الفصلالثانيعشر
انتهى ذلك اللقاء وشرارات غريبة تطوف في الأرجاء، وعقب مغادرة عزيز واخيه ظلّ آدم جالسًا بمكانه ورأسه يعمل بتفكيرٍ عميق، هو لم يرفض طلب الشاب وكل ما قاله هو انه سيبحث عنه ويأخذ رأي ابنته وسيخبره بردهم.
للصراحة هو لا يحتاج السؤال عن هذا الشاب فهو ابن الحاج راشد رحمه الله، كان يعمل تاجر مجوهرات ولديه سمعة طيبة، ولكن عقب وفاته المفاجأة انقلب حال عائلته وتلاشت معالم ثرائهم ليبقى لهم محل وحيد يديره الآن ابنه الأكبر عمرو بينما عزيز غادر قبل بضعة اعوام وعمل بالمدينة وعاد قبل اشهُرٍ قليلة ليفتتح متجرًا صغيرًا لبيع الأدوات الكهربائية، إنه يعلم عنهم كُلّ شيء..
تنهّد بتفكيرٍ ورغبته الأبوية تطالب برجُل ارفع شأنًا لإبنته الجميلة، فلك الصغيرة التي لن يراها يومًا اكبر من مجرد طفلة غدت عروسةً في غاية الجمال، كم سيشعر بالسعادة وهو يراها بفستانٍ ابيض، يتأبط ذراعها ليوصلها بنفسه الى زوجها.
رقّ قلبها رُغمًا عنها، يا إلهي! كيف مرّ العُمر بهذه السُرعة، هل حقًّا من جاء قبل قليل خاطبٌ لإبنتهما؟!
تسائلت ليلى وهي تجلسُ بجانبه بصمت، يجيشُ قلبها بلهفة وسعادةٍ غريبة، لأول مرة تجرب هذه الشعور، شعور انها ستكون والدة العروس، فلك الصغيرة...
- لا اصدق اننا سنزوجها؟!
قالت بدهشة ودموعًا تنسابُ على وجنتيها ليجيبها بتأثُّرٍ وقلبه يومضُ بشعورٍ غريب:
- إنها سُنة الحياة، ولكنني غير قادرٍ على التفكير، لا استطيع إعطاء ابنتي لأي رجُلٍ بهذه السهولة.
لقد زوّج ابنة اخته اليتيمة من قبل وقد كانت تعيش معه كبناته تمامًا ولكن رُغمًا عن قلبه يميلُ لإبنته اكثر، فهو لم يشعُر بهذا الألم عندما زوّج ميساء ربما لأنه كان موقنا بأن زوجها شابًا يتحمّل المسؤولية، ولكنه ليس واثقًا من عزيز... لا يعلم عنه شيء غير سيرة والده.. لا يمكنه التفريط بفلك بهذه السهولة.
- لا بأس ابحث انت خلف الرجل وبعدها يمكننا اتخاذ القرار الصائب.
قالتها ببساطة ونحّت اي خلافٍ بينهما لأن الأمر يخصّ ابنتهما ويجب ان تكون معه بأي قرار سيتخذونه.
اومأ بهدوء وقال بعد وقتٍ من الصمت:
- ليلى، لأجل بناتنا ارجوكِ امسحي هذه النظرة عن عينيك.
حدجته بصمت وتسائلت بنبرةٍ صلبة:
- اي نظرة؟!
- ترمقينني وكأنني كائن مفترس وانتِ ادرى الناس بنوبات غضبي..
قالها وقد اقترب ليجلس بجانبها وعندما لاحظ صمتها المُغيظ اردف بتوتُّر:
- انا زوجكِ يا ليلى، وانت تُصرين على جعلي اخرج عن طوري باحاديثك اللاذعة، اعلمُ انكِ مجروحةٌ مني ولكنّكِ تفعلين اشياء لا استطيع تحمُّلها كأن تطلبي الطلاق ببساطة وكأن ما بيننا ورقة ستتمزق بأي وقت.
نظرت اليه لأول مرّة منذ وقتٍ طويل، يبدوا مُتعبًا للغاية، قلبها الأحمق اخبرها بذلك... فعيناهُ غائرتان بإرهاق وذقنه وشاربيه غير مشذبان، يبدوا بالفعل مشغول الباب...
- هل حقًّا لا زلت تذكُر ما بيننا؟! اقصد ما كان بيننا؟!
تسائلت بوجعٍ ليجيبها بعذاب:
- انا أُحبُّكُ يا ليلى، بكُلّ صلفكِ وغرورك وكبريائكِ الذي يئن وجعًا بسببي أُحبُّكِ، ولا استطيع تخيُّل حياتي بدونك.
- هل استطيع الكذب عليك؟ وانا أُحبُّك بشدّة ولكنني مُتعبة من كُل شيء، ومجروحة من افعالك... ولا استطيعُ مُسامحتك ابدًا.
قالت كلماتها ودموعها تسيلُ بوجع وغادرت الى غرفتها بخطوات راكضة فآخر ما ترغب به هو رؤية انهيارها المُخزي جراء كلماته، إنه يستطيع بكُل بساطة ان يجرها الى حبه بصمت لتغرق كُلّ مرّة بالرغم من رفضها الداخلي وكرامتها المُهدرة.
بينما ظلّ هو ينظر امامه بشرود مُدرِكًا ان وجعها اقوى من اي مرّة، لقد اهانها بشدّة ولن ينال في المُقابل سوى الجفاء.
- بابا.
استفاق من شروده على صوت حلا التي وقفت امام الصالة تنتظرُ اذنه للدخول، فأشار اليها هامسًا ببسمةٍ حنونة:
- تعالي حبيبتي.
اقتربت منه بخطوات متعثرة وقبّلت وجنتيه ليسألها عن حالها فتُجيبه برقّة:
- انا بخير.
اخذ ينظر الى ملامحها الحلوة والذنب يجلده، لشعوره بإبتعاده عن بناته، فمنذ فترةٍ طويلة لم يجلس معهُنّ كما كان يفعل بالماضي.
- اين فلك وحور؟! اليوم سنسهر الى الصباح، فبالغد ليس لديكُنّ مدرسة.
قال وهو ينهض ليبحث بجانب شاشة التلفاز عن احد الأفلام الكرتونية، لتجيبه حلا بحماس:
- سأُناديهن على الفور وركضت بطريقها لميرال وطلبت منها ان تصنع لهُم بعض المقرمشات.
بعد وقتٍ قصير كانت حور تجلس بجوار والدها مُرغمة بعد ان اصرّ على جلبها لتشاهد الفيلم، تقدمت فلك لتضع المشروبات الغازية امامهم وتجلس هي الأخرى قائلة بسرور:
- اين ليلى؟!
عبس والدها موبخًا وهو يحثّها على عدم مناداة والدتها بأسمها واضاف:
- أُمّكُما تشعر ببعض الإرهاق، على الأرجح ستنام باكرًا.
وقبل ان يُكمل جُملته كانت ليلى تتقدم نحوهم بثوبها الأزرق الناعم ذو الأكمام القصيرة تاركةً العنان لشعرها الليليّ بالتماوج حول ردفيها بدلالٍ عفوي، وجهها نضِرًا ناعمًا بالرغم من بكائها القريب اما عيناها التي كانت قبل قليل مُشبعة بالألم مُحاطةً بكُحلٍ سميكٍ ابرز نظراتهما الجارحة، تقدمت تتهادى نحوهم وهمست بإبتسامتها المُستفِزة التي باتت تغيظه بشدّة:
- لقد اصبحت بخير، وبالتأكيد لن افوّت سهرةً لن تعوّض.
غمزت بآخر حديثها واقتربت منه لتلفحه رائحة عطرها الجديد ذو الرائحة المُتلفة للأعصاب، وبميوعةٍ مُتأصلةٍ بها خطت بضع خطوات لتجلس على الأريكة المجاورة بجانب حلا وضمّتها هامسة بنبرةٍ مازحة:
- حلواي اللذيذة كيف حالها اليوم؟! لم اركِ منذُ عودتكِ من المدرسة.
هذه المرأة مُدهِشة بالفعل، وقوية بصورةٍ لم يتخيلها، فها هي تُمثّل بكُل براءةٍ دور السعادة التي لا تشعر بها، تحنو على بناتها وكأنهن اغلى ممتلكاتها.
- مُدللة!
همس حور بغيرةٍ وهي ترى اهتمام والدتها بحلا التي اخرجت لسانها تغيظها اكثر وهي تغمر وجهها بعناق والدتها وتقول بعبوس:
- انا اتعبُ كثيرًا من الدراسة يا أُمي، لذلك لابُد ان احظى بعُطلة مُبهِجة.
- وما تفسيركِ للبهجة يا حلا؟!
تسائلت فلك وهي تكتُم ضحكتها لتقول حلا بجدّية:
- البهجة في الطعام بالطبع.. ثمة مطعمٌ جديدٌ على شاطئ البحر ونحن لم نرى قائمة طعامه الى الآن.
ضحك الجميعُ عليها لتهتف بغضبٍ مُضحِك:
- انا مُخطئة لأنني اشكو لكم همومي.
- حسنٌ يا شقيّة، سنذهب لنرى قائمة الطعام في الغد، ما رأيك؟!
قال آدم وهو يقرص وجنتيها لتبتسم بفرح بينما التفت لحور وداعبها هامسًا بمحبة:
- وانتِ يا حوريتي ماذا تريدين؟! اطلبي ما يحلو لكِ وسأنفذ اوامركِ على الفور.
الا انها نظرت اليه وقالت بخفوت:
- ما اريده لا يمكنك فعله صدقني..
اضافت وهي تنشغلُ بمشاهدة الفيلم:
- لا تشغل بالك.
نظر اليها بوجوم وسرعان ما جذبته فلك لحديثٍ آخر وليلى تطالعه بملامح هادئة، واقصى امنياتها ان تمنح هؤلاء الفتيات حياةً هادئة خاليةً من الألم.
فبالرغم من حنقها صباحًا على فلك الّا انها لم تستطع خصامها وصالحتها على الفور بعد ان اخذت منها وعدًا بأن تكون على علمٍ بأي شيءٍ ستفعله ومنعتها تماما من رؤية عزيز الى ان يبتّ والدها رأيًا في الأمر.
في هذه الأثناء كانت فلك تشتعل من الفرح والحماس خاصّة بعد ان اخبرتها والدتها بأن والدها لم يرفض الأمر وهذا بحد ذاته امرًا يدعوا للبهجة، فإن كان رافضًا لزواجها من عزيز فسيقول ذلك مباشرةً دون مواربة.
- سأذهب لأجلب شالي واعود.
قالتها وهي تتجه الى غرفتها لترسل رسالة الى عزيز تخبره فيها انها برفقة والديها ولن تستطيع مهاتفته اليوم.
قرأ عزيز الرسالة التي مفادها ان آدم سيبيت ليلته ببيت زوجته الأولى ومما يعني ان غيد ستكون وحيدة.
التمعت عيناهُ بنظرةٍ وحشية وهو يتخيلها بوداعتها المعهودة وابتسامتها التي تخطفُ القلوب، جسدها الذي لا يمِتُّ لبراءتها بصلة.. يتخيلها بثوبٍ ناعم، قصير... تنامُ وحيدةً في هذه الليلة الباردة... وهو يتلظّى بنيران الغدر والألم.
نهض بتصميم، وعندما كاد ان يخرُج من المنزل قابلته زوجة اخيه، تحمِلُ صغيرها وتهاديه بإبتسامةٍ حنونة... يبدوا ان عمرو نائم ولم تُرِد ان تزعجه ببكاء الصغير الذي لم يتجاوز الثلاثة اشهُر، اقترب منها لتبتسم اليه بسعادة وكانما انقذها بقدومه وتسحبه من يده ليجلس على الأريكة ويجد ذلك الكائن الصغير يوضع بين يديه وقبل ان يعترض وجدها تهمسُ اليه برجاء:
- سأتناول بعض الطعام، ارجوك ابقه برفقتك لدقائق..
وبالفعل غادرت الى المطبخ بينما نظر هو بتردُد لذلك الرضيع... إنه صغيرٌ للغاية.
- سبحان الله!
همس وهو يستنشقُ رائحته المنعشة لتطلّ بعينيه صورة فلك.. ستكونُ أُمًّا رائعة بكُلّ تأكيد.
فكّر وقلبه يجيشُ بمشاعر غريبةً عليه ورغما عنه تعيده الذكرى لغيد... هي حامل وستلد عما قريب، هذا ما استنتجه من حديث فلك، ولكنه لا يشعر بأي شيءٍ مؤلم عندما يتذكر هذا الأمر... ألمه يكمن من فكرة خيانتها له ولكن عندما جلس قبل قليل مع آدم لم يتملكهُ الغضب ذاته الذي زلزل قلبه ما ان علم بزواج غيد منه... يبدوا الأمر شبيهًا بنار حارقة اخذت وقتها الى ان انطفأت تمامًا وبقي هو فقط المُتضرر من حروقها.
لم يعلم كم مرّ من الوقت وهو يطالع الصغير الذي كفّ عن البكاء واصبح ينظر اليه بعيناه المستديرة الصغيرة وكانما يستكشفُ ما حوله بتأني. ابتسم اليه وهمس بلُطف:
- ستُحبك فلك بكُل تأكيد.
ضحك والصغير يتثائب ويتململ بين ذراعيه ليهدهده بمحبة يمنة ويسرى ليهدأ تمامًا ويغمض عينيه بسكون.
- لقد اتعبك حازم بكل تأكيد.
قال عمرو وهو يخرج من غرفته ليبتسم اليه عزيز ويقول بخفوت:
- لقد نام، يبدوا انه احبّني.
- ومن لا يحبك يا عزيز، من لا يفعل يا اخي؟!
قال عمرو بصدقٍ حزينًا على حال أخيه الذي اعطاه ابنه وعاد الى الداخل، عندما دلف الى غرفته وضع كفيه على وجهه وهمس بذُعر:
- يا إلهي! ماذا كنت سأفعل؟!
كان ذاهبًا لرؤية غيد لو لم تجده زوجة اخيه... لقد كان ليخسر فلك الى الأبد في سبيل اتباع اهواء انتقامه السوداء.
اغمض عينيه بشدّة وحمد الله طويلا على انه لم يخرُج من بيته لأنه لم يكُن ليعود عزيزًا كما كان.
.
.
كان هواء البحر يعبثُ بخُصلات شعرها الناعمة وبرودة الأجواء تجعل السير بجانب الشاطئ هواية كُلّ المُتعبين، الّا انّ هذه المنطقة شبه خالية لقُربها من مراسي السُفن، ابتسمت ميرال والأمواج الهادرة تصطدم بقدميها الحافيتين لتتذكّر آخر مرّةٍ جاءت فيها الى البحر، افلتت من بين شفتيها ضحكةً صغيرة عندما تذكرت ذلك اليوم الغريب ورغما عنها حمل قلبها امتنانًا عظيمًا لبحر، فلولاه لقضت ما تبقى من حياتها في الشارع.
كانت عيناه تراقبانها من بعيد، بثوبها العسليّ القصير واساورها الورديّة الطفوليّة، تبدوا اصغر من سنوات عمرها التي تدّعيها، فهذه المراهقة التي يراها من المُستحيل ان تكون بالثلاثين من عمرها.
تقدّم منها رجُل فتحفّزت ملامح بحر واقترب، وكان الرجُل بالفعل على وشك التحرُّش بها لولا انّ بحر امسك بياقة قميصه من الخلف يرفعه دون عناءٍ ويُلقي به بعيدًا، وقبل ان ينحني اليه كان يفرُّ هاربًا امام هذا الضخم الشرس.
كانت ميرال تراقبه بذهول ويدها على صدرها بخوف ولا زالت عيناهُ تلتقط ذلك الارتفاع والانخفاض المجنون لأنفاسها ولو ترك العنان لأوامر قلبه لسلب انفاسها تماما واشبع روحه منها، كم تبدوا شهيّةً عندما ترتعب فعيناها تغدوان كبركةٍ مليئةٍ بالعُشب.
- لماذا تسيرين في هذا المكان المهجور؟!
تسائل بصوتٍ كأمواج البحر ولا زالت نظراتهم تتصرع بصمت، ترمقهُ هي من بين اهدابها الطويلة بنظرةٍ بها الكثير من الأسئلة ويجابهها هو بإنفعالٍ شديد، لقد كان الرجُل الحقير على وشك لمسها، وإن حاولت المقاومة لن يسمعها احد، لما كنت ي بهذا الغباء؟!
- شكرا لك.
قالتها بنبرةٍ محتدّة ومرّت من امامه غير راغبة بأي حوارٍ معه - وذكرى آخر محادثةٍ لهم قبل شهرٍ لا زالت عالقة بذهنها، فبالرغم من انه قام بزيارة ليلى بضع مرات إلّا انها كانت تتحاشى اي حوار بينهما وهو كذلك كان يتجاهلها بوضوح- الّا انه منعها من الهروب وجذب معصمها لتلتفت اليه بضياع، كانت البحرُ يعبثُ بخصلاتها بشدّة وكانت يداه تتحرّكُ رُغمًا عنه لتزيح تلك الخصلات الناعمة عن وجهها تحبسها خلف اذنيها المزينتان بقرطٍ رخيصٍ صغير.
بدى جيدها الطويل يظهرُ بوضوحٍ سافرٍ امام نظراته المُشتعلة ووجد انها تسبلُ جفنيها بتأثُّرٍ فتمتم برقّة:
- لم اعتذر لكِ تلك الليلة، انا بالفعل آسفٌ على ان عيناي تنفلتُ رُغمًا عنّي لتسافر نحوكِ.
رمق نظرتها المندهشة واجاب مُبتلعًا ريقه بعذاب:
- لا املِكُ سُلطةً على عيني.
اخفضت رأسها عنه وتمتمت بخفوت:
- ولكن انا اكبرك بالعُمر، لا يمكنك النظر اليّ بتلك الطريقة.
قست عيناه والتوت شفتاه بإبتسامةٍ غريبة وهو يشملها بنظرةٍ حارّة مُتأنية وكأنما يعانق كل طرفٍ منها، وعادت عيناه لتستقرّ على وجهها وتحديدًا على عيناها الآسرتين ليقول ببرود:
- هل حقًّا تقتنعين بهذا الأمر، انظري اليّ جيّدًا، هل ابدوا طفلًا امامكِ.
قضمت شفتيها بحرج وهي تنفي حديثه، لا يبدوا طفلًا ابدًا، انه رجُلٌ راشد بل واكثر رجولةً من كُلّ من عرفتهم بحياتها.
طويلٌ للغاية حتى ان رقبتها تتعبُ عندما تُحدّق نحوه، وضخمٌ بصورةٍ مُثيرة للإعجاب فيبدوا كابطال المُلاكمة، ووسيمٌ للغاية، اكثر وسامةً من الشاب الوحيد الذي اعجبها في اولى سنوات مراهقتها، صحيح انها تكبره ببضعة اعوام ولكنها الآن تشعُرُ بأنها طفلة صغيرة مذعورة تقفُ امام مُعلمها.
يا إلهي! إنها صغيرة، بريئة، بها شيءٌ غضٌّ لم ينضج بعد، وبالرغم من ذلك تثير نوازعًا خفيّة بداخله، تلك الغزالة ذات العيون المذعورة دائمًا ستصيبه في مقتل..
تشبّث انامله بيدها الناعمة الصغيرة ذات الأصابع الرقيقة ووجد نفسه يسحبها خلفه هامسًا بهدوء:
- سأوصلكِ للبيت.
الّا انها حاولت نزع يدها عنه متمتمة برفض:
- سأذهبُ الى السوق لأبتاع بعض الأغراض.
التفت ولا زالت تسير خلفه ليهمس ببساطة:
- سأُرافقكِ واطمئن لعودتكِ.
وبالفعل اوصلها الى السوق بل واصرّ على البقاء معها وهي تبحث عبثًا عن ثيابًا بسيطةً بأسعار معقولة، وعندما لم تجد مبتغاها خرجت خالية الوفاض وتمتمت بتذمُّر:
- لا يمكنني صرف راتبي على ثوب واحد.
- لماذا لم تشتري شيئًا؟!
قال بحر وهو يتبعها بتسلية لتهمس كاذبة:
- لم يُعجبني شيء، سأعود الى البيت.
وسارت امامه بالفعل الّا انه سحبها لمتجرٍ آخر وهو يقول بمرح:
- ستجدي ضالّتك هنا، صدقيني.
دلفا للمحلّ الراقي ليلفت انتباهه ثوبٌ قصير بلون قرمزي داكن، برقبة دائرية مفتوحة واكمام رفيعة..
اتجه نحوه مباشرة وعاد لينظر اليها وقد لمعت عيناه بوميضٍ مُربِك.
- جربي هذا الثوب، سيليقُ بكِ حتمًا.
نظرت اليه وقالت بحرج:
- لا اريده، ومن الأساس لقد تأخرت، يجب ان اعود.
كادت ان تهرب منه الّا انه جذبها وقد تملكته روحًا طفولية واصرّ على ان يراها بهذا الثوب، فوافقت حينها على مضض، ستجربه فقط وتعود لفستانها القطني البسيط فهذا الشيء غالٍ للغاية ولا يليق بخادمة.
وقفت امام المِرآة وابتسمت برقّة، وعادت لذكرياتٍ بعيدة حيث كانت مثل هذه الثياب عادية بالنسبة لها، وخزانة غرفتها الجميلة تشعُّ بالألوان، لقد كانت غنية وبإمكانها شراء كل ما ترغب به ولكن الآن... نظرت للسعر المكتوب على ورقة الفستان لتهمس بحزن:
- ما امتلكه لن يشتري لي نصف هذا الثوب.
خرجت من غرفة التبديل بوجهٍ حزينٍ شاحب ولا تعلم لماذا ارادت ان تريه الفستان عليها، راقبته يقف ويتجه نحوها ولم تنتبه لنظراته المُشتعلة، إنها تبدوا... جميلة، لا ليس هذا الوصف، انها لا تخضعُ لأي وصفٍ منطوق، ما يراه الآن شيئًا يشعر به فقط ولا يستطيع ترجمته، تشبه الجنّة التي لم يرها احد، تشبه جمرةً لاذعة بمنتصف القلب، تشبه لذّة الغرق بالبحر، هذه الفتاة جميلة، بل تخطفُ الروح.
- هذا الثوب، يليقُ بكِ للغاية.
للصراحة هو لا يحتاج السؤال عن هذا الشاب فهو ابن الحاج راشد رحمه الله، كان يعمل تاجر مجوهرات ولديه سمعة طيبة، ولكن عقب وفاته المفاجأة انقلب حال عائلته وتلاشت معالم ثرائهم ليبقى لهم محل وحيد يديره الآن ابنه الأكبر عمرو بينما عزيز غادر قبل بضعة اعوام وعمل بالمدينة وعاد قبل اشهُرٍ قليلة ليفتتح متجرًا صغيرًا لبيع الأدوات الكهربائية، إنه يعلم عنهم كُلّ شيء..
تنهّد بتفكيرٍ ورغبته الأبوية تطالب برجُل ارفع شأنًا لإبنته الجميلة، فلك الصغيرة التي لن يراها يومًا اكبر من مجرد طفلة غدت عروسةً في غاية الجمال، كم سيشعر بالسعادة وهو يراها بفستانٍ ابيض، يتأبط ذراعها ليوصلها بنفسه الى زوجها.
رقّ قلبها رُغمًا عنها، يا إلهي! كيف مرّ العُمر بهذه السُرعة، هل حقًّا من جاء قبل قليل خاطبٌ لإبنتهما؟!
تسائلت ليلى وهي تجلسُ بجانبه بصمت، يجيشُ قلبها بلهفة وسعادةٍ غريبة، لأول مرة تجرب هذه الشعور، شعور انها ستكون والدة العروس، فلك الصغيرة...
- لا اصدق اننا سنزوجها؟!
قالت بدهشة ودموعًا تنسابُ على وجنتيها ليجيبها بتأثُّرٍ وقلبه يومضُ بشعورٍ غريب:
- إنها سُنة الحياة، ولكنني غير قادرٍ على التفكير، لا استطيع إعطاء ابنتي لأي رجُلٍ بهذه السهولة.
لقد زوّج ابنة اخته اليتيمة من قبل وقد كانت تعيش معه كبناته تمامًا ولكن رُغمًا عن قلبه يميلُ لإبنته اكثر، فهو لم يشعُر بهذا الألم عندما زوّج ميساء ربما لأنه كان موقنا بأن زوجها شابًا يتحمّل المسؤولية، ولكنه ليس واثقًا من عزيز... لا يعلم عنه شيء غير سيرة والده.. لا يمكنه التفريط بفلك بهذه السهولة.
- لا بأس ابحث انت خلف الرجل وبعدها يمكننا اتخاذ القرار الصائب.
قالتها ببساطة ونحّت اي خلافٍ بينهما لأن الأمر يخصّ ابنتهما ويجب ان تكون معه بأي قرار سيتخذونه.
اومأ بهدوء وقال بعد وقتٍ من الصمت:
- ليلى، لأجل بناتنا ارجوكِ امسحي هذه النظرة عن عينيك.
حدجته بصمت وتسائلت بنبرةٍ صلبة:
- اي نظرة؟!
- ترمقينني وكأنني كائن مفترس وانتِ ادرى الناس بنوبات غضبي..
قالها وقد اقترب ليجلس بجانبها وعندما لاحظ صمتها المُغيظ اردف بتوتُّر:
- انا زوجكِ يا ليلى، وانت تُصرين على جعلي اخرج عن طوري باحاديثك اللاذعة، اعلمُ انكِ مجروحةٌ مني ولكنّكِ تفعلين اشياء لا استطيع تحمُّلها كأن تطلبي الطلاق ببساطة وكأن ما بيننا ورقة ستتمزق بأي وقت.
نظرت اليه لأول مرّة منذ وقتٍ طويل، يبدوا مُتعبًا للغاية، قلبها الأحمق اخبرها بذلك... فعيناهُ غائرتان بإرهاق وذقنه وشاربيه غير مشذبان، يبدوا بالفعل مشغول الباب...
- هل حقًّا لا زلت تذكُر ما بيننا؟! اقصد ما كان بيننا؟!
تسائلت بوجعٍ ليجيبها بعذاب:
- انا أُحبُّكُ يا ليلى، بكُلّ صلفكِ وغرورك وكبريائكِ الذي يئن وجعًا بسببي أُحبُّكِ، ولا استطيع تخيُّل حياتي بدونك.
- هل استطيع الكذب عليك؟ وانا أُحبُّك بشدّة ولكنني مُتعبة من كُل شيء، ومجروحة من افعالك... ولا استطيعُ مُسامحتك ابدًا.
قالت كلماتها ودموعها تسيلُ بوجع وغادرت الى غرفتها بخطوات راكضة فآخر ما ترغب به هو رؤية انهيارها المُخزي جراء كلماته، إنه يستطيع بكُل بساطة ان يجرها الى حبه بصمت لتغرق كُلّ مرّة بالرغم من رفضها الداخلي وكرامتها المُهدرة.
بينما ظلّ هو ينظر امامه بشرود مُدرِكًا ان وجعها اقوى من اي مرّة، لقد اهانها بشدّة ولن ينال في المُقابل سوى الجفاء.
- بابا.
استفاق من شروده على صوت حلا التي وقفت امام الصالة تنتظرُ اذنه للدخول، فأشار اليها هامسًا ببسمةٍ حنونة:
- تعالي حبيبتي.
اقتربت منه بخطوات متعثرة وقبّلت وجنتيه ليسألها عن حالها فتُجيبه برقّة:
- انا بخير.
اخذ ينظر الى ملامحها الحلوة والذنب يجلده، لشعوره بإبتعاده عن بناته، فمنذ فترةٍ طويلة لم يجلس معهُنّ كما كان يفعل بالماضي.
- اين فلك وحور؟! اليوم سنسهر الى الصباح، فبالغد ليس لديكُنّ مدرسة.
قال وهو ينهض ليبحث بجانب شاشة التلفاز عن احد الأفلام الكرتونية، لتجيبه حلا بحماس:
- سأُناديهن على الفور وركضت بطريقها لميرال وطلبت منها ان تصنع لهُم بعض المقرمشات.
بعد وقتٍ قصير كانت حور تجلس بجوار والدها مُرغمة بعد ان اصرّ على جلبها لتشاهد الفيلم، تقدمت فلك لتضع المشروبات الغازية امامهم وتجلس هي الأخرى قائلة بسرور:
- اين ليلى؟!
عبس والدها موبخًا وهو يحثّها على عدم مناداة والدتها بأسمها واضاف:
- أُمّكُما تشعر ببعض الإرهاق، على الأرجح ستنام باكرًا.
وقبل ان يُكمل جُملته كانت ليلى تتقدم نحوهم بثوبها الأزرق الناعم ذو الأكمام القصيرة تاركةً العنان لشعرها الليليّ بالتماوج حول ردفيها بدلالٍ عفوي، وجهها نضِرًا ناعمًا بالرغم من بكائها القريب اما عيناها التي كانت قبل قليل مُشبعة بالألم مُحاطةً بكُحلٍ سميكٍ ابرز نظراتهما الجارحة، تقدمت تتهادى نحوهم وهمست بإبتسامتها المُستفِزة التي باتت تغيظه بشدّة:
- لقد اصبحت بخير، وبالتأكيد لن افوّت سهرةً لن تعوّض.
غمزت بآخر حديثها واقتربت منه لتلفحه رائحة عطرها الجديد ذو الرائحة المُتلفة للأعصاب، وبميوعةٍ مُتأصلةٍ بها خطت بضع خطوات لتجلس على الأريكة المجاورة بجانب حلا وضمّتها هامسة بنبرةٍ مازحة:
- حلواي اللذيذة كيف حالها اليوم؟! لم اركِ منذُ عودتكِ من المدرسة.
هذه المرأة مُدهِشة بالفعل، وقوية بصورةٍ لم يتخيلها، فها هي تُمثّل بكُل براءةٍ دور السعادة التي لا تشعر بها، تحنو على بناتها وكأنهن اغلى ممتلكاتها.
- مُدللة!
همس حور بغيرةٍ وهي ترى اهتمام والدتها بحلا التي اخرجت لسانها تغيظها اكثر وهي تغمر وجهها بعناق والدتها وتقول بعبوس:
- انا اتعبُ كثيرًا من الدراسة يا أُمي، لذلك لابُد ان احظى بعُطلة مُبهِجة.
- وما تفسيركِ للبهجة يا حلا؟!
تسائلت فلك وهي تكتُم ضحكتها لتقول حلا بجدّية:
- البهجة في الطعام بالطبع.. ثمة مطعمٌ جديدٌ على شاطئ البحر ونحن لم نرى قائمة طعامه الى الآن.
ضحك الجميعُ عليها لتهتف بغضبٍ مُضحِك:
- انا مُخطئة لأنني اشكو لكم همومي.
- حسنٌ يا شقيّة، سنذهب لنرى قائمة الطعام في الغد، ما رأيك؟!
قال آدم وهو يقرص وجنتيها لتبتسم بفرح بينما التفت لحور وداعبها هامسًا بمحبة:
- وانتِ يا حوريتي ماذا تريدين؟! اطلبي ما يحلو لكِ وسأنفذ اوامركِ على الفور.
الا انها نظرت اليه وقالت بخفوت:
- ما اريده لا يمكنك فعله صدقني..
اضافت وهي تنشغلُ بمشاهدة الفيلم:
- لا تشغل بالك.
نظر اليها بوجوم وسرعان ما جذبته فلك لحديثٍ آخر وليلى تطالعه بملامح هادئة، واقصى امنياتها ان تمنح هؤلاء الفتيات حياةً هادئة خاليةً من الألم.
فبالرغم من حنقها صباحًا على فلك الّا انها لم تستطع خصامها وصالحتها على الفور بعد ان اخذت منها وعدًا بأن تكون على علمٍ بأي شيءٍ ستفعله ومنعتها تماما من رؤية عزيز الى ان يبتّ والدها رأيًا في الأمر.
في هذه الأثناء كانت فلك تشتعل من الفرح والحماس خاصّة بعد ان اخبرتها والدتها بأن والدها لم يرفض الأمر وهذا بحد ذاته امرًا يدعوا للبهجة، فإن كان رافضًا لزواجها من عزيز فسيقول ذلك مباشرةً دون مواربة.
- سأذهب لأجلب شالي واعود.
قالتها وهي تتجه الى غرفتها لترسل رسالة الى عزيز تخبره فيها انها برفقة والديها ولن تستطيع مهاتفته اليوم.
قرأ عزيز الرسالة التي مفادها ان آدم سيبيت ليلته ببيت زوجته الأولى ومما يعني ان غيد ستكون وحيدة.
التمعت عيناهُ بنظرةٍ وحشية وهو يتخيلها بوداعتها المعهودة وابتسامتها التي تخطفُ القلوب، جسدها الذي لا يمِتُّ لبراءتها بصلة.. يتخيلها بثوبٍ ناعم، قصير... تنامُ وحيدةً في هذه الليلة الباردة... وهو يتلظّى بنيران الغدر والألم.
نهض بتصميم، وعندما كاد ان يخرُج من المنزل قابلته زوجة اخيه، تحمِلُ صغيرها وتهاديه بإبتسامةٍ حنونة... يبدوا ان عمرو نائم ولم تُرِد ان تزعجه ببكاء الصغير الذي لم يتجاوز الثلاثة اشهُر، اقترب منها لتبتسم اليه بسعادة وكانما انقذها بقدومه وتسحبه من يده ليجلس على الأريكة ويجد ذلك الكائن الصغير يوضع بين يديه وقبل ان يعترض وجدها تهمسُ اليه برجاء:
- سأتناول بعض الطعام، ارجوك ابقه برفقتك لدقائق..
وبالفعل غادرت الى المطبخ بينما نظر هو بتردُد لذلك الرضيع... إنه صغيرٌ للغاية.
- سبحان الله!
همس وهو يستنشقُ رائحته المنعشة لتطلّ بعينيه صورة فلك.. ستكونُ أُمًّا رائعة بكُلّ تأكيد.
فكّر وقلبه يجيشُ بمشاعر غريبةً عليه ورغما عنه تعيده الذكرى لغيد... هي حامل وستلد عما قريب، هذا ما استنتجه من حديث فلك، ولكنه لا يشعر بأي شيءٍ مؤلم عندما يتذكر هذا الأمر... ألمه يكمن من فكرة خيانتها له ولكن عندما جلس قبل قليل مع آدم لم يتملكهُ الغضب ذاته الذي زلزل قلبه ما ان علم بزواج غيد منه... يبدوا الأمر شبيهًا بنار حارقة اخذت وقتها الى ان انطفأت تمامًا وبقي هو فقط المُتضرر من حروقها.
لم يعلم كم مرّ من الوقت وهو يطالع الصغير الذي كفّ عن البكاء واصبح ينظر اليه بعيناه المستديرة الصغيرة وكانما يستكشفُ ما حوله بتأني. ابتسم اليه وهمس بلُطف:
- ستُحبك فلك بكُل تأكيد.
ضحك والصغير يتثائب ويتململ بين ذراعيه ليهدهده بمحبة يمنة ويسرى ليهدأ تمامًا ويغمض عينيه بسكون.
- لقد اتعبك حازم بكل تأكيد.
قال عمرو وهو يخرج من غرفته ليبتسم اليه عزيز ويقول بخفوت:
- لقد نام، يبدوا انه احبّني.
- ومن لا يحبك يا عزيز، من لا يفعل يا اخي؟!
قال عمرو بصدقٍ حزينًا على حال أخيه الذي اعطاه ابنه وعاد الى الداخل، عندما دلف الى غرفته وضع كفيه على وجهه وهمس بذُعر:
- يا إلهي! ماذا كنت سأفعل؟!
كان ذاهبًا لرؤية غيد لو لم تجده زوجة اخيه... لقد كان ليخسر فلك الى الأبد في سبيل اتباع اهواء انتقامه السوداء.
اغمض عينيه بشدّة وحمد الله طويلا على انه لم يخرُج من بيته لأنه لم يكُن ليعود عزيزًا كما كان.
.
.
كان هواء البحر يعبثُ بخُصلات شعرها الناعمة وبرودة الأجواء تجعل السير بجانب الشاطئ هواية كُلّ المُتعبين، الّا انّ هذه المنطقة شبه خالية لقُربها من مراسي السُفن، ابتسمت ميرال والأمواج الهادرة تصطدم بقدميها الحافيتين لتتذكّر آخر مرّةٍ جاءت فيها الى البحر، افلتت من بين شفتيها ضحكةً صغيرة عندما تذكرت ذلك اليوم الغريب ورغما عنها حمل قلبها امتنانًا عظيمًا لبحر، فلولاه لقضت ما تبقى من حياتها في الشارع.
كانت عيناه تراقبانها من بعيد، بثوبها العسليّ القصير واساورها الورديّة الطفوليّة، تبدوا اصغر من سنوات عمرها التي تدّعيها، فهذه المراهقة التي يراها من المُستحيل ان تكون بالثلاثين من عمرها.
تقدّم منها رجُل فتحفّزت ملامح بحر واقترب، وكان الرجُل بالفعل على وشك التحرُّش بها لولا انّ بحر امسك بياقة قميصه من الخلف يرفعه دون عناءٍ ويُلقي به بعيدًا، وقبل ان ينحني اليه كان يفرُّ هاربًا امام هذا الضخم الشرس.
كانت ميرال تراقبه بذهول ويدها على صدرها بخوف ولا زالت عيناهُ تلتقط ذلك الارتفاع والانخفاض المجنون لأنفاسها ولو ترك العنان لأوامر قلبه لسلب انفاسها تماما واشبع روحه منها، كم تبدوا شهيّةً عندما ترتعب فعيناها تغدوان كبركةٍ مليئةٍ بالعُشب.
- لماذا تسيرين في هذا المكان المهجور؟!
تسائل بصوتٍ كأمواج البحر ولا زالت نظراتهم تتصرع بصمت، ترمقهُ هي من بين اهدابها الطويلة بنظرةٍ بها الكثير من الأسئلة ويجابهها هو بإنفعالٍ شديد، لقد كان الرجُل الحقير على وشك لمسها، وإن حاولت المقاومة لن يسمعها احد، لما كنت ي بهذا الغباء؟!
- شكرا لك.
قالتها بنبرةٍ محتدّة ومرّت من امامه غير راغبة بأي حوارٍ معه - وذكرى آخر محادثةٍ لهم قبل شهرٍ لا زالت عالقة بذهنها، فبالرغم من انه قام بزيارة ليلى بضع مرات إلّا انها كانت تتحاشى اي حوار بينهما وهو كذلك كان يتجاهلها بوضوح- الّا انه منعها من الهروب وجذب معصمها لتلتفت اليه بضياع، كانت البحرُ يعبثُ بخصلاتها بشدّة وكانت يداه تتحرّكُ رُغمًا عنه لتزيح تلك الخصلات الناعمة عن وجهها تحبسها خلف اذنيها المزينتان بقرطٍ رخيصٍ صغير.
بدى جيدها الطويل يظهرُ بوضوحٍ سافرٍ امام نظراته المُشتعلة ووجد انها تسبلُ جفنيها بتأثُّرٍ فتمتم برقّة:
- لم اعتذر لكِ تلك الليلة، انا بالفعل آسفٌ على ان عيناي تنفلتُ رُغمًا عنّي لتسافر نحوكِ.
رمق نظرتها المندهشة واجاب مُبتلعًا ريقه بعذاب:
- لا املِكُ سُلطةً على عيني.
اخفضت رأسها عنه وتمتمت بخفوت:
- ولكن انا اكبرك بالعُمر، لا يمكنك النظر اليّ بتلك الطريقة.
قست عيناه والتوت شفتاه بإبتسامةٍ غريبة وهو يشملها بنظرةٍ حارّة مُتأنية وكأنما يعانق كل طرفٍ منها، وعادت عيناه لتستقرّ على وجهها وتحديدًا على عيناها الآسرتين ليقول ببرود:
- هل حقًّا تقتنعين بهذا الأمر، انظري اليّ جيّدًا، هل ابدوا طفلًا امامكِ.
قضمت شفتيها بحرج وهي تنفي حديثه، لا يبدوا طفلًا ابدًا، انه رجُلٌ راشد بل واكثر رجولةً من كُلّ من عرفتهم بحياتها.
طويلٌ للغاية حتى ان رقبتها تتعبُ عندما تُحدّق نحوه، وضخمٌ بصورةٍ مُثيرة للإعجاب فيبدوا كابطال المُلاكمة، ووسيمٌ للغاية، اكثر وسامةً من الشاب الوحيد الذي اعجبها في اولى سنوات مراهقتها، صحيح انها تكبره ببضعة اعوام ولكنها الآن تشعُرُ بأنها طفلة صغيرة مذعورة تقفُ امام مُعلمها.
يا إلهي! إنها صغيرة، بريئة، بها شيءٌ غضٌّ لم ينضج بعد، وبالرغم من ذلك تثير نوازعًا خفيّة بداخله، تلك الغزالة ذات العيون المذعورة دائمًا ستصيبه في مقتل..
تشبّث انامله بيدها الناعمة الصغيرة ذات الأصابع الرقيقة ووجد نفسه يسحبها خلفه هامسًا بهدوء:
- سأوصلكِ للبيت.
الّا انها حاولت نزع يدها عنه متمتمة برفض:
- سأذهبُ الى السوق لأبتاع بعض الأغراض.
التفت ولا زالت تسير خلفه ليهمس ببساطة:
- سأُرافقكِ واطمئن لعودتكِ.
وبالفعل اوصلها الى السوق بل واصرّ على البقاء معها وهي تبحث عبثًا عن ثيابًا بسيطةً بأسعار معقولة، وعندما لم تجد مبتغاها خرجت خالية الوفاض وتمتمت بتذمُّر:
- لا يمكنني صرف راتبي على ثوب واحد.
- لماذا لم تشتري شيئًا؟!
قال بحر وهو يتبعها بتسلية لتهمس كاذبة:
- لم يُعجبني شيء، سأعود الى البيت.
وسارت امامه بالفعل الّا انه سحبها لمتجرٍ آخر وهو يقول بمرح:
- ستجدي ضالّتك هنا، صدقيني.
دلفا للمحلّ الراقي ليلفت انتباهه ثوبٌ قصير بلون قرمزي داكن، برقبة دائرية مفتوحة واكمام رفيعة..
اتجه نحوه مباشرة وعاد لينظر اليها وقد لمعت عيناه بوميضٍ مُربِك.
- جربي هذا الثوب، سيليقُ بكِ حتمًا.
نظرت اليه وقالت بحرج:
- لا اريده، ومن الأساس لقد تأخرت، يجب ان اعود.
كادت ان تهرب منه الّا انه جذبها وقد تملكته روحًا طفولية واصرّ على ان يراها بهذا الثوب، فوافقت حينها على مضض، ستجربه فقط وتعود لفستانها القطني البسيط فهذا الشيء غالٍ للغاية ولا يليق بخادمة.
وقفت امام المِرآة وابتسمت برقّة، وعادت لذكرياتٍ بعيدة حيث كانت مثل هذه الثياب عادية بالنسبة لها، وخزانة غرفتها الجميلة تشعُّ بالألوان، لقد كانت غنية وبإمكانها شراء كل ما ترغب به ولكن الآن... نظرت للسعر المكتوب على ورقة الفستان لتهمس بحزن:
- ما امتلكه لن يشتري لي نصف هذا الثوب.
خرجت من غرفة التبديل بوجهٍ حزينٍ شاحب ولا تعلم لماذا ارادت ان تريه الفستان عليها، راقبته يقف ويتجه نحوها ولم تنتبه لنظراته المُشتعلة، إنها تبدوا... جميلة، لا ليس هذا الوصف، انها لا تخضعُ لأي وصفٍ منطوق، ما يراه الآن شيئًا يشعر به فقط ولا يستطيع ترجمته، تشبه الجنّة التي لم يرها احد، تشبه جمرةً لاذعة بمنتصف القلب، تشبه لذّة الغرق بالبحر، هذه الفتاة جميلة، بل تخطفُ الروح.
- هذا الثوب، يليقُ بكِ للغاية.