٣

الفصل الثالث
تابعنا المسير والخوف يملؤ قلبي ، ولا أدري أي غصب سيحل علينا.

قلت لنفسي:

"على الأقل لم أعد وحيدةً هنا، ماذا كان سيحل بي لولا وجود جاك معي، كنت سأكون الآن بين عداد الأموات وفريسة نبتةٍ متوحشةٍ، يا إلهي أرجوك."

وفجأة أحسست بأن الجرح ضغط علي بقوة فصرخت وجلست على ركبتي, فالتفت إلي جاك بسرعة وقال:

_ماذا جرى لك؟

قلت له:
_ألم شديد لا يحتمل.

فاقترب مني ونظر إلى الجرح وعاينه ليرى مادةً غريبةً تخرج منه فقال بقلق بدا على وجهه:

_أخشى أنها نباتات سامة علينا ان نسرع إلى المركبة ففيها مضادات علاجية قد تساعدنا.

حملني على كتفيه رغم رفضي وجرى بسرعةٍ كبيرة حتى وصلنا إلى هناك، وعندما دخلنا صعقنا برؤيتنا لنباتات متعملقة قد أحاطت بالمركبة من أغلب الجهات.

فصرخت خائفةً:

_جاك، ما الذي يحدث، ما الذي جرى للبقية؟ هل هم بخير في الداخل؟

هنا نظر إلي جاك بقلقٍ شديد، وامسك سكينةً وراح يقطّع تلك النباتات، فاستغرق ذلك وقتاً طويلاً.

كاد نفسي ينقطع من شدة الخوف حتى أستطاع إنهاء مهمته تلك، وعندما دخلنا كانت الصاعقة، لم يكن هناك أحدٌ منهم.

_أين البقية؟.. قال جاك بصدمة.

_يا إلهي ما الذي حدث في غيابنا؟

_لا بد أن أمراً مخيفاً قد حصل، أتمنى أن يكونوا بخير.

عاود جاك الصراخ وراح ينادي عليهم، لكن أحداً لم يرد فقلقنا كثيراً.

قال لي جاك وهو يرى أن الخوف أصبح بادياً على وجهي:

_اهدأي سنعالج أمر جرحك ثم نبحث عنهم، وقد يعودوا في أي وقت، لربما ملو الانتظار وخرجوا للبحث عنا فضّلوا الطريق.

_حسناً، أتمنى أن يكونوا بخير.

_وأنا كذلك.

جلب علبة المضادات وراح يعقم الجرح وأعطاني مضاد التهاب لكنني غبت عن الوعي، وعلمت فيما بعد أن جاك فقد الأمل من نجاتي حيث شرح لي ما جرى معه:

_لقد غبت عن الوعي لمدة أسبوع، وكانت حرارتك شديدة، حاولت أن أستخدم الكمادات والمضادات ولكن جسمك كان ضعيفاً لا يستجيب للعلاج.

_لمَ، لم تتركني وترحل باحثاً عن رفاقك، فتجو بنفسك.

_هل أنت بلهاء؟ هل نسيتِ بأننا فريق؟ وهل علمت عني بأنني سيءٌ لهذا الحد، ليس لدينا حل إلا بأن نكون معاً ويداً واحدة، علنا نجد حلاً لمصيبتنا هذه.

_كيف استطعت ايقاظي؟

_لا أدري، فجأة خرجت مادة كثيفة من جرحك وأخرجت كل ما في جوفك وهدأت حرارتك واستعدت قوتك.

_حمداً لله.

لم أدر كيف اقتربت منه وقبلته على وجنته اليسرى فاحمر خجلاً، وأنا كذلك.
ثم قال لي ليبعد احساسه بالخجل أمامي:

_كلي هذا الطعام، فلم يتبق سواه هنا وعلينا مغادرة المركبة غداً لنبحث عن البقية ونجد ما يقيتنا من طعام على سطح هذا الكوكب.

_إن شاء الله.

نمنا حتى الصباح واستفقت نشطةً أكثر من العادة.

_صباح الخير جاك.

_صباح النور، لقد جهزت ما يلزمنا من أشياء قد نحتاجها في طريق بحثنا وأمّنت المركبة وأحكمت إغلاقها، فهيا بنا.

وبالفعل انطلقنا والقلق من المجهول ظاهر علينا، لكنّ جاك كان شاباً قوياً وجريئاً، فكان يقول دائماً:

_علم الغيب عند الله، فلا تخافي ستكون تجربة ممتعة وسننجو، لا تخافي كارينا، لم أعهدك ضعيفة هكذا.

كان يعطيني الأمل دائماً رغم كل الخوف، وقطعنا مسافة ما يعادل كيلو متر ولكننا لم نجد أي شيء يدلنا على البقية.

ولما شعرنا بالتعب جلسنا وغافلنا النوم ولا ندري كم نمنا، ولمّا استيقظنا كان الليل قد حل.

فقلت لنفسي:

"يارب ارحمنا واحمِ البقية، وخلصنا من هذه الورطة."

ثم نظرت إلى جاك الذي كان منهكاً رغم أنه نام كثيراً فقلت له:

_تبدو متعباً جداً.

_لا أنا بخير، لكنني أفكر في البقية، ترى ماذا حلّ بهم الآن؟

_وما العمل؟

_ليس لدينا حل إلا أن نكتشف المكان رغم المخاطرة؛ لأننا نحتاج الاستمرار والاكتشاف ولن يحصل دون طعام وشراب.

سهرنا وقتاً طويلاً لكن النوم غافلنا، فاستيقظنا في صباح اليوم التالي وتناولنا بعض أوراق الشجر وشربنا مما بقي في جعبتنا من ماء.

_أدعو الله أن لا تواجهنا أمورٌخطيرةٌ ثانيةً.

وأكملنا مسيرنا وشيئاً فشيئاً، راح يحدثني جاك عن حياته السابقة مع زوجته وأبيه قائلاً:

_لقد كنت فظاً في التعامل معهم.

_وكيف كان هذا؟

_كنت أضرب زوجتي دائماً وأوبخها حتى ولو لم تفعل شيئاً.

_هل كنت تخونها؟

_أجل فعلتها مراراً.

_هل كانت مقصرة معك؟

_على العكس تماماً، كانت لطيفةً جداً وطيبة وتفعل كل ما يسرني.

_لم أفهم.

_لا أدري، لقد كنت غبياً جداً وأرعناً، أرى النساء بلا قيمة.

_وماذا عن أبيك؟

_كان يقف ضدي في تعاملي مع زوجتي، فاعتبرته عدواً لي، وتعاملت معه بكل سوء ولم أطعه يوماً.

_أنا كنت أيضاً أنانيةً جداً مع أمي وأبي.

نظر إلي بحاحبين قاطبين ثم قال:

_هل جمعنا الله ليعاقبنا هنا معاً؟

_أوربما هي فرصةٌ لنا رغم كل قسوتها لنستغلها ونصلح كل شيء وإلا ضعنا هنا إلى الأبد.

_ ربما، ارتاحي الآن فغداً لدينا مهمةً صعبة جداً.

_حسناً، تصبح على خير.

ليلتها لم أستطع النوم فقد كنت أخشى الظلام كثيراً فقلت له:
_هل نمت يا جاك؟

_لا، ليس بعد.

_هل تعلم أنني أخاف الظلام وأعاني من هلع شديد منه؟

ضحك عالياً وقال:

_تكذبين، لا أصدق.

_لا، لا أكذب مذ كنت صغيرة.

_لا تخافي، أحمل بيلاً معي سأشعله لك وعندما نجد البقية ونعود إلى المركبة لن تقلقي من هذا الامر لاننا نملك إضاءةً تخدمنا لأشهر.

_وهل سنبقى أشهراً هنا؟

_أتمنى أن نجد حلاً سريعاً ونعود إلى الارض.

_يارب.
_لم تخبريني كارينا، هل كنت متزوجة؟

أجبته وانا لم اكن أعلم وضع كارينا تلك:
_لا لست كذلك.

وخاطبت نفسي:
"وما أدراني إن كانت متزوجة أم لا فانا سارة ولست كارينا لكنني ضعت في جسدها، لن أدخل معه في هذه التفاصيل لانه لن يصدقني"

ثم عاود سؤالي:
_هل وقعت بالحب؟

_لن تصدق يا جاك، لا.

_مستحيل ألست أنثى؟

_لقد كنت مغرورة جداً وأسخر من كل من حاول التقرب مني او خطبتي.

_غريب، اعرف ان كل البنات تقع في الحب.

_أما أنا فكنت غبيةً جداً ، متجمدة المشاعر مغرورة.

_امرك غريب.
فرددت :
_وأمرك أيضاً.

ورحنا نضحك ونضحك حتى توقفنا فحاة وصمتنا ونمنا.

وفي الصباح استيقظتُ؛ لأجده قد جهز بعض الطعام المغلف وهو ينظر إلي قائلاً:

_صباح الخير أيتها الغريبة

تبسمت وقلت له وأنا أتثاءب:

_صباح النور أيها الغريب، شكرا لك، إنني جائعة جداً.

تناولا الطعام ولاحظت انه يراقبني وأنا آكل بشراهة ويبتسم، فقلت له وأنا أرفع حاجبي عالياً:
_ماذا؟

فأشاح بنظره واجاب:

_لا، لاشيء، هيا إنهِ طعامك؛ ولنغادر المكان، لقد جهزت كل شيء قد نحتاجه في متابعة المسير.

_حسناً.

وانطلقنا ثانيةًنحمل عدتنا ومستعدين لخوض المجهول، ورغم كل الخوف الذي يتملك كلانا إلا أن أحداً لم يظهر شعوره للأخر، وجاك يحاول بث الامل والتفاؤل في نفسي.

_أنا واثق بأننا سنجد حلا ونعثر على باقي الرفاق.

_إن شاء الله.

لكن فجأة بدأ الليل يحل فقلت لجاك:

_ماالذي يحدث كيف حل الليل الآن، شيء غريب، أشعر بالخوف حقا.

_لا تخافي نحن هنا على كوكب غريب لانعرف ماهية مناخه او طبيعته او أي شيء عنه، سنكتشف ذلك لاحقا بعد ان نجد البقية، كما انه يتوجب علينا العودة إلى الأرض بأية طريقة.

دون انتباه ولشدة خوفي أمسكت يد جاك وسرت بمحاذاته.

جاك بقلق:
_هناك شعور غريب لا أستطيع تفسيره ينتابني.

_ماهو؟

_لا أدري أتمنى ان يكون عابراً.
شعرت بالخوف وكلما تحرك طائر أو غصن شجرة ينتابني صراخ شديد وأحتضن جاك دون وعي او انتباه.

جاك وهو يتثاقل:
_جميل أيها الظلام، أطبق أكثر واجعل الجميلة تلتصق بي أكثر.

_اخرس جاك.

ضحك وقال لي:
_لا لا إياكي والغضب ركزي في هذا الليل وكوني انا وانت وحيدين خائفين، أوووه.

_عليك اللعنة، أحمق كبير ابتعد عني وإياك الخطيئة.

اقترب مني جاك وتظاهر بأنه يشتهي قربي فخفت كثيرا وتوسلت له لكن وفجاة عاد النهار وانبلج.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي