شيطان ميريام

أبو عبدالله`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-11-02ضع على الرف
  • 3.5K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

" و أما أنا فأقول لكم ، أحبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، و صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم و يطردونكم "
( متى 5 : 44 )









( 1 )
أحمد
كان أول أيام عملي في تلك المدرسة الخاصة للغات بالدقي.. مدرسة عريقة ... لها اسمها ، و سمعتها الطيبة ... و طلابها أيضا لهم ميزات خاصة تميزهم عن طلاب باقي المدارس .. مستوى علمي جيد .. و مستوى أخلاقي لا بأس به .. و بالطبع مستوى اجتماعي متميز.
كل ذلك ، عن تلك المدرسة ، كنت أعلمه قبل أن يتصل بي أحد زملائي و يخبرني أنها فى حاجة إلى مدرس للفيزياء ، و أنه قد أعطى إدارتها اسمي و رقم هاتفي المحمول ، و أخبرني أنهم يطلبون مني الذهاب إلى المدرسة غداً لأقوم ببعض الإجراءات الروتينية .. مثل مقابلة المدير و عمل اختبار بسيط لتحديد ما إذا كنت أصلح للتدريس أو لا. و بالطبع كان احتياجهم لمدرس كفيلا أن يجعل كلّ تلك الإجراءات سهلة و بسيطة .. هذا بالإضافة إلى قدراتي و إمكاناتي العلمية و مهاراتي التدريسية التي حباني الله بها.
لم يكن ذلك اليوم هو أول أيام العام الدراسي ، لكنه كان أول أيام العام الجديد.. فقد تقدمتُ إلى العمل بالمدرسة في أواخر شهر ديسمبر.. وتم قبولي على أن أبدأ العمل مع بداية شهر يناير.
في صباح ذلك اليوم .. توجهت إلى المدرسة ، و قبل الثامنة كنت قد وصلتُ إليها .. قمت بالتوقيع في دفتر الحضور أمام سكرتيرة المدير .. سيدة في أوائل الخمسينات.. متوسطة الطول .. والجمال .. و تلمح المكر في عينيها ، و لا ترتاح إلى نظراتها.
بعد التوقيع توجهتُ إلى مكتب المدير، الذي كان بابه مفتوحا.. بالطبع ليرى من يأتي متأخراً من المدرسين.. كان الرجل قصيراً.. بديناً.. يشبه إلى حد كبير ،" أبو لمعة ".. لكنه كان شخصية عجيبة وغريبة.. نموذج نادر.. إداري فاشل و ناجح في الوقت ذاته.. غريب؟ أليس كذلك؟ .. توجهت إلى مكتبه.. و قمتُ بتحيّته:
صباح الخير يا أفندم.
صباح الخير يا مستررر...؟
قام من على كرسيّه ليردّ لي التحية .. بداية طيبة و مقبولة . و شعرتُ أنه قد نسي اسمي.. تصنعتُ أني أذكّره بنفسي حتى أعيد على مسامعه إسمي ، الذي لم ينساه ، و لم يخطئ فيه و لو لمرة واحدة بعد تلك المقابلة.
قلت له:
أنا مستر أحمد .. مدرس الفيزياء الجديد..
قال وهو يبتسم:
طبعا يا مستر أحمد.. كيف أنسى فى انتظارك..
و سمعت رنة جرس .. يبدو أنه ضغط عليه ليستدعي السكرتيرة.. مع أن الباب مفتوح .. و المسافة ليست بالبعيدة.. لكن يبدو أن المدير .. لابد أن يستدعي سكرتيرته عن طريق وسيلة إتصال... قال لها في جدّية:
أرسلي أحد العمال إلى مستر محسن ليأتي به من المعمل.. و عرّفيه على مستر أحمد.
كان المدير لا يُحسن نطق حرف الراء.. دائما ما ينطقه ياء.. فكانت كلمة مستر تخرج من فمه بشكل يبعث على الابتسام.
جاء مستر محسن، رجلٌ تجاوز الستين من عمره، لكنه ما يزال يحتفظ بمظهرٍ يوحي أنه أقلّ سناً. هذا بالإضافة إلى تأنّقه في مظهره و تمتعه بروح شابة. تعارفنا بشكل ودي.. و طلب أن نذهب إلى المعمل، في مبنى جانبي، فالمبنى الذى فيه مكتب المدير ، هو المبنى الرئيس فى المدرسة.. فيلا قديمة من ثلاث طوابق ذات شبابيك كبيرة و مرتفعة، كان مكتب المدير في الطبق الأول بعد الأرضي .. نزلتُ منه مع مستر محسن.. و عبرنا فناء المدرسة الذى يتم فيه طابور الصباح .. و تحية العلم.. و حصص الألعاب.... مرورنا، نحن الكبار، في فناء المدرسة.. و خاصة إذا كان الوقت شتاءً.. يثير فينا ذكريات الماضي... رأيتني وأنا طفل فى المرحلة الإبتدائية.. كنت مميزاً جداً.. أطول أقراني ، وهذا أمر لم يستمر طويلا.. وكنت الأول بينهم دائما.. و كنت وسيما .. متكلما..أقرأ أخبار الصباح و ألقي كلمة الصباح و أحيّي العلم. كل ذلك جعلني في مكان مميز لدى أساتذتي.. ثم رأيتني و أنا في المرحلة الإعدادية حيث بدأتْ مرحلة البلوغ مبكراً.. كنت قد انتقلتُ الى مدرسة جديدة في قرية مجاورة .. هناك كنتُ الأول كعادتي .. وهناك .. كانت بدايات الحب .. والعشق.. و الإنحراف أيضا.
توجهتُ مع مستر محسن إلى مبنى آخر حديث نسبياً.. من ثلاث طوابق أيضا. في الطابق الأرضي المطل على الفناء، كانت حجرة الاقتصاد المنزلي و مخزن الكتب. أما الطابق الأول العلوي، فبالإضافة إلى عدد من الفصول، كان يضم معملين.. واحد للأحياء والآخر للكيمياء والفيزياء.. صعدنا طابقا لأجد حجرتَيْ المعمل في مواجهتي.. وعلى باب إحداها يقف زميل .. علمتُ أن اسمه أيمن و أنه يدرّس مادة الساينس ( العلوم ) للمرحلة الإعدادية... قدمني إليه مستر محسن.. صافحته وتبادلنا حديثا روتينيا.
كان ظهري إلى السلم المؤدي إلى الطابق العلوي.. و كان محسن يقف بجوار أيمن في مواجهة السلم بحيث يستطيع رؤية القادم من الطابق العلوي حيث الفصول التدريسية.. رفع محسن رأسه تجاه السلم.. إبتسم.. وقال:
مرحباً مريم... تعالي..
و استدرتُ ، بتلقائية إلى الخلف.. و لم أكنْ أحسب أن مغاليق قلبي التي أوصدتُ بها بابه، و القيود التي قيدته بها منذ سنوات ، قد علقتْ بثيابي ، و لستُ أدري كيف تحطمتْ تلك المغاليق و تكسرتْ هذه القيود في سهولة ويسر فانفتح قلبي على مصراعيه.. و لم اعلم أن باستدارتي تلك.. كتبتُ أول سطر في حكاية عشق.. تصالح فيها عقلي مع قلبي بعد قطيعة دامت لسنوات.
ما أصعب العيش بين عقل و قلب ليس بينهما وُد.. فرض عقلي على قلبي عزلة جبرية ليمسك هو بزمام حياتي بعد أن فشل قلبي أكثر من مرة.. تلقى خلالها طعنات كادت أن تودي به.
قد تبدو تلك العزلة المفروضة على قلبي قسوة من عقلي.. لكنها كانت منتهى الرحمة بتلك النفس المفرطة في الحب لحد الهيام... لا أقصد حب الرجل للمرأة فقط.. إنما الحب بمعناه الواسع .. ذلك الذي يجعلك تحب كل الناس .. أهلك.. جيرانك.. أصدقاءك .. و طبعاً.. فى قلب القلب.. تسكن المرأة.. ذلك المخلوق الذى يعرف كيف يسكن قلب الرجل دون عناء.
لم تكن المرأة وحدها منْ وجّهت إلى قلبي ضربات.. لكن كان لها السبق.. و أيضا النصيب الأكبر من مأساته....
طفلٌ فى السابعة من عمره تسأله أمه:
مَنْ أكثر التلاميذ ذكاءً في الفصل؟
فيجيبها بسرعة و هو يصيح صيحة النصر:
أناااااا....
فتسأله أمه بعد أن تحتضنه:
و مًنْ أكثر التلميذات ذكاء في الفصل؟
فيجيبها بصوت يملؤه الوجد و كأن نصره قد فارقه:
" مي "...
مًنْ تكون " مى " تلك يا حبيبي ؟
إنها أكثر البنات جمالاً و روعةً يا أماه...
فتضحك الأم.. و تقبل ابنها.. و تقول:
ابني لم يتخطى بعدُ سبع سنين و يعرف كيف يُعجب بالبنات!!!!
كنتُ أنا ذلك الطفل.. لكنّ أمي أخطئها الصواب في التعبير.. لم يكنْ اعجاباً.. بل حباً.. أجل.. عرفتُ الحب.. حبَّ الرجل للمرأة.. وأنا ابن سبع سنين.. سكنتْ " مي " في قلبي الصغير.. فكان لها وحدها.. و لم يكن فيه متسع لغيرها.. و كبرتْ " مى " .. و كبر قلبي معها ولها وحدها.. دقّ على بابه خلال سنوات الدراسة، في مرحلة الاعدادي والثانوي كثيراتٌ.. لكنّ مفتاحه لم يكن معي.. إنما كان في يد " مي " المتربعة بداخله.. أحببتها.. كما لم أحب أحداً.. أو هكذا ظننتُ.
لكنْ .. ماذا عن " مي "؟!!.. هل تُحبني هي الأخرى؟.. هل تشعر بي أو بحبي؟.. لا أدري..
كنا قد التحقنا بالجامعة غير أنّ .. كلًّ واحد منا كان قد التحق بكلية مختلفة عن الآخر.. كنت كثيرا ما أذهب إلى الكلية التي تدرس بها و أنا أنوي مصارحتها..
لك أن ْتخيل!!.. كل تلك الأعوام ..و حبُّها حبيس قلبي، يكتوي بناره و يتألم لعدم نواله و تحرقه نار الشكِّ حين تحدثني نفسي بأنها ربما لا تبادلني حباً بحب. أعوام عديدة و لم أصارحها بحبي.. كنتُ اجتماعياً.. منفتحاً.. " حبوباً " كما يقولون.. لا أتهيبُ الحديث مع الناس ولا حتى مع البنات.. إلا .." مى ".. ينعقد لساني عندما أراها.. ذهبتُ إلى كلّيتها مراتٍ كثيرة.. و في كل مرة.. كان الأصدقاء و المعارف يلتفون حولي.. يرحبون بي في كليتهم.. و يحيطون بي ولا يفارقونني حتى ينتهي اليوم فننوي العودة الى ديارنا.. كنت اراها امامي، هناك.. وجهها يشع نوراً، تمنح من جمالها لكل ما يحيط بها فتكسوه بهاء و رونقاً، حتى زميلاتها كنّ يبدين جميلات لمصاحبتهن " مي ". لكنها لم تكنْ من النوع الاجتماعى.. المنفتح، لذلك لم أكنْ .. أبدا.. لأسبَّب لها حرجاً بأن أحادثها هكذا علناً أمام من يعرفوننا من زملاء الدراسة أو الذين من قريتنا..
إلى أن جاء يوم الإثنين.. يوم من أيام شهر فبراير.. لكنه ليس ككل يوم. يوم فارق في حياتي.. و لما لا؟ و قد كان ما بعده مختلفاً تماماً عن الأيام التي سبقته..
ما زلتُ أذكر ذلك اليوم.. ذهبتُ إلى الكلية التي تدرس بها، و كلّي تصميم على محادثتها.. و التصريح لها بحبي.. و الوقوف على حقيقة مشاعرها نحوي.. فقد وصلتُ إلى حالة يصعب معها الإستمرار دون أن أخطو خطوة للأمام في علاقتي بها.. كان لابدّ أن أعرف.. هل تحبني وتبادلني المشاعر؟ أم أن علىّ أنْ أقتلع قلبي من تحت ضلوعي.. فذلك أسهل من اقتلاعها منه.
أحاط بى زملائي و لم يفارقونني لحظة واحدة.. كأنهم يعلمون نيتي.. و كأنّهم يريدون إفشال خطتي.. إنها أمامي، أنظر إليها من بعيد، تقع عيني على عينها، أشعر و كأنها تختلس نظرات إليّ من صاحباتها، أشعر و كأنها تشجعني، تنادي عليّ فيملؤني الأمل و الإصرار على الحديث معها، ثم تزوي وجهها بعيداً، فأحسُّ بخيبة أمل، لكن نفسي تخبرني أن ذلك مجرد خجل. و قبل أن ينتهى اليوم بذات النهاية كسابقيه من الأيام.. بعودتنا جماعات.. قررت أن أنصرف وحدى.. و عبثا حاولوا اقناعى أن أبقى بقية اليوم معهم.. أحاطوا بى.. حاصرونى.. لكننى استطعت الفكاك من حصارهم.. كان قرارى بالإنصراف فجأة لأننى شعرت باليأس من اتمام ما انتويتُ فعله مرات عديدة.. شعرت أن القدر يحول بينى و بينها .. أو أن الله يريد أن يحفظ ماء وجهى لى.. فربما .. لا تبادلنى حبا بحب.
كان ذلك الخاطر كفيلا بأن يجعل حالتى النفسية صعبة للغاية.. فاستأذنت من زملائى.. و خرجت من باب الكلية أقدّم رِجْلاً و أؤخر أخرى.. أسأل نفسى.. هل أخطأتُ بانصرافي؟.. هل كان يجب أن أنتظر؟.. فربما... هل سأعود غدا لأحاول من جديد.. لأفشل من جديد؟!!.. خرجتُ من باب الكلية مكتئباً.. شارداً.. تائهاً بين أفكاري.. وقراري ... نظرتُ أمامي.. فرأيتها هي " مي ".. بضعة أمتار فقط ، تفصلني عنها.. كانت تسير مع زميلة لها، لا أعرفها.. ليست من زملاء الدراسة الذين يعرفوننا.. ليست من قريتنا..
انها أمامي.. أيكون القدر قد رتب لنا .. أخيراً.. لقاء؟ هل أستسلم لذلك الخاطر الذي اعتراني و كدر عليّ يومي؟.. انها فرصتي لأصارحها بحبي.. لأقف على حقيقة مشاعرها نحوي.. لن أضيّع الفرصة.. أجل.. سأنادي عليها و أكلمها.. لكن هل أستطيع أن أناديها؟.. لساني لم ينطق اسمها بعد حكاية أمي و لو مرة واحدة.. ولماذا ينطق لساني باسمها وقلبي يدق انقباضاً وانبساطاً مرنماً به؟.. هل تصل اليها دقات قلبي فتخبرها بحبي و تقول لها إننى ورائها.. أريد الإعتراف لها؟.. هل تصل اليها دقات قلبي فتنتظم مع دقات قلبها فيتناغما في ضربات منتظمة الإيقاع.. أم أنها في حاجة الى أن أنادي اسمها.. لتعلم أني خلفها .. أراقبها.. انتظرها.. أحتاج إليها؟..
لمْلمْتُ كلَّ هواءً في رئتي .. و ما حاجتي لإليه بعد الآن؟ فإما أن أموت لفقْدها.. و إما أن أستنشق زفيرها.. و استجمعتُ كل ما بقي لي من قوة.. و دفعته الى حنجرتي و ناديت بأقصى ما امكنني.. " مى ".. فخرج صوتي همساً.. كدت من ضعفه الّا اسمعه بأذني ، لكن قلبي أحسّه دوياً هادراً.. نظرتُ.. فاذا هي.. توقفتْ.. استدارتْ.. لقد سمعتني.. بقلبها لا بأذنيها.. هذا ما قالته لي بعدها.. فقد سألتْها زميلتها كيف سمعتْ صوتي فلبّتْ ندائي مع أنها لم تسمع أحداً ينادي؟ .. لكنّ دقات قلبها توحدتْ مع دقات قلبي في نبضة قوية.. نبهتْ أذنيها.. فالتفتتْ اليّ..
استاذنتْ زميلتها و انصرفتْ.. لابد أنها أحستْ بما بيننا.. فاعلان الحب ليس كلمات تقال باللسان.. و انما أحوال القلوب تفضحها العينان.. العينان الخضراوتان.. كان نظري إليهما كافياً لأن تقف كل الكلمات في فمي.. وجنتاها الورديتان.. أنفها الممتد الى الأمام في شموخ و كبرياء.. فمُها الواسع و شفتاها الرقيقتان.. وقفتُ أمامها أتأمل كل ذلك صامتاً.. حتى استحى الصمت مني.. لم تكن تلك المرة هي الأولى التى أقف فيها أمام فتاة أو أحادث أنثى.. لقد كنت.. كأيّ شاب.. أقصد.. كأيّ شاب ذي تجارب.. لكنني اليوم.. لست أمام أي فتاة.. إنني أمام .. ماضيّ و حاضري و مستقبلي.. أمام آمالي و آلامي.. أحلامي و طموحاتي.. سعادتي و شقوتي.. حياتي و موتي..
انتبهتُ من سكرتي بعينيها فقلتُ لها:
ما رأيكِ في أنْ نتحدث و نحن نترجل.. أعتقد سيكون أفضل؟!!
أشارتْ أن تفضلْ.. صمتُّ لبرهة.. ثم قلت، و كأننى ألقي عن عاتقي حملاً ثقيلاً..
أنظري... أنا أحبكِ و أريد أن أتزوج منكِ ..
هكذا.. كما يقولون .. قلتها " خبط لزق " .. لم أجد سوى الإختصار و الوضوح طريقاً يريحني و يضع عني حملي.. قلتها .. فاحسست براحة وسكينة... و نظرتُ في وجهها كي استشعر من ملامحها ردّها.. فرأيت فيها طمأنينة و سعادة.. لكنها لم ترد علىَ.. فاردفتُ قائلا:
لمْ تردّي عليّ !!!...
لمْ ترد.. و ازداد انحناء رأسها بازدياد خجلها.. لكنني أريد رداً يريح قلبي من سنوات اضطرابه و قلقه.. قلتُ لها:
أنا أريد أنْ اسمع ردّك.. لا أريد أن استنتج أي شئ.. قولي بصراحة.. مهما كان شعورك.. انا سأتفهمه... مهما كان ردك.. أنا سأقبله.
بعد طول صمت و تردد و خجل سمعتُها تقول:
انااااا.. اااا..
و لم تستطع ان تُكمل.. فسألتها:
هل ... تحبينني؟!!!
هنا ... التهبتْ وجنتاها.. و ابتسمتْ شفتاها.. ثم حركتْ رأسها صعودا وهبوطا.. فألححتُ عليها.. حتى قالت:
أجل.. أحبك.. و منذ زمن...
لحظة اعتراف حبيبين بالحب لبعضهما البعض.. هي من اكثر اللحظات تكراراً في تاريخ البشرية.. ذلك الحدث .. يتكرر يوميا آلاف.. بل ربما ملايين المرّات.. لكنه الحدث الذي لا تملّ الانسانية من تكراره.. و مهما قرأتَ، أو سمعتَ، أو شاهدتَ تلك اللحظة بين اثنين، إلا إنك لن تدرك بهاءها و جمالها و جلالها و رقتها إلا إذا عايشتها بنفسك.
كثيرة هي تلك اللحظات المميزة في حياة كلّ انسان.. أوّل يوم دراسة.. أوّل يوم عمل.. أوّل يوم زواج... لكن... تظل لحظة الإعتراف بأوّل حب.. لأوّل حبيب.. لها وقع خاص و أثر باق و مميز في قلب ووجدان كلّ واحدٍ منا..
ثلاث سنوات مضت علينا .. كنا نلتقي أثناء الدراسة يوميا.. نتكلم في كلّ شئ.. نتشارك كل شئ.. لعبنا.. مرحنا.. حلمنا.. عشنا السعادة حقا.. و في أيام الأجازة.. كنّا نسترق مكالمة هاتفية أحياناً.. و أحياناً أخرى نلتقي خارج القرية ولكن بصعوبة شديدة.. فهي لم تكن تخرج إلا مع أمها.. نادراً ما تخرج بدونها في غير أيام الدراسة لأنها أصغر إخوتها وبفارق زمني كبير.. مات ابوها وهي طفلة .. فاحتضنتها أمها.. و شكّلتْ شخصيتها كما أرادتْ..
ذات يوم اهدتني " مي " وردة حمراء.. قطفتْها من حديقة منزلها.. ثم حكتْ لي كيف ضبطتها أمها وهي تقطفها و تشُمّها قبل أن تخبئها في حقيبة يدها.. فسألتْها بمكْر:
ستهدينها للحبيب..؟
اجابتها مي .. وهي تنطلق مسرعة مبتعدة عنها:
أجل...
كان ذلك في نظر مي و نظر أمّها ، " بجاحة " غير معهودة.. و ربما احتاج الأمر إلى توبيخ من الأم بعد عودة مي إلى البيت فى آخر اليوم..
احتفظتُ بتلك الوردة لسنواتٍ كثيرة.. أنساني عقلي عددها .. و محى من قلبي مكانها..
و بالطبع .. بعد هذه السنوات الثلاث .. تقدمتُ لخطبتها.. ذهبت الى أخيها الأكبر في شقته وطلبت يدها.. كان رجلاً مهذبا.. طلب مني أنْ أمهله يومين ليعرض الأمر على الأم.. لأن الأمر كلّه بيدها .. تلك اليد التى مزّقتْ أحلامي..
في اليوم التالي.. قابلتُ " مي ".. و عرفت منها ما جرى.. كانت حزينة.. تبكي بشدة.. أخبروها أنني لا أناسبها.. و أخبرتْهم أنها لن تتزوج من غيري..
صدقوني.. أن تنطق مي بتلك الكلمات في وجه أمها و إخوتها.. هو أقصى ما يمكنها.. هو أقوى تعبير عن حبها لي و تمسكها بي.. لم يكنْ في وسعها أكثر من ذلك.. تلك هي شخصيتها.. و طريقة تربيتها.. كنت على استعداد أن أفعل أيّ شئ.. أن اتحدى كلّ شئ .. أن أقف في وجه كلِّ شخص، في سبيل أن تستمر علاقتنا وأن نتزوج.. ساعات و أنا أنظر في عينيها أنتظر منها أمراً بأن أصارع الدنيا و أنْ أفعل المستحيل حتى لا تضيع من بين يديّ. لكنني أحسستُ ضعفها.. و قلّة حيلتها.. لم أشأ أن أحمّلها ما لا تطيق.. اتفقنا على انهاء علاقتنا.. و قُمْنا.. و لأول مرّة .. خلال ثلاث سنوات .. تمضي وحدها و تتركني جالساً في النادي المطلّ على النيل الذي شهد الكثير من لحظات حبنا..
بعد يومين .. و برغم أني كنتُ على علمٍ بالذي كان.. ذهبتُ الى أخيها لكنْ في مكان عمله.. ليخبرني بقرار أمها..
أصعب.. و أقسى .. و أطول دقيقة مرت عليّ في حياتي.. لم يستمر لقاؤنا أكثر من دقيقة.. كانت تكفي لأن يخبرني أنّ الأم قد رفضتْ .. و أن كلّ شئ نصيب .. فقلت له: أشكرك .. و انصرفتُ .. كان بوسعي ألّا أذهب .. و ألا أحمّل نفسي و أعصابي تلك المعاناة التي لاقيتها من تلك المقابلة القاسية.. لكن.. كان من الممكن أن يسبب ذلك لها مشكلة مع أهلها.. لذلك قررت أن أرفع عنها ذلك الحرج.. كان قلبي هو مَنْ قرّر ذلك.. قلبي الذي لم يكن ليوقِع إنساناً يحبه في موقف حرج.. قلبي الذي على استعدادٍ أن يتحمّل.. عوضاً عمن يحب.. الضيق و الألم.. كان ذلك من أخطاء قلبي التي أنكرها عليه عقلي..
كنت أمسك بالهاتف.. أطلب رقم منزلها.. أسمع صوتها تكرر.." آلو ".. فيقول لي قلبي: إنها تدرك أنني الذي على الهاتف.. و أسمعها بقلبي تقول: انسى ما قلته لك في النادي.. أنا أحبك.. تعالى.. أنا لك.. أنتظرك... و لولا أن عقلي يمسك بطرف لساني و يطبق عليه فمي لصرخت أنا قادم إليكي... و كان ذلك من أخطاء قلبي التي أنكرها عليه عقلي... وبّخني عقلي و لامني.. لكنّه كان رحيماً بقلبي.. متفهماً لما يمر به.
كنتُ أجلس ليلاً على شاطئ الترعة المواجهة لبيتها.. أنظر إليه.. أرى الضوء صادراً منه.. و أرى سيارة الخاطب الذى جاء لزيارة خطيبته و أهلها.. فأتصوره قاتلاً أتى ليقتل أملي.. أو مصاص دماء يرتشف ما تبقى من دمي.. أو فاجراً يغتصب مني عرضي و شرفي... لم يكن قلبي ليتحمل تلك الصور... انطلقتُ أركض ناحية بيتها.. لا يمكن أن أتركها أو أتخلى عنها لذلك الغريب فيفترسها... مرة يوقظني أحدُ المارّة بسؤاله: انت بتجري ليه كده؟.. في إيه حصل؟.. فأنتبه... ومرة يوقفني عقلي في منتصف الطريق فأنفجر بالبكاء... هنا اضطر عقلي لإتخاذ بعض الإجراءات الإحترازية ضد قلبي.
اسمعك و أنت تقول: هي لم تحبك.. و أسمعك تكرر " لو كانتْ.. لفعلتْ ".. لا يا عزيزي.. لو عرفتها.. لو فهمتها.. لو كنت معنا.. لأدركت أنها بالفعل أحبتني.
آخر مرة رأيتها فيها ، كنت أسير في أحد شوارع المدينة.. حيث تزوجتْ.. من بعيد رأيتها.. كان ذلك بعد مرور أكثر من سنة على زواجها.. يصعب عليّ وصف حالي خلال تلك السنة.. لكنها كانت كافية لأن يفرض عقلي على قلبي شبه سيطرته تماما.. رأيتها قادمة نحوي.. حتماً سنتقابل.. و تلتقي عينانا.. لن أقوى على احتمال ذلك اللقاء.. أخشى من قلبي.. و أشفق عليه.. حتى إن كنتُ سأقوى.. هل أسمح لنفسي أنْ أسبّب لها حرجاً بلقائي؟.. إنها الآن إمرأة متزوجة.. و لست أدري.. هل تُسبّب لها رؤيتي حرجاً مع نفسها؟.. و ربما لا يقوى قلبي على تجاهلها فاستوقفها.. و ربما رآنا أحد معارف أو أقارب زوجها فأكون السبب في إحداث ضيق أو ألم لها.. لا.. ليس أنا من يفعل ذلك... و رغم شوقي الجارف لسماع صوتها.. و رؤية عينيها.. فقد اتخذتُ سريعاً قراري وانتقلتُ الى الجانب الآخر من الشارع وطأطأتُ رأسي لأسفل.. لعلّ الزحام يخفي عنها مكاني و رسمي.. و انطلقتُ لا ألوي على شئ... لكنها.. رأتني.. بقلبها رأتني.. فالقلوب لها بصيرة أقوى من البصر.. بعينيك ترى فقط ما هو أمامك.. لكن بقلبك تبصر جميع ما حولك... أجل رأتني بقلبها.. فانتقلتْ الى الجانب الذي أسير فيه لتقف أمامي.. تعترض طريقي.. توقفتُ.. رفعتُ رأسي.. ابتسامتها الساحرة..عيناها الخضراوتان الواسعتان.. تلك الحسنات على خدّها والتي لو تعمدَتْ رسمها ما ظهرتْ بذلك الحسن... مدتْ يدها لتصافحني.. أمسكتُ يدها فارتعش قلبي و تجمّد دمي في عروقي.. سألتني:
كيف حالكَ، و ما هي أخبارك؟
أجبتها بصوت كسير:
الحمد لله .. و انتِ؟.. ما هي أخباركِ؟
تنهدتْ.. فدبتْ في قلبي الحياة و أفاق من جديد على رائحة انفاسها الزكية تملأ رئتي قالت:
الحمد لله.
كيف تسير حياتك؟... طأطأتُ رأسي و أردفتُ قائلاً: كيف حالكِ مع زوجكِ؟
ردّتْ في هدوء:
الحمد لله.. إنه رجلٌ طيب..
رغماً عني، لم أشأ أن أطيل وقوفنا.. فربما حدث ما لا أريده لها... سحبت يدي من يدها.. فأخذتْ روحي معها..
هل تريدين أي شئ.. هل تأمرين بأي شئ؟
أجابتْ في هدوء:
لا ... أشكركَ..
نظرتُ في عينيها لآخر مرة.. و قلت:
أراكِ بخير.. و انطلقتُ.
و إلى الآن.. لا أدري.. هل نظرتْ خلفها لترقبني و أنا ابتعد أم لا؟.. فأنا لم أنظر خلفي لأراها و هي تبتعد.. لأن قلبي لم يحسب ابتعادها فراقاً.. إنها شاخصة فيه .. حية.. مقيمة بداخله.. تملؤه.. فكيف يكون بين قلبي و قلبها فراق؟
أظنك يا عزيزي.. قدْ ظننتَ أنني سأقول: حين رفعتُ رأسي في وجهها.. و التقتْ عيني بعينها.. رأيتُ شيطاناً.. أو شبحاً.. أو انساناً آخر كريهاً.. حطّم آمالي.. و مزّق أحلامي.. أو .. أو..
لا.. لستُ أنا مَنْ يرى " مي " على تلك الحال البشعة.. بل هي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون إلا في صورتها الجميلة الرقيقة الحبيبة.. إنني أراها بقلبي المفتون بها.. أراها بقلبي الذي تسكنه.. أراها بقلبي الجميل الذي لا يرى إلا الجمال.. وكان ذلك من أخطاء قلبي التي أنكرها عليه عقلي.
ضاعفَ عقلي من قيده على قلبي بعض الشئ.. فأخذتْ " مي " تصغُر فيه شيئاً فشيئاً.. حتى أصبحتْ صورة معلقة على جدران فؤادي في مواجهة أبوابه.
صغرتْ " مى " .. لكنّ قلبي لمْ يصغُر معها مثلما كبر معها.. و لم تكن تلك نهاية الأخطاء.. بل تعددتْ أخطاء قلبي و تنوعتْ.. تعددتْ بعدد مَنْ طعنوه.. و تنوعتْ بأوصاف مَنْ خدعوه..
جاءت الطعنات.. تارة من الأصدقاء الذين خانوه و باعوه.. و تارة من الأهل و الإخوة الذين خذلوه.. و ظل القلب يمارس اخطاءه التي ينكرها عليه العقل.. فاضطر عقلي إلى فرْض الإقامة الجبرية على قلبي و حبْسه بين الضلوع..
أطلقتُ لحيتي.. و داومتُ في عبادتي.. و اعتزلتُ الدنيا بإرادتي.. و بطريقتي.. كنتُ أعيش بين الناس بجسدي.. لكنّ قلبي و روحي.. وحيدان في صحراء مقفرة.
و استمرتْ القطيعة بين عقلي و قلبي حتى تلك اللحظة.. لحظة استدارتي أمام معمل المدرسة لأرى مريم و هي تهبط ثلاث درجات من السلم ثم تقف في مواجهتي.. أشار مستر محسن و هو يقول:
ميس مريم..
قلت وانا أومئ برأسي احتراماً:
اهلاً و سهلاً ميس مريم..
فتابع مستر محسن.. وهو يشير إليّ:
مستر أحمد.. مدرس الفيزياء الجديد..
نظرتْ مريم في عينيّ بدهشة.. ثم مدّتْ يدها لتصافحني و هي تقول:
اهلاً مستر أحمد..
نظرتُ في عينيها .. أحسستُ أنها تختبر أمراً ما .. مددْتُ يدي.. أمسكتُ بيدها.. أحسست ببرودتها.. و قالت وهي تصافحني:
بالمناسبة... أنا اسمي ميريام .. و ليس مريم
و ابتسمتْ.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي