الفصل العاشر
تسنِدُ رأسها على حافّة سرير اخيه الصغير، يبدوا انها ارادت الإسترخاء قليلًا ولكنها غفت بتعب، تقدّم ليتأمّل ملامحها بعذاب، وجهها شاحبٌ بشدّة وعيناها المُغمضتان بسلام تحُيطهما دوائرًا سوداء ويبدوا انها لا تنعم بنومٍ هانئ.
- وكيف ستنام على تلك الأرضية الباردة.
همس بداخله غير قادِرٍ على تحمُّل ما يشعر به نحوها وبذات الوقت يجتاحه خوفٌ عظيمٌ من مُجرد انتباه احدٍ لنظراته لها، يعاملها بجفاءٍ وقسوة وقلبه يتلظّى من الألم، بحياته لم يظُنّ ان الفتاة الوحيدة التي انتظرها قلبه طويلا ستكون بهذه الصورة، خادمة وكاذبة لا يعلم عنها سوى اسمها.
سمع صوت همهماتها المكتومة فإقترب اكثر، كان وجهها ينبِضُ بحرارةٍ غريبة الى درجة شعوره بأنفاسها اللاهثة امام وجهه، تحرّكت يدها بضعفٍ وكأنها تحارب شيئًا في احلامها، تساقطت دموعها ولا زالت نائمة وما ان كادت يده تستقر على كتفيها لتوقظها سمع صوتها يهمسُ بوضوحٍ مُتحشرِج:
- ابتعد، لا تلمسني... ابتعد.
انعقد حاجبيه بوجع واشتعل شيئًا بقلبه وعيناهُ ترفضُ الحياد عنها، يطالعها بوجهٍ مُتجهّم وانفاسه تتعالى كوقع المطر.
لا زالت تهمسُ بتلك الكلمات المُختلطة بنحيبٍ اوجع قلبه فوضع يداه حول كتفيها هامسًا بصوتٍ مبحوح:
- ميرال، استيقظي! ميرال...
شهقت بوجلٍ وفتحت عيناها لتصرُخ بهذيان:
- ابتعد، ابتعد..
ترك كتفيها مُرغمًا وهمس يُطمئنها بحنان:
- إنه انا بحر، لا تخافي.
وضعت يديها على صدرها ولا زال قلبها ينبضُ بشدّة وقد اختلطت عليها الذكرى السوداء بالواقع فلم تعُد تدري اهي تحلُمُ ام انها مُستيقظة..
ظلّت لدقائق طويلة تطالعه بعينان مُتسعتان يملؤهما الخوف والألم وانفاسها تتعالى بشدّة وقد بدى ان قلبها يؤلمها من قوّة ضرباته.
- ميرال، انظري اليّ، لقد كان مُجرّد كابوس، وانتِ الآن بأمان.
كانت تنظُر الى وجهه بضياع غير قادرة على سماع ايّ مما يقول فإقترب ليجلس بجانبها ومرر انامله على وجنتيها المُبللتان بالدموع في وهمس برقّة:
- إهدأي.
لم تُبعد عيناها عنه ولم يكُن قادِرًا على تحمُّل ذلك الألم الساكن بهما، فأخفض بصره نحو يداها المضمومات الى صادرها وهما تتحرّكان بجنون مع انفاسها المُتعالية، الى درجة خشيته على اصابتها بنوبةٍ قلبية من فرط خوفها.
لم يستطع حينها منع نفسه عن ضمّها بين ذراعيه، فجذبها لتسقُط على صدره كزهرةٍ مكسورة، ربّت على ظهرها وبداخله عواصف لا تهدأ وقربها الآن في هذه اللحظة ليس سوى عذابًا بطيئًا لروحه المُتعبة.
ظلّ يهدئها ولا زال قلبها يقفز كأرنبٍ مذعور يفصله عنه يداها الصغيرتان الملتصقتان بصدرها كدرعٍ حامٍ وكم رغب حينها بأن تتشبّث به وتستسلم اليه الّا انّ شيئًا بداخله اخبره انها لن تستسلم بسهولة.
بالفعل وبعد اقل من دقيقة واحدة استطاعت استجماع نفسها وابتعدت عنه بذُعر وقد عادت للتوّ الى واقعها فتحوّلت عيناها الباكيتان الى أُخرى حادّة غاضبة وكأنها للتوّ ادركت وجودها بين ذراعيه، انتفضت واقفة وقد شعرت للحظةٍ بدوارٍ عنيف لتجده يسند جسدها الهشّ بذراعيه القويّتان لتهمس بعُنف:
- اتركني يا بحر، ابتعد عنّي.
لم يمتثل لأوامرها بل اشتدّت يداه حول خصرها يقربها نحوه هامسًا بصوتٍ صلبٍ بارد:
- كنتِ تحلُمين بشيءٍ بشع، وتهتفين "ابتعد عني.. " من كان ذلك الشخص؟
تجمّدت ملامحها فجأةً ولم تُجِب بل ترقرقت الدموع بداخل حدقتيها الزجاجيتين فهمس بحدّة:
- من هو؟
- لا دخل لك!
هتفت بحدّةٍ مُماثلة ودموعها تسيلُ على وجنتيها وحاولت الفرارُ من قبضتيه صارخة ببكاء:
- انا لستُ ملكيةً خاصّة، يكفي الى هذا الحد، إن كنتُ اسكُت على نظراتك الوقحة التي تُحدّجني بها فلأنني فقط ارغبُ بهذا العمل ولا ارغب بخسارته ولكنني لن اسمح لك بأن تتعدّى حدودك معي، لستُ فتاةً من النوع الذي يدور برأسك القذر.
انهت كلماتها وهي تلهثُ بعُنف ولا زالت يداهُ تدعمانها ورأسها يئن وجعًا، عادت لتطالعه بقوّة ووجدته ينظر اليها بنظرةٍ غريبة نفذت لأعماق قلبها، نظرة اعتذارٍ وحُزنٍ وكأنما جرحتهُ بكلامها، شعرت بيداه تنسحبان من حولها الى ان صارت تقِفُ امامه لتشعُر فجأةً بلسعة بردٍ قارسٍ وهو يغادر الغُرفة بخطواتٍ واسعة.
نظرت للباب الذي أُغلق بهدوء ومسحت دموعها وشيءٌ مؤلمٌ يعتصرُ قلبها.
.
.
- يا إلهي كم انتِ مُثيرة للشفقة.
هتفت حور بحدّة وهي تقفُ امام والدتها عقب مجيئهُن للمنزل ولم تستمع لكلمات فلك الزاجرة واضافت بغضب:
- لقد صفعك، مدّ يده واهانك وانتِ الى الآن تتمسّكين به، حقًّا لا اعلمُ ماذا اقول.
وضعت يداها على شعرها القصير تشدّه بعُنف بينما والدتها تجلسُ علي فراشها تطالعها بصمت، وكأنها تائهة بعالمٍ آخر ولكنها تسمع تمامًا ما يُقال امامها، تتجرّع آلامها دون ان ترُدّ على كلام ابنتها الجارح.
جلست حلا بجانب والدتها وضمّتها هامسة بنبرتها الحنونة:
- هل انتِ بخير؟
اومأت بصمت وقالت بعد تفكير:
- انا عديمة الكرامة، ولا امتلكُ ذرّةً من الإحترام لنفسي، وسأظلُّ رهينة هذه الزيجة الى ان اموت، فإذا اردتُنّ البقاء برفقتي رجاءً لا تتحدّثن عن هذا الأمر، والّا فبيت خالكُنّ مفتوح، بإمكانكُنّ البقاء معه.
- أُمّي!
همست فلك برجاء الّا انّ ليلى تمتمت بألم:
- لقد عشتُ طوال حياتي وحيدةً الى انجبتكُن ومُنذها وانتُنّ أخواتي وصديقاتي وبناتي ولكن يبدوا انني سأعود لوحدتي من جديد.
ابتعدت عن حلا واستلقت ودموعها تغرقُ وسادتها بينما اقتربت فلك وهي تبكي بحُزن وتُقبّل يديها مُخبرةً اياها انها لن تترُكها، ولن تتحدث نهائيًا عن اي شيءٍ يُحزنها وحلا كذلك كانت تنظُر اليها من بين دموعها اما حور فقد خرجت لغرفتها وحينها فقط سقط قناع قوتها واخذت تبكي كطفلةٍ صغيرة، هي لا ترغب بإيلام والدتها ولكنها فقط تريد التحرُر من هذا المكان، تريدُ ان تحظى بحياةٍ سليمة هادئة بدلًا عن حياتهم المتوترة منذ زواج والدها.
ظلّت تبكي الى ان غفت بين دموعها وقد آثرت ان تهدأ، ليس لأجلها بل لأجل والدتها التي لا تبدوا على ما يُرام، فنظراتها الشاردة ومظهرها المُنكسر اخافها للغاية، وقلبها يخبرها ان شيئًا سيئًا قد حدث.
مرّت تلك الليلة بدون وجود والدهُنّ وقبل ذهابهنّ للمدرسة مرّت حور على غرفة والدتها التي لم تبارحها منذ الأمس، كانت حينها ليلى مستيقظة ولكن عيناها منتفخة بتعب ويبدوا انها لم تنم طوال الليل، تقدمت منها لترفع نظراتها اليها وقد انتبهت لوجودها، كانت ترتدي ثيابها المدرسية بصورة سريعة فأقتربت ليلى لتعدّل لها قميصها بتركيز وقالت:
- لا تعقّصي اكمام قميصك، دعيها على طولها ستكون اجمل، اين سترتكِ؟ فالجوّ باردٌ بالخارج.
- انا آسفة.
همست بصدق وغاية امنياتها ان لا تظلّ والدتها غاضبةً عليها، بينما نظرت اليها ليلى وهمست بإبتسامةٍ حزينة:
- لا بأس، هيا لكي لا تتأخرا على المدرسة.
خرجت الفتاتين ووالدتهما تحيطهما بدعواتها فهما كُلّ ما تبقّى لديها.
.
.
قُبلة صغيرة بريئة على وجنتيها استقبلها بها بعد غياب اسبوعين، لم تعرف لما شعرت بأن قلبها تألم وقد اخذت ذكرياتها معه تطوف حول راسها كسربٍ من النحل طوال فترة غيابه، وكأنها بالفعل احبّته وعندما عاد بالأمس كادت ان ترتمي بين ذراعيه وتخبره ان لا يبتعد عنها مُجددًا الّا انّهُ ابتعد مُتجهًا لغُرفته الثانية واخبرها بأن تخلد للنوم دون حتى ان يسأل عن حالها.
وبالرغم من ذلك ها هي اليوم تنظُر الى وجهه وهما يتناولان الغداء غير قادرة على إبعاد عينيها عنه، يبدوا غاضبًا فملامحه مشتدّة للغاية و حاجبيه منعقدان بتفكير، هل تسأله عما يدور بداخله ام انه سيوبخها كالعادة؟! تسائلت بداخلها ولكنها فضّلت الصمت.
لم تكُن تأكُل بل تعبثُ بالطعام بشوكتها بملل، ووجهها يعلوه تعبٌ طفيف، فبالفترة الأخيرة تزايد غثيانها الصباحي الذي ينتهي بنوبة بكاءٍ شديد، تظلُّ بعدها تنتحب علي فراشها الى ان تنام، فلا احد يهتم بها، ولا يمكنها التعامُل مع اي احد من افراد العائلة الغير مُرحِبة بها، وقد اكتشفت ان وجود آدم بالرغم من تعنُّته وغضبه الدائم إلّا انهُ الوحيد الذي يجعلها تشعُر بالأمان وبغيابه غدت وحيدةً كشمعةً في مهبّ الريح غير قادرة على التصرُّف بحياتها وكأنها نست كيف تعيش واعطته حريّة رسم حياتها كما يشاء.
- غيد، لما لا تأكُلين؟!
التفتت لتجد نظراته القلقة مُغلّفة بالبرود لتُجيب بإختناق:
- لستُ جائعة.
اومأ بصمت وعاد لينظر اليها بغموض، إنهُ غاضبٌ للغاية، لا زال غاضبًا من ليلى ولسانها اللاذع وحنقه الأكبر على ردّة فعله الهوجاء. إنهُ يصارع مشاعره الخاصّة ويطوّح في طريقه زوجتيه دون ان يكون لهُما ذنب، هو وحده من اقحم نفسه في هذا المأزق.
لقد رأى غيد مرّة واحدة فأشعلت بقلبه الشائب نارًا حارقة، لقد كان حُبًّا من النظرة الأولى، نظرة واحدة من عيناها الزرقاء البريئة ذات الرموش الكثيفة بنظراتها الرقيقة، نظرة جعلتهُ يعود شابًّا مُراهقًا يحظى بحُبّه الأول.
افاق من شروده على همستها الرقيقة ووجدها ترمقه بذات النظرة السحريّة وكأنها تُطلقُ خيوطًا غير مرئية تُكبّلهُ بها، عادت لتهمس بتساؤلها بحنانٍ دافق:
- هل انتَ بخير؟
فأجابها بنظرةٍ دافئة احرقت وجنتيها بلهيب الخجل وهو يومئُ بالرفض ويقول:
- انا لستُ بخير، بل على رأسي مُصيبة قلبت حياتي رأسًا على عقِب.
اسندت يدها المستندة علي الطاولة الى وجنتها وتمتمت بتساؤلٍ ساذج:
- ايّ مُصيبة.
- مُصيبة صغيرة اتت ذات يومٍ لمكتبي تبحثُ عن عمل وخطفت قلبي معها.
قالها وهو يجذبها لتجلس على ساقيه لتهمس بدلال:
- انتَ المُخطئ ما كان عليك الإنسياق نحو تلك المُصيبة فكما تعلم لديك مُصيبة أُخرى قديمة، ولديك منها ثلاث مُعضلات ليس لها حل.
قهقه وهو يربّت على خصلات شعرها القصيرة، عليه ان يشكُر حور على القصّة اللطيفة التي جعلت حبيبته الصغيرة كصبيّ، بل وزادتها فتنة.
- منذ متى وللمرءُ سُلطةً على قلبه.
قالها بشرودٍ وانامله ترسمُ خطوطًا وهميّةً على معدتها بينما تنهّدت هي وشوقٌ احمقٌ يلتهمها وهي بقُربه في هذه اللحظة، بالرغم من رفضها الداخلي لهذه الزيجة بل وكرهها لآدم خاصّة بفترتهما الأولى من الزواج حيث منحته نفسها مُرغمة الّا ان لحظاتهما الأكثر حميمية كانت صادقة بشدّة واستطاع بفترةٍ قصيرة ان يجعلها تتلهفُ شوقًا له، كانت كطفلةً تتلهّفُ لحنانٍ من نوعٍ مُختلف، حنانًا ابويًّا مُمتزج برغباتٍ انثويةٍ خجولة ومنحها هو ما ترغب بقلبٍ شغوف.
- سنذهبُ مساءً الى الطبيبة، فحالتكِ لا تسُرّني.
همهمت بتذمُّرٍ رافض الّا انه اضاف بصرامة:
- ألا ترغبي بالإطمئنان على صحة طفلنا.
بدي وكأن السؤال غريبًا عليها الّا انها هزّت رأسها بلا مُبالاة وهمست بخفوت:
- نحنُ بخير، لا اشعُر بأنني لستُ على ما يرام.
الّا انّهُ لمح وميضًا غريبًا بعيناها فهمس بتساؤلٍ قلِق:
- غيد ألست سعيدة بأنكِ ستُصبحين أُمًّا؟
ظهر ذُعرٌ غريبُ بداخلها وهي تفطن للحقيقة التي تهرُبُ منها طويلًا، هي ستُصبِحُ أُمًّا عن قريب وهذا الشعور بالرغم من لذّته الّا انهُ يخيفها للغاية، ماذا إن انجبت فتاة؟ سينتبذها آدم من حياته وتُصبح وحيدةً برفقة كائن آخر بحاجة للعناية، يا إلهي!
لم تدر انها بدت كصفحة ماءٍ نقيّ وهو يقرأ افكارها بوضوح، عيناها تلتمعُ بالدموع كغيمة سماءٍ صافية، إنها تبكِ من مُجرّد تخيُّلها للعودة للحياة القاسية التي كانت تعيشها، لقد منحها آدم امانًا وسكينة لم تعهد وجودها في هذا العالم السيء، واصبحت عزلتها ملاذها الآمن من كُلّ البشر يكفي فقط وجوده بجانبها.
نهضت من قدميه وهمست بتلعثُم:
- سأستريح قليلا.
ركضت للداخل واستلقت على فراشها ولا زالت الدموع تسيلُ على وجهها دون أن تجد القدرة على إيقافها وهي تهمسُ بداخلها:
- يا رب لا اريدُ فتاة، لا أُريدها.
وبالخارج كان هو ينظر الى الأمام بشرود وعيناهُ تشتعل بوميضٍ قاتم، إنها لا تثقُ به ولا بحُبّه بالرغم من كُلّ ما يحاربه من اجلها، لقد فقد زوجته الأولى وبناته الى الأبد في خضّم محاربته للحفاظ عليها وتأتي هي ببساطة وتبكِ لإنها لا ترغب بأن تحمل طفله.
اغمض عينيه وهمس بضيق:
- تبًّا للنساء!
.
.
كيف للمرء ان يهرُب من قدره؟!
تسائل بحر طويلا وهو يدرك ان وجود ميرال بحياته بات امرًا مُسلّمًا به، بالرغم من انها ستفتح عليه ابواب اسرارٍ اوصدها من سنواتٍ طويلة الّا انّ الحقيقة ستظهر عاجلًا ام آجلا، ميرال ستكون له ومن الأفضل ان يُقنع والده بهذا الأمر ليجلبها الى بيته بأسرع وقت، فقلبه لم يعُد قادرًا على البُعد.
منذُ تلك الليلة التي انّبتهُ فيها واظهرت حقيقة حقارته في التعامُل معها شعر بذنبٍ عظيم وقد اعترف انه حاول استمالتها ولكن تباعُدها ورفضها لكُل تصرفاته جعله يدمنها اكثر ويرغب بأن يمنح لعلاقته بها اسمًا ليستطيع امتلاك الإذن بمعرفتها اكثر.
- لقد اشتقتُ لميرال كثيرًا، كانت تساعدني في كتابة فروضي.
قالها بلال وهم يتناولون افطارهم ليتبادل بحر مع والده نظراتًا غريبة قبل ان يهمس بحر:
- هل هي تعرف الكتابة والقراءة؟
ابتسم الصبي واجاب ببساطة:
- لقد كانت تدرس بالجامعة، ولكنها لم تُكمل.
كانت عيناهُ مُشتعلة بحماس وهو يتحدث عن الخادمة اللطيفة التي قضت معه اوقاتًا طويلة اثناء بقائها بمنزلهم، كانت في البداية تصنع له اطعمته المُفضّلة وبمشاكساته المرحة اصبحا اكثر من اصدقاء وساعدتهُ في دراسة مادّة الرياضيات التي يكرهها.
- وماذا قالت لك غير ذلك؟
تسائل والده بقلقٍ شديد ليجيب بلال غير منتبه لتغيُّر ملامح اخيه:
- لا شيء، إنها هادئة للغاية ولا تُحب الحديث.
واضاف فجأةً وكأنما اكتشف المعلومة للتوّ:
- إن لون عينيها يشبه لون عيناي، أليس كذلك؟!
- هيا الى المدرسة، ستظلّ تتحدث عن ميرال ولو عينيها الى ان يفوتك الدرس، هيا تحرّك.
قال والده بنبرةٍ حادّة ليستقيم ويغادر متذمّرًا تحت نظرت بحر الذي همس بداخله بإرتياع:
- يا إلهي! الفتى يضيع من بين ايدينا.
الّا انهُ طمأن والده وغادر على الفور، لم يعُد بإمكانه الإنتظار اكثر، يجب ان يبحث خلفها.
دلف الى مكتبه وارسل رسالةً اعقبها بمكالمةٍ لصديقٍ له يعمل باحد مكاتب الشرطة، وقال له:
- لقد بعثت إليك صورة لهوية فتاة بإسم ميرال عمر هادي ، اريدك ان تعطيني كل المعلومات عنها.
مرر يديه على شعره وتمتم بوعيد:
- سأعرفُ من انتِ يا غزالة، ولن يمنعني عنكِ اي شيء.
.
.
- وكيف ستنام على تلك الأرضية الباردة.
همس بداخله غير قادِرٍ على تحمُّل ما يشعر به نحوها وبذات الوقت يجتاحه خوفٌ عظيمٌ من مُجرد انتباه احدٍ لنظراته لها، يعاملها بجفاءٍ وقسوة وقلبه يتلظّى من الألم، بحياته لم يظُنّ ان الفتاة الوحيدة التي انتظرها قلبه طويلا ستكون بهذه الصورة، خادمة وكاذبة لا يعلم عنها سوى اسمها.
سمع صوت همهماتها المكتومة فإقترب اكثر، كان وجهها ينبِضُ بحرارةٍ غريبة الى درجة شعوره بأنفاسها اللاهثة امام وجهه، تحرّكت يدها بضعفٍ وكأنها تحارب شيئًا في احلامها، تساقطت دموعها ولا زالت نائمة وما ان كادت يده تستقر على كتفيها لتوقظها سمع صوتها يهمسُ بوضوحٍ مُتحشرِج:
- ابتعد، لا تلمسني... ابتعد.
انعقد حاجبيه بوجع واشتعل شيئًا بقلبه وعيناهُ ترفضُ الحياد عنها، يطالعها بوجهٍ مُتجهّم وانفاسه تتعالى كوقع المطر.
لا زالت تهمسُ بتلك الكلمات المُختلطة بنحيبٍ اوجع قلبه فوضع يداه حول كتفيها هامسًا بصوتٍ مبحوح:
- ميرال، استيقظي! ميرال...
شهقت بوجلٍ وفتحت عيناها لتصرُخ بهذيان:
- ابتعد، ابتعد..
ترك كتفيها مُرغمًا وهمس يُطمئنها بحنان:
- إنه انا بحر، لا تخافي.
وضعت يديها على صدرها ولا زال قلبها ينبضُ بشدّة وقد اختلطت عليها الذكرى السوداء بالواقع فلم تعُد تدري اهي تحلُمُ ام انها مُستيقظة..
ظلّت لدقائق طويلة تطالعه بعينان مُتسعتان يملؤهما الخوف والألم وانفاسها تتعالى بشدّة وقد بدى ان قلبها يؤلمها من قوّة ضرباته.
- ميرال، انظري اليّ، لقد كان مُجرّد كابوس، وانتِ الآن بأمان.
كانت تنظُر الى وجهه بضياع غير قادرة على سماع ايّ مما يقول فإقترب ليجلس بجانبها ومرر انامله على وجنتيها المُبللتان بالدموع في وهمس برقّة:
- إهدأي.
لم تُبعد عيناها عنه ولم يكُن قادِرًا على تحمُّل ذلك الألم الساكن بهما، فأخفض بصره نحو يداها المضمومات الى صادرها وهما تتحرّكان بجنون مع انفاسها المُتعالية، الى درجة خشيته على اصابتها بنوبةٍ قلبية من فرط خوفها.
لم يستطع حينها منع نفسه عن ضمّها بين ذراعيه، فجذبها لتسقُط على صدره كزهرةٍ مكسورة، ربّت على ظهرها وبداخله عواصف لا تهدأ وقربها الآن في هذه اللحظة ليس سوى عذابًا بطيئًا لروحه المُتعبة.
ظلّ يهدئها ولا زال قلبها يقفز كأرنبٍ مذعور يفصله عنه يداها الصغيرتان الملتصقتان بصدرها كدرعٍ حامٍ وكم رغب حينها بأن تتشبّث به وتستسلم اليه الّا انّ شيئًا بداخله اخبره انها لن تستسلم بسهولة.
بالفعل وبعد اقل من دقيقة واحدة استطاعت استجماع نفسها وابتعدت عنه بذُعر وقد عادت للتوّ الى واقعها فتحوّلت عيناها الباكيتان الى أُخرى حادّة غاضبة وكأنها للتوّ ادركت وجودها بين ذراعيه، انتفضت واقفة وقد شعرت للحظةٍ بدوارٍ عنيف لتجده يسند جسدها الهشّ بذراعيه القويّتان لتهمس بعُنف:
- اتركني يا بحر، ابتعد عنّي.
لم يمتثل لأوامرها بل اشتدّت يداه حول خصرها يقربها نحوه هامسًا بصوتٍ صلبٍ بارد:
- كنتِ تحلُمين بشيءٍ بشع، وتهتفين "ابتعد عني.. " من كان ذلك الشخص؟
تجمّدت ملامحها فجأةً ولم تُجِب بل ترقرقت الدموع بداخل حدقتيها الزجاجيتين فهمس بحدّة:
- من هو؟
- لا دخل لك!
هتفت بحدّةٍ مُماثلة ودموعها تسيلُ على وجنتيها وحاولت الفرارُ من قبضتيه صارخة ببكاء:
- انا لستُ ملكيةً خاصّة، يكفي الى هذا الحد، إن كنتُ اسكُت على نظراتك الوقحة التي تُحدّجني بها فلأنني فقط ارغبُ بهذا العمل ولا ارغب بخسارته ولكنني لن اسمح لك بأن تتعدّى حدودك معي، لستُ فتاةً من النوع الذي يدور برأسك القذر.
انهت كلماتها وهي تلهثُ بعُنف ولا زالت يداهُ تدعمانها ورأسها يئن وجعًا، عادت لتطالعه بقوّة ووجدته ينظر اليها بنظرةٍ غريبة نفذت لأعماق قلبها، نظرة اعتذارٍ وحُزنٍ وكأنما جرحتهُ بكلامها، شعرت بيداه تنسحبان من حولها الى ان صارت تقِفُ امامه لتشعُر فجأةً بلسعة بردٍ قارسٍ وهو يغادر الغُرفة بخطواتٍ واسعة.
نظرت للباب الذي أُغلق بهدوء ومسحت دموعها وشيءٌ مؤلمٌ يعتصرُ قلبها.
.
.
- يا إلهي كم انتِ مُثيرة للشفقة.
هتفت حور بحدّة وهي تقفُ امام والدتها عقب مجيئهُن للمنزل ولم تستمع لكلمات فلك الزاجرة واضافت بغضب:
- لقد صفعك، مدّ يده واهانك وانتِ الى الآن تتمسّكين به، حقًّا لا اعلمُ ماذا اقول.
وضعت يداها على شعرها القصير تشدّه بعُنف بينما والدتها تجلسُ علي فراشها تطالعها بصمت، وكأنها تائهة بعالمٍ آخر ولكنها تسمع تمامًا ما يُقال امامها، تتجرّع آلامها دون ان ترُدّ على كلام ابنتها الجارح.
جلست حلا بجانب والدتها وضمّتها هامسة بنبرتها الحنونة:
- هل انتِ بخير؟
اومأت بصمت وقالت بعد تفكير:
- انا عديمة الكرامة، ولا امتلكُ ذرّةً من الإحترام لنفسي، وسأظلُّ رهينة هذه الزيجة الى ان اموت، فإذا اردتُنّ البقاء برفقتي رجاءً لا تتحدّثن عن هذا الأمر، والّا فبيت خالكُنّ مفتوح، بإمكانكُنّ البقاء معه.
- أُمّي!
همست فلك برجاء الّا انّ ليلى تمتمت بألم:
- لقد عشتُ طوال حياتي وحيدةً الى انجبتكُن ومُنذها وانتُنّ أخواتي وصديقاتي وبناتي ولكن يبدوا انني سأعود لوحدتي من جديد.
ابتعدت عن حلا واستلقت ودموعها تغرقُ وسادتها بينما اقتربت فلك وهي تبكي بحُزن وتُقبّل يديها مُخبرةً اياها انها لن تترُكها، ولن تتحدث نهائيًا عن اي شيءٍ يُحزنها وحلا كذلك كانت تنظُر اليها من بين دموعها اما حور فقد خرجت لغرفتها وحينها فقط سقط قناع قوتها واخذت تبكي كطفلةٍ صغيرة، هي لا ترغب بإيلام والدتها ولكنها فقط تريد التحرُر من هذا المكان، تريدُ ان تحظى بحياةٍ سليمة هادئة بدلًا عن حياتهم المتوترة منذ زواج والدها.
ظلّت تبكي الى ان غفت بين دموعها وقد آثرت ان تهدأ، ليس لأجلها بل لأجل والدتها التي لا تبدوا على ما يُرام، فنظراتها الشاردة ومظهرها المُنكسر اخافها للغاية، وقلبها يخبرها ان شيئًا سيئًا قد حدث.
مرّت تلك الليلة بدون وجود والدهُنّ وقبل ذهابهنّ للمدرسة مرّت حور على غرفة والدتها التي لم تبارحها منذ الأمس، كانت حينها ليلى مستيقظة ولكن عيناها منتفخة بتعب ويبدوا انها لم تنم طوال الليل، تقدمت منها لترفع نظراتها اليها وقد انتبهت لوجودها، كانت ترتدي ثيابها المدرسية بصورة سريعة فأقتربت ليلى لتعدّل لها قميصها بتركيز وقالت:
- لا تعقّصي اكمام قميصك، دعيها على طولها ستكون اجمل، اين سترتكِ؟ فالجوّ باردٌ بالخارج.
- انا آسفة.
همست بصدق وغاية امنياتها ان لا تظلّ والدتها غاضبةً عليها، بينما نظرت اليها ليلى وهمست بإبتسامةٍ حزينة:
- لا بأس، هيا لكي لا تتأخرا على المدرسة.
خرجت الفتاتين ووالدتهما تحيطهما بدعواتها فهما كُلّ ما تبقّى لديها.
.
.
قُبلة صغيرة بريئة على وجنتيها استقبلها بها بعد غياب اسبوعين، لم تعرف لما شعرت بأن قلبها تألم وقد اخذت ذكرياتها معه تطوف حول راسها كسربٍ من النحل طوال فترة غيابه، وكأنها بالفعل احبّته وعندما عاد بالأمس كادت ان ترتمي بين ذراعيه وتخبره ان لا يبتعد عنها مُجددًا الّا انّهُ ابتعد مُتجهًا لغُرفته الثانية واخبرها بأن تخلد للنوم دون حتى ان يسأل عن حالها.
وبالرغم من ذلك ها هي اليوم تنظُر الى وجهه وهما يتناولان الغداء غير قادرة على إبعاد عينيها عنه، يبدوا غاضبًا فملامحه مشتدّة للغاية و حاجبيه منعقدان بتفكير، هل تسأله عما يدور بداخله ام انه سيوبخها كالعادة؟! تسائلت بداخلها ولكنها فضّلت الصمت.
لم تكُن تأكُل بل تعبثُ بالطعام بشوكتها بملل، ووجهها يعلوه تعبٌ طفيف، فبالفترة الأخيرة تزايد غثيانها الصباحي الذي ينتهي بنوبة بكاءٍ شديد، تظلُّ بعدها تنتحب علي فراشها الى ان تنام، فلا احد يهتم بها، ولا يمكنها التعامُل مع اي احد من افراد العائلة الغير مُرحِبة بها، وقد اكتشفت ان وجود آدم بالرغم من تعنُّته وغضبه الدائم إلّا انهُ الوحيد الذي يجعلها تشعُر بالأمان وبغيابه غدت وحيدةً كشمعةً في مهبّ الريح غير قادرة على التصرُّف بحياتها وكأنها نست كيف تعيش واعطته حريّة رسم حياتها كما يشاء.
- غيد، لما لا تأكُلين؟!
التفتت لتجد نظراته القلقة مُغلّفة بالبرود لتُجيب بإختناق:
- لستُ جائعة.
اومأ بصمت وعاد لينظر اليها بغموض، إنهُ غاضبٌ للغاية، لا زال غاضبًا من ليلى ولسانها اللاذع وحنقه الأكبر على ردّة فعله الهوجاء. إنهُ يصارع مشاعره الخاصّة ويطوّح في طريقه زوجتيه دون ان يكون لهُما ذنب، هو وحده من اقحم نفسه في هذا المأزق.
لقد رأى غيد مرّة واحدة فأشعلت بقلبه الشائب نارًا حارقة، لقد كان حُبًّا من النظرة الأولى، نظرة واحدة من عيناها الزرقاء البريئة ذات الرموش الكثيفة بنظراتها الرقيقة، نظرة جعلتهُ يعود شابًّا مُراهقًا يحظى بحُبّه الأول.
افاق من شروده على همستها الرقيقة ووجدها ترمقه بذات النظرة السحريّة وكأنها تُطلقُ خيوطًا غير مرئية تُكبّلهُ بها، عادت لتهمس بتساؤلها بحنانٍ دافق:
- هل انتَ بخير؟
فأجابها بنظرةٍ دافئة احرقت وجنتيها بلهيب الخجل وهو يومئُ بالرفض ويقول:
- انا لستُ بخير، بل على رأسي مُصيبة قلبت حياتي رأسًا على عقِب.
اسندت يدها المستندة علي الطاولة الى وجنتها وتمتمت بتساؤلٍ ساذج:
- ايّ مُصيبة.
- مُصيبة صغيرة اتت ذات يومٍ لمكتبي تبحثُ عن عمل وخطفت قلبي معها.
قالها وهو يجذبها لتجلس على ساقيه لتهمس بدلال:
- انتَ المُخطئ ما كان عليك الإنسياق نحو تلك المُصيبة فكما تعلم لديك مُصيبة أُخرى قديمة، ولديك منها ثلاث مُعضلات ليس لها حل.
قهقه وهو يربّت على خصلات شعرها القصيرة، عليه ان يشكُر حور على القصّة اللطيفة التي جعلت حبيبته الصغيرة كصبيّ، بل وزادتها فتنة.
- منذ متى وللمرءُ سُلطةً على قلبه.
قالها بشرودٍ وانامله ترسمُ خطوطًا وهميّةً على معدتها بينما تنهّدت هي وشوقٌ احمقٌ يلتهمها وهي بقُربه في هذه اللحظة، بالرغم من رفضها الداخلي لهذه الزيجة بل وكرهها لآدم خاصّة بفترتهما الأولى من الزواج حيث منحته نفسها مُرغمة الّا ان لحظاتهما الأكثر حميمية كانت صادقة بشدّة واستطاع بفترةٍ قصيرة ان يجعلها تتلهفُ شوقًا له، كانت كطفلةً تتلهّفُ لحنانٍ من نوعٍ مُختلف، حنانًا ابويًّا مُمتزج برغباتٍ انثويةٍ خجولة ومنحها هو ما ترغب بقلبٍ شغوف.
- سنذهبُ مساءً الى الطبيبة، فحالتكِ لا تسُرّني.
همهمت بتذمُّرٍ رافض الّا انه اضاف بصرامة:
- ألا ترغبي بالإطمئنان على صحة طفلنا.
بدي وكأن السؤال غريبًا عليها الّا انها هزّت رأسها بلا مُبالاة وهمست بخفوت:
- نحنُ بخير، لا اشعُر بأنني لستُ على ما يرام.
الّا انّهُ لمح وميضًا غريبًا بعيناها فهمس بتساؤلٍ قلِق:
- غيد ألست سعيدة بأنكِ ستُصبحين أُمًّا؟
ظهر ذُعرٌ غريبُ بداخلها وهي تفطن للحقيقة التي تهرُبُ منها طويلًا، هي ستُصبِحُ أُمًّا عن قريب وهذا الشعور بالرغم من لذّته الّا انهُ يخيفها للغاية، ماذا إن انجبت فتاة؟ سينتبذها آدم من حياته وتُصبح وحيدةً برفقة كائن آخر بحاجة للعناية، يا إلهي!
لم تدر انها بدت كصفحة ماءٍ نقيّ وهو يقرأ افكارها بوضوح، عيناها تلتمعُ بالدموع كغيمة سماءٍ صافية، إنها تبكِ من مُجرّد تخيُّلها للعودة للحياة القاسية التي كانت تعيشها، لقد منحها آدم امانًا وسكينة لم تعهد وجودها في هذا العالم السيء، واصبحت عزلتها ملاذها الآمن من كُلّ البشر يكفي فقط وجوده بجانبها.
نهضت من قدميه وهمست بتلعثُم:
- سأستريح قليلا.
ركضت للداخل واستلقت على فراشها ولا زالت الدموع تسيلُ على وجهها دون أن تجد القدرة على إيقافها وهي تهمسُ بداخلها:
- يا رب لا اريدُ فتاة، لا أُريدها.
وبالخارج كان هو ينظر الى الأمام بشرود وعيناهُ تشتعل بوميضٍ قاتم، إنها لا تثقُ به ولا بحُبّه بالرغم من كُلّ ما يحاربه من اجلها، لقد فقد زوجته الأولى وبناته الى الأبد في خضّم محاربته للحفاظ عليها وتأتي هي ببساطة وتبكِ لإنها لا ترغب بأن تحمل طفله.
اغمض عينيه وهمس بضيق:
- تبًّا للنساء!
.
.
كيف للمرء ان يهرُب من قدره؟!
تسائل بحر طويلا وهو يدرك ان وجود ميرال بحياته بات امرًا مُسلّمًا به، بالرغم من انها ستفتح عليه ابواب اسرارٍ اوصدها من سنواتٍ طويلة الّا انّ الحقيقة ستظهر عاجلًا ام آجلا، ميرال ستكون له ومن الأفضل ان يُقنع والده بهذا الأمر ليجلبها الى بيته بأسرع وقت، فقلبه لم يعُد قادرًا على البُعد.
منذُ تلك الليلة التي انّبتهُ فيها واظهرت حقيقة حقارته في التعامُل معها شعر بذنبٍ عظيم وقد اعترف انه حاول استمالتها ولكن تباعُدها ورفضها لكُل تصرفاته جعله يدمنها اكثر ويرغب بأن يمنح لعلاقته بها اسمًا ليستطيع امتلاك الإذن بمعرفتها اكثر.
- لقد اشتقتُ لميرال كثيرًا، كانت تساعدني في كتابة فروضي.
قالها بلال وهم يتناولون افطارهم ليتبادل بحر مع والده نظراتًا غريبة قبل ان يهمس بحر:
- هل هي تعرف الكتابة والقراءة؟
ابتسم الصبي واجاب ببساطة:
- لقد كانت تدرس بالجامعة، ولكنها لم تُكمل.
كانت عيناهُ مُشتعلة بحماس وهو يتحدث عن الخادمة اللطيفة التي قضت معه اوقاتًا طويلة اثناء بقائها بمنزلهم، كانت في البداية تصنع له اطعمته المُفضّلة وبمشاكساته المرحة اصبحا اكثر من اصدقاء وساعدتهُ في دراسة مادّة الرياضيات التي يكرهها.
- وماذا قالت لك غير ذلك؟
تسائل والده بقلقٍ شديد ليجيب بلال غير منتبه لتغيُّر ملامح اخيه:
- لا شيء، إنها هادئة للغاية ولا تُحب الحديث.
واضاف فجأةً وكأنما اكتشف المعلومة للتوّ:
- إن لون عينيها يشبه لون عيناي، أليس كذلك؟!
- هيا الى المدرسة، ستظلّ تتحدث عن ميرال ولو عينيها الى ان يفوتك الدرس، هيا تحرّك.
قال والده بنبرةٍ حادّة ليستقيم ويغادر متذمّرًا تحت نظرت بحر الذي همس بداخله بإرتياع:
- يا إلهي! الفتى يضيع من بين ايدينا.
الّا انهُ طمأن والده وغادر على الفور، لم يعُد بإمكانه الإنتظار اكثر، يجب ان يبحث خلفها.
دلف الى مكتبه وارسل رسالةً اعقبها بمكالمةٍ لصديقٍ له يعمل باحد مكاتب الشرطة، وقال له:
- لقد بعثت إليك صورة لهوية فتاة بإسم ميرال عمر هادي ، اريدك ان تعطيني كل المعلومات عنها.
مرر يديه على شعره وتمتم بوعيد:
- سأعرفُ من انتِ يا غزالة، ولن يمنعني عنكِ اي شيء.
.
.