الفصلالرابععشر

لقد مرّت ليلة مُرهِقة على الجميع، واولهم بحر الذي لم يستطع ان يغمض لهُ جفنٌ وليلى غاضبة عليه، بالرغم من غضبه من طريقة تعاملها القاسية مع ميرال الّا انه يُدرك تماما خوفها عليه، فهو الشخص الوحيد المُتبقي لها بعد موت والديها ولن تستطيع التعامُل مع امر زواجه بهدوء خاصة ومن سيتزوجها هي خادمتها.

اغمض عينيه وقلبه يحترق بشوق مُضني وهي الآن تنامُ تحت سقف بيته، يا الله كم بدت جميلةً وهي تغفو براحةٍ وكانها تهرُبُ من كُلّ احزانها بالنوم... فقبل ان يأتي بها الى المنزل ابلغ والده بمكالمة هاتفية مفادها انهما في الطريق الى البيت، استقبلهما والده بملامح صارمة بالرغم من خوفه من هذه الخطوة.. قادها حينها الى غرفته وطلب منها البقاء الى ان يعود اليها وترجل الى والده ليتناقشا طويلًا حول الأمر، وبالرغم من رُعب والده المُبرر الّا انه لن يستطيع الوقوف في وجه سعادة ابنه الوحيد.

عندما عاد اليها وجدها تستلقي على فراشه وقد غرقت بالنوم ودموعها على خدها، ولم يستطع حينها ان يوقظها بل اكتفى بتأمُلها طويلًا وقلبه يستعر بالألم الى ان خرج تاركًا اياها تنعم بالراحة،  فلا احد سواه قد لاحظ شحوب وجهها والتعب البادي على ملامحها.
- هل حقًّا ستتزوج ميرال يا بحر؟!
تسائل بلال وهو يتناول طعامه ليلتفت اليه بحر وينظر اليه بمحبة، هذا الصبي يملكُ بقلبه مكانة لم يأخُذها احد فهو اجمل هدية حطّت على حياتهم.

- نعم، سأتزوجها، ما رأيك انت..
سأله بجدّية وهو من الأساس لا يعامله كطفل مما جعل علاقتهما اكثر قربًا، ابتسم بلال واجاب ببساطة:
- الرأي لك انت، إذا كنت تحبها فتزوجها على الفور ونحن سنحبها بكُل تأكيد.
ليت الأمور بهذه البساطة يا اخي!

زفر بحر انفاسًا لاهبة وهو يرى سبب ارقه وخفقان قلبه واضطراب حياته امامه.  كانت تقفُ بمدخل المطبخ بخجل، تفركُ يداها بتوتُّر .. ترتدي إحدى التنانير التي اختارها لها بالأمس، زرقاء تنساب بنعومة على قامتها الهزيلة الى منتصف ساقيها مع بلوزة بيضاء ذات اكمام قصيرة.. مثنية الأطراف بإيحاءٍ انثوي بداخل التنورة لتظهر خصرها المغوي، حتى شعرها بدى مرتّبًا بذيل حصان طويل ينساب على ظهرها بدلال وبعض الخصلات المشاكسة تنساب بنعومة حول وجهها الشاحب، تبدوا جميلةً للغاية وناعمة كقالب حلوى.

نظر اليه والده بتذمُّر وهو يقف مشدوهًا يطالع الفتاة ببلاهة وكأنه لم يرى امرأةً من قبل، لكزه بيده هامسًا بحدّة:
- اقفل فمك يا بحر...  تبدوا مُثيرًا للشفقة.
انتبه بحر من سحر تأملاته ليهمس لوالده بلوم:
- بالله عليكَ يا ابي، اتركني اهنأ قليلًا بغزالتي.
كل هذا وهي تقف مكانها تطالعهم بنظراتٍ مُحرجة لينتبه اليها بلال فيتقدم منها هامسًا ببسمةٍ مرحبة:
- مرحبًا يا زوجة اخي، هيا تعالي الى الداخل.

ودون ان يأخذ اذنها سحبها خلفه لتسير بتعثُّر الى وقفا امام الطاولة الموضوع عليها بعض الطعام، وحينها فقط بدى لجمال الشبه الجليّ بينهما، انها تشبه بلال بصورةٍ موجِعة.
- صباح الخير يا ابنتي، كيف كانت ليلتكِ؟
نظرت الى العجوز برهبة واجابت بنبرةٍ خافتة للغاية:
- صباح الخير سيدي.. شكرا لسؤالك.
- بل صباح الخير عمي، ألن يكون والدي عمّكِ يا زوجتي المستقبلية.

شاكسها بحر وهو يرمقها بنظراتٍ غير بريئة البتة لتهمهم بخجل شديد ولا زالت تقفُ امامهم ولا تعرف كيفية التعامل مع تلك الأعيُن الرجولية التي ترمقها بنظرات مُربِكة.
اقترب منها هامِسًا بمكر:
- ألن تهديني اي تحيّة صباحية..
- بحر، هيا لعملك يا ولد، وانت يا بلال غادر مع اخيك فقد تأخرت كالعادة.

قال والده واشار لميرال:
- دعكِ منه يا ابنتي، وتعالي لتتناولين إفطاركِ، تبدين شاحبة للغاية.
نهض جمال ليصنع لها الطعام الا انها همست بحرج:
- لا يا سيدي، ارجوك، انا سأصنع الإفطار.
الا انه همس برفض واشار اليها لتجلس على الكرسي لتنظر الى الطاولة ذات الكراسي الطويلة وتتنهد بغيظ.

في تلك الأثناء خرج بلال وكاد بحر ان يتبعه لولا رؤيته لمظهرها المُثير للضحك، فها هي تقفُ امام الكرسي ترمقه بملامح غاضبة وكأن بينها وبينه ثأرًا، وبينما هي في تلك الصورة شعرت بأنفاسًا دافئة قرب اذنيها وصوته يهمس بمشاغبة:
- سأحملكِ... لا تصدري صوتًا.
وقبل ان تفطن لمغزى حديثه وجدته يحملها ليضعها بخفة على الكرسي وقبل ان تشرع بتأنيبه وجدته يغمز اليها ويردف بتسلية:
- سأحرصُ على عدم تغيير هذه الكراسي مستقبلًا.

وقبل ان يغادر اضاف وعيناه تتلكأ على وجهها المتورّد خجلًا:
- تبدين اليوم... كأزهار الربيع.
- اذهب يا ولد قبل ان يلحقك خفي على وجهك.
اغمضت ميرال عينيها وضحكةً خافتة تتسرب من بين شفتيها وهي تراقبه يلوح لها متذمرا من والده وعادت لتنظر الى العم جمال الذي وضع امامها الطعام واضاف بنظرةٍ غامضة:
- تناولي طعامكِ يا ابنتي وانا سأذهب للمتجر القريب لأبتاع بعض الأغراض... لن اتأخر، فلدينا حديث طويل سويًّا.


وغادر بهدوءٍ تاركًا إياها تنظُر للمكان الفارغ بشرود ولا زالت لا تصدق انها بالفعل برفقة بحر...  بل ببيته.
تنهدت بعمق ولا تزال مشوشة وغير قادرة على إتخاذ اي قرار وبداخلها رغبةٌ تجبرها على البقاء ولو قليلًا بهذا المكان، فبالنهاية هي ستبتعد لذا لن تحرم نفسها التوّاقة للحُب بنيل القليل من الإهتمام، وبالرغم من ان هذه الذكريات ستكون مؤلمةً لقلبها الّا انها ستظل تجلب البسمة الى روحها.

عندما عاد العم جمال من المتجر كانت قد افطرت وغسلت الأطباق ورتبت المطبخ وكانت ستصعد لترتيب الغرف العلوية عندما ابتسم اليها هامِسًا بحنان:
- تعال لنجلس بالخارج يا صغيرتي، لا تتعبي نفسك.
تبعته الى الصالة ذات التصميم الحديث لتجلس بجواره وقلبها يقرعُ بين اضلُعها بخوف، لا تعلم لماذا اخافتها نظرة هذا الرجل فقد بدى وكأنه يبحث بعيناها عن ضالته.

- اسمعيني جيدًا يا ميرال، اسمك جميل بالمناسبة.
ابدى ملاحظته لتبتسم برقّة فيضيف:
- انا لا اعترض على ارتباط ابني بكِ، فالأموال ليست كُلّ شيء وكونكِ كنت عاملة بمنزل اخته لن يُقلل من شأنكِ مُطلقًا.
رفعت اناملها المرتجفة لتمسح وجهها بتوتر لتسمعه يقول وقد تاهت نظراته بعيدًا:

- انا على سبيل المثال لستُ سوى مُجرد صياد بسيط لا املكُ راسَ مالٍ سوى البحر، وتزوجت من مهجة والدة بحر التي يملك والدها مالًا لا يُحصى، لقد احبتني وعاشت معي ببيت بسيط الى ان توفيت..  لم تعايرني يومًا بفقري وبالمُقابل حاولت دائمًا ان امنحها السعادة التي تتمناها ... كنا متمازجين كالصُبح والضياء، لم يفرقنا شيءٌ سوى موتها بعد مرضٍ طويل.

عاد لواقعه وهو يقول لها بأعينٍ دامعة:
- كانت امراةً رائعة، منحتني ابني الغالي بحر الذي لا اعرف كيف لتكون حياتي لولا وجوده.
ابتسمت اليه بحنان وهي تسمعه يتحدث عن بحر ليقول مجليًّا حنجرته:
- كل هذه الأموال والمنزل وكل شيء هو ميراثًا من والدة بحر، وهو يدير اموال اخته ايضًا، وانا امكث معهم لأنني أُحبُّ ابنائي ولا استطيع الإبتعاد عنهم.


بدى الرجُل العجوز مشوشًا للغاية ولكنه قال بعد تفكير:
- انتِ يا ابنتي لم تمنحي بحر قلبك، لم تجعليه يغوص باعماق روحكِ وهذا امرٌ خاطئ، إن كنت تحبينه بحق وترغبين بأن يكون زوجكِ ووالد اطفالكِ يجب ان تصارحينه بحياتك، حتى إن كانت بعض الأسرار مؤلمة صدقيني ستشعُرين بالراحة عندما يحملها معكِ احد.

شعرت بصدق كلماته فتجمّعت الدموع على عينيها لتهمس بخفوت:
- ثمّة اسرار لا تؤلم فحسب.. ربما قد تقتُل من نُحب.
قال لها بإصرار ويده تربت علي يدها:
- الحُب الحقيقي لا يموت يا ابنتي، لا شيء يقتُله... حتى الموت لا يستطيع هزيمته.
راقب دموعها التي تسقط رُغمًا عنها ليربّت على رأسها هامِسًا بحنان:
- لا تبكِ يا صغيرة، فبحر سيقتلني إن علِم بأنني ابكيتُ زوجته المُستقبلية.

ضحكةً صغيرةً عاندت دموعها ليبتسم اليها ويعانقها هامِسًا بصدق:
- منذ اليوم ستكونين ابنتي، ولن اسمح لكِ بالبكاء.
اغمضت عينيها بسعادةٍ وهي تنعم بعناقٍ ابويّ لم تحظ به بحياتها وتمنّت لحظتها لو انها مجرد خادمة حظيت بعائلةٍ دافئة الّا انها ليست كذلك..  هي سجينةٌ لا اهل لها، غرّبتها الأيامُ واذاقتها المُرّ بأقسى صوره...  هي ليست سوى امراةً من الحزن والدم والدموع.

.
.

نار، نار حارقة تشتعل بقلبها وهي تدورُ جيئةً وذهابا، لقد تحداها اخيها الوحيد وفضّل خادمتها عليها..  بحر الذي تشعر بأنها أُمًّا لهُ يعصيها ببساطة ويركضُ مسحورًا خلف تلك الحقيرة...  ميرال ذات الإبتسامة الهزيلة التي بالكاد تسمع لها صوتًا استطاعت ان تجُرّ اخيها الأبله ببساطة.

- آهٍ يا ميساء.. سأموت.. ساموتُ إن تزوجها بالفعل.
اقتربت منها ميساء تقول برقّة:
- إهداي يا خالتي، ارجوكِ، صدقيني بحر لن يكون بهذا التهوّر، ربما اندفاعه نحوها لمجرد فورة إعجاب.
نظرت ليلى لإبنة اخت زوجها وحاولت التفكير بعقلها قليلًا لتجد ميساء تسحبها لتجلسها على الأريكة وتهمس اليها بذكاء:
- لا تقفي امام رغبته يا خالتي، دعيه يتزوّجها وصدّقيني لن يمُرّ اقلّ من عامٍ حتى يملُّ منها.

- ماذا إذا لم يملّ وعالجته تلك الفتاة بطفلٍ او اثنين، ستظلُّ حينها مُرتبطةً بنا الى الأبد.
قالت ليلي بحُرقة لتُجيبها فلك هامسة بدفاع:
- بحر ادرى بما يريد يا أُمّي، لا يمكنكِ ان تُملي عليه ما يفعل.
ارتفع جاجبي ليلى برسمةٍ شريرة لتنهض وتضع يديها على خصرها هاتفةً بحنق:
- ماذا تقولين يا قلب أُمّك؟ لا يا عزيزتي، انا اخته وامّه وكُلّ عائلته ولن اسمح له بتشويه عائلتنا بهذا النسب.

هنا تدخّل آدم الذي كان مُنصِتًا للحوار منذُ بدايته ليقول بنبرته الصارمة:
- الفتى يريد ان يتزوّجها ولم يرغب بفعل ايّ شيءٍ مُحرّم لماذا تُصرّين على إنقاص فرحته.
نظرت اليه ليلى بنظرةٍ حادّة ورغمًا عنها نبض قلبها بألمٍ شديد الّا انها لم تنجرف وراء اهواء قلبها التي قد تدفعها لقتله في هذه اللحظة وهو يتبجّح بآرائه الفذّة امامها.

- لا يمكنكِ رفض ميرال وقد قبلتِ بغيد في حياتنا.
قالت حور كلماتها ببساطة ونهضت لتغادر المكان دون الأهتمام بملامح والدتها التي سُطِر عليها الألمُ بأقسى صوره لدرجة انّ وجهها شحب للغاية وكأنّ احدهم رمى سهمًا بمُنتصف قلبها.
جلست حينها بهدوءٍ تحت نظراته القلقة وقد هزمتها ابنتها كالعادة... وعندما حاولت فلك الإقتراب منها والتخفيف عليها وجدتها تنهضُ مُتمتمةً بنبرةٍ مُهتزّة:
- سأستريحُ بغُرفتي.

وبالفعل غادرت ليرنو صمتٌ مُريبٌ بالمكان ولم يستطع ايّ احد التحدُّث مع آدم الذي تبدّلت ملامحه لأُخرى قاتمة غارقة في الغضب من كلمات حور الصادقة دائما.
انسحبت ميساء الى شقتها وفلك الأُخرى هربت الى غرفتها ليذهب آدم لرؤية ليلى.

عندما دلف للغُرفة وجدها تجلِسُ على جانب الفراش ويديها على وجهها المُختبئ خلف شعرها الثائر.
شعرت بوجوده فرفعت اليه عينان مُتشحتان بالقسوة وهمست بخفوت:
- إخرج من هنا.
الّا انّهُ لم يهتمّ بتهديدها وهو يتقدّم ليجلس بجانبها وعندما وضع يده على ظهرها شعر بإرتجافة نفورها وهي تبتعد عنه لتقف مواجهةً لهُ تلهثُ من فرط جروحها، عيناها تشتعل بلهيبٍ غريب وكأنما ستتحوّلُ في ايّ لحظةٍ الى ذئبٍ لتنشب مخالبها في عينيه.

- طلّقها... طلّقها يا آدم إن كُنت تريدني بحياتِك.
نظر اليها مبهوتًا غير قادرٍ على الكلام، هي تضعهُ بين خيارين اقساهُما مُرٌّ على قلبه، الّا انها لم تمنحهُ فُرصةً لتهدئتها وقد كان مّجرّد صمته جرحًا آخر ينضمّ الى جروح قلبها لتُغمِض عيناها بشدّة، ولا زالت واقفة امامه بثباتٍ بينما كلّ ذرّةٍ بداخلها تنهار ببُطء، وبعد وقتٍ طويلٍ رمقته بنظرةٍ غريبةٍ وقد خمدت نيران قلبها تمامًا لتهمِس بنبرةٍ ميّتة:
- لا بأس.. فقط ليتمّ زواج فلك وبعدها لنا حديثٌ آخر.

ودلفت الى الحمام لتُغلق بابه خلفها وتطالع نفسها في المرآة، وتهمِسُ بشراسة:
- لا بأس يا ليلى، تحمّلي قليلًا، قليلًا فقط وبعدها...
صمتت بأنفاسٍ لاهبة ووقفت امام المياه بكامل ثيابها لتنهمر عليها باردةً مُختلطة بحرارة دموعٍ ابت ان تعترف بها، وكُلّ كيانها ينتفضُ بأسى، لقد سكتت طويلًا وظنّت ان سكوتها سيحمي كرامة بناتها الّا انها لم تفعل شيئًا سوى جلب الخزي لروحها ولن تتحمّل هذا الأمر، فإبنة الزيّات ليس لها إرثًا سوى كرامتها ولن تخسرها بهذه السهولة.

.
.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي