١٧

‏كانت الأيام تتعامل معنا بقسوةٍ شديدةٍ وكأننا من أكل مال أبيها.

عندها خرجنا من ذلك الكهف نسير خلف طعام يقيت وماء ينفع وفجأة وبينما نحن هكذا نظرت خلفي فلم أجد جاك وجون ، هلعت من الخوف، ناديت عليهم:
جااك، جووون، أين أنتما؟ جاك جون لا تمزحا معي.

خفت كثيراً
‏"ليس مجدداً، أيها الإله، أرجوك."

وفجأة سمعت صوت ينادي وكأنه في مكان عميق فقلت لنفسي:

"يا إلهي ما هذا؟ وكأنه صوت جاك وجون يناديان، إن صوتيهما بعيدين جداً أين هما، أين هنا"

تتبعت الصوت وأنا أنادي عليهما، حتى اكتشفت أنهما قد سقطا في حفرة عميقة، كانت مغطاة بالأعشاب، دون أن ينتبهوا لها


_جاك، جون، هل أنتما بخير؟

جاك:
_لا تقلقي كارينا، نحن بخير حبيبتي، عليك مساعدتنا لنخرج من هنا.

جون بخوف:
_أرجوك أخرجينا من هنا أرجوك كارينا.

_لا تخافا، سأتدبر الأمر، أعطوني بعض الوقت.

جون :
‏_بسرعة أرجوكِ، أنا لدي فوبيا المناطق الضيقة العميقة.

صمت قليلاً وسألتهم:

_كيف لم تنتبهوا لتلك الحفرة، هل أنتم حمقى؟

جاك بغضب:
_في الحقيقة انتبهنا لكننا نحب الأماكن المنخفضة سامحي شقاوتنا كارينا، بربك ما هذا السؤال كارينا؟

جون بقلق:
_كفِّ عن هذا وهيا كارينا.

‏شعرت بالضعف ولم أعرف ماذا أفعل

قررت :
سأبحث عن أي حبل أو أيّةِ أقمشةٍ او حتى بعض جذوعِ الشجر أو سيقانها حتى أربطها كالحبل وأقذف بها لهم.


وأخيراً بعد وقت ليس بسريع، وجدت ما أطلب، ورحت أجدل سيقان الشجر حتى تمكنت من صنع الحبل، وبينما هرعت إليهم متفائلةًسمعت جون يقول لجاك:
_أرجوك يا جاك إن نجوت ولم أنجو لا تنسى وصيتي لك.

فصرخ به جاك قائلا بغضب:
_ أيها الغبي، سننجو معاً، لا تتفوه بالترهات ثانيةً.
جون بضعف:
_أشعر اني سأموت.

وهنا أخذ جاك جون في حضنه، وراحا يبكيان بصوت عالٍ، ففهمت أن اليأس قد أصاب قلبيهما وخاصةًعندما قال جون:

_أنت وكارينا كل ما لدي ، أنتم أصبحتم عائلتي.

ولمجرد سماعي كلامهما دمعت عيناي، فقررت تهدأتهما بطريقةِ جون:

_هيي ماذا أرى مجرد طفلين باكيين، في أسفل حفرة، فلينتظر الطفلين ماما كارينا، لأنها ستجد لهما حلاً.

رد جون بين الباكي والضاحك:

_تباً لك كارينا، هذه الحركة مسروقة مني.

فضحك جاك ونظر إلي تلك النظرة التي تمتلئُ ثقة وكأنه يقول لي:

_ستفعلينها كما في كل مرة يا كارينا.

فعاودتني الثقة المعاندة لكل الظروف ورميت لهما بالحبل فأمسك به جون وتصرف بأنانية ثانيةً وقال:
_أرجوك جاك أنا أولاً.

تفحص جاك ملامحه ووصفه بقوله:

_يا لك من أناني.

ثم سألني متجاهلاً تصرف جون:

_هيا سأساعدك في سحبه، ماذا عنك كارينا، جاهزة.

_جاهزة، لقد ربطت الحبل بالشجرة وممسكةٌ به، هيا اربط أنت جون.

وبالفعل تم ذلك ولكن وبعد أن بدأ جون يقترب من أعلى الحفرة وقد لاحظت ابتسامته المتعبة على فمه، إلا أن القدر منع ذلك وقطع الحبل وسقط جون.

جاك:
_يا إلهي، انتبه جون.

جمدت الدماء في عروقي. وشعرت أني سأموت حينها..

_هل أنتما بخير، جاك طمئن قلبي أرجوك.

_لم نمت بعد لا تخافي، تباً.

_سأحاول ثانيةً، بينما تهتم أنت بجون.

أصدر جون صراخاً ممتزجاً مع الألم وبدأ يوتر الأمر كعادته:

_أخ، أشعرُ بألمٍ شديد، رجلي تؤلمني جداً.

فنادى علي جاك:
_أسرعي كارينا، عدلي الحبل، لقد تعرضت رجل جون للرض.

_يا إلهي ساعدنا، ماذا يحدث؟

ورحت أكلمهم وأخفف عن جون مساندةً لجاك، الذي أخذ على عاتقه اسعاف جون بشكلٍ مؤقت.

كما رأيت جاك يمزق قميصه ويربط به رِجْلَ جون المتألم جداً.

_هل هو بخير؟

_لا تخافي لن يموت، أمامنا عقابٌ لن ينتهي بعد.

_لا جاك، كنت أستمد منك التفاؤل، لا تكن محبطاً هكذا، هآناذا أحاول، فساعدوني وساعدوا انفسكم.

_دعيها لله.

_ونِعمَ به.

وعاودت ربط الحبال وبينما أنا منهمكة بهذا سمعت استنجد جاك فقلقت ونظرت من الأعلى:

_ماذا هناك، هل جون بخير؟

_حشرات غريبة تحيط بنا، أسرعي كارينا، أرجوك.

_يا إلهي ما نوع تلك الحشرات؟

جون يستنجد برعب وألم:
_النجدة، النجدة كارينا، أه يا ربي، لم تقتلنا سقطة الحفر، فقررت قتلنا بحشراتٍ غريبة المنظر.

ثم ضم جاك وراح يصرخ:

_لا أريد ان أموت، لا أريد.

جاك كان متسمراً لا حيلة له، ولم يعد يتكلم إطلاقاً.

رحت أسرع أكثر وأكثر في دعم الحبال التي صنعتها.

_جاك، هل أنتم بخير؟

_لا، لسنا كذلك، الحشرات تهاجمنا من كل جهة وتحاول الصعود على أجسامنا، أسرعي كارينا، لا نعرف مدى سميتها، قد تقتلنا.

_أنا أحاول يا جاك، اصمدا.

_كارينا أسرعي، جون يهذي، لقد ارتفعت حرارته كثيراً.

_رباه، رباه.

_الحشرات تتكاثر، إنه غريبة ليست بخنفساء وليست ببعوض تشبه الاثنين معاً.

_سأعزز الحبال وأرميها لك، أعطني بعضاً من الوقت.

لم تمض المهلة التي طلبتها حتى صرخ جاك متألماً:

_آخ، كارينا لقد لسعتني تلك الحشرة، إنها مؤلمةٌ جداً.

_لا تقل هذا أرجوك، تحمل يا جاك من أجلي.

_يا إلهي لقد قرصت تلك الحشرات جون أيضاً.

أصابني الضعف، وقلة الحيلة، ماذا أفعل، وها أنا أهم برمي الحبال وإذا بي أرى عنكبوتاً عملاقاً يتقدم نحوي.
_هذا ما كان ينقصني.

لكنني تماسكت وعضضت على شفتي حتى لا أصرخ فألفت انتباههت، وقررت كبت خوفي ثم قلت لنفسي:

"عليّ أن أتحمل حتى أنقذهم فلو صرخت سأقتل ويموتون"

ورميت الحبال.

_جاك، هيا بسرعة اربط جون.

وانتظرت أن يفعل، لكنه لم يفعل
وعاودت الطلب:

_هيا جاك، اربطه وساعدني في إخراجه.

لم يرد فقلقت ونظرت من الأعلى وصعقني المنظر.

_يا إلهي تلك الحشرات تغطي جون وجاك، ربي احمهم يا رب.

بدأت قواي تنفذ من هول المنظر، ارتجف كياني، فقدت القدرة على التفكير ثم تذكرت الساعة.

"إما ان أموت بلسعة تلك العنكبوت العملاقة، ويهلك رفيقاي بسمية تلك الحشرات، وإما أن ننجو جميعاً.

وجهت الساعة إلى العنكبوت فقتلتها ثم وجهتها إلى تلك الحشرات، ولاحظت أنها تنفع، وتابعت عل هذه الحال وقلبي خائفٌ أن لا أستطيع إنقاذهما.

حتى تخلصت منها جميعها حتى سمعت أنين جاك فصرخت:

_جاك هيا هاك الحبل لقد فعلتها وتخلصت من الحشرات، فساعدني؛ لأخرجكما.

_جاك، جاك، جاك

لكنْ، لم يرد علي جاك، فانهارت اعصابي وصرت انادي:

_جااك، جوون، لا، لا تفعلاها بي، رجاءً، استيقظا.

ما عدت أعلم ماذا يجب أن أفعل، لقد انهارت قواي وجمد تفكيري.

صرت أركض عشوائياً وأحدث كالمجنونة:

"تباً لكارينا كوست وأفلامها التي أهلكت حياتي، علي ان أتذكر ما كانت تفعل في هذه المواقف."
ولكنني أخذت نفساً عميقاً وحاولت أن أهدأ وأفكر بروية.

فاسترجَعَت ذاكرتي المضطربة وتذكرت نوع الأعشاب وشكلها تلك التي استخدمتها كوست في علاج أصدقائها.

وهرعت أبحث عنها حتى أصابني اليأس لكنني أخيراً وجدتها، كانت خلف صخرة، جمعتها وعدت ادراجي إلى رفيقيّ.

نظرت هنا وهناك ونظرت إليهم، لقد كانت أمورهم جدُّ تعيسة، فكرت وفكرت ثم قررت:

_علي أن أربط نفسي وأنزل بنفسي؛ لأساعدهم.

ربطت الحبل بإمكان بعد أن تأكدت من أنه قوي، وأمسكت العشبة وقذفت بقارورةِ ماءٍ وبعض الطعام ثم نزلت إليهم، وقلبي خائفٌ جداً.

وصلت لجاك، وفركت له فوراً مكان اللدغ وكذلك جون الذي كان يغلي من شدة الحرارة.

وبقي الانتظار حليفي طوال الوقت، وانا أراقبهم بكل حب وأسترجع كل تلك الذكريات معهم بصعبها وحلوها.

‏_جاك، هل ستترك حبيبتك في عالم لا أحد لها سواك؟

‏مسدت على وجهه وقبلت جبينه، وقلت له باحساس لم يسبقني من قبل:

‏_ أتعلم، أنا لم أخبرك يوماً بأني أتوق للعودة معك إلى عالمنا الحقيقي؛ لنتزوج وأعوضك عن كل تلك الأيام التي عانيناها، أجل حبيبي.

ثم استدرت إلى جون وقبلت جبينه ورحت أخاطبه رغم أنني أعلم أنه لا يسمعني:

_أنت يا جون المشاكس، أصبحت جزءاً لايتجزأ من عالمي، المزوح، الملول.

راقبت وضعهما فترة طويلة، واستخدمت الماء البارد وقطعاً من قميصي لأصنع كمادات الماء على جبينهما.

وصرت أنقط الماء في فم كل منهما حتى غافلني شديد التعب وأنا أخاطبهما، فغفوت على كتف جاك، لا أدري قد تكون لحظات ولكنني استيقظت على حركة، وإذا بجاك يستعيد وعيه.

_أوه جاك، الحمدلله أنك بخير، خذ هيا واشرب.

جاك بصوت مبحوح:
_كارينا، كارينا.

_هاه حبيبي، قلي.

_أشعر بأني مرهقٌ جداً.

_هيا جاك، نحن الآن هنا في هذه الحفرة جميعاً، علينا السرعة.

وشرحت له ما حصل وكيف وصلت إليهم فردّ لي رغم كل التعب:

_ها أنا ذا قربك حبيبتي فهيا ساعديني لنخرج من هنا.

_اخرج انت اولاً انا سأربط جون جيداً حتى تخرجه، لأنني لا أستطيع ذلك وحدي فهيا.

وقام جاك المنهك تماما وبصعوبةً بالغة وصل إلى أعلى ورمى لي الحبل ثانيةً.

وساعدته في إنقاذ جون الذي لم يسترد وعيه بعد حتى جاء دوري.

لكنني صرخت ألماً:
_جاك، لقد لدغتني تلك الحشرة، يبدو أنها كانت مختبأة في مكان ما هنا، أخرجني بسرعة قبل ان يؤول حالي إلى حالتكم السابقة.

وعند فوهة الحفرة جلس جاك يلهث ويحاول إيقاظ جون، وأنا قمت بفرك مكان اللدغة حتى امنع السم من الوصول إلى داخلي.

جاك:
_شكراً كارينا، شكرا.

_لا تشكر من تحبك حد الجنون.

_حبيبتي، أحبك جداً.

قاطعته هرباً:
_انظر، بدأ جون يتحسن الآن.

_أجل حمداً لله.

جون وهو يهذي:

_آه يا كارينا، آه يا جاك، كم أنا جائع.
فضحكت أنا وجاك وهمست له:

_مستحيل هذا الرجل المدعو جاك، لم أرى له شبيهاً قط.

لم يرد جاك لكنه راح يراقبني طيلة الوقت وأنا أصنع لهما طعاماً مما سهل الحصول عليه، ووجنتاي كادتا تشتعلان من شدة الخجل.

وعدنا إلى الكهف وبقينا فيه حتى تشافى جون الذي كان يتشاجر دائماً معه:
جاك:
_أبها الأعرج.
جون بغضب:
_لسانك الأعرج.
ومضت عدة أيام ونحن بخير لم نتعرض لاي خطر، بل نظمنا ما يلزمنا لمحاولة الطيران ثانيةً، إلى أن حدث ما لم يكن بالحسبان.

لقد عاودت تلك المرأة مهاجمتنا، وبان علينا الهرب مصيراً
جاك:
_بسرعة بسرعة إلى المخبأ السري.
قلت له متفاجئةً بقوله:
_عن أي مخبأ سري تتحدث يا جاك.

والتفت إلى جون أسأله:
_أنت، هل تعرف بهذا المخبأ السري.

فأجاب جون بِبَله:
_لا لا أعلم شيئاً، ولكن عم تسألين.

_وددت لو أقطع ذلك الرأس الأبله يا جون.

جاك:
_ليس هناك وقتٌ لهذه الأحاديث، سأشرح لكم في الطريق.

وهربنا معه حتى وصلنا إلى جهةٍ لم نرها من قبل في هذا الكهف.

جاك:
_هذا هو المخبأ السري تفضلوا، سنغلقه بهذه الأعشاب وبعض الصخور الصغيرة حتى لا يعتقدوا باننا هنا أصلاً.

قبلته بعفوية على وجهه وقلت له:
_أنت بطلي يا جاك.

احمرت وجنتاه وأمسكني من يدي وقال لي:
_احمدي الله أننا لسنا على الارض الآن لكنت في مأزقٍ معي.

ضحك جون وأخذ يسخر كعادته:
_يبدو أن لسعة الحشرات قطعت وريد الحياء لديكما، هل نسيتما أنني هنا بينكما.

فاحمرت وجنتاي ثم تجاهات مقاصدهما وقلت:
_هيا هيا استعدا للمرحلة القادمة.
جاك:
اهدأ الآن والزما الصمت، أنا أسمع أصواتهم، إنهم قريبون.

همست لهما:
_لماذا تكره البشر، ماذنبنا نحن بما فعله غيرنا.

جون:
_سؤالٌ مرفوض وإجابته واضحة، أنت حمقاء.

أمسكته بأذنه وهمست له ثانيةً:
_هلا قدمت لنا هدوءك على طبقّ من الفضة، أيها الأحمق.
_حسناً حسناً، اتركي أذني الآن.
_إن لم تخرس سأضغط لك على رجلك التي تؤلمك، فاحذر يا طويل اللسان.

همس جون وهو يراقب:
_اخرسا لطفاً، قد توديان بحياتنا.
وبين همس وسكوت وحذر أصابنا النعاس وغافلنا النوم؛ لنستيقظ بعد وقت ونجد الخطر قد رحل فأزحنا الأعشاب والصخور بهدوءٍ وحذر.

جون بدهشة:
_يالهول المنظر، لقد كسروا كل شيء هنا، المكان مخرب.

جاك:
_حمدا لله أنهم لم يفكروا بمخبئنا لكنا من الأسرى عندهم.

أيدته بقولي:
_ليس أسرى فحسب، بل ربما من الأموات.

جون:
_وخاصةً أننا هربنا قبلاً، فإن وقعنا لن تتوانى في تأديبنا.

جاك:
_علينا تغيير المكان بعد فترة فصيرة
جون:

_ألن نعود إلى المركبة للمحاولة ثانيةً.

فتذكرت فجأة وقلت لهم:
_لو نستطيع الحصول على إحدى المراكب التي تقودها تلك المراة وأفراد جنسها.

جاك:
_حقاً، لمَ لم أفكر بهذا الأمر من قبل، دعِ الامر لي.

_وماذا ستفعل؟

جون:
_اجل اشرح لنا.

_سأتسلل ليلاً وأسرق واحدة أثناء نومهم.
جون:
_لا تتغابى ستكشف وتودي بنا جميعاً.
بصدمة قلت لجاك:
_للمرة الاولى سأتفق مع جون، نعم معه حق، هذا غباء، سيمسكون بك، والحراس تملأ المكان.

جاك:
_اولاً، أنا لم أقل أنني ذاهب الآن فوراً، ولكن ثقوا بي سأفعلها وستكون مركبة تنقلنا إلى حيث نريد.

_وهل هم حمقى، حتى لا يكتشفون أمرنا.
_سأسرق بعض ملابسهم، ونرتديها اثناء تنقلنا.

ذكرني كلام جاك بمشهد لكارينا كوست فعلت فيه شيئاً مشابهاً.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي