (آدم) لحديث (يزيد) بل قام بسحبه لداخل حضنه فيزيد أخيه الصغير الذي يشعر دائماً بالغيرة من أخوته فلا يريد أن ينافسه أحد في حب أمه قائلاً:
- لقد اشتقت إليك يا أخي، بالرغم من لسانك اللاذع، فأنا بدونكم كورقة شجرة ذابلة في فصل الخريف.
(بعد مرور أسبوع)
في دجى الليل، والنجوم تتلألأ وسط السماء، في ليلة ذات نسيم عليل، يجلس (يزيد) في شرفة غرفته وهو يحدق إلى السماء، فخيل له بأن (رشا) تبتسم له وعينيها تبرقان من العشق، كالقمر الذي يضئ عتمة قلبه فيجعله عامر بالحب والهيام، وظل يتساءل ما السحر الذي ألقته عليه؟! فأصبح كالمتيم بجمالها وحسنها، فعيناها ترسل بريق يخجل الجفون من حجبها عنه، لقد سقط في بئر العاشقين، فلا نجاة ولا منجى منه إلا إليها، فأصبح يذوب بين رموشها كالكحل الذي يزين جوهرتيها، ضحك وهو يسخر من نفسه، فلم يكن يتصور أن يقع في الغرام بهذه السهولة "ياله من قلب متواطئ مع النوم ضدي، فكلاهما يرفعان راية العصيان، فلا شك أني هالك لا محالة" قاطع شروده أخيه (آدم) وهو يجلس أمامه قائلاً:
- لا أسكت الله لك حسا، مالك والشرود! أيعقل أن تكون قد وقعت في شباك العشق؟! يا حسرتاه على شبابك الضائع!
ضحك (يزيد) ضحكة ساخرة قائلاً:
- لا تشمت في أخيك، فالدنيا دوارة.. قد يصيبك ما أصابني، فلا تتعجب فسهام العشق عمياء، قد تختارك ولو كنت في بروج مشيدة.
ضحك (آدم) بصخب حتى كاد أن يسقط من على كرسيه قائلاً:
- لا تقلق فأنا قد أصابني سهم من اللعنة، أسوء من سهامك، فجميعنا سنواجه الهلاك بعينه.
لم يفهم (يزيد) ماذا يقصد أخيه (آدم) بحديثه، ولكنه أكتفى بأنه أومأ برأسه، وهو يتطلع إلى المجهول، فماذا سيفعل بقلب قد أصابه في مقتل؟ هل سيحقق له طلبه؟ أم سيتركه يتعذب في جحيمه؟!
(بعد مرور يومين)
ظل يتجول في الشوارع هائماً، يشعر أنه في بئر سحيق مظلم لا نهاية له، فأين ضي الأمل؟ يريد أن يرى بصيص من النور حتى ينجيه من وحله، وأثناء هيامه وجد صوت أنثوي جذاب ينادي عليه كأنه الكروان بعينه قائلة:
- أستاذ آدم.. المعذرة منك فأنا أريد الحديث معك في موضوع ما، فهل تسمح لي بأن أشاركك في طريقك؟
نظر لها آدم وهو يتفحصها، فهذه أول مرة يراها فتعجب لمعرفتها له، تبسم قائلاً:
- بالطبع.. هل تفضلين الجلوس في مقهى ما؟
ابتسمت في خجل قائلة: يكون من الأفضل لنا، فالموضوع يحتاج إلى مكان هادئ.
كان (آدم) يختلس النظر إلى (رشا) ويدور في عقله ألف سؤال وسؤال، وعندما أقتربوا من مقهى ما، سألها (آدم) قائلاً:
- أنا لم أتعرف عليكِ بعد، ما اسمك؟
نظرت له (رشا) وعينيها تلتمع ببريق العشق قائلة:
- أدعى رشا.. ولا تقلق فأنا لا ألتهم الوسماء.
ضحك (آدم) حتى ظهرت نواجذه قائلاً:
- اسمك جميل، ولديكِ حس الدعابة ايضاً، لقد وصلنا تفضلي بالدلوف للمقهى.
ظل (آدم) ينظر لها فمنذ جلوسهما على الطاولة وهى لم تنطق بكلمة واحدة، ولاحظ توترها وخجلها، فأراد أن يخرجها من صمتها قائلاً:
- الطقس اليوم لطيف وهادئ، فهو يجعل المرء ينعم بالسكون والراحة، ما رأيك في ذلك؟
اومأت له (رشا) وهى لا تدرى إلى أين هربت منها الكلمات؟ لماذا أصابها الخرس فجأة؟! فحاولت لملمت الباقي من شجاعتها قائلة:
- أنا أعلم بأنك ربما لم تتعرف إليا، أنا اسكن بالعقار المجاور لك، هل تتذكر الفتاة الصغيرة التي دافعت عنها عندما تعرض لها بعض من المتطفلين لإيذائها؟
صمت (آدم) برهة من الزمن ثم قال:
- نعم تذكرت الفتاة الباكية، هكذا كان يلقبها الفتيان في الحي.
ابتسمت (رشا) وهى تومأ برأسها قائلة:
- نعم أنت محق.. فكنت دائمة البكاء ولكن كنت أنت البطل الذي احتمي به.
تطلع لها (آدم) وهو يتذكر ومضات من الماضي، ثم ابتسم لها قائلاً في تحسر:
- ياليت كنا صغاراً ولم نكبر في هذه الحياة القاسية، فالبراءة أصبحت في طي النسيان، وتم استبدالها بالخبث والخسة والغدر...
قاطعته قائلة: لماذا تقول ذلك؟ فالحياة لا ذنب لها في أفعال الحمقى، ابتسم للدنيا تبتسم لك.
ضحك (آدم) من سذاجتها فهى مازالت تعيش في عالمها الوردي، فأتكأ على الطاولة وهو يميل بجسده للأمام قائلاً:
- مازلتي صغيرة.. فنصيحة مني تخلي عن هذه السذاجة، فأنا اخشى عليكِ من تقلبات الزمن الغادر، فنحن نعيش في غابة مليئة بالذئاب البشرية، فلا تأمني البشر حتى أنا لا تثقي بي.
اندهشت (رشا) من نظرته الحالكة الظلام، فمن ينظر له لا يعتقد أن بداخله كل هذا الألم والأسى، فأمعنت النظر بعيناه فوجدتهما كأنهما عينان زجاجية خالية من المشاعر والأحاسيس، فتساءلت ماذا حدث له؟
فقاطع (آدم) تحديقها له قائلاً:
- حتى الآن لم تخبريني بالموضوع الهام، كلي أذان صاغية.. تفضلي بالحديث.
تلعثمت قليلاً ثم همست بصوت يكاد أن يكون مسموعاً قائلة:
- أني أحبك.. أعلم بأنك لا تكن لي بأي مشاعر، ولكن لم أقدر على احتمال ألم قلبي في بعدك عني، فأنا أشعر كأنني جسد بلا روح، فأرجو منك رد روحي إليا.
جحظت عينا (آدم) من مصارحتها بحبها له، فلم يكن يتوقع ذلك، فحاول محو اندهاشه حتى لا يشعرها بالحرج، وصمت قليلاً حتى يفكر بما سيجيب عليها.
فأردفت (رشا) قائلة: أنا لا أنتظر منك الرد الآن، فطلبي هو أن تعطيني فرصة للتقرب منك حتى يتسنى لك الشعور بما أشعر به تجاهك، ربما تغرق في بحور عشقي وينابيع حناني.
أومأ لها (آدم) وهو لا يعلم بماذا يجيب؟! فهى لم تسمح له بالاعتراض، فكيف يعترض على طلبها؟ فمن الأحمق الذي يرفض حب فتاة مكتملة الأنوثة والجمال الذي يركع له اعتى الرجال.
.. استمرت المحادثات الليلية بينهم، ولم يجرأ (آدم) على البوح لها بسره الذي لا يعلمه أحد من عائلته غير أخيه (أدهم) وشعر بأنه ينجذب لها شيئاً فشيئاً وأحس بالخطورة فما ذنبها أن تعاني معه؟! فمرضه لا يستطيع الشفاء منه؛ فهو فقد الأمل في العلاج، وفي ليلة ما أثناء حديثه معها دق باب غرفته أخيه (يزيد) فأعتذر لها لأنه مضطر لإغلاق المكالمة، وسمح بدلوف أخيه قائلاً:
- تفضل يا أخي بالدخول.
مد يزيد رأسه من الباب وهو مبتسم قائلاً:
- هل قاطعت وصلت عشقك يا أخي.
ضحك (آدم) قائلاً: هل تتنصت عليا يا ماكر؟
ضحك (يزيد) ضحكة صاخبة حتى كاد أن يسقط من شدتها قائلاً:
- لا أحتاج للتنصت فحبك يظهر للجميع، ألم يحن الوقت للإفصاح عن هويتها؟
أشار (آدم) له بالجلوس بجواره على الفراش، ثم همس له بصوت حالم قائلاً:
- لقد سقطت مثلك يا أخي، فلم أكن أعلم بأن الحب سيجعل قلبي يرفرف مثل الفراشة على الزهور المتفتحة في الربيع، فهى مثل زهرة اللافندر البرية تفوح منها رائحة جذابة تسحرني، لقد أصبحت كالمجذوب في عشقها.
سعد (يزيد) لأخيه وربت على يديه برفق قائلاً:
- لقد سعدت لسماع ذلك يا أخي، ولكن من سعيدة الحظ التي ملكت قلبك؟
نظر (آدم) لصوره موجودة خلفية لهاتفه، وهو يتنهد بهيام قائلاً:
- حبيبتي رشا.. ما أجملها!
وقع نظر (يزيد) للمكان الذي ينظر له أخيه فوجدها صورة حبيبته، فتجمد مكانه من هول الصدمة، فكلاهما يحبان نفس الفتاة، فأشتعل قلبه كأنه عين الجحيم.
...يتبع